مرحلةَ ما قبلَ التمكينِ والفتحِ
د. عطية عدلان
مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول- أستاذ الفقه الإسلامي
أهدافٌ ثلاثةٌ تحقَّقت، قبل أن يفكِّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في التحوُّل عن مكّة،
كان أحدُ هذه الأهدافِ تقويضَ النظريةِ التي قامت عليها الوثنيةِ واقتلاعَها من جذورها؛ حتى لم يبقَ لها احترامٌ في أنفس كثيرين ممن استمرُّوا يعبدونها عنادًا أو تبعيّةً للمعاندين.
وظلّت الأوثانُ والأصنامُ كُتَلًا صماءً لا قيمةَ لها تنتظر ريثما يعودَ إليها المسلمون بعد أقلّ من عقدٍ ليحطموها برماحهم وهم يهتفون: (جاءَ الحقُّ وزهقَ الباطلُ إنَّ الباطلَ كانَ زهوقًا).
ومن هذا نتعلّم أنّ مرحلةَ ما قبلَ التمكينِ والفتحِ يلزمها — لكي يتحقَّقَ التمكينُ والفتحُ —
*أن يقومَ علماءُ هذه الأمةِ ومفكّرُوها بتحطيمِ النظريةِ الغربيةِ بكافّةِ مكوّناتها، وهدمِها حتى في نفوس أهلِ الغرب؛ هدمَ الفكرةِ الحداثيةِ وما بُني عليها من مناهجَ علمانيةٍ وليبرالية، وما راجَ فيها من أفكارٍ وقيمٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ واجتماعيةٍ. هذه هي الطريقةُ الصحيحةُ للتعاملِ مع (هُبَلْ).
لذلك لا يصحّ — ولا سيما في مرحلةِ استعادةِ الأمةِ لهويّتها — محاولاتُ المزاوجةِ بين الفكرِ الإسلاميِّ والفكرِ الغربيِّ باسمِ “التعايشِ الحضاري” تارةً، وتحتَ شعارِ “الحكمةُ ضالةُ المؤمنِ” تارةً أخرى. صحيحٌ أنّ الحكمةَ ضالةُ المؤمنِ، وأنّ الانفتاحَ على الحضاراتِ والاستفادةَ منها ضرورةٌ من ضروراتِ الحياة، أمّا أن تُتّخذَ هذه الشعاراتُ غِطاءً خادعًا لتمريرِ عملياتِ التغريبِ التي يمارسها بعضُ الإسلاميين اليوم؛ فهذا مما لا يتفق مع طبيعةِ ديننا ولا مع مشروعِ الأمةِ الإسلامية، الذي يدخل اليوم في صدامٍ مفتوحٍ مع جميعِ المشاريعِ التي تغشى الأرضَ وتتدحرجُ بخبثٍ فوقَ كُرَتِها.
إنّ سنةَ التدافعِ لا يمكن أن ينطلقَ قطارُها ليَجُرَّ وراءَه سنةَ التداولِ إذا كنّا نُرَوِّجُ ثقافةً إسلاميةً معلَّمَنةً، مفادها خلوُّ الإسلامِ من نظمٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ ومعرفيةٍ؛ بما يعني أنّنا مأمورونَ بهدايةِ الخلقِ إلى الحقّ باستعمال مناهجِهم في التفكيرِ والتنظيرِ والسياسةِ والإدارة.
إنّ الإسلامَ العظيمَ لم يعَلِّمْنا آدابَ قضاءِ الحاجةِ لِيَتْرُكَنَا عِالةً نتكفّفُ الأممَ فيما هو أرقى وأسمى من العلومِ الضروريةِ.
إنّ أحكامَ شريعتنا قد ألمَّتْ بأطرافِ النظمِ كافةً؛ فمن جهلها فليقعد للإفتاءِ في الحيضِ والنفاسِ ولا يكثرْ من الخبطِ العشوائيّ في مساحاتٍ لا يعرفُ تضاريسَها.
ها قد تحدَّثنا عن هدفٍ واحدٍ من الأهدافِ الثلاثةِ التي تحقَّقت في مكّةَ قبلَ الإسراءِ والمعراجِ؛
فهلّا أخبرتمونا بالهدفينِ الآخرين؟
اقتراحان للهدفين الآخرين (مع شرح موجز)
1- تثبيتُ العقيدةِ التوحيديةِ في قلوب المؤمنين وإرساءُ أساسٍ فكريٍّ راسخٍ
— قبل محاربةِ مظاهرِ الوثنيةِ الخارجيّة (الأوثان والأصنام) كان لا بدَّ من تثبيتِ التوحيدِ في نفوسِ الناس: بيانُ صفاتِ الربوبيةِ والألوهية، وبيانُ حكمِ الشركِ وخطَرِه، وغرسُ قيمِ التوحيدِ كمحورٍ لكلِّ سلوكٍ وفكرٍ. هذا التثبيتُ جعلَ الجماعةَ الصغيرةَ صامدةً أمامَ الإغراءاتِ والاضطهادِ، وممكَّنةً لاحقًا من التوحُّدِ والتمكُّنِ.
2- بناءُ نواةٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ من المؤمنين المؤهَّلين لصناعةِ دولةٍ ما بعدَ التمكين
— أي إعدادُ رجالٍ ونساءٍ أمِّيّين مؤمنين قادرين على الصبرِ والتضحيةِ، ومهيَّئين لنقلِ الرسالةِ إلى المجتمعِ الأوسعِ وإدارةِ الشؤونِ العامةِ حين يَحينُ وقتُ التمكين. شملَ ذلك تعليمَهم الأخلاقَ والالتزامَ الشرعيّ، وتنظيمَ العلاقاتِ الأسريةِ والقبليةِ بصورةٍ تُشكّلُ نواةً لمنظومةٍ اجتماعيةٍ قابلةٍ للتوسُّعِ بعد الفتحِ والتمكين.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق