أسباب صدام الحكومات مع جماعة الإخوان المسلمين (5)
شخصية النقراشي و علاقته بالإنجليز
قرار حل جماعة الإخوان المسلمين
عاد النقراشي باشا ليأخذ قراره سريعًا متأثرًا بموقف السفير البريطاني، حيث قام بحل جمعيتي الإخوان في الإسماعيلية وبورسعيد، ثم أصدر في 8 ديسمبر 1948م قرارًا بحل جماعة الإخوان المسلمين، ومصادرة أموالها واعتقال أفرادها.
وقد أوردت صحيفة الأهرام (العدد 22750 بتاريخ 9/12/1948م ص1) هذا القرار، بينما علّق المؤرخ عبد الرحمن الرافعي باشا في كتابه في أعقاب الثورة المصرية، الجزء الثالث قائلاً:
“لعمري إن النقراشي لم يكن موفقًا في إصدار هذا الأمر؛ فإنه ليس من العدل أن تأخذ الجمعيات والأحزاب بتصرفات أو جرائم وقعت من بعض أعضائها، بل يقتصر الجزاء على من ارتكبوا هذه الجرائم”.
لماذا استجاب النقراشي للإنجليز؟
يثور السؤال: لماذا وافق النقراشي باشا على الاستجابة للإنجليز وحل الجماعة رغم أن كلاً من سري والنحاس باشا رفضا ذلك من قبل؟
الجواب يكمن في شخصية النقراشي وسيرته:
انضم إلى الوفد منذ نشأته، لكن الإنجليز رفضوا توليه أي منصب وزاري بين 1924م – 1929م بسبب اتهامه في قضايا اغتيالات.
في أوائل عام 1930م وافقوا على دخوله الوزارة، فتولى وزارة المواصلات ثم وزارة الداخلية في حكومة محمد محمود باشا.
الملاحظات الأهم عليه – كما ذكر الدكتور سيد عبد الرازق يوسف عبد الله في رسالته للدكتوراه محمود فهمي النقراشي ودوره في السياسة المصرية 1888 – 1948م – أنه:
اشترك في الاعتداء على الدستور والحرية الشخصية.
تخلى عن العمل الوطني بعد دخوله الوزارة، وأصبح ميالًا لنصرة الإنجليز.
أصدر في 4/7/1945م (كوزير للداخلية) قانونًا رقم 597 يمنع اجتماعات حزب الوفد في بورسعيد.
منع الاحتفال بعيد الجهاد في نفس العام.
منع ارتياد المرضى لمستوصف الإخوان الخيري (دار الوثائق – محفظة 561، الإخوان المسلمين، محفظة عابدين ص364).
كما كان الصدام دائمًا بينه وبين الوفد، ومصر الفتاة، واليسار المصري.
قانون الجمعيات الخيرية 1945
أصدرت حكومة النقراشي في 12 يوليو 1945م القانون رقم (49) لسنة 1945 م بشأن تنظيم عمل الجمعيات الخيرية، والذي نص في مادته الأولى أن:
«تعد جمعية خيرية كل جماعة من الأفراد تسعى إلى تحقيق غرض من أغراض البر، سواء بالمعاونة المادية أو المعنوية…».
وأعطى القانون للجمعيات مهلة ثلاثة أشهر لتوفيق أوضاعها، وإلا جاز لوزير الشئون الاجتماعية طلب حلها.
علاقة النقراشي بالإنجليز
في الأهرام (العدد 21577 بتاريخ 27/2/1945م ص2) نُشر أن الإنجليز استقبلوا وزارة النقراشي بالترحاب، وأرسل اللورد كيلرن رسالة تهنئة إليه.
ورد في مجلة الدستور (العدد 235 بتاريخ 28/2/1945م ص2) أن النقراشي شكر كيلرن، وأكد أنه سيظل يعمل على التعاون مع بريطانيا.
أول عمل قام به هو إعلان دخول مصر الحرب بجوار إنجلترا (26/2/1945م).
في خطاب العرش (12/11/1945م) نوّه بالصداقة مع بريطانيا.
ارتبط اسمه بـ مذبحة كوبري عباس ضد الطلبة (9/2/1946م).
عرض القضية المصرية عرضًا هزيلًا ضيّع به قضية السودان أيضًا.
سياسة النقراشي في حرب فلسطين
رفضه دعم المتطوعين
عندما اندلعت حرب فلسطين، رفض النقراشي في مؤتمر عالية – أكتوبر 1947م دخول الجيوش النظامية، كما رفض إمداد المتطوعين بالدعم. لكنه رضخ لاحقًا لأوامر الملك بإدخال الجيش المصري رغم ضعفه.
تضليل البرلمان
طلب انعقاد البرلمان، وأكد كذبًا أن الجيش المصري قوي وسيهزم اليهود، فوافق النواب.
بعد ذلك تكشف لهم كذب ما قاله (مجلة آخر ساعة، العدد 969 بتاريخ 20/5/1953م ص 13).
دوافعه الحقيقية
خشية منافسة الإخوان المسلمين في حرب فلسطين.
تنفيذ أوامر الملك.
موقفه من الهدنة
وافق على الهدنة في 4 ديسمبر 1948م استجابة للإنجليز والأمريكان رغم تقدم القوات المصرية والمجاهدين قرب تل أبيب.
لم يمد الجيش بالسلاح أثناء الهدنة، بينما العصابات اليهودية واصلت التسلح وخرق الاتفاق.
أصدر أوامر بمنع سفر المتطوعين، وطالب بعودة المجاهدين من أرض المعركة.
أمر اللواء فؤاد صادق باعتقال المجاهدين، غير أن الأخير رفض حتى يكملوا مهمتهم.
حصار الفالوجا
عندما وقع الجيش المصري تحت الحصار في الفالوجا، لم يمده النقراشي بأي إمدادات.
لم تصل الإمدادات إلا عبر المتطوعين بقيادة الضابط معروف الحضري.
ظل الحصار قائمًا حتى معاهدة رودس في مارس 1949م، ما أثار غضب الجيش على الملك والوزارة.
دور متطوعي الإخوان
أثبت متطوعو الإخوان كفاءة في القتال ضد العصابات اليهودية.
هذا أقلق اليهود والداعمين لهم من وجود قوة شعبية عسكرية خارج سيطرة الدولة.
اغتيال النقراشي وردود الفعل
قرار حل الجماعة من جديد
في 8 ديسمبر 1948م، وبناءً على تعليمات من سفراء إنجلترا وأمريكا وفرنسا، أصدر النقراشي (رئيس الوزراء والحاكم العسكري) القرار العسكري رقم (63) لسنة 1948م بحل جماعة الإخوان المسلمين ومصادرة أموالها.
استند القرار إلى المادة الثالثة من قانون الأحكام العرفية (15 لسنة 1923م).
القرار اعتُبر تجاوزًا للصلاحيات، إذ يقتصر القانون على فض الاجتماعات لا حل الجمعيات.
رآه كثيرون اعتداءً على القانون والدستور، وخضوعًا للاحتلال.
حادثة الاغتيال
دفع هذا القرار بعض شباب الإخوان – في غياب القيادة داخل السجون – إلى اغتياله دون الرجوع إلى القيادة.
الإمام حسن البنا استنكر الحادث، مؤكدًا أنه لا يعبر عن مبادئ الجماعة ولا عن روح الإسلام.
محنة الإخوان بعد حل الجماعة
بعد اغتيال النقراشي، تولى إبراهيم عبد الهادي رئاسة الوزراء، وواصل التنكيل بالجماعة تنفيذًا لرغبة الملك والإنجليز.
بلغت المحنة ذروتها باغتيال الإمام حسن البنا (12/2/1949م).
الكفاح القانوني لإعادة الاعتبار للجماعة
دعاوى أمام القضاء الإداري
رفع الإمام البنا وسكرتير الجماعة عبد الحكيم عابدين دعوى (190 لسنة 3 قضاء إداري – 13 يناير 1949م) لوقف تنفيذ قرار الحل.
استمر تداول الدعوى أمام القضاء الإداري.
موقف حكومة الوفد
بعد سقوط حكومة الأحرار الدستوريين، فاز الوفد بالانتخابات بمساعدة الإخوان.
أفرجت حكومة الوفد عن المعتقلين لكنها حاولت تحويل الجماعة إلى جمعية خيرية.
أصدرت القرار بقانون (50 لسنة 1950م) لمد الأحكام العرفية حتى لا يسقط قرار الحل.
حاول فؤاد سراج الدين بيع المركز العام للإخوان وتحويله إلى قسم شرطة.
أصدرت حكومة الوفد قانون الجمعيات (66 لسنة 1951م) لجعل الإخوان جماعة دينية فقط.
حكم القضاء الإداري
في 17 سبتمبر 1951م أصدرت محكمة القضاء الإداري حكمًا يؤكد أن جماعة الإخوان تستند في وجودها إلى دستور 1923م.
اعتبر الحكم أن الإخوان يتمتعون بالشخصية الاعتبارية كغيرهم من الأحزاب السياسية.
أكد الحكم أن الجماعة هيئة إسلامية جامعة.
عودة الجماعة للعمل
بعد ذلك عادت الجماعة إلى العمل العلني حتى قيام ثورة يوليو 1952م، حيث اشترك الإخوان في الثورة، وساهموا في طرد الملك وتحويل النظام إلى جمهوري.
خلاصة وتحليل أسباب الصدام في العهد الملكي
1- وجود الاحتلال الإنجليزي الذي رفض أي قوة تهدد استقراره مثل الإخوان.
2- دور المنظمات الصهيونية في الضغط للقضاء على الإخوان بعد دورهم البارز في حرب فلسطين.
3- الحكومات المصرية المتعاقبة كانت تسير وفق إرادة الإنجليز وتنفذ أوامرهم.
4- النخب المتأثرة بالإنجليز لم ترضَ بفكر الإخوان الداعي إلى العودة للإسلام ومقاومة المستعمر.
5- الإخوان – رغم ما صدر عنهم من أخطاء – كانوا حركة بشرية لها إيجابيات وسلبيات، لكن يجب الاعتراف بجهودهم في الإصلاح.
6- ضرورة التعامل مع الإخوان كشريك وطني في إصلاح المجتمع، وعدم النظر إليهم كخصم أو غريب عن الوطن.
7- وجوب تقييم تاريخ الإخوان بموضوعية، لا بالترصد لبعض الأخطاء وتجاهل جهودهم الإصلاحية.
الخاتمة
يتضح مما سبق أن الصدام بين الإخوان والحكومات الملكية لم يكن بسبب الإخوان كتنظيم، وإنما بسبب فكرهم ومشروعهم الذي رآه الاحتلال وأعوانه تهديدًا لبقائهم. لذا كان من الطبيعي أن يتعرضوا للاضطهاد.
وفي الحلقة القادمة – بإذن الله – سيتم تناول علاقة الإخوان بالأنظمة الجمهورية، وأسباب الصدام بينهم، وهل تعود للإخوان أنفسهم أم لسياسات الحكم الفردي في تلك الأنظمة.
وللقصة بقية المقال القادم


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق