الضجيج في دمشق والطحين في غزة!!
خاص بالمفكرة
"إن الشعب الأمريكي لم ينتخبني لأتجنب اتخاذ القرارات الصعبة، ولكن لأواجهها، وإن الأجيال القادمة لن تغفر لنا سكوتنا على ما جرى بدمشق في الأيام الماضية".
بهذه العبارات الميلودرامية استهل الرئيس "أوباما" خطابه الهوليودي الذي ألقاه منذ عدة أيام، شارحًا فيه الدوافع والمبررات التي تدعوه لاتخاذ عمل عسكري ضد النظام السوري بقيادة بشار الأسد، وطالبًا من الكونجرس الأمريكي أن يمنحه تفويضًا لضربة عسكرية منفردة بعد أن امتنعت إنجلترا وتلكأت فرنسا واعترضت ألمانيا.
وبالتوازي مع هذا الخطاب العاطفي، وفيمايبدو أنها عملية إعلامية منسقة وبها قدر كبير من التهويل، تشنها إدارة أوباما ضد النظام السوري، سربت الإدارة الأميركية عبر ثلاث صحف أميركية كبرى أنباء حول تحديثها "لائحة الأهداف العسكرية في سوريا"، استعدادًا لتوجيه ضربة لقوات النظام السوري، وكي ما تظهر أمريكا أكثر جدية وعزمًا هذه المرة على قصف الأسد، أرسلت بعدة إشارات على هذه الجدية منها؛ توقيت اللقاء الاستثنائي الذي عقده "فريق الأمن القومي" يوم السبت؛ إذ يندر انعقاد لقاءات من هذا النوع في أيام عطلة نهاية الأسبوع، وفي الاجتماع استمع الحاضرون إلى قراءة قدمها رئيس أركان الجيش الأمريكي "ديمبسي" حول الخيارات المتاحة أمام الولايات المتحدة والمجتمع الدولي للرد على استخدام الأسلحة الكيماوية، وفي إثر اللقاء سارع "ديمبسي" لزيارة عمان، حيث يشارك في اجتماع رؤساء أركان جيوش "الدول العشر" المنبثق عن "لقاء أصدقاء سوريا"، للبحث في إمكانيات عمل عسكري. وهذه الدول تضم إلى جانب الولايات المتحدة، فرنسا وبريطانيا وألمانيا وكندا وإيطاليا وتركيا والأردن وقطر والسعودية، كما باشرت القيادة العسكرية الأميركية برفع جهوزية الأسطول السادس الموجود في البحر الأبيض المتوسط، والتابع للقيادة الأوروبية، بدلًا من "القيادة الوسطى" المعنية بعمليات الشرق الأوسط.
وفي هذا السياق، انضمت مدمرتا "يو إس إس ماهان" و"يو إس إس ستاوت" إلى فرقاطتين موجودتين أصلاً في المتوسط. وهذه التشكيلة القتالية المكونة من السفن الأربع هذه هي التي شنت "الضربة الأولى" في العملية العسكرية التي أطاحت بالزعيم الليبي معمر القذافي في ليبيا بإطلاقها مئات صواريخ الكروز التي عطلت "القيادة والسيطرة" لجيش القذافي، كذلك ضربت مدارج مطاراته وأهدافًا أخرى.
وهذه التشكيلة العسكرية تشير بوضوح لنية أمريكا توجيه ضربة محدودة لنظام الأسد تقتصر على إطلاق الصواريخ فقط لإضعاف قدرات الأسد دون شلها بالكلية كما حدث مع القذافي، فالتشكيلة تخلو من حاملات الطائرات على الرغم من وجود حاملة الطائرات "هاري ترومان" حاليًا في البحر الأحمر، والحاملة"نيميتز"، في شمال بحر العرب في إشارة لعدم النية في استخدام سلاح الجو في الضربة، بل إن دراسة جدوى الضرب بصواريخ "كروز" نفسها محل شك، فالصاروخ صاحب الوزن المتوسط ـ 450 كيلو جرام، والمدى الطويل ـ 2500 كيلو متر ـ لا يستطيع أن يصيب الأهداف السورية المقترحة إصابة مؤثرة، وسوف تظل مخزونات الأسلحة الكيميائية في سوريا سليمة.
وصواريخ "كروز" يمكن أن تلحق الضرر بالهياكل السطحية في القواعد التي تخزنها، ولكن لا تتمكن من اختراق مواقع التخزين تحت الأرض، كما أنها لا يمكن لها وحدها شل حركة سلاح الجو السوري، أو إغلاق قواعده، بل غاية ما تفعله تدمير المدارج التي لا يستغرق إصلاحها سوى أيام قليلة، والأعجب من ذلك أن قيادة الجيش الحر بقيادة اللواء سليم إدريس قدمت لائحة بـ35 هدفًا إستراتيجيًّا للنظام السوري لابد من ضربها حتى ينهار نظام الأسد، ومع ذلك لم تتم الموافقة على أي هدف في اللائحة قبل الرئيس أوباما ووزارة الدفاع ورئيس هيئة الأركان المشتركة، الجنرال مارتن ديمبسي، مما يؤكد على عدم جدية الإدارة الأمريكية في الإطاحة بنظام الأسد وأن للضربة أهدافًا أخرى غير الإطاحة بالأسد.
الأسد يقتل الشعب السوري منذ عامين ونصف بمختلف صنوف الأسلحة، بما فيها الصواريخ والطائرات، حتى وصل حجم الضحايا لأكثر من 150 ألف شهيد، وأكثر من عشرة مليون مشرد، ونصف مليون مصاب، ومثلهم بين معتقل ومفقود، فلماذا لم تهتز مشاعر أمريكا الحنونة إلا اليوم؟ لماذا لم يذرف أوباما الدمع ويتذكر قيمه ومبادئه وأجياله القادمة إلا اليوم؟ ولماذا لم تقم أمريكا بتسليح الثوار السوريين والاستغناء عن التدخل العسكري؟ بل لماذا منعت أمريكا شحنات الأسلحة من الوصول إلى الثوار؟ بل الأدهى من ذلك من الذي أوصل الصواريخ الفرنسية والمدرعات الأمريكية بيد الجيش النظامي في ظل هذا الحصار الدولي لتصدير السلاح إليه؟
الإجابة على هذه التساؤلات المشروعة تلتقي عند نقطة واحدة وهي رغبة أمريكا والغرب في بقاء الوضع السوري عند نقطة التوازن الحرجة لإطالة أمد الصراع لأطول فترة ممكنة يتم فيها القضاء تمامًا على قدرات الطرفين المتصارعين أو على أقل تقدير إنهاكهما للدرجة التي تجعل الطرف المنتصر لا يشكل أي خطر في المستقبل على أمن "إسرائيل" والمنطقة، وأيضًا في تدمير الوطن السوري تدمير شامل يقضي على أي أمل في بناء دولة حرة وقوية ومتحدة في مرحلة ما بعد الأسد، كما أنها تحتفظ لنفسها بأمثال هذه الضربات الاستعراضية بحق التدخل في الملف السوري في أي وقت شاءت واضعة في حسبانها فرضية انتصار الثورة على النظام الطاغي، ومن ثم يتم جرجرة جميع الأطراف لطاولة المفاوضات في جنيف ليتم سرقة الثورة السورية، كما سرقت ثورات من قبل؛ الأفغان في جنيف، البوسنيين في دايتون.
الكونجرس اليوم قد أعطى موافقته لأوباما لضرب سوريا ضربة وقائية تستهدف شل قدرات الأسد الكيمائية، دون الإطاحة به تمامًا، وذلك من أجل الحفاظ على ما تبقى من مصداقية كاذبة للولايات المتحدة أمام الرأي العام الأمريكي والدولي، الكونجرس أعطى موافقته وهو يعلم أن أمثال هذه الموافقات قد دفعت الأسد من قبل لارتكاب مجازر مروعة كما فعل من قبل في الحولة وبانياس وحمص، الكونجرس أعطى موافقته وهو يتعامى عن الأوضاع شديدة الخطورة في مصر وغزة، وهي الأوضاع التي تنذر بانفجار إقليمي وشيك، ويصر على إرسال رسائل متضاربة يقرؤها كل طرف من وجهة نظره، فانقلابيو مصر يرونها تأييدًا لهم، وأنصار الشرعية يرونها تأييدًا لهم، وبين هذا وذاك يتواصل الصراع، ويمتد لهيبه ليحرق غزة بنيران لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
بالجملة أمريكا تدير رحى حرب على نار هادئة تجعل ضجيجها يشتد في مكان مرعدة مزبدة ضد النظام السوري المتداعي، في حين أن طحين هذه الحرب على أشده في مصر وغزة حيث الأوضاع هناك على شفا حرب أهلية وإقليمية لا تبقي ولا تذر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق