الاثنين، 16 سبتمبر 2013

تفكير في فرقعة الترشيح لرئاسة مصر


تفكير في فرقعة الترشيح لرئاسة مصر


إذا صحَّ أن الفريق السيسي طلب وقف الحملة الداعية إلى ترشيحه رئيسا لمصر فهو مما يحمد له، خصوصا إذا ثبت أن اعتراضه على المبدأ وليس على التوقيت، إلا أن ذلك لا يمنعنا من البحث عن تفسير لمسارعة البعض إلى إطلاق تلك الحملة في الأجواء الراهنة.
(1)
أتحدث عن الفكرة وليس الشخص الذي له حقه في الاحترام والكرامة. ذلك أنه يبدو غريبا في بلد كبير وعريق مثل مصر، ثار شعبه لإقامة نظام ديمقراطي ظلت أجياله تحلم به طوال أكثر من ستين عاما، أن يصبح الجنرال الصاعد خياره المرشح لحكم البلد.
وتمتزج الغرابة بالدهشة إذا لاحظنا أن ترشيح الفريق السيسي بخلفيته العسكرية يلقى ترحيبا من جانب شرائح واسعة من النخب المدنية، الليبرالية واليسارية، إضافة إلى الحفاوة المشهودة التي عبّرت عنها المنابر الإعلامية التي تنافست في تسويق الحملة، الأمر الذي وسع من دائرة التأييد الجماهيري لها، وهو ما لم يخطر على بال الذين قاموا بالثورة في مستهل عام 2011.
ثمة غموض يحيط بملابسات إطلاق الحملة التي رفعت أخيرا شعار "كمِّل جميلك"، إذ في أجواء شحّ المعلومات المخيمة، فنحن لا نعرف الكثير عن خلفيات ما يجرى، وخبراتنا لا تطمئننا إلى أن الذين يتحدثون باسم الحملة في وسائل الإعلام هم أصحاب الفكرة والمحركون الحقيقيون لها، لأننا تعلمنا أن أصابع الأجهزة الأمنية عادة ما لا تكون بعيدة عن أمور بتلك الأهمية.
يحيط الغموض بملابسات إطلاق حملة "كمِّل جميلك"، فنحن لا نعرف الكثير عن خلفيات ما يجري، ولكن خبراتنا تعلمنا أن أصابع الأجهزة الأمنية عادة ما لا تكون بعيدة عن أمور بتلك الأهمية
وما يدفعني إلى التساؤل عن هذه النقطة أنني أعرف منذ عدة أشهر أن موضوع الرئاسة القادمة كان مطروحا للمناقشة في أوساط الأجهزة السيادية ودوائر الدولة العميقة، وأنه كان هناك اتفاق على ضرورة ترشيح شخصية عسكرية لذلك المنصب. وجرى تداول اسمين محددين، لم يكن الفريق السيسي أحدهما، إلا أن الموقف تغير في أعقاب التطورات التي حدثت منذ 30 يونيو/حزيران الماضي، ثم الإعلان عن عزل الرئيس محمد مرسي وتنصيب رئيس المحكمة الدستورية مكانه، وهي التطورات التي دفعت باسم الفريق السيسي إلى الواجهة.
ومما عزز موقفه أنه يشكل رمزا التقى عليه التحالف المناوئ للإخوان والتيار الإسلامي، الذي ضم الليبراليين واليساريين والعسكر، مع الدولة العميقة وفلول النظام السابق.
(2)
أنكون بصدد استعادة سيناريو التجربة الكمالية في تركيا؟
هذا السؤال من وحي المعلومات التي تسربت عن دور الأجهزة السيادية في ترشيح رئيس للجمهورية من ذوي الخلفية العسكرية، كما أنه يتكئ على شكوك وقرائن تتعلق بما نشهده من تنامي مؤشرات انخراط الجيش في الشأن السياسي، إلى جانب دلالة التعديل الدستوري الذي أدخلته لجنة العشرة التي تشكلت بعد تنصيب الرئيس الجديد، حين نص على اشتراط موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة على من يعين وزيرا للدفاع.
 وذلك استثناء غير مسبوق أعطى انطباعا بأن المجلس المذكور يتجه لأن يصبح سلطة موازية للدولة وليس جزءا منها.
إن شئت فقل إن ذلك هو السيناريو الأسوأ، لكن شواهد الحال التي نراها في الأجواء الراهنة لا تدل على أنه غائب تماما عن البال، ومن ثم فإن تلك الشواهد تقرب إلى أذهاننا التجربة التركية، ذلك لأن مصطفى كمال أتاتورك قاد مع زملائه المقاومة الوطنية بين عامي 1920 و1922 ضد جيوش الاحتلال التي توجت بتحرير الأناضول وإسطنبول من أيدي المحتلين، وقام بإلغاء الخلافة، ثم نصب الجيش حارسا للنظام السياسي خلال سنوات حكمه التي استمرت من عام 1923 إلى 1938.
بالمقابل فإن الفريق السيسي أنهى حكم الإخوان وأسقط دولتهم وجعل من قيادة القوات المسلحة راصدا ورقيبا على السياسات الإستراتيجية الداخلية والخارجية، صحيح أن أتاتورك حقق إنجازا كبيرا في التاريخ التركي، وكان له مشروعه التحديثي لبلاده، وأن إنجاز الفريق السيسي محدود الأثر فضلا عن أن مشروعه لم تتبلور معالمه، إلا أن الرجلين يشتركان أيضا في خمسة أمور:
الأول أنَّ كليهما أحدث تحولا له أهميته النوعية في المسار السياسي لبلاده.
 الثاني أنهما جمعا بين السلطتين السياسية والعسكرية.
 الثالث والأهم أنهما جعلا الجيش طرفا في السياسة الداخلية للبلاد.
 الرابع أن الرجلين عمدا إلى قمع معارضيهما، كل على طريقته. الخامس أنهما جعلا من المؤسسة العسكرية كيانا مستقلا عن مجلس الوزراء.
وهو ما يتمثل في استقلال الميزانية وتشكيل المجلس الأعلى للدفاع.
وما سبق هو مجرد عناوين لإبراز الفكرة، ولمن يريد أن يستفيض في المقارنة أن يرجع إلى كتاب "العسكر والدستور في تركيا"، للدكتور طارق عبد الجليل الأستاذ بآداب عين شمس الذي أعد رسالته للدكتوراه حول الموضوع، وقد أصدرته دار نهضة مصر في العام الماضي.
يشترك السيسي وأتاتورك في أن كلا منهما أحدث تحولا له أهميته النوعية في المسار السياسي لبلاده، وأنهما جمعا بين السلطتين السياسية والعسكرية، وجعلا الجيش طرفا في السياسة الداخلية للبلاد، وقمعا معارضيهما
قلت إن ذلك هو السيناريو الأسوأ لأن تركيا عانت كثيرا من هيمنة الجيش على السياسة طوال سبعين سنة تقريبا، ولم تطو تلك الصفحة إلا في العام الحالي حين صدر تشريع عن البرلمان يمنع القوات المسلحة من القيام بذلك الدور.
بالتالي فنحن نتحدث عن واقع تحقق، أما حين نستدعي النموذج بمناسبة الدعوة إلى ترشح الفريق السيسي للرئاسة فنحن نتحدث عن ظنون ومخاوف، قد تصيب وقد تخيب.
(3)
هناك عدة تفسيرات أخرى للهرولة الراهنة نحو ترشيح الفريق السيسي للرئاسة، في مقدمتها ما يلى:
- القلق من الفراغ المخيم على الساحة السياسية، ذلك لأن سنوات الجدب السياسي التي عاشتها مصر خلال العقود السابقة أصابت الجماعات السياسية بالعجز والعقم، إذ باستثناء التيار الإسلامي بجذوره الضاربة في الأعماق الإيمانية المصرية، فإن بقية الجماعات السياسية لم يتح لها أن تثبّت أقدامها أو تفرز قياداتها.

وفي ظل غياب المؤسسات الديمقراطية التي تشكل مختبرات إنتاج الزعامات، فإننا صرنا نفتقد إلى القامات السياسية المعتبرة، التي تحظى بدرجات متفاوتة من الإجماع الشعبي، صحيح أننا رأينا أسماء لأشخاص -بعضهم لهم احترامه- ظهروا على شاشات التليفزيون وفي صدارة المؤتمرات الشعبية، إلا أن الفترة المحدودة التي ظهروا خلالها بعد الثورة لم تتح لأي منهم أن يتحول من اسم وعنوان إلى قامة تلفت الأنظار وتحظى بالإجماع.
وحين ظهر الفريق السيسي على المسرح في تلك الأجواء، وقام بما قام به من تحدي حكم الإخوان وعزل رئيس الجمهورية، فإن الأعين تعلقت به وتصور كثيرون أن الرجل يمكن أن يملأ الفراغ ويمثل الرمز المطلوب لرئاسة الدولة.
- نزوع بعض المجتمعات إلى الاعتقاد بفكرة الفرد المخلِّص الذي على يديه يتحقق الخلاص ويسود العدل، وتتجسد عند الشيعة الاثني عشرية في نموذج المهدي المنتظر، وهي فكرة رومانسية تشيع في أوساط المجتمعات القدرية، التي لا تثق في قدرتها الذاتية على التصدي للتحديات التي تواجهها، فتعلق الأمل على المنقذ الغائب الذي سيحقق لها بقدراته الخارقة والفذة ما عجزت هي عن تحقيقه بإمكاناتها الذاتية.
في الحالة المصرية فإن السيسي ربما مثل في مخيال الذين دعوا إلى ترشيحه للرئاسة ليس فقط منقذا لمصر من أزمتها السياسية، ولكنه أيضا يبدو وكأنه منقذ البلد من حكم الإخوان، يؤيد هذا الظن التحليل الذي كتبه القيادي اليساري البارز الأستاذ عبد الغفار شكر تحت عنوان "أهمية بناء أحزاب جماهيرية"، قال فيه بوضوح إنه إزاء ضعف الأحزاب السياسية المصرية الليبرالية والاشتراكية والقومية، وعجزها عن بناء نفسها كقوًى جماهيرية قادرة على منافسة الإخوان المسلمين، فإن ذلك يؤدي عاجلا أم آجلا إلى استمرار تدخل القوات المسلحة في العملية السياسية (الأهرام-13/7/2013).
- النموذج البونابرتي، نسبة إلى نابليون بونابرت، ويقصد به عند دارسي العلوم السياسية الالتفاف حول شخصية كارزمية تقيم دولة قوية لها مشروعها الخاص، التي تنتشل بمقتضاه الدولة من انهيار حقيقي أو متوهم، هذه الشخصية تتقدم لتنقذ الشعب من ثورته، وتنتقل بعد ذلك من الدولة الأمة، إلى الدولة الفرد.
وقد جسد بونابرت ذلك النموذج، الذي تنسحب مواصفاته على شخصيات أخرى مثل مصطفى كمال أتاتورك وفرانكو وشارل ديجول وجمال عبد الناصر. وعقلية النموذج البونابرتي لا تعول على مؤسسات الدولة الحديثة المستقرة، ولكنها تراهن على أدوات قوة الدولة، الممثلة في الجيش وأجهزة الأمن والبيروقراطية.
حين ظهر الفريق السيسي على المسرح في تلك الأجواء، وقام بما قام به من تحدٍ لحكم الإخوان وعزل لرئيس الجمهورية، فإن الأعين تعلقت به وتصور كثيرون أن الرجل يمكن أن يملأ الفراغ ويمثل الرمز المطلوب لرئاسة الدولة
وفي محيطنا كثيرون من السياسيين والمثقفين المفتونين بثورة الزعيم والدولة يجذبهم ذلك النموذج، وقد صار هؤلاء في مقدمة الذين اندفعوا لترشيح الفريق السيسي، رغم أن مشروعه لم يتبلور منه شيء حتى الآن سوى ما سُمي مؤخرا بالحرب على الإرهاب.
(4)
للدكتور جمال حمدان، عالم الجغرافيا السياسية الأشهر، قراءة أخرى للمشهد الذي نحن بصدده يربط فيها بين البيئة النهرية المتمثلة في مصر، وبين نظام إدارة البلد.
 إذ اعتبر أن تعاظم دور الفرعون وقوة البيروقراطية من إفرازات تلك البيئة التي يتولى فيها الأول توزيع المياه من خلال جهاز الدولة منذ آلاف السينين.
وقد بسط رؤيته تلك في أحد فصول الجزء الثاني من مؤلفه الموسوعي "شخصية مصر- دراسة في عبقرية المكان".
حسب تعبيره فإنه في ظل المجتمع النهري أصبح الفرعون ضلعا أساسيا في مثلث الإنتاج، إلى جانب الضلعين الطبيعيين المتمثلين في الماء والشمس، إزاء ذلك تحول الحاكم إلى الملك الإله، لأنه ضابط النهر، وضبط النهر صار بداية كل شيء.
لذلك كانت حكومة مصر الفرعونية في جوهرها حكومة تكنوقراط، بلغة هذا الزمان.
وفي رأيه أن هذه الخلفية أسست في الوجدان المصري منذ آلاف السنين دورا متميزا للفرعون وللجهاز البيروقراطي المتمثل في الحكومة المركزية، وقد اعتبر أن البيروقراطية "هي الأساس الصلب الراسخ للفرعونية والقوة الضاربة الرئيسية لنظامها في الداخل".
تحليل الدكتور جمال حمدان أوصله إلى نتيجة صاغ فيها علاقة السلطة بالمجتمع في مصر على النحو التالي: "كانت مصر في حقيقة الأمر مجتمعا مدنيا يحكمه العسكريون كأمر عادي في الداخل، وبالتالي كانت وظيفة الجيش الحكم أكثر من الحرب، ووظيفة الشعب التبعية أكثر من الحكم. وفي ظل هذا الوضع الشاذ المقلوب كثيرا ما كان الحكم الغاصب يحل مشكلة الأخطار الخارجية والغزو بالحل السياسي، وأخطار الحكم الداخلية بالحل العسكري، أي أنه كان يمارس الحل السياسي مع الأعداء والغزاة في الخارج، والحل العسكري مع الشعب في الداخل" (ج4 ص578).
هذا الرأي قابل للنقد والمراجعة بطبيعة الحال، لذلك يستحق أن يضاف إلى ما ينبغي أن نفكر فيه ونحن نتطلع إلى خيارات المستقبل وحظوظنا منها.
المصدر:الجزيرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق