السبت، 23 أغسطس 2025

كيف آمن نتنياهو بمفهوم “الأمة”؟

 كيف آمن نتنياهو بمفهوم “الأمة”؟

يوسف الدموكي

صحفي، وطالب بقسم التلفزيون والسينما في كلية الإعلام بجامعة مرمرة



خريطةٌ بلا حدود، وأرضٌ واسعة لا تفرّقها قوميات مختلفة، وقومٌ يعيشون جميعًا فوق بقعةٍ متّسعة واحدة، لا حواجز عالية تمنعهم، ولا أسوار تفصل بينهم، كيانٌ واحد على أرضٍ واحدة وتحت سماءٍ واحدة، ورايةٌ واحدة ترفرف فوق البقاع كلّها، وشعبٌ يستند إلى عقيدةٍ واحدة، يحلم بحلم واحد، ويحارب كجسدٍ واحد، في سبيل غايةٍ واحدة، وتلكم هي الأمة الواحدة، التي كَفرَ بها ورثة خير أمة، وآمن بها صاحب أسفل شعبٍ وعقيدة، حين حلم بـ”إسرائيل الكبرى”، بينما نحن غارقون في كابوس الفرقة العربيّة والخيبة الإسلاميّة، حيث تمنعنا خطوط الخريطة، التافهة، والله لا شيء غيرها، عن إغاثة قومنا المجوّعين، ونصرة أهلنا المستضعفين، ولو كانوا في حدودٍ غير الحدود لكان الفعل غير الفعل، وكلٌّ يبكي على “ليلاه” هو، لا على الصارخة “واإسلاماه” في البيت المجاور.


يقول نتنياهو، بينما تلمع عيناه، وبالدم انتفضت يمناه، إنّه يحلم بذلك الوطن الكبير، وإنّه جنّد لذلك نفسه، وأسرته؛ مفهوم إسلاميّ آخر، يؤمن به الرجل، السافل، حيث يعيش على حلمٍ بنفسه، ويأمر به أهله، ويجنّد لخدمته أرواح عائلته، كأنّه ينذر عشيرته الأقربين، بينما عشيرتنا الواسعة، من العائلة الصغيرة إلى عائلة المسلمين الكبرى، غارقة في أهدافٍ “شتى”، وكأنّ التيه الذي كتب على العدوّ استأثرنا به، بينما يبحث العدوّ نفسه عن خروج من التيه المكتوب عليه.

وذلك على رغم مفهوم “الأمة” الواسع في عقيدتنا، حيث يكون الرجل وحده أمة “إنّ إبراهيمَ كان أمَّة”، وحيث تكون الأمة كلّها أمة “كنتم خير أمة أخرجَت للناس”، وحيث يكون الجماعة من القوم أمة “وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ”، وحيث الخطُّ الواصل بين الفرد والمجتمع والأمة كلّها، هو الإيمان الذي يُنظّم ذلك الحبل المتين، ويُمهّد ذلك الصراط المستقيم، لتسير عليه في خطّ ممتدّ بين سيادة الدنيا وفوز الآخرة، وإنّ أحدهما لا يتحقّق من دون الآخر، ومن لم يسُد بالخيرية دنياه فلن يجد الخير في أخراه، والعاقبة للتقوى، والعاقبة للمتقين، ولأنّ الذي يعيشها أعمى، لا يبصر، كصم بكم عمي لا يعقلون، فإنّه في الآخر سيُحشَر أعمى، وأضلّ سبيلا، ولأنّ الذي على قلبه غشاوة من الإيمان، ومن المعنى، ومن الفداء، لن يذوق قلبه فجأةً في الآخرة حلاوة الفردوس، فإنّ الجنة جنة القلب أوّلًا، ثمّ يسري ذلك القلب المؤمن بصاحبه إلى ميادين الصلاح والهدى والصبر والثبات، حتى يعرج به إلى عزِّ السماوات.


وعليهِ، أدرك عدونا ذلك المعنى تمام الإدراك، لا يريد شيئًا من جناننا نحن، وإنّما يريد مصلحة قراره هو، وحلًا لمسألته التي تعضله، وسبيلًا لبقائه المهدّد، فلا يجد ذلك إلّا فيما أمرنا به كطوق نجاة، يهرب من تفكّكه إلى جماعته، ومن زواله إلى تنزيلنا، ومن فرقتنا إلى اتحاده، حيث “إذا اشتكى منه عضو”، في سديروت وأسدود وتل أبيب، “يتداعى له سائر الجسد”، في واشنطن، وبرلين، وباريس، وروما، وسيدني، “بالسهر والحمى”، فما الذي سرقه منّا نتنياهو غير كرامتنا العربيّة؟ الذي سرقه أعظم من لحظة مخجلة في مسار التاريخ، وأكثر من ثغرة مستغلة في جدار الأمة الصلب، وأكثر من خيانة منافقين منظّمة بين جماعة المؤمنين، وإنّما سرق منّا الخطّة، الخطّة التي هي معلنة في الأصل، لا يواريها الكتاب، ولا يخبّئها الوحي، وإنّما هي معلنةٌ، وأدواتها في أيدي بنيها، لكن بنيها يفرّطون، ولا يمسّكون الكتاب بقوة، وإنّما وهنًا على وهن، يحملون كلِّ مرةٍ بجنينٍ مجهض جديد، يتمخض الجبل، فلا يلد إلا فأرًا، آخر، يرمي أسود الأمة في السجون، ويضع أحصنتها في إسطبل مغلق بالحديد والنار، ليظنّ بأنّه سيّد قومه، وما الغبيّ بسيّدٍ في قومه، لكن سيّد قومه المتغابي.


ولأنّ تلك “الأمة” الواحدة التي يأمرنا بها ديننا كسبيلٍ لنصرنا، مهدِّدة أول ما تهدّد القوميات الضيقة، فإنّ سفلة قومنا المتعالين فوقنا، يبحثون أول ما يبحثون عن قوميات أخرى يلهوننا بها، وكلّ حزبٍ بما لديهم فرحون، يحاولون إعادتنا إلى “كيميت” وأخواتها، حيث تستبدل بحضارتنا الأم الجامعة، حضارات أخرى متفرقة، لا مانع من الاعتزاز بصنيعها، لكن ليس على حساب صنيع الدين حين طاف بها، فالحضارة الحقيقيّة حضارة نفي الجهالة عن النفوس، لكنّ بعضَ البشر توّاقون إليها، ولو كانوا سيعبدون الأهرامات من جديد، والحقيقة أنّ البديل الحقيقي هو الذي يأمرنا بالخروج من “ضيق الجغرافيا” إلى “سعة التاريخ”، ومن ضحالة العقول إلى براح الأفئدة، وحينها سنجد “أرض الله واسعة”، فنهاجر فيها، وضالّتنا هي تلك الأمة المهداة، وحينها سيخرج رجلان بأمة، أنعم الله عليهما، يقولان “ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ البَابَ، فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ، وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا، إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ”.


أمة واحدة ترجون أيتها “الإسرائيل الكبرى”، وأيها الخنَّوص نتنياهو، بينما نحن أمة كبرى فعلًا، تنشد مشروع “الأقوام الصغرى”، وذلك ليس آفة الأمة نفسها، لا أفرادها ولا جماعاتها، لكنّه ضمن مشروع نتنياهو نفسه، حيث لا يعلو علينا إلا بتوطئة جانبنا، من خلال أسافل القوم فينا. 

ومع ذلك تبقى الأمة ولّادةً، تبحث عن “موسى” الجديد، حيث من قومه “أُمَّةٌ يَهدونَ بالحَقِّ وبهِ يَعدِلونَ“، يريدون أن يهلكوا فرعون بالطوفان، وقد جهّزوا “سفين نوح” من فوق الطوفان، ليستووا ذات يوم على الجوديّ، حيث تختصر الأمة الواحدة الأزمنة والأمكنة، هل تذكرون الحبل المتين والصراط المستقيم الممتدَّين على مرّ الزمان والمكان بين عالَمي الدنيا والآخرة؟ حينها، لا تكون “إسرائيل كبرى”، ولا “إسرائيل صغرى”، ولا “إسرائيل” أصلًا، حيث لا تداعى علينا “الأمم” كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، لأنّنا يومئذٍ “خير أمة”، لا غثاءً كغثاء السيل!

جيلي جيل الابتلاءات الجسام

جيلي جيل الابتلاءات الجسام

جعفر عباس


 قال أبو العلاء المعري فيما قال:


أراني في الثَلاثَةِ مِن سُجوني
               فَلا تَسأَل عَنِ الخَبَرِ النَبيثِ
لِفَقدِيَ ناظِري وَلُزومِ بَيتي
              وَكَونِ النَفسِ في الجَسَدِ الخَبيثِ


يشكو أبو العلاء هنا من فقدان البصر، الذي جعله حبيس بيته، وهذا فوق أن نفسه حبيسة جسده الموصوم عنده بالخبث.

ورغم أنني أقصر قامة وهامة من أبي العلاء، إلا أنني استدعي بيتي الشعر أعلاه كلما تذكرت أنني حبيس أفريقيتي ـ وعروبيتي، ثم استدرك "وقل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا"، وأتذكر أن "المؤمن مصاب"، وأن الله يبتلي عبده في أمور كثيرة، ولا يعني هذا أنني اعتبر انتمائي الأفريقي ـ العربي ابتلاء بالمعنى الدارج للكلمة، ولكنه قطعا انتماء جنيت من ورائه الكثير من الإحباط والغضب والضيق، بل وفي لحظات الضعف الشديد "اليأس".

نحن الجيل الذي غنى لثوار الأوراس في الجزائر، وبن بيلا ثم بومدين، ثم من؟ جنرال إثر جنرال أو مدني يتستر على جنرال، وغنى لثوار بنزرت في تونس، ثم جفت الحلوق بعد ان صار بورقيبة رئيسا مزمنا كبقية رصفائه العرب، وورث الحكم عنه بن علي، وثار شعب تونس ونفض العناكب  السامة من قصور الحكم، وها هي الأمور تؤول في تونس لتلميذ لبن علي، وفي ليبيا زال نظام السنوسي الملكي في أيلول سبتمبر 1969، فإذا بملك أشعث أغبر اسمه القذافي، يجثم على صدور الليبيين لأكثر من أربعة عقود، وسطر الشعب الليبي في عام 2011 ملحمة نضالية بالدم، وها هي ليبيا لا تزال تنزف، وفي اليمن قام النظام الجمهوري بكلفة عالية في الدماء في ستينات القرن الماضي، وما زالت أنهار الدم تجري في اليمن الذي لم يعرف السعد في قرونه الأخيرة، وفي العراق زال حكم حزب البعث، في عام 2003، فآلت الأمور في بلاد الرافدين الى أحزاب العبث بالأرواح والأموال والسيادة، ورقص ملايين العرب طربا لخلاص سوريا من كابوس آل الأسد، وها هي الأفاعي التي ظلت في حال كمون لنحو ستة عقود، تخرج من جحورها في منطقة الساحل والسويداء، لتنهش جسد سوريا المنهك. والسودان الذي تباهى أهله بأنهم أول من نالوا الاستقلال من الاستعمار في افريقيا، انقسم الى سودانَيْن في عام 2011 ومرشح اليوم الى التشظي إلى دولتين أو أكثر.

أما حكاية جيلي مع فلسطين ف"خليها على الله"، فقد كانت معنوياتنا مغروسة في قلب الشمس، بعد أن وعدنا إعلام مصر جمال عبد الناصر الذي بايعناه زعيما لشعب من المحيط إلى الخليج، في 5 حزيران يونيو 1967 بأن صلاة العصر و"بالكثير" صلاة المغرب ستكون في تل أبيب. وما زالت ذاكرتي تستعيد: أنا النيلُ مقبرةٌ للغزاة/ أنا الشعبُ نار تُبيدُ الطغاة... / سنمضى رعوداً ونمضى اسوداً/ نرددُ أُنشودةَ الظافرين. وصحونا  بعدها بأيام قليلة لنكتشف أن كامل فلسطين قد ضاعت.

حكاية جيلي مع فلسطين ف"خليها على الله"، فقد كانت معنوياتنا مغروسة في قلب الشمس، بعد أن وعدنا إعلام مصر جمال عبد الناصر الذي بايعناه زعيما لشعب من المحيط إلى الخليج، في 5 حزيران يونيو 1967 بأن صلاة العصر و"بالكثير" صلاة المغرب ستكون في تل أبيب. وما زالت ذاكرتي تستعيد: أنا النيلُ مقبرةٌ للغزاة/ أنا الشعبُ نار تُبيدُ الطغاة... / سنمضى رعوداً ونمضى اسوداً/ نرددُ أُنشودةَ الظافرين. وصحونا بعدها بأيام قليلة لنكتشف أن كامل فلسطين قد ضاعت.
وقلنا خيرها في غيرها، ونقلنا الولاء العاطفي من عبد الحليم حافظ وام كلثوم الى فيروز، لأنها وعدتنا بأن:

الغضب الساطع آتٍ وأنا كلي إيمان/ الغضب الساطع آتٍ سأمر على الأحزان/

من كل طريق آتٍ بجياد الرهبة آتٍ/ من كل طريق آتٍ بجياد الرهبة آتٍ/ وسيهزم وجه القوة سيهزم وجه القوة / البيت لنا والقدس لنا/ و بأيدينا سنعيد بهاء القدس، وهنا نحن اليوم وقد  تحجّرت الدموع في مآقينا، على حال ما تبقى من أهلنا في غزة، وملايين الأكف ترتفع بالدعاء: اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوَّتنا، وقلَّة حِيلتنا، وهواننا على الناس، اللهم أنت ربُّ المستضعفين وأنت ربنا، لا إله إلا أنت، إلى من تكِلنا، إلى قريبٍ يتجهمنا، أم إلى عدوٍ ملكته أمرنا، إن لم يكن بك سخطٌ علينا فلا نبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لنا.

كنت كلما أحبطني انتمائي العربي، وأحسست بأن القضية الفلسطينية لم تعد بأي حال "مركزية" في جدول أعمال مجموعة الجامعة العربية، استعصم بأفريقيتي، وأتباهى بأن أهلي الأفارقة هزموا الاستعمار الاستيطاني البرتغالي في أنجولا وموزمبيق، وغينيا بيساو والاستعمار الاستيطاني البريطاني في روديسيا الشمالية (صارت زامبيا) وروديسيا الجنوبية (صارت زيمبابوي)، وأرجع البصر الى تلك الدول فيرتد الي خاسئا وهو حسير، إذ أن جميع تلك الدول تقوم من نُقرة تقع في دحديرة" كما يقول المثل المصري عن النهوض من مطب للوقوع في مطب أكثر عمقا وضررا.

 والشاهد: معي الحق في أن أكون محبطا، وألّا أرى في الأفق ما يشير الى نهوض ما يسمى مجازا بالمارد العربي، ولكنني أرى خلل الرماد المتصاعد من ارض غزة وميض برق واعد، سيؤتي مطرا يستسقي منه جيل عيون بناته وأبنائه أشد من عيوننا بريقا، وصدورهم أكثر اتساعا، يجمعون بين الأمل وحسن العمل.

Jafabbas19@gmail.com

غزة والديمقراطية: القاتل واحد

 غزة والديمقراطية: القاتل واحد

استاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية

يتكرر المقرّر المدرسي البسيط كل يوم بل كل ساعة. من قتل الديمقراطية في الوطن العربي قبل الربيع العربي وبعده هو نفسه من يقتل في غزة. 

القاتل واضح الوجه والنيات، والقتيل يتفق معنا في التحليل، ولكنه لا يمر إلى الفعل إلا أمانيَّ أو أدعية ورؤى، فقد هجمت علينا هذه الأيام “فيديوهات” الذي زارهم النبي الأكرم وبشَّرهم بالنصر. 

يقوم المقرَّر الذي وضعه القاتل أن هذه المنطقة لا حق لها في التحرر ولا في الحرية، ويجب ضربها على “يافوخها” كلما عنَّ لها أن ترفع رأسها مطالبة بحقوق يتمتع بها بقية الناس في أغلب بقاع العالم.

سبقنا الكثير إلى طرح الأسئلة عن الأسباب وتوقُّع النتائج واقتراح الحلول، وها نحن نسهم في النقاش ونعمل على تعريف القاتل وربطه الاستراتيجي بين محاربة الديمقراطية وحرب غزة ومنعها من الحياة. إنه يسبقنا إلى فهم الدرس التاريخي.

تاريخ طويل من الحرب

عندما سمع العرب عن الديمقراطية من الغرب منذ قرنين لم يكن الغرب نفسه قد صار ديمقراطيا كما هو عليه الآن. 

هذا الغرب الذي درَّب نفسه على الديمقراطية ومتع شعوبه بالحريات الكاملة، اختار ألّا يأتي بلاد العرب بمنتوجه الديمقراطي بل بمنتوجه الحربي، فاحتل الأرض وقهر الناس ونهب الثروات ليبني ديمقراطيته بالفائض الاستعماري. 

بدأت الحرب وتواصلت حتى اللحظة على قاعدة: ثروات العرب (والأفارقة) صالحة لبناء الرفاه في الغرب، ولذلك وجب ألّا يتمتعوا بها ولا يبنوا بها ديمقراطيتهم ودولهم التي يمكن أن تقف في وجه الغرب الاستعماري. 

وقد لخَّصها جورج بوش الابن وهو يدخل العراق غازيا محتلا: (العرب لا يستحقون نفطهم، فهو لنا).
غيَّرت الحرب أشكالها ووسائلها من احتلال مباشر إلى احتلال بوساطة محلية (منتخبة أحيانا بالصندوق)، وتأتي غالبا على دبابة مباركة من الغرب، وقمة الاحتلال كان الكيان السرطاني المزروع في قلب المنطقة وشعوبها، ليقوم بالدور كله الذي سبق ولحق.

بلاد العرب غنية بأهم ما يبني الدول: الثروات المادية والبشرية الشابة، فضلا عن الموقع الجغرافي ومعطيات المناخ التي تزيد المنطقة قوة. والعرب بوصفهم شعبا واحدا أو شعوبا، وعَت المعادلة منذ زمن، لكن وعيها لم يبلغ مبلغ تحريرها. لقد صارت تتكيف مع الاستعمار لتخدمه لا لتنقضه.

في ستينيات القرن العشرين كان بلد عربي مثل تونس يصدّر إلى فرنسا يدا عاملة رخيصة تقوم بكنس الشوارع وتنظيف حظائر الأبقار، وبعد نصف قرن صار يصدّر الأطباء والمهندسين الذين صُرف عليهم (دم قلبه)، لكنه لم يخلق اقتصادا يستوعبهم، بل يعدّ أن تصدير الخريجين غنيمة وتقدما وتنمية.
كيف أفلح الغرب في اختراق هذه الكيانات السياسية (أو اصطناعها) وتحويلها إلى أدوات؟ هذا ما يستحق دراسات مستفيضة ليس هذا موقعها، ولكننا نخلص إلى أن هذه الأدوات هي نقطة ضعف العرب.

وقد صارت السبب الرئيس قبل المحتل نفسه في قهر الشعوب ومنعها من حريتها (في الداخل) وتحررها (من الخارج)، وقد وضّحت غزة/الطوفان الفضيحة بما يكفي لكي يتضح وجه القاتل الرئيس والقاتل الثانوي، لنقل: يتضح لنا وجه القاتل المتضامن ضد حرية المنطقة وتحررها.

لماذا يقتلوننا؟

كان الأمريكيون (والأوروبيون بالتبعية) يطرحون سؤالا: لماذا يكرهنا العرب؟ وقد وجدوا إجابته فكفّوا عن طرحه، لكنهم لم يعالجوا أسباب الكره، بل غالوا في الأسباب. 

نحن نعرف لماذا يقتلوننا؟ نحن الشعب الذي قاوم منذ قرون ولم يدخل في أجندة الغرب. 

الذين قالوا: لأننا مسلمون وعندنا دين مقاوم (الإسلاميون) لم يخطؤوا، والذين قالوا: لأننا شعوب تملك أسباب القوة البشرية والثقافية تجعل منها قومية فعّالة (القوميون) لم يخطؤوا أيضا، وحتى الذين قالوا: نحن بروليتاريا العالم وهم إمبرياليته (اليسار) لم يخطؤوا.

هذه الإجابات كلها صحيحة، وهي إذا اجتمع القائلون بها ازدادوا قوة، لكن هنا تتجسد معضلة يعسر علينا حلها: هؤلاء كلهم رغم اتفاق التحليل لم يتفقوا على فعل مقاوم، بل وقعت بينهم بغضاء حولتهم إلى أدوات احتلال، وها هي غزة تعيد توضيح الصورة مرة أخرى.

ليس أوضح ولا أصدق من حرب غزة أخلاقيا وسياسيا، ولكن فرقاء الأوطان من النخب تختلف رغم هذا الدم الفصيح، 

(وكم كان مظفّر النواب فصيحا وهو ينزف جملته: أيحتاج دم بهذا الوضوح إلى معجم طبقي لكي يفهمه؟).

الإجابة عن السؤال أعلاه: إنهم يقتلوننا لا لأننا أقوياء بشريا وأغنياء بثرواتنا الطبيعية ومسلمون فحسب، بل لأننا مختلفون، واختلافنا يسمح لهم بقتلنا بسهولة. نحن طريدة سهلة. نحن غنيمة متاحة على قارعة طريق الأمم. (نحن شعوب قُبرة تحتاج فخا فقط)، ولا داعي لتوظيف سلاح ثقيل لصيدنا. (يتردد في مسمعي صوت محمود عباس في منبر الأمم المتحدة وهو يدين سلاح المقاومة… احمونا).
المنعة الداخلية هي الدرع الذي ينهي القهر في الداخل ويقطع يد المحتل. وهذه المنعة تكتسب بالديمقراطية. تكمُل الدائرة عندنا. 

نحرر الأوطان من المحتل الداخلي (العميل) بالديمقراطية، فنحرر بالنتيجة فلسطين وغزة وكل مربع واقع تحت الاحتلال حتى خارج الرقعة العربية (لسنا وحدنا المقهورين). 

التدرع بالديمقراطية وقد تعلمنا الدرس في الربيع العربي. 

في الديمقراطية يقول رئيس منتخب: (لن نترك غزة وحدها). 

في غير ذلك يقول رئيس جاء على دبابة: (لا أستطيع فتح المعبر).
تكتمل الدائرة عند الغرب أيضا. لو حكمت شعوب المنطقة بالديمقراطية فلن يبقى لنا منها مغنم، ستعود خيراتها مهما طالت تجربة البناء الديمقراطي إلى شعوبها، ونُقتلع منها كأننا لم نكن.
هل يحتاج الأمر إلى المزيد من التوضيح؟ (هذه من الواضحات الفاضحات). لننظر مرة أخيرة إلى من يمنعنا من حريتنا المفضية إلى الديمقراطية (في الداخل). 

ذلك هو قاهر غزة الحقيقي. لنختم: من لم يتعلم الدرس الغزاوي في تلازم الحرية والديمقراطية (الداخل) والتحرير (الخارج) فلن يتعلم أبدا، والمقرر الذي عرضت أعلاه لن يجديه نفعا.

حرب التجويع.. من شِعب أبي طالب إلى غزة

حرب التجويع.. من شِعب أبي طالب إلى غزة


 شاعر وباحث ومترجم- مسؤول أقسام: الثقافة، وسير وشخصيات



في تاريخ الإنسانية، ظلّ التجويع أداة قمع وبطش بيد الطغاة، يوجّهونها نحو المستضعفين لانتزاع إرادتهم وتحطيم صمودهم. 

وإن كان التاريخ قد سجّل حصار شِعب أبي طالب في مكة قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا، فإنه اليوم يسجّل مأساة غزة التي تواجه حصارًا أشد قسوة، حيث يُستعمل الجوع كسلاح إبادة في وضح النهار.

من شِعب أبي طالب إلى حصارات التاريخ

في السنة السابعة من البعثة النبوية، اجتمعت قريش على محاصرة المسلمين في “شِعب أبي طالب”، فحرّمت عليهم البيع والشراء، ومنعت عنهم الطعام والشراب والزواج، حتى أكلوا أوراق الشجر وسمع صراخ الأطفال يتردد في شعاب مكة من شدّة الجوع..

ودام الحصار ثلاث سنوات كاملة، لكنه انتهى بانتصار الصبر والثبات، وبسقوط صحيفة القطيعة الظالمة.

ولم يكن ذلك الحصار الوحيد في التاريخ. ففي حصار لينينغراد (1941–1944) خلال الحرب العالمية الثانية، مات أكثر من مليون إنسان جوعًا وبردًا.

وفي البوسنة والهرسك (1992–1995) استخدم الحصار والتجويع كسلاح إبادة.

وكذلك فعل الاستعمار في إفريقيا والهند، حين ترك الملايين فريسة للجوع والأوبئة.

التاريخ يعلّمنا أن التجويع لم يكن مجرد نتيجة للحروب، بل سلاحًا متعمّدًا لتدمير الشعوب.

غزة.. الحصار الأشد قسوة في القرن الحادي والعشرين

منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي في أكتوبر 2023، يعيش أكثر من 2.3 مليون فلسطيني في قطاع غزة تحت حصار مطبق.

قُطعت عنهم الكهرباء والوقود، وأُغلقت المعابر، ومُنع إدخال الغذاء والدواء والماء إلا بقدر ضئيل لا يسد رمق الحياة.

تصف الأمم المتحدة ما يحدث بأنه “أسوأ كارثة إنسانية يشهدها العالم المعاصر”.

بينما يؤكد برنامج الغذاء العالمي أن نحو نصف سكان القطاع – أي أكثر من مليون شخص – على بُعد خطوة واحدة من المجاعة.

الجوع هنا لم يعد عرضًا جانبيًا للحرب، بل صار وسيلة متعمّدة من قبل الاحتلال لإخضاع السكان، في خرق فاضح لكل القوانين الدولية.

شهادات حيّة من غزة المحاصرة

تقول ممثلة اليونيسف في فلسطين (2025):

“لم أر في حياتي أطفالًا بهذا الضعف والهزال… أطفال غزة يموتون ببطء بسبب الجوع والعطش.”

أما اللجنة الدولية للصليب الأحمر فصرّحت:

 “الطعام في غزة أثمن من الذهب. الأسر تقتسم كسرة خبز واحدة بين ستة أشخاص.”

ونقلت وكالة رويترز عن أم من شمال غزة قولها:

“أطفالي يبكون طوال الليل من الجوع. أحيانًا أضع ماءً مغليًا مع بعض الأعشاب ليظنوا أنه طعام فيناموا.”

وقال طبيب من مستشفى الشفاء:

 “لم نعد نواجه فقط إصابات القصف، بل أطفالًا يموتون بين أيدينا بسبب سوء التغذية.”

التجويع كجريمة حرب

تُجرّم اتفاقيات جنيف كل أشكال استهداف المدنيين بالتجويع، وتعتبره جريمة حرب لا تسقط بالتقادم. ومع ذلك، تواصل إسرائيل سياساتها أمام أنظار العالم، مستندة إلى صمت دولي يرقى إلى حدّ التواطؤ.

التجويع اليوم في غزة ليس فقط استهدافًا للشعب الفلسطيني، بل رسالة تهديد لكل أمة تجرؤ على مقاومة الاحتلال.

تاريخ استهداف غزة الفلسطينية عبر العصور

غزة ليست مجرد مدينة ساحلية على شرق البحر المتوسط، بل هي أيقونة للصمود ومفتاحٌ لفهم تاريخ فلسطين والمنطقة كلها. فمنذ آلاف السنين، شكّلت غزة موقعًا استراتيجيًا بالغ الأهمية، وملتقىً للقوافل التجارية، ومعبرًا بين آسيا وإفريقيا، ومسرحًا للحروب والإمبراطوريات، الأمر الذي جعلها دائمًا هدفًا للقوى الطامعة عبر العصور.

غزة في العصور القديمة

المصريّون القدماء: كانت غزة من أبرز المدن الكنعانية، ثم خضعت للسيطرة المصرية في الدولة الحديثة، باعتبارها قاعدة عسكرية وتجارية متقدمة على طريق «حورس» الحربي.

الآشوريون والبابليون: نظرًا لموقعها الحيوي، تعاقبت عليها الحملات الآشورية والبابليّة، إذ مثّلت غزة مفتاح السيطرة على بلاد الشام.

الفُرس الأخمينيون: جعلوها مركزًا مهمًا لإدارة تجارتهم ونفوذهم في الشام ومصر.

الإغريق: دخلها الإسكندر الأكبر بعد مقاومة باسلة من أهلها عام 332 ق.م، حيث استبسل أهل غزة في الدفاع عنها، فسقط كثير منهم شهداء، وأصبحت منذ ذلك الحين إحدى محطات النفوذ الهلنستي.

غزة في العهد الروماني والبيزنطي

تحولت إلى مركز تجاري وثقافي مهم، لكن المسيحية سرعان ما غيّرت ملامحها مع انتشار الأديرة والكنائس.

شهدت اضطهادًا متكررًا لأهلها بسبب مقاومتهم سلطة روما.

غزة في الفتح الإسلامي

فتحها المسلمون بقيادة عمرو بن العاص سنة 634م، وكانت أول مدينة تُفتح في بلاد الشام.

أصبحت غزة منطلقًا للجيوش الإسلامية، ومنها انطلقت الفتوحات الكبرى باتجاه الشام ومصر.

دُفن في غزة الجدّ الثاني للنبي (صلى الله عليه وسلم) هاشم بن عبد مناف، ومن هنا اكتسبت لقب “غزة هاشم”.، والله أعلم

غزة في العصور الوسطى والصليبية

خلال الحروب الصليبية كانت غزة مسرحًا للمعارك، تتناوب السيطرة عليها بين الصليبيين والمسلمين.

استعادها صلاح الدين الأيوبي في القرن الثاني عشر، وأعاد لها طابعها الإسلامي.

غزة تحت الحكم العثماني

نعمت غزة بالاستقرار النسبي لأربعة قرون (1517–1917).

كانت مركزًا إداريًا مهمًا، وميناءً لتصدير الحبوب والقطن.

غزة في العهد الاستعماري

احتلتها بريطانيا عام 1917م، بعد معارك طاحنة في الحرب العالمية الأولى.

قاوم أهلها المشروع الصهيوني منذ بداياته، وشاركوا في ثورة 1936 الفلسطينية.

غزة بعد النكبة 1948

بعد سقوط معظم فلسطين، أصبحت غزة ملجأً لعشرات آلاف اللاجئين الفلسطينيين.

خضعت للإدارة المصرية، وظلت خط الدفاع الأول ضد المشروع الصهيوني.

في عدوان 1956 احتلتها إسرائيل لعدة أشهر، ثم انسحبت تحت ضغط دولي.

غزة بعد 1967

سقطت تحت الاحتلال الإسرائيلي بعد حرب يونيو 1967.

تصاعدت المقاومة الفلسطينية من داخل القطاع، لتصبح غزة أيقونة للثورات والانتفاضات.

غزة في العقود الأخيرة

مع انتفاضة 1987، تحولت إلى رمز الانتفاضة الأولى.

بعد اتفاق أوسلو 1994، انسحبت إسرائيل من بعض المناطق، لكن السيطرة الحقيقية بقيت بيدها.

في 2005 أعلنت إسرائيل الانسحاب من داخل القطاع، لكنها أبقت الحصار محكمًا من البحر والجو والبر.

منذ 2007 تعرّضت غزة لحروب متكررة (2008، 2012، 2014، 2021، 2023) أسفرت عن آلاف الشهداء والجرحى، في إطار سياسة التجويع والقصف المستمر، مع حصار خانق يهدف إلى كسر إرادة شعبها.

قلعة المقاومة

غزة عبر العصور كانت دائمًا “الجبهة المتقدمة” لفلسطين، وقلعة المقاومة في وجه الغزاة. لم تكن استهدافاتها نتيجة قوتها العسكرية فقط، بل بسبب موقعها الجغرافي ودورها الرمزي كعاصمة للثبات الفلسطيني. واليوم، كما في الأمس، تظل غزة عنوانًا للصمود والتحدي، ومحورًا للصراع بين مشروع التحرير والمشروع الاستيطاني الاحتلالي.

بين الماضي والحاضر

كما صمد المسلمون في شِعب أبي طالب، وكما صمد سكان لينينغراد، فإن غزة تصمد اليوم، لتكتب فصلاً جديدًا في تاريخ الكرامة الإنسانية.

إنها تواجه قنابل السماء، وحصار الأرض، وسلاح الجوع، لكنها لا تزال على عهدها: لا تنكسر، ولا تستسلم.

ويبقى السؤال الموجّه للأمة الإسلامية وإلى الضمير العالمي:

إلى متى سيبقى الجوع سلاحًا مشرّعًا في وجه الأطفال والنساء؟

وهل سنسمح للتاريخ أن يعيد نفسه في غزة، دون أن نتعلم من دروسه؟

وسبحان ربي القائل:  (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا..)