الأربعاء، 20 نوفمبر 2024

كاريكاتيرد. علاء اللقطة

  كاريكاتير  

د.علاء اللقطة

خيمتنا الأخيرة


على طريق تحرير القدس موقعة الأقحوانة.. والفرصة الضائعة

 

على طريق تحرير القدس موقعة الأقحوانة.. والفرصة الضائعة

 . أحمد الظرافي



"في 13 محرم 507هـ، التقى المسلمون والفرنجة، ودارت بينهما معركة طاحنة، تشبه معركة حطين، التي جرت فيما بعد (583هـ)، وحقق المسلمون فيها انتصارًا باهرًا على الفرنجة، وكان تحرير بيت المقدس قاب قوسين أو أدنى"


في رجب 492هـ، وصلت الحملة الصليبية إلى بيت المقدس، فأطبقت عليها، وحاصرتها حصارًا خانقًا، فنجح الصليبيون في اقتحامها، في ظهيرة يوم الجمعة 23 شعبان 492هـ، بعد حصار دام خمسة أسابيع، وأعقب ذلك ارتكابهم لمذبحة من أشد المذابح هولاً في التاريخ، فكانت تلك صدمة كبرى اهتز لها العالم الإسلامي كله.

الأمير مودود ينهض للجهاد

وفي غضون ذلك، وجه السلطان السلجوقي محمد بن ملكشاه، كتبه إلى سائر البلاد الإسلامية معلًنا فيها بما هو عليه من قوة العزم على قصد الجهاد، ولقيت هذه الدعوة استجابة سريعة من قبل تابعه وممثله الأتابك (الأمير) مودود صاحب الموصل، الذي كان مفعمًا بالحماس، ومتأهبًا للسير في هذه المهمة الجهادية، وكان رائدًا للجهاد ضد الفرنجة، فقد جعل قتالهم وطردهم، على رأس أهدافه وأولوياته، وكان أول من سعى لتوحيد كلمة المسلمين في بلاد الشام والجزيرة، لتحقيق هذا الهدف الاستراتيجي، كما كان أول من حقق انتصارات على الفرنج، كاسرًا حاجز الخوف النفسي، الذي ظل لفترة يحول دون قتالهم، ومدشنًا لمرحلة جديدة، لم يعد فيها الفرنجة قابضين على زمام الموقف في المنطقة. وعلى إثر ذلك اتسعت حركة الجهاد ضد الفرنجة لتضم، إلى جانب الأمير مودود، طغتكين صاحب دمشق، إضافة إلى حشود المتطوعة، الذين أدمى قلوبهم سقوط القدس، وهز وجدانهم وقوع المسجد الأقصى أولى القبلتين، ومسرى الرسول صلى الله عليه وسلم في براثن الفرنجة المتوحشين، القادمين من أوروبا، هذه الأخيرة التي كانت تعيش آنذاك، أحلك عصورها المظلمة، وقد أبلى هؤلاء المتطوعة بلاء حسنًا في قتال الفرنج، في تلك الفترة الحرجة من التاريخ الإسلامي. ذلك أن الدعوة التي أطلقها السلطان السلجوقي، وتلقّفها بحماسة الأمير مودود صاحب الموصل، لامست المشاعر المسلمين، فتداعى الغيارى منهم، إلى مواجهة الخطر المحدق بالأمة، وكسر الطوق الملتف حول عنقها والمهدد لها بالفناء، وذلك من خلال توسيع نطاق جبهة القتال ضد الفرنجة، وصولا إلى طردهم من بلاد المسلمين.

حصار إمارة الرها الصليبية

وكانت أولى ثمرات هذه التعبئة، محاصرة مدينة (إمارة) الرها، بقيادة الأمير مودود في ذي الحجة 503هـ، وإلحاق الهزيمة بقوات إفرنجية جاءت لمساندتها، وإيقاع خسائر في صفوفها، ولكن المسلمين سرعان ما انسحبوا من تحت أسوار المدينة، لأن صاحب دمشق المشارك في الحصار، تخوف من هجوم للفرنج على عاصمته، بعد اقتراب ملكهم منها، بينما عاد الأمير مودود إلى الموصل، للاستعداد لحملة جديدة ضد الرها، لذلك لم يلبث أن عاد لحصارها للمرة الثانية عام 505هـ، ولكنه لم يفلح في اقتحامها لقوة وشراسة صاحبها الكونت جوسلين.

 

ومهما كان من أمر، فإن انتصار المسلمين في هذه المعركة شكل تحولاً مهمًا لمصلحتهم، فقد استردّوا، زمام المبادرة من الفرنج، وتحرروا من عقدة الخوف، بل وتحول هذه العقدة إلى صفوف الفرنج

ثم عاد الأمير مودود لحصارها للمرة الثالثة مطلع عام 506هـ، ولم يقدر عليها أيضًا، بل إنه عاد مهزومًا ومتكبدًا بعض الخسائر هذه المرة، لكن دون أن يفت ذلك في عضده، أو يضعف من معنوياته. وأما عزم وتصميم الأمير مودود على تحرير الرها، وتوالي غاراته عليها، فيرجع لخطورة هذه الإمارة الصليبية، فقد كانت شوكة في خاصرة المسلمين لوقوعها في عمق بلادهم، في إقليم الجزيرة على الطريق البري الذي يربط بين مدينتي الموصل في شمال العراق وحلب في شمال الشام. وفي تلك الأثناء اشتدت ضغوط ملك بيت المقدس الفرنجي على دمشق، وكثرت غارات وتعديات قواته على ضواحيها الجنوبية، ونهب وتخريب مزارعها وضياعها، كما توالت هجمات تلك القوات على القوافل الخارجة من دمشق والمتجهة إلى مصر وإلى الحجاز، والواردة منهما أيضا، وتكررت هذه التعديات مرات عديدة خلال السنوات 502هـ، 504هـ، 506هـ. ولمواجهة هذا الخطر، وخوفًا من زحف الصليبيين على دمشق، بادر صاحبها (طغتكين)، بالاستنجاد بالأمير مودود صاحب الموصل، فاستجاب الأمير مودود للطلب.

الطريق إلى الأقحوانة

وفي مطلع عام 507هـ تحرك الأمير مودود على رأس جيشه، لملاقاة طغتكين، وانضم إليه صاحب سنجار (تميرك)، وأمير ماردين (أيلغازي)، وقطعوا مئات الكيلومترات حتى وصلوا إلى سلمية بوسط الشام، واجتمعت جيوشهم، بعد ذلك، بجيش طغتكين، واتفقوا على أن يكون الهدف هو مملكة بيت المقدس الصليبية، حيث الكتلة الرئيسية والأقوى للفرنجة، والتحقت بهم مجاميع من قبيلتي طيء وكلاب، فارتفعت معنويات المسلمين بذلك، وقويت عزائمهم لمواجهة الفرنج، وسارت الحملة جنوبًا عبر الأردن، باتجاه فلسطين، وأوغلت في مواقع الفرنج، حتى بلغت طبرية، الواقعة في منتصف المسافة بين دمشق والقدس. ولما وصلت أخبار هذه الحملة، إلى بلدوين ملك بيت المقدس، بادر بالتحرك على رأس جيشه شمالا، باتجاه طبرية، لمواجهة المسلمين بعيدا عن القدس المغتصبة، قبل أن تجتمع عليه جيوش الإمارات الصليبية الأخرى، التي كان قد أرسل إليها طالبًا النجدة منها.

عندئذ بادر الأمير مودود، بالبحث عن مكان مناسب للمعركة المرتقبة، التي ستكون الأولى بين المسلمين والفرنجة، منذ وطأت أقدامهم بلاد الشام، فوقع اختياره على جانب من شاطئ بحيرة طبرية يُدعى "الأقحوانة". وفي 13 محرم 507هـ، التقى الجمعان، ودارت بينهما معركة طاحنة، تشبه معركة حطين، التي جرت فيما بعد (583هـ)، وحقق المسلمون فيها انتصارًا باهرًا على الفرنجة، وأوقعوا فيهم مقتلة عظيمة، وغرق منهم كثيرون في بحيرة طبرية، التي تعكرت بالدم، حتى امتنع الشرب منها أيامًا، ونجا بلدوين نفسه بمشقة بالغة، وظل جيشه بجرحاه وأثقاله، محاصراً بالجبال شهرين، لا يجرؤ على الحركة، وأُسر المسلمون منه الكثيرون، وغنموا أمواله وسلاحه، كما هزمت الجيوش الصليبية الأخرى التي قدمت للنجدة.

الفرصة الذهبية الضائعة

وعلى إثر هذا الانتصار الذي حققه المسلمون، دانت البلاد لهم بالطاعة، ووصلت طلائعهم إلى مشارف القدس، وكانت هناك فرصة ذهبية لتحريرها، بعد حوالي 14 عامًا فقط من احتلال الفرنجة لها، وبخاصة أنه لم يكن في مملكة بيت المقدس الصليبية كلها، حامية فرنجية بعد نكبتهم بالأقحوانة. ولكن المسلمين، لأمر أراده الله، لم يستغلوا هذه الفرصة ويصعدوا الحرب ضد الفرنجة لتحقيق ذلك الهدف، وإنما آثروا العودة إلى دمشق، آملين استئناف القتال في الربيع القادم.


ومهما كان من أمر، فإن انتصار المسلمين في هذه المعركة شكل

 تحولاً مهمًا لمصلحتهم، فقد استردّوا، زمام المبادرة من الفرنج،

 وتحرروا من عقدة الخوف، بل وتحول هذه العقدة إلى صفوف

 الفرنج، يقول وليم الصوري مؤرخ الفرنج، واصفًا ما حل بقومه في أعقاب المعركة: " لقد حوّلوا (المسلمون) المملكة بأسرها إلى حالة كبيرة من الرعب، بحيث لم يجرؤ أحد على المغامرة بالخروج من داخل الحصون". لكن ما حدث بعد عودة المسلمين إلى دمشق، كان محزنًا ومؤلمًا، لأن الأمير مودود، لم يلبث أن اغتيل في صحن المسجد الأموي بدمشق بعد صلاة الجمعة الأخيرة من ربيع الاخر 507هـ، وافتقدت جبهة المسلمين هذا الأمير البطل الشجاع. وأما القاتل ودافعه، فقد اُختلف فيهما "فقيل إن الباطنية بالشام خافوه وقتلوه، وقيل بل خافه طغتكين فوضع عليه من قتله"، كما قال ابن الاثير. ومع ذلك، فلم تنطفأ شعلة الجهاد، فقد حملها بعده أمير الموصل الجديد (آقسنقر)، وحملها بعده ابنه عماد الدين، ثم حفيده نور الدين، حتى استلمها صلاح الدين، صاحب الانتصار الكبير والمدوي على الصليبيين في حطّين.


معركة أنوال وسحق جيوش الإسبان

 

معركة أنوال وسحق جيوش الإسبان




"تعتبر أكبر هزيمة يمنى بها الإسبان في تاريخهم الاستعماري في المغرب، بل ربما في تاريخهم العسكري كله، ليس من الناحية العسكرية فحسب، ولكن أيضاً من الناحية المعنوية"


الغزو الإسباني للمغرب:

بعد سقوط الحكم الإسلامي في الأندلس عام 1492م، باشر الإسبان حروبهم الصليبية على المسلمين في شمال إفريقيا، ولحقوا في ذلك بجيرانهم البرتغاليين الذين كانوا قد بدؤوا تلك الحرب في عام 1415م، وهو العام الذي احتلوا فيه ثغر سبتة، وهكذا اندفع الإسبان والبرتغاليون، كلٌّ من موقعه، في شن حملات ضارية على ثغور شمال إفريقيا، حيث بدأت أساطيلهم تراوح هذه الثغور وتغاديها من طرابلس شرقاً حتى مليلة غرباً، وذلك استمرار لمعركتهم ضد المسلمين في الأندلس، وفي عام 1497م نجح الإسبان في احتلال ثغر مليلة. وفي عام 1508م احتلوا جزيرة بادس على ساحل الريف الأوسط، وانتهت هذه المرحلة بانتزاعهم لثغر سبتة من البرتغاليين عام 1640م، وبذلك يكونون قد أكدوا سيطرتهم على ضفتي خليج الزقاق (مضيق جبل طارق) في شمال المغرب الأقصى. بَيْدَ أن محاولاتهم المستمرة لتوسيع نفوذهم في الداخل باءت كلها بالفشل؛ بل ظلت سيطرتهم على ثغور شمال المغرب غير مستقرة حتى مطلع القرن العشرين؛ وذلك بسبب مقاومة القبائل المغربية لهم، وانتفاضاتها المتوالية ضدهم، وضرباتها الموجعة لقواتهم ولمصالحهم. وفي مطلع العقد الثاني من القرن العشرين قرر الإسبان وضع حدٍّ لتلك الانتفاضات الشعبية الجهادية في ريف المغرب، فأرسلت الحكومة الإسبانية مزيداً من القوات إلى شمال المغرب لقمعها، ثم لم تلبث أن استدعت جيشها الاحتياطي لتزج به في تلك الحرب للسيطرة على الريف المغـربي كله، تعويضاً عن خسارتها لمستعمراتها في أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا (الفلبين)، وهزائمها المخزية هناك على أيدي الأمريكان، وتنازلاتهـا المذلة لهم، وبحلول عام 1912م، وهو العام الذي احتلت فيه فرنسا وسط المغرب، ونتيجة لهذا الاحتلال نجح الإسبان في احتلال الجزء الشمالي من المغرب الأقصى، ومع ذلك لم تهدأ مقاومة القبائل المغربية لهم، وكانت هذه المقاومة بقيادة محمد أمزيان بطل حرب الريف الأولى (1909 - 1912م)، ثم بقيادة أحمد الريسوني (1871 - 1925م)، إلا أن هذه المقاومة لم تكن مقاومة منظمة، وكانت تنقصها الأسلحة والذخائر والخبرة القتالية في مواجهة جيش نظامي عتيد ومحترف في القتل والإجرام وسياسة الأرض المحروقة كالجيش الإسباني، كما أن المنافسات والحروب القبلية الدموية، كانت تعمـل عملها بين القبائل في الريف المغربي، بتأثير دسائس الأعداء أولاً، ونتيجة للجهل ثانياً. وبعد احتلال فرنسا لوسط المغرب وجنوبه، وتقاسم النفوذ فيه مع الإسبان، وطبقاً لمؤامرة باريس بين فرنسا وإسبانيا عام 1912م تجددت مطامع الإسبان في مدِّ نفوذهم في الجبهة الشرقية، وبخاصة بعد التقدم الذي أحرزوه في الجبهة الغربية، ولكنهم كانوا مدركين لخطورة هذه المغامرة وجسامة الخسائر التي ستترتب عليها، نظراً للمقاومة الشديدة التي كانت تواجههـم، ولذلك فقـد ترافقت إجراءاتهم العسكرية في هذه المرحلة بالتدابير السياسية لاحتلال هذه المنطقة، وظلوا لبضع سنوات يتقدمون ببطء وحذر متبعين أسلوب القضم وأسلوب شراء ولاءات الخونة وضعفاء النفوس من رؤساء القبائل، واتخـاذ بعض أتباعهم جنوداً ليقاتلوا تحت لوائهم، ولكن بينما كان الإسبان متفائلين بنجاح هذه السياسة إذا بهم يتفاجؤون باندلاع ثورة الريف المبـاركة، بقيـادة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، وهنا بدأت مرحلـة جديد من مراحل الجهاد ضد الصليبية الإسبانية في شمال شرقي المغرب، لم تعرف لها المنطقة مثيلاً من قبل، وذلك في عام 1921م.

شخصية الأمير الخطابي:

ولد الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي عام 1882م في بلدة (أجدير) في شمالي المغرب، حيث كان والده زعيماً لقبيلة (ورياغل) إحدى قبائل الريف البربرية، وبعد أن حفظ القران وألمَّ بمبادئ الدين وأساسيات اللغة العربية في مسقط رأسه. 

أرسله والده إلى جامعة القرويين بفاس، فقضى هناك ثلاث سنوات، كما قضى مثلها في جامعة شلمنقة الإسبانية حيث درس القانون، وبعد ذلك التحق بمهنة التدريس في مدينة مليلة، ولكنه لم يلبث أن تحول إلى القضاء تابعاً للمحتل الإسباني الذي كان يحتل منطقته أيضاً، وإلى جانب ذلك عمل مراسلاً لجريدة (تلغرام الريف) التي أصدرها بعض التقدميين الإسبان في مليلة، والتي أخذت تنشر مقالاته عن أوضاع المغرب وتحليلاته للعلاقات الدولية، وبخاصة بين دول العالم الثالث والدول العظمى. وقد عُرِفَ الخطابي منذ بداية شبابه بشجاعته، وجرأته، وحسن رأيه، إلى جانب قوة إرادته وعزيمته، وشخصيته القيادية الفذة التي لا تقبل الضيم أو الخضوع، ولا تساوم على الدين والكرامة مهما كان الثمن، كما عُرِف بسعة إطلاعه على قضايا أمته وعلى ما يجري في العالم، والانفتاح على ثقافة العصر. وقد اعترف له بذلك الأعداء قبل الأصدقاء؛ فقد وصفه العقيد الإسباني رامون سانشيت أثناء إقامته بمليلة، فقال: «كان ذا عقل ثاقب، وذكاء حادٍّ، ومنطق صارم، وإدراك حصيف، وحدس سليم، وبعد نظر؛ فقد عُرف في هذه الرحلة بآرائه السديدة وحنكته وفطنته، فقد فرض نفسه على القواد الإسبانيين، فكان صاحب مبادىء راسخة، ذا قدرة على التحليق في سماء المثل العليا؛ إذ اتخذها دليلاً لطموحه السياسي ووسيلة ناجعة للثورة على الجهل، فتسلح بنور الفكر الإسلامي وثقافة العصر». وقد مكنته إقامته بمليلة واحتكاكه بالموظفين الإسبان من التعرف على خبايا السياسة الإسبانية، وعلى عقلية السلطة الإسبانية، ونواياها تجاه بلاده. هذه السلطة الاستعمارية الغاشمة التي قامت باعتقاله عام 1915م كونه أظهر التعاطف تجاه العثمانيين الذين انخرطـوا في الحرب العالمية الأولى إلى جانب الألمان، ولجرأته فقد حاول الهرب، وقفز من فوق أسوار السجن شاهق الارتفاع بصورة أدت إلى تهشم رأسه وكسر رجله، ومن ثَمَّ القبض عليه وإعادته إلى السجن مرة أخرى. وفي عام 1920م توفي والده، وكان ذلك بعد خروجه من السجن وعودته إلى قريته بزمن قليل، وكان والده حينها يُعِدُّ العدة للتصدي للإسبان بعد أن أنذرهم من مغبة التوغل في البلاد. ولذلك فقد تصدر الخطابي الواجهة في قبيلته بمساعدة أخيه وعمه، فعمل على جمع شمل القبائل وإزالة ما بينها من فرقة واختلاف، وحثِّها على توجيه بأسها نحو العدو المشترك، وهو العدو الإسباني المحتل، وتخليص البلاد منه، معتبراً الحرب ضده حرباً دينية وحضارية. وقد توَّج جهودَه في هذا المجال بتنظيم مؤتمر عامٍّ لرؤساء القبائل، نجح خلاله في تحقيق مصالَحة عامة بينهم، واعترفوا به زعيماً عليهم، بعد أن تعاهدوا على رفع راية الجهاد ضد الإسبان. ولم يكن الخطابي قائداً عسكرياً فحسب؛ وإنما كان إلى جانب ذلك مصلحاً اجتماعياً، وداعية إسلامياً، يدعو إلى الله على علم وبصيرة، وكانت دعوته تقوم على تجديد ما اندرس من تعاليم الإسلام، ومحاربة الجمود، ونشر العلم، والأخذ بأسباب التقدم والتمدن، في إطار العقيدة الإسلامية.

الجنرال سيلفستري وثورة الريف:

وفي ربيع عام 1921م، وهو العام الذي اندلعت فيه ثورة الريف بقيادة الأمير الخطابي، حشد الإسبان في مليلة جيشاً ضخماً قوامه 30 ألف مقاتل، ومثلهم تقريباً من خونة الأهالي، ولم يلبثوا أن تقدموا في المنطقة، بقيادة الجنرال مانويل فرنانديز سيلفستري، قائد القيادة العليا لجيش الاحتلال الإسباني بناحية مليلة، وكان هذا الجنرال معروفاً بصلفه وعناده، ونوزاعه الاستعمارية، وشدة ولائه للتاج الإسباني، وكان يحظى بالدعم المطلق من قبل الفونسو الثالث عشر، ملك إسبانيا (1902 - 1931م) الذي وضع كل ثقته فيه لوضع حدٍّ لثورة ابن عبد الكريم، ومن ثَمَّ إحكام السيطرة الكاملة، على بلاد الريف كلهـا، حيث كان الإسبان يعتقدون في البداية أن هذه الثورة ليست سوى حركة مؤقتة كالحركات التي سبقتها؛ وبخاصة أن هذا الجنرال بعد تعيينه قائداً عسكرياً لهذه الجبهة عام 1920م، كان قد احتل عدة مواقع متقدمة دون أن يجابَه بمقاومة تذكر، ودون أن يخسر أيَ جندي إسباني، فقد كان الضحايا في هذه المرحلة كلهم من الريفيين الخونة العاملين تحت اللواء الإسباني، كما أن كلاً من إسبانيا وفرنسا كانتا قد منعتا وصول السلاح إلى الريفيين، وجرَّمتا حمله من قبلهم، على اعتبار أنهم (متشددون) وأعداء لرسالتهما الحضارية التي يحملانها إلى الشعوب المتخلفة، بزعمهم. ولذلك فقد استمر الجنرال سيلفستري في اندفاعه حتى منطقة أنوال على مشارف قبيلة (ورياغل) التي ينتمي إليها ابن عبد الكريم، قائد الثورة، حيث كان يتخندق فيها إلى جانب مقاتليه وقتذاك، وكان الجنرال الإسباني المغرور قد أقسم أنه سيشرب الخمر في بيت ابن عبد الكريم. ولكن شاء الله تعالى أن يجعل كيدَه في نحره، وتدميرَه في تدبيره؛ فعند وصوله إلى هذه المنطقة بدأت الأمـور تتخـذ منحىً آخر، لم يحسب له حساباً؛ فبينما كان ذلك الجنرال، يواصل احتلال مناطق الريف فوجىء بانقضاض المجاهدين الريفيين على مركز (أبران) أحد المراكز الإسبانية المهمة في المنطقة وإبادة من وجدوا فيه من جنود إلا قلة قليلة ممن استطاعوا الهرب، والاستيلاء على جميع الأسلحة والذخائر التي كانت فيه، وكانت هذه أول لطمة مؤلمة لهذا الجنرال المتعجرف في المغرب، وكانت بالمقابل أول انتصار للخطابي، وهو الانتصار الذي ذاع صيته في نواحي المنطقة كلها. وعلى إثر ذلك الانتصار الذي جاء بعد عقود من الهزائم والنكسات، وفي وقت كان فيه العالم الإسلامي كله يرزح تحت نير الاستعمار، سرى الحماس في عروق أبناء قبائل الريف، ودبَّت الحميــة في نفوسهم، وتذكروا أمجاد وبطولات أسلافهم فاتحي الأندلس، وبخاصة أن هذا الانتصار قد وقع في العشر الأواخر من رمضان 1339هـ، ومن هنا فقد تداعوا للثورة على الغزاة الإسبان، ولم تلبث أن دوت صيحة الجهاد ضدهم في المنطقة كلها، وانخرط المئات من أبنائها في صفوف كتائب الخطابي، وأخذت الضربات الموجعة تسدَّد للإسبان من كل الاتجاهات، وتم القضاء على العديد من الفرق الإسبانية الموجودة بالمنطقة والاستيلاء على أسلحتها، كما باتت الفرق الإسبانية الأخرى شبه محاصرة، وبات المجاهدون على مشارف أنوال، مركز تجمع القوات الإسبانية، وعلى أهبة الاستعداد لخوض المعركة الفاصلة ضدها، وهي المعركة التي سيتردد صداها في الشرق والغرب، وسيخلدها التاريخ باسم (معركة أنوال).

أهمية معركة أنوال:

لقد كانت معركة أنوال معركة فريدة من نوعها في التاريخ العسكري العالمي، وهي تعد من أهم المعارك في العصر الحديث في القرن العشرين بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، كما تعتبر أكبر هزيمة يمنى بها الإسبان في تاريخهم الاستعماري في المغرب، بل ربما في تاريخهم العسكري كله، ليس من الناحية العسكرية فحسب، ولكن أيضاً من الناحية المعنوية؛ فقد كانت هزيمتهم في هذه المعركة هزيمة ساحقة ماحقة، حيث فقدوا فيها جميع الجيوش التي كانت في منطقة أنوال وغيرها من مناطق الريف، سواء بالقتل أو الأسر، وبسلاحهم نفسه بعد أن انتزعه المجاهدون الريفيون من أيديهم. ولم يسبق لمستعمر أن مني بهزيمة نكراء مزلزلة مثلها في أي مكان من العالم، اللهم إلا إذا استثنينا من ذلك هزيمة البرتغاليين القاصمة في معركة وادي المخازن، المعروفة أيضا بمعركة الملوك الثلاثة، وذلك عام 1571م على أيدي المغاربة أيضاً. ولذلك فقد أطلق المؤرخون والقادة العسكريون الإسبان على معركة أنوال اسم (كارثة أنوال)؛ فقد لقنهم محمد بن عبد الكريم الخطابي ورجاله البواسل فيها درساً لم ينسوه أبداً، وتركت الهزيمة في الوجدان الشعبي الإسباني جرحاً غائراً لن يندمل على مرِّ الزمن، وما زال اسم الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي يشكل شبحاً مرعباً للإسبان حتى اليوم. وبالمقابل فإنه لم تسجل حركة جهادية مسلحة في أي بلد من العالم انتصاراً باهراً يماثل الانتصار الذي حققته الحركة الجهادية في ريف المغرب ضد الإسبان في معركة أنوال الخالدة بقيادة البطل الفذ محمد بن عبد الكريم الخطابي، وبتلك الصورة التي أدهشت العالم مثلما أدهشه أيضاً قائدها وخبرته العسكرية الفذة التي ارتكزت على أسلوب حرب العصابات والتنظيم العسكري والإداري، وذلك رغم أنه لم يتخرج من أي مدرسة أو أكاديمية عسكرية؛ ذلك أن الانتصار الباهر الذي تحقق في هذه الملحمة العظيمة بقيادة هذا الرجل الكفء المحنك، تحقق أساساً على أيدي جماعة من المغاربة الريفيين، لا يتجاوز عددهم ثلاثة آلاف مقاتل، ولا يملكون سوى أسلحة خفيفة وبدائية، في مواجهة جيش نظامي مجهز بترسانة ضخمة من الأسلحة الحديثة الثقيلة شديدة الفتك والتدمير، إضافة إلى الأسلحة المتوسطة والخفيفة، ويتجاوز عدد أفراده ثلاثين ألف مقاتل، إلى جانب مثل هذا العدد تقريباً من خونة الأهالي المارقين. وما كان لهذا الانتصار الباهر أن يتحقق لولا تأييد الله سبحانه وتعالى للخطابي ورجاله البواسل، الذين حملوا رؤوسهم على أكفهم دفاعاً عن دينهم وأمتهم وبلادهم، وأيضاً لولا براعة الخطابي في التخطيط والتنظيم عسكرياً وإدارياً، إلى جانب إيمانه ومن معه بعدالة القضية التي كانوا يجاهدون لأجلها.

كان انتصاراً اهتز له العالم كله، وزلزل أركان الاستعمار في العالم الإسلامي، ولذلك فقد حظيت المعركة بأهمية كبيرة لدى المؤرخين الأجانب، وقد صدر حولها حتى الآن حوالي مئة كتاب باللغات الأجنبية الحية، فضلاً عن الكتب التي صدرت عنها باللغة العربية. ومعركة أنوال في حقيقتها معركتان: الأولى معركة (أبران) وجرت في 1/6/1921م، والثانية معركة (أنوال) وجرت في 21/7/1921م، ولكن المعركة الأخيرة اشتهرت لأنها كانت هي المعـركة الحاسمة التي كان فيهـا النصر الكبير للخطابي وجنوده، وكانت فيها الهزيمة الساحقة الماحقة للجيش الإسباني المحتل. 

معركة أنوال وأبرز نتائجها:

وهكذا أدت حملة الجنرال سيلفستري على بلاد الريف إلى اشتداد ثورة الريف بدلاً من وَأْدها، وفي غضون ذلك زج هذا الجنرال بالمزيد من القوات لمجابهة تلك التطورات الخطيرة، بَيْد أن ذلك قد زاد الطين بِلَّة، لأن المجاهـدين الريفيين كانوا يترصدون لتلك القوات إينما ذهبت، وباتت أكثر المناطق التي يحتلها الإسبان في الريف محاصرة، كما باتت محـرومة من التزود بالماء الذي بات تحت سيطرة جيش الخطابي، بما فيها المنطقة التي كان يتمركز فيها الجنرال سيلفستري. هذا الأخير الذي لم يلبث أن فقد السيطرة على زمام الموقف؛ إذ صار ذلك الزمام بيد الخطابي، ونتيجة لذلك فقـد اشتد عطش الجنود الإسبان إلى درجة أوصلتهم إلى شرب أبوالهم، وإلى تعريض أرواحهم للقتل نتيجة لمغامرة بعضهم للوصول إلى مصدر الماء الوحيد في المنطقة، الأمر الذي كان يجعلهم هدفاً سهلاً للمجاهدين الريفيين، لدرجة أن كل قطرة ماء كان يحصل عليها الإسبان كانوا يدفعـون ثمنها قطرة دم. وقد باءت كل محاولات الجنرال سيلفستري في فك طوق الحصار المضروب حول قواته، أو بالأحرى الخروج من المصيدة التي وقع فيها بتدبير من الخطابي، بالفشل. وفي 21/7/1921م أصدر أوامره لقواته بالاشتباك مع جيش الخطابي، فنشبت بين الجيشين معركة هائلة لم تعرف لها المنطقة مثيلاً من قبل؛ إذ كان حوالي 3500 مقاتل مغربي في مواجهة حوالي 30 ألف جندي إسباني ومثلهم من خونة الأهالي، فقد هاجم الريفيون بخيلهم ورَجِلهم جميع المواقع الإسبانية في بلاد الريف في وقـت واحد، وقطعوا خطوط الاتصال وأسلاك الهاتف بينها، وعزلوا تلك المواقع عن بعضها، واستمرت المعركة خمسة أيام، دارت خلالها الدائرة على الجيش الإسباني؛ إذ أوقع به جيش الخطابي هزائم قاسية، ومزقه شر ممزق، وأجبر من تبقى منه على الفرار من أنوال، وتعقبت جيوش الخطابي فلول المقاتلين الإسبان الهاربة حتى مشارف مليلة، مُوقِعة بها مزيداً من القتلى، بحيث بلغت أعداد القتلى الإسبان في هذه المعركة حوالي 15 ألف مقاتل بينهم قادة كبار، على رأسهم الجنرال سيلفتسري الذي وجدت جثته فيما بعد بين ركام القتلى، والذي قيل إنه انتحر خوفاً من الشماتة والعار، وهذا بجانب آلاف الجرحى، ومئات من الأسرى، إضافة إلى الخسائر المالية الضخمة التي تكبدتها الخزينة الإسبانية. كما نجم عن هزيمة الجيش الإسباني على ذلك النحو المخزي والشنيع حدوث أزمات سياسية عميقة في الداخل الإسباني، ووقوع فجوة كبرى بين قادة الجيش ورجال السياسة الإسبان؛ إذ نشبت بين الطرفين خلافات مستعصية حول الأسلوب الناجع لغزو قبيلة ورياغل، القلب النابض للحركة الجهادية في ريف المغرب، لإلحاق الهزيمة الحاسمة بها، وكانت المعركـة بين الطرفين حامية الوطيس في الصحافة الإسبانية. وأدت المعركة على الجانب المغربي إلى تحرير جميع مناطق الريف من الاحتلال الإسباني عدا مليلة، وإلى غُنْم مئات المدافع الثقيلة والرشاشات، والآلاف المؤلفة من البنادق، وأطنانٍ من القذائف، وعشرات الشاحنات العسكرية، وغير ذلك من الأثاث والمؤن. وقد سارع الخطابي بعد انتصاره الباهر إلى تنظيم المناطق المحررة إدارياً ومالياً، وإلى تأسيس مجلس سياسي لإدارة شؤون البلاد، كما قام بتأسيس جيش نظامي لحماية انتصاراته، واستمر ذلك الجيش يحقق الانتصارات حتى نهاية عام 1924م.

التدخل الفرنسي والحرب الكيميائية:

شعرت القوى الاستعمارية الأوروبية الكبرى بالخطر من الانتصار الذي حققه الخطابي في أنوال وما تلاه من انتصارات وإنجازات في كافة المجالات، وبخاصة فرنسا التي كانت حينـذاك تسيطر على القسم الأعظم من شمال إفريقيا، فقررت التحالف مع الإسبان ودخول المعركة إلى جانبهم ضد الخطابي، وذلك في نيسان 1925م بعد أن حصلت على الدعم من إيطاليا التي كانت تحتل ليبيا آنذاك، وفي الوقت نفسه شدد الإنجليز، الذين كانوا يحتلون الجزيرة الخضراء، الحصار البحري على شمال المغرب للحيلولة دون وصول السلاح إلى أيدي المجاهدين الريفيين، بَيْدَ أن المجاهدين الريفيين ردوا الجيوش الفرنسية على أعقابها، وألحقوا بها هزائم ساحقة كالتي ألحقوها بالإسبان من قبل، واستردوا كثيراً من المواقع التي كانت تحتلها فرنسا في بلاد الريف الجنوبية، وذلك في الأشهر الأولى من الحرب، وكادوا في إحدى غزواتهم أن يحرروا مدينة فاس، العاصمة العلمية للمغرب، رغم أن هؤلاء المجاهدين كانوا يقاتلون في جبهتين، ورغم أن كلاً من الفرنسيين والإسبان كانوا قد حشدوا طاقتيهما لوأد ثورة الريف، وتصفيـة الخطابي.  

وعلى إثر تلك الانتصارات الجديدة وما تكبده الفرنسيون من خسائر فادحة، وأيضاً نتيجة لحالة الغليان التي عمت المغرب كله واحتمال نشوب الثورة الشاملة ضدهم في البلاد استجابةً لدعوات الخطابي.جن جنون السلطتين الاستعماريتين في باريس ومدريد، فلجأت كلٌّ منهما إلى سلاح غير تقليدي يستخدم لأول مرة في تاريخ الحروب، ألا وهو أسلحة التدمير الشامل؛ فقد استخدمت الجيوش الفرنسية والإسبانية مختلف أنواع الغازات السامة، والأسلحة الكيمائية في عدوانها المشترك على جيش الخطابي، وذلك عن طريق قصفه بها من الجو بواسطة الطيران، وكان ذلك في صيف عام 1925م، وقد شمل ذلك القصف القرى الآهلة بالسكان، والحقول الزراعية، ومصادر المياه، إلى جانب الطرق والمخابئ، ونتيجة لذلك فقد كانت أعـداد الضحايا المدنيين الريفيين بالجملة، وفقد الخطابي في غضون أشهر قليلة الآلاف من خيرة جنوده، فكان طبيعياً - والحال هذا - أن يقبل بمبدأ التفاوض مع السلطتين الاستعماريتين الفرنسية والإسبانية، غير أنه فوجىء في مؤتمر (وجدة) في نيسان 1926م بشروطهما التعجيزية والمجحفة والمذلة التي تشترطانها عليه، وهي: تنحيته وأسرته عن الريف، والسماح لهما بإقامة نقاط إسترتيجية في بلاد الريف، ونزع سلاح رجال الريف... إلخ، ولم تكن هذه المفاوضات حقيقة إلا لكسب الوقت، ولمعرفة نقاط ضعف الخطابي؛ إذ إنه قبل أن يجف الحبر الذي كتبت به تلك الشروط، كان هناك حوالي نصف مليون جندي فرنسي وإسباني، مزودين بمختلف أنواع الأسلحة الحديثة، يحتشدون في شمال وجنوب بلاد الريف على أهبة الاستعداد لاجتياح البلاد، كما نجح الفرنسيون أيضاً في استثارة الطرق الصوفية ضد الخطابي.

وفي مطلع مايو 1926م بدأ الطرفان الفرنسي والإسباني عدوانهما المشترك الشامل على بلاد الريف، فنجحا في إلحاق الهزيمة بالمجاهـدين الريفيين، واجتياح المنطقة بعد ثلاث حملات ضخمة، ومن ثَمَّ القضاء على ثورة الريف التي أتعبتهم وأنهكتهم، وقد انتهت تلك الثورة رسمياً باستسلام قائدها محمد بن عبد الكريم الخطابي للفرنسيين لتجنيب شعبه الإبادة الجماعية، التي كان يخطط لها الفرنسيون والإسبان، وكان ذلك في 27/5/1926م، وكان هذا اليوم من أشد الأيام سواداً وحزناً في تاريخ الأمة الإسلامية الحديث.                    

 


تحطيم التّصوّرات والمفاهيم

 تحطيم التّصوّرات والمفاهيم

صفوت بركات 
أستاذ علوم سياسية واستشرافية

إن ما هدمته ودمرته غزة في المفاهيم والتصورات عن الغرب والنظام الرسمي العربي والتي هي البنية الأساسية للنظام العالمي والإقليمي،

وما أنفق عليه من الغرب والعرب التريلونات لو أنفقت ميزانيات العرب لمائة عام لم تكن لتهدمه وتدمره.

وهو النصر الحقيقي ثم الجولة التالية.

إن شاء الله سترى التدمير للمعالم المادية للعدو والتي تم استهدافها للآن ولو وقفت على إحصاء الخسائر، والمهاجرون منها.

لن تتفوه بحرف ينقض كلامي، ولكن المشكلة أن عيوننا صارت في اتجاه واحد ولا ترى إلا ما يريد عدوك رؤيته.

أخطر شيء هو تحطيم التّصوّرات والمفاهيم أو تصويبها ثُم عمليّة تشكّل ما يحلّ محلّها من تصوّرات ومفاهيم؛

والتّفاعُل المناسب والمكافئ لتلك التّصوّرات يأخُذ وقته الطّبيعيّ،

صحيح يمكن تعجيله أو تبطيئه بفعلٍ خارج عنه أو بتراكم ذاتيّ لتلك التّصوّرات والمفاهيم الجديدة

أو العودة إلى التّصوّرات والمفاهيم الأصيلة غير المصنوعة بالتّزييف والتّلبيس والأماني التي زيّنتها؛

ولكن حتمًا ستشكّل التّصوّرات والمفاهيم الجديدة أو الأصيلة التي تنتج بنفسها آثارها في دنيا النّاس؛

فعمليّة التّحوّلات الكبيرة لها إطار زمنيّ طبيعيّ فلا تتعجّل الثّمرات،

وذلك هو موضوع الحرب وأساسها ومنتهاها، والتي تُضحّي الأُمم في سبيلها، لأنّها أثمن شيء في الوجود.

الدروز في الدولة الصهيونية

الدروز في الدولة الصهيونية

 . أحمد مصطفى الغر


لا يقيم الأعداء أبدا أي اعتبار لمن خانوا قوهم، فكم من الخونة والمنافقين الذين ساعدوا الأعداء وبذلوا من أجلهم التضحيات، ولم يحصلوا في الأخير إلا على اللعنات والاحتقار من الأعداء قبل الأصدقاء، هذا ما تسجله قصة الدروز في الدولة الصهيونية.


يعيش الدروز في عدة بلدان مختلفة، تفصلهم حدود مرسومة بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية في أوائل العشرينيات من القرن الماضي، والدروز يمكن وصفهم بمجموعة دينية وعرقية فريدة من نوعها، حيث يعود تاريخ تقاليدهم إلى القرن الحادي عشر وتتضمن عناصر دينهم ملامح من الإسلام والهندوسية وحتى الفلسفة اليونانية الكلاسيكية، واليوم يعيش أكثر من مليون درزي في المنطقة، بالنظر إلى الدولة الصهيونية على وجه التحديد فإن المجتمع الدرزي يشكل أقلية متماسكة ونشطة في الحياة العامة، وبالرغم من أن قسمًا كبيرًا من البالغين الدروز ــــــ رجالاً ونساءً ــــ يخدمون في الجيش الصهيوني والأجهزة الأمنية والوكالات الحكومية، إلا أن أقلية الدروز تعاني من التهميش وفقدان كثيرٍ من الحقوق التي يتمتع بها غيرهم من المستوطنين اليهود، وقد تكشّفت مشاكلهم أكثر وسُلِّطَ الضوء عليها في ظل الحرب الصهيونية الغاشمة على قطاع غزة فأي أبعاد لهذه المشكلات؟، وأي انعكاسات قد تطرأ نتيجةً لها؟

من هم الدروز؟

الدروز هم أقلية عرقية ودينية ناطقة باللغة العربية، ويعيشون تقليديًا في المناطق الجبلية في سوريا ولبنان وشمال الدولة الصهيونية "إسرائيل" وشمال الأردن، ويتبعون عقيدة تعدّ فرعًا من الشيعة الإسماعيلية، ولا يعتبر الدروز مذهب التوحيد كمذهب إسلامي، بل يرون أن مذهب التوحيد الدرزي ديانة مستقلة عن الإسلام وأنها قائمة بحد ذاتها، وعلى الرغم من أن أفرادها أقلية صغيرة من ناحية العدد، إلا أنهم لعبوا أدوارًا بارزة في السياسة الداخلية لكل بلد مع الحفاظ بهدوء على هويتهم الثقافية الخاصة في مناطقهم.

نادرًا ما يتزوج الدروز من خارج دينهم، فمنذ تأسيس تلك الطائفة في القرن الحادي عشر، تم إغلاق التحول إلى الدرزية رسميًا أمام الغرباء وتم حظر التبشير، ومنذ ذلك الحظر استمر السكان الدروز في الوجود فقط على أساس استمرار أجيالهم السابقة، ويركز الدروز بشدة على الفلسفة ونقاء الطائفة، ولا توجد لديهم أيام مقدسة محددة أو صلوات منتظمة أو التزامات للحج، إذ على حد زعمهم فإنه من المفترض أن يكون الدروز مرتبطين بالله في جميع الأوقات، يؤمن الدروز بعدد محدد من الأنبياء؛ منهم: شعيب وموسى وعيسى ومحمد، كما يحظى العديد من الفلاسفة باحترام كبير من قبل الدروز، وعلى رأسهم سقراط وأفلاطون وأرسطو والإسكندر الأكبر.

 

 الدروز يؤدون الخدمة العسكرية والمدنية، فلأكثر من 4 عقود كان لدى جيش الاحتلال وحدة مشاة درزية في المقام الأول تسمى هيريف، أو كتيبة السيف، وهذا على النقيض من العرب المقيمين في الدولة المحتلة الذين يتم إعفاؤهم من الخدمة العسكرية

الدروز في إسرائيل

يعود تاريخ وجود الدروز تحت الحكم الصهيوني إلى حرب 1948م، وقد ازداد عددهم بعد هزيمة 1967م واستيلاء الدولة الصهيونية على مرتفعات الجولان السورية، فحينما فرَّ السكان السوريون إلى الداخل السوري أو إلى خارج البلاد، على عكسهم بقي الدروز في قراهم الأربع التي تقع في سفوح جبل الشيخ، صحيح أن الطائفة الدرزية في الجولان قد خاضت في البداية صراعًا سياسيًا ضد السيادة الإسرائيلية والتزمت بهويتها السورية، إذ كانت لديهم توقعات بأن دولة الاحتلال ستعيد الجولان إلى سوريا، لذا استمر الزواج بين الدروز عبر الحدود في سوريا، ورفض دروز الجولان الجنسية الإسرائيلية في بادئ الأمر، ورفضوا الخدمة في جيش الاحتلال، وحظروا اللغة العبرية في مدارسهم، لكن سرعان ما تغيّر كل ذلك، وبات عدد أبناء الطائفة الدرزية الآن في دولة الاحتلال اليوم يقدر بـ 150 ألف نسمة، أي حوالي 2% من سكان الكيان المحتل، وفقا لدراسة جديدة أجراها مركز بيو للأبحاث في إسرائيل، ويعيش معظم الدروز في المناطق الشمالية من الجليل والكرمل ومرتفعات الجولان.

حسب نظام التعليم الإسرائيلي فإن المدارس الدرزية مستقلة ومختلفة في مناهجها عن المناهج في المدارس العبرية والعربية، وينتمي اليوم عشرات الآلاف من الدروز الإسرائيليين إلى حركات درزية صهيونية، وهم لا يعدون أنفسهم عربًا أو فلسطينيين بأي شكل من الأشكال، ويميلون أكثر إلى التشديد على الهوية الدرزية أو الإسرائيلية، ويزداد هذا الشعور مع تشجيع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على هوية منفصلة لهم وهي الهوية الدرزية الإسرائيلية، والتي تم الاعتراف الإسرائيلي بها رسميًا في القانون الإسرائيلي في وقت مبكر منذ عام 1957م، ويترأس الطائفة الدرزية في إسرائيل، الشيخ موفق طريف، فهو الزعيم الروحي لدروز إسرائيل وأحد أبرز المطالبين بضرورة ترسيخ الطائفة الدرزية وحقوقها في التشريعات الإسرائيلية.

يعتبر الدروز خدمة الدولة التي يعيشون فيها جزءًا من الواجب المدني والعقيدة الدينية، لذا فإن الدروز يؤدون الخدمة العسكرية والمدنية، فلأكثر من 4 عقود كان لدى جيش الاحتلال وحدة مشاة درزية في المقام الأول تسمى هيريف، أو كتيبة السيف، وهذا على النقيض من العرب المقيمين في الدولة المحتلة الذين يتم إعفاؤهم من الخدمة العسكرية، ويتضح الأمر بجلاء من خلال إحصاء العديد من الجنرالات الدروز والسفراء وأعضاء الكنيست ووزراء الحكومة، لكن بالرغم من كل ذلك فإنهم يواجهون الحط من مكانتهم في النظام السياسي والاجتماعي.

 

 في إطار السعي لتحقيق مزيدٍ من الاندماج؛ أُنشِئَت جمعيات للضباط الدروز، والتي تقوم بأنشطة لتكريم القتلى منهم، واتحادات للطلاب الدروز لتوفير الدعم المالي لهم، وهي مصممة تاريخيًا لتعزيز الصداقة الدرزية اليهودية

تحديات وتحولات

طرأت خلال العقد الماضي مجموعة من التحولات على المجتمع الدرزي في "إسرائيل"، لكن هذه التحولات قد حملت في طياتها مجموعة من التحديات يمكن تلخيصها في 3 اتجاهات رئيسية:

 أولًا؛ الرغبة في الاندماج:

بات هناك وعي متزايد بين الدروز في الدولة العبرية اللقيطة "إسرائيل" بأن مستقبلهم الأمثل يكمن في وجودهم بها، وليس في سوريا أو غيرها من دول المنطقة، ومن هنا بدأت محاولات الاندماج الكلي في المجتمع الصهيوني وما صاحبها من تحديات وعراقيل.

 ثانيًا؛ الخذلان بسبب التشريعات:

وعلى الرغم من نشأت توترات جديدة بين الدروز والدولة العبرية الصهيونية "إسرائيل" بسبب قانونين مختلفين، وهما: قانون الجنسية الذي يؤكد على هوية إسرائيل اليهودية، وقانون كامينيتس الذي يسعى إلى مركزية وإنفاذ الحظر ضد البناء غير القانوني، وهي ممارسة شائعة في القرى الدرزية بسبب عدم توفر الأراضي المرخصة للسكن. إلا أنهم ما زالوا متمسكين بحياة الذلة مع الصهاينة.

 ثالثًا؛ الخدمة في جيش الاحتلال الإسرائيلي:

إذ شهد المجتمع الدرزي في الآونة الأخيرة حالة من الانقسام بشأن الخدمة العسكرية في الجيش، حيث يشكو البعض من أنهم لا يتلقون الدعم الذي يستحقونه بعد وأثناء الخدمة، وهناك تراجع كبير في ثقتهم بدولة الاحتلال بسبب العنصرية الإسرائيلية حيالهم، وتعلو من حينٍ لآخر بعض المطالبات لرفض التجنيد الإجباري المفروض على الشبان الدروز. ليس من باب القرب الديني أو العرقي مع العرب المسلمين ولكن بسبب أنهم لا يحصلون على مكافآت أو تقدير لقاء ما يقدمونه من تضحيات ودماء تذهب في النهاية من دون مقابل.

الرغبة في الاندماج

على الرغم من أن دروز في الدولة العبرية ظلوا لفترة من الزمن غير منسجمين مع واقع الحكم، إلا أنه لأسباب نفعية ولأن التكامل العملي في إسرائيل يعتبر في نظرهم الخيار الأكثر عقلانية، سرعان ما بدأوا في التعبير علانيةً عن تضامنهم مع الكيان المحتل، وباتوا لا يخفون تضامنهم مع القضايا الإسرائيلية على اعتبار أن الشراكة مع الشعب الصهيوني تعدّ خيارًا استراتيجيًا، وبدأ قادة المجتمع الدرزي في بناء علاقات قوية وتعاونية مع الحكومة الصهيونية، ورفضوا المواجهة المباشرة معها.

بعد اندلاع الثورة السورية في عام 2011م وما شهده نفس العام من هزّات سياسية وثورية في بعض دول المنطقة، ظهر اتجاه جديد بين جيل الشباب في دروز الجولان، مدفوعًا باعتبارات عملية وانعكس في اتجاهات مماثلة بين الدروز في باقي مناطق إسرائيل، إذ ارتفع عدد الدروز الذين تقدموا بطلبات للحصول على الجنسية الإسرائيلية بشكل مطرد، يمكن ملاحظة ذلك من الارتفاع الكبير ـ خلال العقد الذي أعقب عام 2011 ـ في عدد الطلاب الدروز المسجلين في الجامعات الصهيونية، وفي الانتخابات البلدية في الجولان عام 2018م كانت هناك لأول مرة درجة ملحوظة من المشاركة، فيما بدأت الشركات الدرزية بشكل متزايد في العمل مع خطط الحكومة للتنمية الاقتصادية والتمكين، والتي تم الترويج لها بين عامي 2014 و2022، فيما يتزايد تدريس اللغة العبرية في المدارس الدرزية كدليل آخر قوي على الرغبة في الاندماج ومن أجل تحقيق شرط ضروري للدراسة في المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية.

في إطار السعي لتحقيق مزيدٍ من الاندماج؛ أُنشِئَت جمعيات للضباط الدروز، والتي تقوم بأنشطة لتكريم القتلى منهم، واتحادات للطلاب الدروز لتوفير الدعم المالي لهم، وهي مصممة تاريخيًا لتعزيز الصداقة الدرزية اليهودية وكذلك اندماج الطلاب الدروز في إسرائيل، وبات أعضاء المجتمع الدرزي يتبؤون مناصب عليا في السياسة الإسرائيلية والخدمة العامة، ونظرًا لأنهم مندمجون في العديد من الأحزاب السياسية، بات عدد أعضاء البرلمان الدروز أكبر من نسبتهم بالمقارنة مع الأقليات الأخرى في إسرائيل.

الخذلان بسبب التشريعات

بالرغم من محاولات الدروز الإسرائيليين للاندماج في المجتمع الصهيوني وأداء كافة الواجبات المنوطة بهم، إلا أن الشعور بحرمانهم من حقوقهم والتمييز ضدهم ظل موجودًا، وقد ازداد الأمر في ظل صدور قانونين مختلفين، هما:

 قانون الجنسية الصادر في عام 2018م:

يُنظر إلى هذا القانون على أنه يعطي الأولوية للهوية اليهودية على اعتبار أن إسرائيل دولة قومية للشعب الصهيوني، إذ يعدّل القوانين الأساسية لإسرائيل والتي هي أقرب شيء هناك إلى الدستور، قام بتدوين الرموز اليهودية، مثل نجمة داود والشمعدان، كرموز وطنية للدولة اللقيطة، والعبرية كلغة وطنية لها والأعياد اليهودية كأعياد وطنية، كما خفّضَ القانون مستوى اللغة العربية من لغة رسمية للدولة إلى "لغة ذات وضع خاص"، والأكثر إثارة للجدل، هو أنه ينص على أن حق تقرير المصير الوطني في الدولة الصهيونية يخص اليهود واليهود وحدهم، بالنسبة للعديد من الدروز، وهم أقلية ناطقة باللغة العربية في "إسرائيل"، كان يُنظر إلى القانون على أنه إهانة للدور الذي لعبه الدروز في تاريخ الدولة الصهيونية.





أثار هذا القانون رد فعل مكثف بشكل لافت من قبل الطائفة الدرزية على المستويين الشعبي والقيادي، تمت قراءة القانون على أنه استبعاد للدروز من قلب دولة الاحتلال، على الرغم من مساهمتهم في أمن "إسرائيل" وما أصبح يسمى بـ"ميثاق الدم"، إذ خشي الدروز أن يؤدي ذلك إلى تآكل حقوقهم المدنية، وتصنيفهم كمرتزقة للدولة اليهودية وليس كمواطنين في الدولة، وقد انعكس هذا في أنماط التصويت في سلسلة الانتخابات بين عامي 2019 و2022، إذ استمر حوالي 90% من الدروز في التصويت للأحزاب الصهيونية، لكنهم ابتعدوا عن حزب الليكود واتجهوا إلى الوسط ويسار الوسط.

فشل البرلمانيون الدروز في الطعن على هذا التشريع في المحكمة باعتباره تمييزيًا، ولا يزال الكثيرون اليوم يصفونه بأنه طعنة في الظهر للإسرائيليين غير اليهود، فيما يبرر واضعو قانون الجنسية بأنه قد تم تصميمه للتأكيد على حق الشعب اليهودي في تقرير المصير والوقوف ضد رفض الفلسطينيين الاعتراف به، لكن بالنسبة للدروز كان ذلك بمثابة إهانة لهويتهم الخاصة، وتزامنت ردود أفعالهم مع أنماط احتجاج أوسع في إسرائيل ضد حكومة نتنياهو (آنذاك ومرة​​أخرى الآن).

قانون كامينيتس الصادر في عام 2017م:

سُمِّي هذا القانون على اسم نائب المدعي العام الإسرائيلي آنذاك، بشأن إنفاذ مخالفات البناء، وأدى هذا الأخير إلى فرض أوامر الهدم وغرامات باهظة على الأسر الدرزية، فلدى المجتمعات الدرزية في الشمال معاملة وضعية وعنصرية من دولة الاحتلال تجاههم، ولعل أهمها أن الكثير من أراضيهم مسجلة على أنها "زراعية"، وهو ما يمنعهم من الحصول على تصاريح بناء لمنازل لأبنائهم وأحفادهم ومن توسيع قراهم، لدرجة أن حوالي ثلثي منازل الدروز في الدولة العبرية تم بناؤها دون تصاريح في العقود الأخيرة، مما أدى إلى تركها تحت التهديد المستمر بأوامر الهدم أو الغرامات الضخمة، ويعتقد الدروز أن الحكومة الإسرائيلية تحد عمدًا من البناء في مجتمعاتهم وتضطهدهم من خلال التنفيذ المفرط لقانون كامينيتس، لدرجة أن عائلة الضابط الدرزي محمود خيرالدين الذي قُتِلَ في غزة في عام 2021، فضلت في الحصول على تصريح بناء رغم وفاته في سبيل الكيان المحتل.

الخدمة في جيش الاحتلال

يتم تجنيد الدروز الذين تزيد أعمارهم عن 18 عامًا في الجيش الاحتلال منذ عام 1952م، وغالبًا ما تتم ترقيتهم إلى مناصب رفيعة، كما يتواجد العديد من الدروز في الشرطة وقوات الأمن، وفقًا للفلسفة الدرزية فعادةً ما يُشار إلى العلاقة بين اليهود والدروز الذين يخدمون في الجيش الإسرائيلي باسم "ميثاق الدم"، وتتفوق هذه العلاقة على أي توترات سياسية، لكن المساواة التي تتم في مسألة التجنيد لا تترجم دائمًا إلى الحياة خارج الجيش، وعلى عكس المسيحيين والمسلمين الناطقين باللغة العربية في دولة الاحتلال، والذين ما زالوا يُعرفون إلى حد كبير بأنهم فلسطينيون ويتم إعفاؤهم من الخدمة العسكرية، فقد تبنى الدروز بقوة الدولة الصهيونية ، وهم لا يخدمون في الجيش الإسرائيلي فقط بموجب قانون التجنيد الإلزامي مثل اليهود الإسرائيليين، بل يفعلون ذلك بمعدلات أعلى من اليهود، وخاصة في الوحدات القتالية وسلك الضباط، وفي العقدين الماضيين تشكلت كتلة من الضباط الدروز تجمع بين خلفيتهم في القيادة العسكرية والتعليم الأكاديمي والقيادة الاجتماعية، إنهم يعتبرون أنفسهم عناصر تغيير في المجتمع الدرزي، ونظرًا لمكانتهم في مجتمعهم بات ينظر إليهم كجزء متكامل من النخبة العسكرية والأمنية الإسرائيلية.

من وجهة نظر الدروز في الدولة الصهيونية؛ فإن الحرب بين دولة الاحتلال وحركة المقاومة الفلسطينية (حماس) تعدّ جزءًا من التهديد المشترك الذي يواجه الدروز واليهود، لكن هجوم طوفان الأقصى الذي وقع في 7 أكتوبر، والحرب التي تلته على قطاع غزة، بمثابة نقطة تحول في العلاقات الدرزية اليهودية، فمع وجود عدة آلاف من الرجال الدروز الذين يخدمون في الحرب في غزة، أصبح تأثير الصراع محسوسًا في المجتمع الدرزي في جميع أنحاء الدولة اللقيطة، لا سيما وأن عدة جنازات عسكرية قد أقيمت في قلب الطائفة الدرزية في إسرائيل منذ بدء الحرب على غزة، وكان أعلى ضابط في جيش الاحتلال قُتل في الحملة البرية داخل غزة هو درزي، كما انخرط المجتمع الدرزي أيضًا في الجهود التطوعية لدعم آلاف الصهاينة النازحين من الجنوب، كما أنشا الدروز مركزًا لمراجعة وتمشيط مقاطع الفيديو التي شاركتها حماس ووسائل الإعلام الفلسطينية منذ 7 أكتوبر لمساعدة المخابرات الإسرائيلية في تحديد مكان الرهائن وتحديد أماكن تواجد عناصر حماس، وذلك بصفتهم متحدثين باللغة العربية.

تبعات وانعكاسات

لا تقتصر المشكلات والتحديات التي يواجهها دروز في الدولة المحتلة عند حد قانون الجنسية وقانون كامينيتس، فهناك شعور سائد داخل المجتمع الدرزي بأنهم يعاملون بطريقة دونية وعنصرية فهم لا يحصلون على تمويل متساو للتعليم أو مشاريع البنية التحتية مثل باقي فئات المجتمع الصهيوني، بل إن قراهم مهمشة ومحرومة من الاستثمار العام وهناك تناقضات كبيرة في الميزانيات التي تحصل عليها مقارنة بالمدن ذات الأغلبية اليهودية ذات الحجم المماثل، ولكن مع عودة التوابيت بجثث المقاتلين الدروز من المعارك في غزة، بدأت نبرات الاستهجان والانتقادات تتعالى، إذ سئموا الاكتفاء بالوعود وانتظار النتائج التي لا تصل أبدًا، وقد تزايدت التوترات مع الحكومة مؤخرًا في صعود اليمين اليهودي المتطرف.

لقد اعتقد وجهاء الطائفة الدرزية أن مشاركة أبناء طائفتهم في الحرب التي يشنّها الجيش الصهيوني على غزة، سيحصدون من وراءها ثمرة تورطهم في الحرب من خلال تسهيل ملفاتهم العالقة؛ بيْدَ أن كل المؤشرات حتى الآن تدلل على أن القيادة السياسية والعسكرية قد قابلتهم بصفعة مدوية عندما رفضت التخلي عن الإجراءات الداخلية التي طالت الطائفة، وفي ظل التوترات المتسارعة جراء الحرب، اكتفت حكومة بنيامين نتنياهو في 7 يناير الماضي بتخصيص 12.5 مليون شيكل (3.41 مليون دولار) لما وصفته بـ "تعزيز صمود المجتمعات الدرزية في شمال إسرائيل"، وهي محاولة من الحكومة الصهيونية لتخفيف وطأة الضغط الدرزي، لكن من وجهة نظر الدروز فإن هذه المكافأة الطارئة ليست كافية، فثمة معاملات دونية عديدة تتطلب تدخلًا أكثر فاعلية، منها على سبيل المثال انتشار الجريمة داخل المجتمع الدرزي، والمثير للاستغراب أمام كل هذه المشاكل العميقة التي تواجه الدروز، أنهم مازالوا على ثقة بدرجةٍ كبيرة بأن الحكومات الصهيونية العنصرية ستمنحهم حقوقًا ملموسة أو تعطي لهم وزنًا مؤثرًا في مستقبل الحياة الاجتماعية والسياسية لدولة الاحتلال.




الثلاثاء، 19 نوفمبر 2024

أيها الحاكم العربي الشفاف: نتنياهو لا يراك

 

أيها الحاكم العربي الشفاف: نتنياهو لا يراك

وائل قنديل


أيّهما أكثر خطورة على رئيس حكومة الاحتلال الصهيوني، بنيامين نتنياهو: جامعة الدول العربية أم المعارضة داخل الكنيست الإسرائيلي؟ 
وبصيغةٍ أخرى: أيّهما أقرب له: الكنيست أم مؤسّسة القمة العربية؟. ... كانت الإجابة حاضرة أوّل من أمس في جلسة الكنيست التي بدا فيها رئيس وزراء الاحتلال تحت حصار المعارضة وعائلات الأسرى داخل الكنيست، وعلى لسان نتنياهو شخصياً، وهو يعلن أنّ الشارع معه والأميركان باعتبارهم رعاة الوساطة معه في الموقف من حركة حماس، لكن المكان الوحيد الذي تدور فيه حملة كاذبة ضدّ سياسته هو هنا داخل الكيان، الكنيست وإعلام التسريبات.

بعيداً عن أنّ الجلسة كانت استمراراً لهستيريا نتنياهو المتأجّجة منذ بدء العدوان على قطاع غزّة في العام الماضي، والتي يحاول فيها إظهار أنّه "ملك إسرائيل" وزعيمها القوي الملهم، بالإضافة إلى الحرص على تقديم نفسه المسيطر على الشرق الأوسط كلّه، إلا أنّ سردية نتنياهو ومقاربته للصراع توضّح إلى أيِّ حدٍّ هو واثق من أنّ أحداً داخل النظام الرسمي العربي يعارضه أو يمثل عائقاً أمام خططه ومشروعاته، ليخلٌص إلى أن يخوض الحرب نيابةً عن العالم، بما فيه العالم العربي، ضدّ من أسماه العدو الواحد، 
فيقول "هذه الحرب ضد طرف واحد هو إيران ومحورها، والتي رفعت شعاراً هو تدميرنا، وبخصوص المحور عايشنا هجمات حزب الله ثم انضم الحوثيون والمليشيات في سورية والعراق، وكان القرار الأول الذي نظرنا فيه هو كيف نفصل وحدة الساحات، وذلك عن طريق أولاً التعامل مع حماس فقط، لا أن نعمل على جبهتين ولو حصل ذلك ما كنا ننجز لا هنا ولا هناك".

اشتكى نتنياهو، في كلامه، من المعارضة في الكنيست، ومن إيران ومن حركة حماس ومن حزب الله، والحوثيين والمقاومة الإسلامية بالعراق، ثم من الولايات المتحدة، على الرغم من كونها شريكاً كاملاً في العدوان، وداعماً من دون حدّ أقصى لآلة الحرب الإجرامية الإسرائيلية، فيما بقي الطرف الوحيد تقريباً الذي لم يذكره نتنياهو بكلمة واحدة سلبية أو يشكو منه هو النظام الرسمي العربي، الذي عقد قمّتين، الأولى في الشهر الثاني من بداية العدوان والأخرى في الشهر الثالث عشر منه، تحت عنوان "وقف العدوان على غزّة". ومع ذلك، لم يصدر تنديد إسرائيلي واحد، على لسان نتنياهو أو غيره، بمخرجات  القمّتين ومقرّراتهما، وكأنّه لا أحد هناك يراه رئيس حكومة الاحتلال أو يعتدّ به أو يخشى جانبه.

في شكواه من الولايات المتحدة، وهي لعبة درامية مثيرة في سياق مسرحيته الاستعراضية أمام الكنيست، استرسل نتنياهو في سرديته "وضعنا نصب أعيننا أهدافاً ثلاثة، الأول القضاء على القدرات العسكرية والإدارية لحماس، والثاني إيجاد الظروف التي تتيح إعادة المختطفين، والثالث ضمان ألا تشكل غزّة أي تهديد ضد إسرائيل بعد اليوم. ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، دخلنا غزّة برّياً، وعلي أن أقول لكم إن الولايات المتحدة تحفّظت على دخولنا مدينة غزّة ومستشفى الشفاء ودخولنا خان يونس، ولكنها عارضت معارضة شرسة دخولنا رفح، ليس فقط أنهم عارضوا ذلك، بل قال الرئيس بايدن لي شخصيّاً إذا دخلتم سوف تكونون وحدكم، بل قال أكثر من ذلك إنه سيوقف إرسال شحنات السلاح النوعية إلينا. وبعد أيام ظهر وزير الخارجية بلينكن وكرر الكلام، وقلت له في منتدى واسع بالعبرية والانجليزية: إذا كنا مضطرين فسوف نقاتل بأظافرنا"، ثم يفتح قوسًا ويضيف (أنتم ادّعيتم أن هذا رئيس حكومة لا يملك الشجاعة إذن اسمعوا، لا تصفّقوا الآن، في النهاية صفّقوا).

وتابع "وفي ظل هذه الأمور والمصاعب من الولايات المتحدة ساعدتنا كثيراً في بداية الحرب، فالرئيس بايدن وصل إلى هنا وساعدونا بشحنات السلاح في البداية، ولكن حين وقفنا ثابتين على مثل هذا الأمر، فبطبيعة الحال طرح سؤال: هل علينا أن نواصل في ظل هذه المستجدّات الصعبة؟ قال بعضهم إننا نعتمد بالكامل على الولايات المتحدة، وإننا لا نملك الخيار، وعلينا ألا ندخل رفح. قال بعضهم إن علينا وقف الحرب، وبإمكاننا أن نعود إليها متى شئنا، ووقتها رأيتُ أننا إذا وافقنا على هذه الشروط سوف نفقد استقلاليتنا كدولة، ولن نتمكّن من فعل أي شيء، وكل خطوة نسعى إلى فعلها يهدّدوننا بحظر سلاح، وهذا غير معقول ولا مقبول. وعلينا الحفاظ على استقلالية إسرائيل، وقد حسمنا الأمر ودخلنا، واحتلينا رفح، لا بل احتلينا محور فيلاديلفي ومعبر رفح، والمهمّة لم تكتمل بعد".
يسمّي نتنياهو ما فعله في محور صلاح الدين (فيلادلفي) وهو المحور الخاضع للسيادة المصرية احتلالاً، وكذلك معبر رفح (المصري الفلسطيني). ينطق كلمة "احتلال" بمنتهى الاطمئنان والثقة بأنّ أحدًا لن يجرؤ على الوقوف أمام عدوانه، أو تشكيل أدنى خطر أو تهديد له شخصيّاً، كأنّه ليست ثمّة جانب مصري يمكن أن يغضب ويترجم غضبه إلى إجراءات عملية تزيل العدوان، أو تردع الصهيوني عن التفكير في تكراره. ولم لا يشعر بالأمان والثقة، وهو يرى عرباً يشاركونه الرغبة في إنهاء زمن المقاومة، وأقصى ما يمكن أن يصدُر عنهم هو مناشدات بالاكتفاء بهذا القدر من مذابح الإبادة الجماعية، والقبول بعروض السلام التي يحملها أميركيون صهاينة أكثر من نتنياهو نفسه؟

إنها الهويّة

 

إنها الهويّة

ياسر أبو هلالة


من السهل انتقاد المجتمعات لأنها تعلي من شأن الهوية على حساب الاقتصاد والتنمية والبرامج السياسية .. مع أن تلك المجتمعات تخوض صراع هويّة لم يتوقّف منذ خروج الاستعمار. وفي فلسطين تحديداً، لا يزال الصراع الوجودي على الهويّة، ولا تزال باقي الدول تخوض صراعاتٍ لا تقلّ حدة، بين هوية عربية إسلامية، جامعة وهويّات فرعية تمزّق المجتمعات (طوائف سنة شيعة، مسيحي مسلم، كرد عرب، أمازيغ وعرب، فرنسة وتعريب).

الإشكال عالمي، مع فارق أن العالم العربي يواجه حرباً على هويّته، سواء من خلال تمزيقها إلى هويّات فرعية أم تمييع الهوية وتغريب المجتمعات وتدمير الثقافة العربية، قيماً ولغةً، وتحويلها إلى أسواق وشركات همّها التصدير والربح والاستهلاك.

عالمياً، وفي الانتخابات الأميركية، برزت الهوية عاملاً حاسماً، وهذا ليس مفاجئاً بقدر ما هو سياق مترابط، نبّه عليه مبكّراً صومئيل هنتنغتون في كتابه “صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي" (1996) (The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order). صحيح أنه في كتابه ركّز أساساً على الصراعات العالمية بين الحضارات الكبرى (الغربية، الإسلامية، الصينية، وغيرها)، إلا أن بعض أفكاره يمكن تطبيقها على الصراعات الداخلية داخل الولايات المتحدة، حيث تتنافس مجموعاتٌ ذات هويات ثقافية مختلفة على النفوذ والمكانة. وفي هذا السياق، يمكن اعتبار انتخاب ترامب في 2024 استمرارية لصراع داخلي يتعلق بالحفاظ على الهوية الأميركية التقليدية في مواجهة التغيرات الديمغرافية والثقافية. وهو الذي يركّز خطابه على إعادة تأكيد القيم التقليدية والهوية الأميركية "الأصلية"، وهو ما يعكس نوعاً من الصراع الداخلي بين فئاتٍ ترى نفسها حامية للتراث الأميركي وفئاتٍ أخرى تؤيد التعدّدية الثقافية والعولمة.

يواجه العالم العربي حرباً على هويّته، سواء من خلال تمزيقها إلى هويّات فرعية أم تمييع الهوية وتغريب المجتمعات وتدمير الثقافة العربية

وبشأن "الانقسامات الثقافية"، يرى هنتنغتون أن الحدود الثقافية، سواء بين الحضارات أو داخل المجتمع الواحد، تصبح خطوطاً فاصلة للصراع. في حالة الولايات المتحدة، يمكن القول إن الانقسام ليس فقط بين الدول أو الحضارات، بل أيضاً داخل المجتمع الأميركي نفسه. وقد ركّزت حملة ترامب على مواضيع، مثل الهجرة، وسياسات الحدود، و"أميركا أولاً"، ما يعكس توتّراً داخليّاً بين الأميركيين الذين يروْن أنفسهم حماة للهوية التقليدية والحزب الديمقراطي الذي يعبّر عن التعدّدية والانفتاح، وبشكل متطرّف في قضية الهوية الجنسية التي استفزّت أكثرية المحافظين .

وصف خطاب ترامب، المهاجرين وبعض الأقليات أنهم تهديدٌ للهوية الوطنية، يتوافق مع رؤية هنتنغتون أن الصراعات المستقبلية ستكون بين مجموعات ثقافية تسعى إلى الحفاظ على هويتها ضد ما تعتبره تهديداً خارجيّاً أو داخليّاً.

عكس انتخاب ترامب استجابة لقلق شريحة من الأميركيين من تأثير العولمة والتنوع الثقافي على النسيج الاجتماعي للبلاد، وهو موضوع يتقاطع مع تحذيرات هنتنعتون بشأن انهيار الحدود الثقافية وتأثير ذلك على وحدة المجتمعات. وإذا كان كتاب "صراع الحضارات" قد ركّز على العواقب الدولية للعولمة، فإن الانتخابات الأميركية تُظهر أن هذه التوترات موجودة أيضاً داخل حدود الدول نفسها. ويمكن اعتبار انتخاب ترامب عام 2024 تجسيداً لفكرة هنتنغتون بشأن الصراع على الهوية، ليس فقط بين الحضارات المختلفة، بل أيضاً داخل الحضارة الواحدة، فهو يعكس صراعاً داخلياً حول ما يعنيه أن تكون "أميركياً” في القرن الحادي والعشرين، وكيفية التعامل مع التغيرات الثقافية والاجتماعية التي تعيد تشكيل البلاد. ويمكن القول إن انتصار ترامب يعكس استمرار الانقسامات الثقافية والسياسية في المجتمع الأميركي، وهو ما يؤكد صحة تحليل هنتنغتون أن الصراعات الثقافية ستبقى محورية في تشكيل عالم اليوم، على المستويين الدولي والمحلي.

يناقش هنتنغتون الثاني في كتابه "من نحن؟ التحدّيات التي تواجه الهوية القومية الأميركية" (Who Are We? The Challenges to America’s National Identity)، وقد صدر عام 2004، بعد نحو عقد من "صراع الحضارات"، موضوع الهوية الوطنية الأميركية بشكل أكثر وضوحاً في ضوء التغيرات الاجتماعية والديمغرافية. ويطرح تساؤلات جوهرية بشأن هذه الهوية، محذّراً من التحدّيات التي تواجهها الولايات المتحدة، بسبب التحوّلات الديمغرافية والهجرة، خصوصاً من أميركا اللاتينية. يجادل بأن هذه التغييرات يمكن أن تقوّض الثقافة الأنكلوساكسونية البروتستانتية التي يعتبرها الأساس التاريخي للهوية الأميركية. ويركّز هنتنغتون على أهمية الحفاظ على الهوية القومية الأميركية المتمثلة في اللغة الإنجليزية والقيم البروتستانتية، ويعتبر أن الهجرة غير المنضبطة، خصوصاً من أميركا اللاتينية، تمثل تهديداً للتماسك الاجتماعي والوحدة الوطنية. وينتقد السياسات التي تشجّع التعدّدية الثقافية على حساب الوحدة الوطنية، ويؤكّد أن هذه السياسات قد تؤدّي إلى تآكل الهوية الأميركية التقليدية. ويرى أن العولمة زادت من تعقيد مفهوم الهوية الوطنية، حيث أصبحت الحدود الوطنية أقلّ وضوحاً، ما يضعف من شعور الانتماء الوطني.

انتخاب ترامب إشارة واضحة إلى أن الهوية الوطنية الأميركية تمر بأزمة، وأن هناك شريحة كبيرة من الأميركيين تشعر بأنها مستبعدة أو مهدّدة من التغيرات الاجتماعية والاقتصادية

حاول هنتنغتون إيقاظ الوعي لدى الأميركيين بأهمية الحفاظ على الهوية الوطنية الموحّدة في مواجهة التحدّيات الداخلية والخارجية، كما يدعو إلى تبنّي سياسات تحدّ من تأثير الهجرة وتعزّز الانتماء إلى الثقافة الأميركية التقليدية. وقد أثار الكتاب جدلاً واسعاً عند صدوره، حيث اعتبره بعضهم تحذيراً مشروعاً للحفاظ على الهوية الأميركية، بينما رآه آخرون ذا طابع محافظ، أو حتى عنصري تجاه المهاجرين. وقد عكست انتخابات الرئاسة الأميركية لعام 2024 استمرار تأثير قضايا الهوية الوطنية والتغيرات الديمغرافية في السياسة الأميركية.

ولا تبتعد أطروحات المفكر الأميركي من أصل ياباني، فرانسيس فوكوياما، عن أفكار صموئيل هنتنغتون، في كتابه "الهوية: المطالبة بالكرامة وسياسات الاستياء" (Identity: The Demand for Dignity and the Politics of Resentment)، فقد رأى أن سياسات الهوية أصبحت محورية في السياسة العالمية، مع تصاعد مشاعر الاستياء بين فئات تشعر بالتهميش، وتحدّث عن صعود سياسات الهوية واحداً من المحرّكات الرئيسية للشعبوية في العالم. ووفقاً له، يعود جزءٌ من نجاح ترامب إلى قدرته على استغلال مشاعر الإقصاء والقلق التي يشعر بها أميركيون بسبب تغيّر التركيبة السكانية والاقتصادية للبلاد، بينما يرى فوكوياما الحل في بناء هوية وطنية شاملة ومشتركة، نجد أن ترامب تبنّى خطاباً مثيراً للانقسام قائماً على الفئات المختلفة (مثل "نحن" ضد "هم"). ومن منظور هنتنغتون، يعكس انتصار ترامب رفضاً للهجرة والتعدّدية الثقافية، ويمثل محاولة لإعادة تأكيد الهوية الوطنية التقليدية. من منظور فوكوياما، يعكس فوز ترامب ردّ فعل عنيفاً ضد النخب والعولمة، فضلاً عن استغلال سياسات الهوية مخاطبة الاستياء الشعبي المتزايد.

من الممكن بناء هويّة عربية جامعة، بفضاء إسلامي واسع، بقدر ما يمكن أن تنفجر في حروب أهلية مدمرة

بعبارة أخرى، يمكن القول إن انتخاب ترامب يمثل مزيجاً من أفكار هنتنغتون وفوكوياما، فقد استخدم ترامب خطاباً قوميّاً تقليديّاً (هنتنغتون)، وفي الوقت نفسه، استغلّ مشاعر الاستياء والهويات المجزّأة التي تحدّث عنها فوكوياما. وكان انتخاب ترامب إشارة واضحة إلى أن الهويّة الوطنية الأميركية تمر بأزمة، وأن هناك شريحة كبيرة من الأميركيين تشعر بأنها مستبعدة أو مهدّدة من التغيرات الاجتماعية والاقتصادية. ولا تخصّ هذه الأزمة أميركا وحدها. عربياً من الممكن بناء هويّة عربية جامعة، بفضاء إسلامي واسع، بقدر ما يمكن أن تنفجر في حروب أهلية مدمّرة. والمثال الواضح هويّة الشيعي العربي المسلم الذي يجد سنداً من إيران في مواجهة المشروع الصهيوني، وبين من يجدها داعماً لاحتراب هويّاتي على المستوى الوطني.

وقد لعب المشروع الصهيوني، منذ نشأته على الهويات الفرعية. وبكل وقاحة، دعا وزير الخارجية الإسرائيلي الجديد، جدعون ساعر، إلى تعزيز العلاقات مع المجتمعات الكردية والدرزية في الشرق الأوسط. وأشار، في كلمته في حفل تسلّمه المنصب من سلفه يسرائيل كاتس، إلى أهمية تضافر الأقليات في المنطقة، معتبراً الأكراد حلفاء طبيعيين لإسرائيل، ومشيراً إلى الدروز في لبنان وسورية شركاء محتملين. وأكّد ضرورة فهم أن إسرائيل، كونها دائماً أقلية في المنطقة، يجب أن تسعى إلى تحالفات طبيعية مع أقليات أخرى. وقد تفاخر جيش العدوان في غزّة بقتلاه من هويات غير يهودية اخترعها، "بدوية " و"درزية"، مع أن اليهود أنفسهم ما كانوا يعرّفون أنفسهم إلا جزءاً من فضائنا الحضاري.

الهوية، باختصار، سلاح ماضٍ يمكن أن نشهره في مواجهة عدوّنا وبناء شخصية محترمة لأمةٍ تتعامل مع العالم بندّية، وممكن أن يمزّقنا وتكون هباء منثوراً وبقايا ركام حروب أهلية.