الأربعاء، 20 نوفمبر 2024

تحطيم التّصوّرات والمفاهيم

 تحطيم التّصوّرات والمفاهيم

صفوت بركات 
أستاذ علوم سياسية واستشرافية

إن ما هدمته ودمرته غزة في المفاهيم والتصورات عن الغرب والنظام الرسمي العربي والتي هي البنية الأساسية للنظام العالمي والإقليمي،

وما أنفق عليه من الغرب والعرب التريلونات لو أنفقت ميزانيات العرب لمائة عام لم تكن لتهدمه وتدمره.

وهو النصر الحقيقي ثم الجولة التالية.

إن شاء الله سترى التدمير للمعالم المادية للعدو والتي تم استهدافها للآن ولو وقفت على إحصاء الخسائر، والمهاجرون منها.

لن تتفوه بحرف ينقض كلامي، ولكن المشكلة أن عيوننا صارت في اتجاه واحد ولا ترى إلا ما يريد عدوك رؤيته.

أخطر شيء هو تحطيم التّصوّرات والمفاهيم أو تصويبها ثُم عمليّة تشكّل ما يحلّ محلّها من تصوّرات ومفاهيم؛

والتّفاعُل المناسب والمكافئ لتلك التّصوّرات يأخُذ وقته الطّبيعيّ،

صحيح يمكن تعجيله أو تبطيئه بفعلٍ خارج عنه أو بتراكم ذاتيّ لتلك التّصوّرات والمفاهيم الجديدة

أو العودة إلى التّصوّرات والمفاهيم الأصيلة غير المصنوعة بالتّزييف والتّلبيس والأماني التي زيّنتها؛

ولكن حتمًا ستشكّل التّصوّرات والمفاهيم الجديدة أو الأصيلة التي تنتج بنفسها آثارها في دنيا النّاس؛

فعمليّة التّحوّلات الكبيرة لها إطار زمنيّ طبيعيّ فلا تتعجّل الثّمرات،

وذلك هو موضوع الحرب وأساسها ومنتهاها، والتي تُضحّي الأُمم في سبيلها، لأنّها أثمن شيء في الوجود.

الدروز في الدولة الصهيونية

الدروز في الدولة الصهيونية

 . أحمد مصطفى الغر


لا يقيم الأعداء أبدا أي اعتبار لمن خانوا قوهم، فكم من الخونة والمنافقين الذين ساعدوا الأعداء وبذلوا من أجلهم التضحيات، ولم يحصلوا في الأخير إلا على اللعنات والاحتقار من الأعداء قبل الأصدقاء، هذا ما تسجله قصة الدروز في الدولة الصهيونية.


يعيش الدروز في عدة بلدان مختلفة، تفصلهم حدود مرسومة بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية في أوائل العشرينيات من القرن الماضي، والدروز يمكن وصفهم بمجموعة دينية وعرقية فريدة من نوعها، حيث يعود تاريخ تقاليدهم إلى القرن الحادي عشر وتتضمن عناصر دينهم ملامح من الإسلام والهندوسية وحتى الفلسفة اليونانية الكلاسيكية، واليوم يعيش أكثر من مليون درزي في المنطقة، بالنظر إلى الدولة الصهيونية على وجه التحديد فإن المجتمع الدرزي يشكل أقلية متماسكة ونشطة في الحياة العامة، وبالرغم من أن قسمًا كبيرًا من البالغين الدروز ــــــ رجالاً ونساءً ــــ يخدمون في الجيش الصهيوني والأجهزة الأمنية والوكالات الحكومية، إلا أن أقلية الدروز تعاني من التهميش وفقدان كثيرٍ من الحقوق التي يتمتع بها غيرهم من المستوطنين اليهود، وقد تكشّفت مشاكلهم أكثر وسُلِّطَ الضوء عليها في ظل الحرب الصهيونية الغاشمة على قطاع غزة فأي أبعاد لهذه المشكلات؟، وأي انعكاسات قد تطرأ نتيجةً لها؟

من هم الدروز؟

الدروز هم أقلية عرقية ودينية ناطقة باللغة العربية، ويعيشون تقليديًا في المناطق الجبلية في سوريا ولبنان وشمال الدولة الصهيونية "إسرائيل" وشمال الأردن، ويتبعون عقيدة تعدّ فرعًا من الشيعة الإسماعيلية، ولا يعتبر الدروز مذهب التوحيد كمذهب إسلامي، بل يرون أن مذهب التوحيد الدرزي ديانة مستقلة عن الإسلام وأنها قائمة بحد ذاتها، وعلى الرغم من أن أفرادها أقلية صغيرة من ناحية العدد، إلا أنهم لعبوا أدوارًا بارزة في السياسة الداخلية لكل بلد مع الحفاظ بهدوء على هويتهم الثقافية الخاصة في مناطقهم.

نادرًا ما يتزوج الدروز من خارج دينهم، فمنذ تأسيس تلك الطائفة في القرن الحادي عشر، تم إغلاق التحول إلى الدرزية رسميًا أمام الغرباء وتم حظر التبشير، ومنذ ذلك الحظر استمر السكان الدروز في الوجود فقط على أساس استمرار أجيالهم السابقة، ويركز الدروز بشدة على الفلسفة ونقاء الطائفة، ولا توجد لديهم أيام مقدسة محددة أو صلوات منتظمة أو التزامات للحج، إذ على حد زعمهم فإنه من المفترض أن يكون الدروز مرتبطين بالله في جميع الأوقات، يؤمن الدروز بعدد محدد من الأنبياء؛ منهم: شعيب وموسى وعيسى ومحمد، كما يحظى العديد من الفلاسفة باحترام كبير من قبل الدروز، وعلى رأسهم سقراط وأفلاطون وأرسطو والإسكندر الأكبر.

 

 الدروز يؤدون الخدمة العسكرية والمدنية، فلأكثر من 4 عقود كان لدى جيش الاحتلال وحدة مشاة درزية في المقام الأول تسمى هيريف، أو كتيبة السيف، وهذا على النقيض من العرب المقيمين في الدولة المحتلة الذين يتم إعفاؤهم من الخدمة العسكرية

الدروز في إسرائيل

يعود تاريخ وجود الدروز تحت الحكم الصهيوني إلى حرب 1948م، وقد ازداد عددهم بعد هزيمة 1967م واستيلاء الدولة الصهيونية على مرتفعات الجولان السورية، فحينما فرَّ السكان السوريون إلى الداخل السوري أو إلى خارج البلاد، على عكسهم بقي الدروز في قراهم الأربع التي تقع في سفوح جبل الشيخ، صحيح أن الطائفة الدرزية في الجولان قد خاضت في البداية صراعًا سياسيًا ضد السيادة الإسرائيلية والتزمت بهويتها السورية، إذ كانت لديهم توقعات بأن دولة الاحتلال ستعيد الجولان إلى سوريا، لذا استمر الزواج بين الدروز عبر الحدود في سوريا، ورفض دروز الجولان الجنسية الإسرائيلية في بادئ الأمر، ورفضوا الخدمة في جيش الاحتلال، وحظروا اللغة العبرية في مدارسهم، لكن سرعان ما تغيّر كل ذلك، وبات عدد أبناء الطائفة الدرزية الآن في دولة الاحتلال اليوم يقدر بـ 150 ألف نسمة، أي حوالي 2% من سكان الكيان المحتل، وفقا لدراسة جديدة أجراها مركز بيو للأبحاث في إسرائيل، ويعيش معظم الدروز في المناطق الشمالية من الجليل والكرمل ومرتفعات الجولان.

حسب نظام التعليم الإسرائيلي فإن المدارس الدرزية مستقلة ومختلفة في مناهجها عن المناهج في المدارس العبرية والعربية، وينتمي اليوم عشرات الآلاف من الدروز الإسرائيليين إلى حركات درزية صهيونية، وهم لا يعدون أنفسهم عربًا أو فلسطينيين بأي شكل من الأشكال، ويميلون أكثر إلى التشديد على الهوية الدرزية أو الإسرائيلية، ويزداد هذا الشعور مع تشجيع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على هوية منفصلة لهم وهي الهوية الدرزية الإسرائيلية، والتي تم الاعتراف الإسرائيلي بها رسميًا في القانون الإسرائيلي في وقت مبكر منذ عام 1957م، ويترأس الطائفة الدرزية في إسرائيل، الشيخ موفق طريف، فهو الزعيم الروحي لدروز إسرائيل وأحد أبرز المطالبين بضرورة ترسيخ الطائفة الدرزية وحقوقها في التشريعات الإسرائيلية.

يعتبر الدروز خدمة الدولة التي يعيشون فيها جزءًا من الواجب المدني والعقيدة الدينية، لذا فإن الدروز يؤدون الخدمة العسكرية والمدنية، فلأكثر من 4 عقود كان لدى جيش الاحتلال وحدة مشاة درزية في المقام الأول تسمى هيريف، أو كتيبة السيف، وهذا على النقيض من العرب المقيمين في الدولة المحتلة الذين يتم إعفاؤهم من الخدمة العسكرية، ويتضح الأمر بجلاء من خلال إحصاء العديد من الجنرالات الدروز والسفراء وأعضاء الكنيست ووزراء الحكومة، لكن بالرغم من كل ذلك فإنهم يواجهون الحط من مكانتهم في النظام السياسي والاجتماعي.

 

 في إطار السعي لتحقيق مزيدٍ من الاندماج؛ أُنشِئَت جمعيات للضباط الدروز، والتي تقوم بأنشطة لتكريم القتلى منهم، واتحادات للطلاب الدروز لتوفير الدعم المالي لهم، وهي مصممة تاريخيًا لتعزيز الصداقة الدرزية اليهودية

تحديات وتحولات

طرأت خلال العقد الماضي مجموعة من التحولات على المجتمع الدرزي في "إسرائيل"، لكن هذه التحولات قد حملت في طياتها مجموعة من التحديات يمكن تلخيصها في 3 اتجاهات رئيسية:

 أولًا؛ الرغبة في الاندماج:

بات هناك وعي متزايد بين الدروز في الدولة العبرية اللقيطة "إسرائيل" بأن مستقبلهم الأمثل يكمن في وجودهم بها، وليس في سوريا أو غيرها من دول المنطقة، ومن هنا بدأت محاولات الاندماج الكلي في المجتمع الصهيوني وما صاحبها من تحديات وعراقيل.

 ثانيًا؛ الخذلان بسبب التشريعات:

وعلى الرغم من نشأت توترات جديدة بين الدروز والدولة العبرية الصهيونية "إسرائيل" بسبب قانونين مختلفين، وهما: قانون الجنسية الذي يؤكد على هوية إسرائيل اليهودية، وقانون كامينيتس الذي يسعى إلى مركزية وإنفاذ الحظر ضد البناء غير القانوني، وهي ممارسة شائعة في القرى الدرزية بسبب عدم توفر الأراضي المرخصة للسكن. إلا أنهم ما زالوا متمسكين بحياة الذلة مع الصهاينة.

 ثالثًا؛ الخدمة في جيش الاحتلال الإسرائيلي:

إذ شهد المجتمع الدرزي في الآونة الأخيرة حالة من الانقسام بشأن الخدمة العسكرية في الجيش، حيث يشكو البعض من أنهم لا يتلقون الدعم الذي يستحقونه بعد وأثناء الخدمة، وهناك تراجع كبير في ثقتهم بدولة الاحتلال بسبب العنصرية الإسرائيلية حيالهم، وتعلو من حينٍ لآخر بعض المطالبات لرفض التجنيد الإجباري المفروض على الشبان الدروز. ليس من باب القرب الديني أو العرقي مع العرب المسلمين ولكن بسبب أنهم لا يحصلون على مكافآت أو تقدير لقاء ما يقدمونه من تضحيات ودماء تذهب في النهاية من دون مقابل.

الرغبة في الاندماج

على الرغم من أن دروز في الدولة العبرية ظلوا لفترة من الزمن غير منسجمين مع واقع الحكم، إلا أنه لأسباب نفعية ولأن التكامل العملي في إسرائيل يعتبر في نظرهم الخيار الأكثر عقلانية، سرعان ما بدأوا في التعبير علانيةً عن تضامنهم مع الكيان المحتل، وباتوا لا يخفون تضامنهم مع القضايا الإسرائيلية على اعتبار أن الشراكة مع الشعب الصهيوني تعدّ خيارًا استراتيجيًا، وبدأ قادة المجتمع الدرزي في بناء علاقات قوية وتعاونية مع الحكومة الصهيونية، ورفضوا المواجهة المباشرة معها.

بعد اندلاع الثورة السورية في عام 2011م وما شهده نفس العام من هزّات سياسية وثورية في بعض دول المنطقة، ظهر اتجاه جديد بين جيل الشباب في دروز الجولان، مدفوعًا باعتبارات عملية وانعكس في اتجاهات مماثلة بين الدروز في باقي مناطق إسرائيل، إذ ارتفع عدد الدروز الذين تقدموا بطلبات للحصول على الجنسية الإسرائيلية بشكل مطرد، يمكن ملاحظة ذلك من الارتفاع الكبير ـ خلال العقد الذي أعقب عام 2011 ـ في عدد الطلاب الدروز المسجلين في الجامعات الصهيونية، وفي الانتخابات البلدية في الجولان عام 2018م كانت هناك لأول مرة درجة ملحوظة من المشاركة، فيما بدأت الشركات الدرزية بشكل متزايد في العمل مع خطط الحكومة للتنمية الاقتصادية والتمكين، والتي تم الترويج لها بين عامي 2014 و2022، فيما يتزايد تدريس اللغة العبرية في المدارس الدرزية كدليل آخر قوي على الرغبة في الاندماج ومن أجل تحقيق شرط ضروري للدراسة في المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية.

في إطار السعي لتحقيق مزيدٍ من الاندماج؛ أُنشِئَت جمعيات للضباط الدروز، والتي تقوم بأنشطة لتكريم القتلى منهم، واتحادات للطلاب الدروز لتوفير الدعم المالي لهم، وهي مصممة تاريخيًا لتعزيز الصداقة الدرزية اليهودية وكذلك اندماج الطلاب الدروز في إسرائيل، وبات أعضاء المجتمع الدرزي يتبؤون مناصب عليا في السياسة الإسرائيلية والخدمة العامة، ونظرًا لأنهم مندمجون في العديد من الأحزاب السياسية، بات عدد أعضاء البرلمان الدروز أكبر من نسبتهم بالمقارنة مع الأقليات الأخرى في إسرائيل.

الخذلان بسبب التشريعات

بالرغم من محاولات الدروز الإسرائيليين للاندماج في المجتمع الصهيوني وأداء كافة الواجبات المنوطة بهم، إلا أن الشعور بحرمانهم من حقوقهم والتمييز ضدهم ظل موجودًا، وقد ازداد الأمر في ظل صدور قانونين مختلفين، هما:

 قانون الجنسية الصادر في عام 2018م:

يُنظر إلى هذا القانون على أنه يعطي الأولوية للهوية اليهودية على اعتبار أن إسرائيل دولة قومية للشعب الصهيوني، إذ يعدّل القوانين الأساسية لإسرائيل والتي هي أقرب شيء هناك إلى الدستور، قام بتدوين الرموز اليهودية، مثل نجمة داود والشمعدان، كرموز وطنية للدولة اللقيطة، والعبرية كلغة وطنية لها والأعياد اليهودية كأعياد وطنية، كما خفّضَ القانون مستوى اللغة العربية من لغة رسمية للدولة إلى "لغة ذات وضع خاص"، والأكثر إثارة للجدل، هو أنه ينص على أن حق تقرير المصير الوطني في الدولة الصهيونية يخص اليهود واليهود وحدهم، بالنسبة للعديد من الدروز، وهم أقلية ناطقة باللغة العربية في "إسرائيل"، كان يُنظر إلى القانون على أنه إهانة للدور الذي لعبه الدروز في تاريخ الدولة الصهيونية.





أثار هذا القانون رد فعل مكثف بشكل لافت من قبل الطائفة الدرزية على المستويين الشعبي والقيادي، تمت قراءة القانون على أنه استبعاد للدروز من قلب دولة الاحتلال، على الرغم من مساهمتهم في أمن "إسرائيل" وما أصبح يسمى بـ"ميثاق الدم"، إذ خشي الدروز أن يؤدي ذلك إلى تآكل حقوقهم المدنية، وتصنيفهم كمرتزقة للدولة اليهودية وليس كمواطنين في الدولة، وقد انعكس هذا في أنماط التصويت في سلسلة الانتخابات بين عامي 2019 و2022، إذ استمر حوالي 90% من الدروز في التصويت للأحزاب الصهيونية، لكنهم ابتعدوا عن حزب الليكود واتجهوا إلى الوسط ويسار الوسط.

فشل البرلمانيون الدروز في الطعن على هذا التشريع في المحكمة باعتباره تمييزيًا، ولا يزال الكثيرون اليوم يصفونه بأنه طعنة في الظهر للإسرائيليين غير اليهود، فيما يبرر واضعو قانون الجنسية بأنه قد تم تصميمه للتأكيد على حق الشعب اليهودي في تقرير المصير والوقوف ضد رفض الفلسطينيين الاعتراف به، لكن بالنسبة للدروز كان ذلك بمثابة إهانة لهويتهم الخاصة، وتزامنت ردود أفعالهم مع أنماط احتجاج أوسع في إسرائيل ضد حكومة نتنياهو (آنذاك ومرة​​أخرى الآن).

قانون كامينيتس الصادر في عام 2017م:

سُمِّي هذا القانون على اسم نائب المدعي العام الإسرائيلي آنذاك، بشأن إنفاذ مخالفات البناء، وأدى هذا الأخير إلى فرض أوامر الهدم وغرامات باهظة على الأسر الدرزية، فلدى المجتمعات الدرزية في الشمال معاملة وضعية وعنصرية من دولة الاحتلال تجاههم، ولعل أهمها أن الكثير من أراضيهم مسجلة على أنها "زراعية"، وهو ما يمنعهم من الحصول على تصاريح بناء لمنازل لأبنائهم وأحفادهم ومن توسيع قراهم، لدرجة أن حوالي ثلثي منازل الدروز في الدولة العبرية تم بناؤها دون تصاريح في العقود الأخيرة، مما أدى إلى تركها تحت التهديد المستمر بأوامر الهدم أو الغرامات الضخمة، ويعتقد الدروز أن الحكومة الإسرائيلية تحد عمدًا من البناء في مجتمعاتهم وتضطهدهم من خلال التنفيذ المفرط لقانون كامينيتس، لدرجة أن عائلة الضابط الدرزي محمود خيرالدين الذي قُتِلَ في غزة في عام 2021، فضلت في الحصول على تصريح بناء رغم وفاته في سبيل الكيان المحتل.

الخدمة في جيش الاحتلال

يتم تجنيد الدروز الذين تزيد أعمارهم عن 18 عامًا في الجيش الاحتلال منذ عام 1952م، وغالبًا ما تتم ترقيتهم إلى مناصب رفيعة، كما يتواجد العديد من الدروز في الشرطة وقوات الأمن، وفقًا للفلسفة الدرزية فعادةً ما يُشار إلى العلاقة بين اليهود والدروز الذين يخدمون في الجيش الإسرائيلي باسم "ميثاق الدم"، وتتفوق هذه العلاقة على أي توترات سياسية، لكن المساواة التي تتم في مسألة التجنيد لا تترجم دائمًا إلى الحياة خارج الجيش، وعلى عكس المسيحيين والمسلمين الناطقين باللغة العربية في دولة الاحتلال، والذين ما زالوا يُعرفون إلى حد كبير بأنهم فلسطينيون ويتم إعفاؤهم من الخدمة العسكرية، فقد تبنى الدروز بقوة الدولة الصهيونية ، وهم لا يخدمون في الجيش الإسرائيلي فقط بموجب قانون التجنيد الإلزامي مثل اليهود الإسرائيليين، بل يفعلون ذلك بمعدلات أعلى من اليهود، وخاصة في الوحدات القتالية وسلك الضباط، وفي العقدين الماضيين تشكلت كتلة من الضباط الدروز تجمع بين خلفيتهم في القيادة العسكرية والتعليم الأكاديمي والقيادة الاجتماعية، إنهم يعتبرون أنفسهم عناصر تغيير في المجتمع الدرزي، ونظرًا لمكانتهم في مجتمعهم بات ينظر إليهم كجزء متكامل من النخبة العسكرية والأمنية الإسرائيلية.

من وجهة نظر الدروز في الدولة الصهيونية؛ فإن الحرب بين دولة الاحتلال وحركة المقاومة الفلسطينية (حماس) تعدّ جزءًا من التهديد المشترك الذي يواجه الدروز واليهود، لكن هجوم طوفان الأقصى الذي وقع في 7 أكتوبر، والحرب التي تلته على قطاع غزة، بمثابة نقطة تحول في العلاقات الدرزية اليهودية، فمع وجود عدة آلاف من الرجال الدروز الذين يخدمون في الحرب في غزة، أصبح تأثير الصراع محسوسًا في المجتمع الدرزي في جميع أنحاء الدولة اللقيطة، لا سيما وأن عدة جنازات عسكرية قد أقيمت في قلب الطائفة الدرزية في إسرائيل منذ بدء الحرب على غزة، وكان أعلى ضابط في جيش الاحتلال قُتل في الحملة البرية داخل غزة هو درزي، كما انخرط المجتمع الدرزي أيضًا في الجهود التطوعية لدعم آلاف الصهاينة النازحين من الجنوب، كما أنشا الدروز مركزًا لمراجعة وتمشيط مقاطع الفيديو التي شاركتها حماس ووسائل الإعلام الفلسطينية منذ 7 أكتوبر لمساعدة المخابرات الإسرائيلية في تحديد مكان الرهائن وتحديد أماكن تواجد عناصر حماس، وذلك بصفتهم متحدثين باللغة العربية.

تبعات وانعكاسات

لا تقتصر المشكلات والتحديات التي يواجهها دروز في الدولة المحتلة عند حد قانون الجنسية وقانون كامينيتس، فهناك شعور سائد داخل المجتمع الدرزي بأنهم يعاملون بطريقة دونية وعنصرية فهم لا يحصلون على تمويل متساو للتعليم أو مشاريع البنية التحتية مثل باقي فئات المجتمع الصهيوني، بل إن قراهم مهمشة ومحرومة من الاستثمار العام وهناك تناقضات كبيرة في الميزانيات التي تحصل عليها مقارنة بالمدن ذات الأغلبية اليهودية ذات الحجم المماثل، ولكن مع عودة التوابيت بجثث المقاتلين الدروز من المعارك في غزة، بدأت نبرات الاستهجان والانتقادات تتعالى، إذ سئموا الاكتفاء بالوعود وانتظار النتائج التي لا تصل أبدًا، وقد تزايدت التوترات مع الحكومة مؤخرًا في صعود اليمين اليهودي المتطرف.

لقد اعتقد وجهاء الطائفة الدرزية أن مشاركة أبناء طائفتهم في الحرب التي يشنّها الجيش الصهيوني على غزة، سيحصدون من وراءها ثمرة تورطهم في الحرب من خلال تسهيل ملفاتهم العالقة؛ بيْدَ أن كل المؤشرات حتى الآن تدلل على أن القيادة السياسية والعسكرية قد قابلتهم بصفعة مدوية عندما رفضت التخلي عن الإجراءات الداخلية التي طالت الطائفة، وفي ظل التوترات المتسارعة جراء الحرب، اكتفت حكومة بنيامين نتنياهو في 7 يناير الماضي بتخصيص 12.5 مليون شيكل (3.41 مليون دولار) لما وصفته بـ "تعزيز صمود المجتمعات الدرزية في شمال إسرائيل"، وهي محاولة من الحكومة الصهيونية لتخفيف وطأة الضغط الدرزي، لكن من وجهة نظر الدروز فإن هذه المكافأة الطارئة ليست كافية، فثمة معاملات دونية عديدة تتطلب تدخلًا أكثر فاعلية، منها على سبيل المثال انتشار الجريمة داخل المجتمع الدرزي، والمثير للاستغراب أمام كل هذه المشاكل العميقة التي تواجه الدروز، أنهم مازالوا على ثقة بدرجةٍ كبيرة بأن الحكومات الصهيونية العنصرية ستمنحهم حقوقًا ملموسة أو تعطي لهم وزنًا مؤثرًا في مستقبل الحياة الاجتماعية والسياسية لدولة الاحتلال.




الثلاثاء، 19 نوفمبر 2024

أيها الحاكم العربي الشفاف: نتنياهو لا يراك

 

أيها الحاكم العربي الشفاف: نتنياهو لا يراك

وائل قنديل


أيّهما أكثر خطورة على رئيس حكومة الاحتلال الصهيوني، بنيامين نتنياهو: جامعة الدول العربية أم المعارضة داخل الكنيست الإسرائيلي؟ 
وبصيغةٍ أخرى: أيّهما أقرب له: الكنيست أم مؤسّسة القمة العربية؟. ... كانت الإجابة حاضرة أوّل من أمس في جلسة الكنيست التي بدا فيها رئيس وزراء الاحتلال تحت حصار المعارضة وعائلات الأسرى داخل الكنيست، وعلى لسان نتنياهو شخصياً، وهو يعلن أنّ الشارع معه والأميركان باعتبارهم رعاة الوساطة معه في الموقف من حركة حماس، لكن المكان الوحيد الذي تدور فيه حملة كاذبة ضدّ سياسته هو هنا داخل الكيان، الكنيست وإعلام التسريبات.

بعيداً عن أنّ الجلسة كانت استمراراً لهستيريا نتنياهو المتأجّجة منذ بدء العدوان على قطاع غزّة في العام الماضي، والتي يحاول فيها إظهار أنّه "ملك إسرائيل" وزعيمها القوي الملهم، بالإضافة إلى الحرص على تقديم نفسه المسيطر على الشرق الأوسط كلّه، إلا أنّ سردية نتنياهو ومقاربته للصراع توضّح إلى أيِّ حدٍّ هو واثق من أنّ أحداً داخل النظام الرسمي العربي يعارضه أو يمثل عائقاً أمام خططه ومشروعاته، ليخلٌص إلى أن يخوض الحرب نيابةً عن العالم، بما فيه العالم العربي، ضدّ من أسماه العدو الواحد، 
فيقول "هذه الحرب ضد طرف واحد هو إيران ومحورها، والتي رفعت شعاراً هو تدميرنا، وبخصوص المحور عايشنا هجمات حزب الله ثم انضم الحوثيون والمليشيات في سورية والعراق، وكان القرار الأول الذي نظرنا فيه هو كيف نفصل وحدة الساحات، وذلك عن طريق أولاً التعامل مع حماس فقط، لا أن نعمل على جبهتين ولو حصل ذلك ما كنا ننجز لا هنا ولا هناك".

اشتكى نتنياهو، في كلامه، من المعارضة في الكنيست، ومن إيران ومن حركة حماس ومن حزب الله، والحوثيين والمقاومة الإسلامية بالعراق، ثم من الولايات المتحدة، على الرغم من كونها شريكاً كاملاً في العدوان، وداعماً من دون حدّ أقصى لآلة الحرب الإجرامية الإسرائيلية، فيما بقي الطرف الوحيد تقريباً الذي لم يذكره نتنياهو بكلمة واحدة سلبية أو يشكو منه هو النظام الرسمي العربي، الذي عقد قمّتين، الأولى في الشهر الثاني من بداية العدوان والأخرى في الشهر الثالث عشر منه، تحت عنوان "وقف العدوان على غزّة". ومع ذلك، لم يصدر تنديد إسرائيلي واحد، على لسان نتنياهو أو غيره، بمخرجات  القمّتين ومقرّراتهما، وكأنّه لا أحد هناك يراه رئيس حكومة الاحتلال أو يعتدّ به أو يخشى جانبه.

في شكواه من الولايات المتحدة، وهي لعبة درامية مثيرة في سياق مسرحيته الاستعراضية أمام الكنيست، استرسل نتنياهو في سرديته "وضعنا نصب أعيننا أهدافاً ثلاثة، الأول القضاء على القدرات العسكرية والإدارية لحماس، والثاني إيجاد الظروف التي تتيح إعادة المختطفين، والثالث ضمان ألا تشكل غزّة أي تهديد ضد إسرائيل بعد اليوم. ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، دخلنا غزّة برّياً، وعلي أن أقول لكم إن الولايات المتحدة تحفّظت على دخولنا مدينة غزّة ومستشفى الشفاء ودخولنا خان يونس، ولكنها عارضت معارضة شرسة دخولنا رفح، ليس فقط أنهم عارضوا ذلك، بل قال الرئيس بايدن لي شخصيّاً إذا دخلتم سوف تكونون وحدكم، بل قال أكثر من ذلك إنه سيوقف إرسال شحنات السلاح النوعية إلينا. وبعد أيام ظهر وزير الخارجية بلينكن وكرر الكلام، وقلت له في منتدى واسع بالعبرية والانجليزية: إذا كنا مضطرين فسوف نقاتل بأظافرنا"، ثم يفتح قوسًا ويضيف (أنتم ادّعيتم أن هذا رئيس حكومة لا يملك الشجاعة إذن اسمعوا، لا تصفّقوا الآن، في النهاية صفّقوا).

وتابع "وفي ظل هذه الأمور والمصاعب من الولايات المتحدة ساعدتنا كثيراً في بداية الحرب، فالرئيس بايدن وصل إلى هنا وساعدونا بشحنات السلاح في البداية، ولكن حين وقفنا ثابتين على مثل هذا الأمر، فبطبيعة الحال طرح سؤال: هل علينا أن نواصل في ظل هذه المستجدّات الصعبة؟ قال بعضهم إننا نعتمد بالكامل على الولايات المتحدة، وإننا لا نملك الخيار، وعلينا ألا ندخل رفح. قال بعضهم إن علينا وقف الحرب، وبإمكاننا أن نعود إليها متى شئنا، ووقتها رأيتُ أننا إذا وافقنا على هذه الشروط سوف نفقد استقلاليتنا كدولة، ولن نتمكّن من فعل أي شيء، وكل خطوة نسعى إلى فعلها يهدّدوننا بحظر سلاح، وهذا غير معقول ولا مقبول. وعلينا الحفاظ على استقلالية إسرائيل، وقد حسمنا الأمر ودخلنا، واحتلينا رفح، لا بل احتلينا محور فيلاديلفي ومعبر رفح، والمهمّة لم تكتمل بعد".
يسمّي نتنياهو ما فعله في محور صلاح الدين (فيلادلفي) وهو المحور الخاضع للسيادة المصرية احتلالاً، وكذلك معبر رفح (المصري الفلسطيني). ينطق كلمة "احتلال" بمنتهى الاطمئنان والثقة بأنّ أحدًا لن يجرؤ على الوقوف أمام عدوانه، أو تشكيل أدنى خطر أو تهديد له شخصيّاً، كأنّه ليست ثمّة جانب مصري يمكن أن يغضب ويترجم غضبه إلى إجراءات عملية تزيل العدوان، أو تردع الصهيوني عن التفكير في تكراره. ولم لا يشعر بالأمان والثقة، وهو يرى عرباً يشاركونه الرغبة في إنهاء زمن المقاومة، وأقصى ما يمكن أن يصدُر عنهم هو مناشدات بالاكتفاء بهذا القدر من مذابح الإبادة الجماعية، والقبول بعروض السلام التي يحملها أميركيون صهاينة أكثر من نتنياهو نفسه؟

إنها الهويّة

 

إنها الهويّة

ياسر أبو هلالة


من السهل انتقاد المجتمعات لأنها تعلي من شأن الهوية على حساب الاقتصاد والتنمية والبرامج السياسية .. مع أن تلك المجتمعات تخوض صراع هويّة لم يتوقّف منذ خروج الاستعمار. وفي فلسطين تحديداً، لا يزال الصراع الوجودي على الهويّة، ولا تزال باقي الدول تخوض صراعاتٍ لا تقلّ حدة، بين هوية عربية إسلامية، جامعة وهويّات فرعية تمزّق المجتمعات (طوائف سنة شيعة، مسيحي مسلم، كرد عرب، أمازيغ وعرب، فرنسة وتعريب).

الإشكال عالمي، مع فارق أن العالم العربي يواجه حرباً على هويّته، سواء من خلال تمزيقها إلى هويّات فرعية أم تمييع الهوية وتغريب المجتمعات وتدمير الثقافة العربية، قيماً ولغةً، وتحويلها إلى أسواق وشركات همّها التصدير والربح والاستهلاك.

عالمياً، وفي الانتخابات الأميركية، برزت الهوية عاملاً حاسماً، وهذا ليس مفاجئاً بقدر ما هو سياق مترابط، نبّه عليه مبكّراً صومئيل هنتنغتون في كتابه “صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي" (1996) (The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order). صحيح أنه في كتابه ركّز أساساً على الصراعات العالمية بين الحضارات الكبرى (الغربية، الإسلامية، الصينية، وغيرها)، إلا أن بعض أفكاره يمكن تطبيقها على الصراعات الداخلية داخل الولايات المتحدة، حيث تتنافس مجموعاتٌ ذات هويات ثقافية مختلفة على النفوذ والمكانة. وفي هذا السياق، يمكن اعتبار انتخاب ترامب في 2024 استمرارية لصراع داخلي يتعلق بالحفاظ على الهوية الأميركية التقليدية في مواجهة التغيرات الديمغرافية والثقافية. وهو الذي يركّز خطابه على إعادة تأكيد القيم التقليدية والهوية الأميركية "الأصلية"، وهو ما يعكس نوعاً من الصراع الداخلي بين فئاتٍ ترى نفسها حامية للتراث الأميركي وفئاتٍ أخرى تؤيد التعدّدية الثقافية والعولمة.

يواجه العالم العربي حرباً على هويّته، سواء من خلال تمزيقها إلى هويّات فرعية أم تمييع الهوية وتغريب المجتمعات وتدمير الثقافة العربية

وبشأن "الانقسامات الثقافية"، يرى هنتنغتون أن الحدود الثقافية، سواء بين الحضارات أو داخل المجتمع الواحد، تصبح خطوطاً فاصلة للصراع. في حالة الولايات المتحدة، يمكن القول إن الانقسام ليس فقط بين الدول أو الحضارات، بل أيضاً داخل المجتمع الأميركي نفسه. وقد ركّزت حملة ترامب على مواضيع، مثل الهجرة، وسياسات الحدود، و"أميركا أولاً"، ما يعكس توتّراً داخليّاً بين الأميركيين الذين يروْن أنفسهم حماة للهوية التقليدية والحزب الديمقراطي الذي يعبّر عن التعدّدية والانفتاح، وبشكل متطرّف في قضية الهوية الجنسية التي استفزّت أكثرية المحافظين .

وصف خطاب ترامب، المهاجرين وبعض الأقليات أنهم تهديدٌ للهوية الوطنية، يتوافق مع رؤية هنتنغتون أن الصراعات المستقبلية ستكون بين مجموعات ثقافية تسعى إلى الحفاظ على هويتها ضد ما تعتبره تهديداً خارجيّاً أو داخليّاً.

عكس انتخاب ترامب استجابة لقلق شريحة من الأميركيين من تأثير العولمة والتنوع الثقافي على النسيج الاجتماعي للبلاد، وهو موضوع يتقاطع مع تحذيرات هنتنعتون بشأن انهيار الحدود الثقافية وتأثير ذلك على وحدة المجتمعات. وإذا كان كتاب "صراع الحضارات" قد ركّز على العواقب الدولية للعولمة، فإن الانتخابات الأميركية تُظهر أن هذه التوترات موجودة أيضاً داخل حدود الدول نفسها. ويمكن اعتبار انتخاب ترامب عام 2024 تجسيداً لفكرة هنتنغتون بشأن الصراع على الهوية، ليس فقط بين الحضارات المختلفة، بل أيضاً داخل الحضارة الواحدة، فهو يعكس صراعاً داخلياً حول ما يعنيه أن تكون "أميركياً” في القرن الحادي والعشرين، وكيفية التعامل مع التغيرات الثقافية والاجتماعية التي تعيد تشكيل البلاد. ويمكن القول إن انتصار ترامب يعكس استمرار الانقسامات الثقافية والسياسية في المجتمع الأميركي، وهو ما يؤكد صحة تحليل هنتنغتون أن الصراعات الثقافية ستبقى محورية في تشكيل عالم اليوم، على المستويين الدولي والمحلي.

يناقش هنتنغتون الثاني في كتابه "من نحن؟ التحدّيات التي تواجه الهوية القومية الأميركية" (Who Are We? The Challenges to America’s National Identity)، وقد صدر عام 2004، بعد نحو عقد من "صراع الحضارات"، موضوع الهوية الوطنية الأميركية بشكل أكثر وضوحاً في ضوء التغيرات الاجتماعية والديمغرافية. ويطرح تساؤلات جوهرية بشأن هذه الهوية، محذّراً من التحدّيات التي تواجهها الولايات المتحدة، بسبب التحوّلات الديمغرافية والهجرة، خصوصاً من أميركا اللاتينية. يجادل بأن هذه التغييرات يمكن أن تقوّض الثقافة الأنكلوساكسونية البروتستانتية التي يعتبرها الأساس التاريخي للهوية الأميركية. ويركّز هنتنغتون على أهمية الحفاظ على الهوية القومية الأميركية المتمثلة في اللغة الإنجليزية والقيم البروتستانتية، ويعتبر أن الهجرة غير المنضبطة، خصوصاً من أميركا اللاتينية، تمثل تهديداً للتماسك الاجتماعي والوحدة الوطنية. وينتقد السياسات التي تشجّع التعدّدية الثقافية على حساب الوحدة الوطنية، ويؤكّد أن هذه السياسات قد تؤدّي إلى تآكل الهوية الأميركية التقليدية. ويرى أن العولمة زادت من تعقيد مفهوم الهوية الوطنية، حيث أصبحت الحدود الوطنية أقلّ وضوحاً، ما يضعف من شعور الانتماء الوطني.

انتخاب ترامب إشارة واضحة إلى أن الهوية الوطنية الأميركية تمر بأزمة، وأن هناك شريحة كبيرة من الأميركيين تشعر بأنها مستبعدة أو مهدّدة من التغيرات الاجتماعية والاقتصادية

حاول هنتنغتون إيقاظ الوعي لدى الأميركيين بأهمية الحفاظ على الهوية الوطنية الموحّدة في مواجهة التحدّيات الداخلية والخارجية، كما يدعو إلى تبنّي سياسات تحدّ من تأثير الهجرة وتعزّز الانتماء إلى الثقافة الأميركية التقليدية. وقد أثار الكتاب جدلاً واسعاً عند صدوره، حيث اعتبره بعضهم تحذيراً مشروعاً للحفاظ على الهوية الأميركية، بينما رآه آخرون ذا طابع محافظ، أو حتى عنصري تجاه المهاجرين. وقد عكست انتخابات الرئاسة الأميركية لعام 2024 استمرار تأثير قضايا الهوية الوطنية والتغيرات الديمغرافية في السياسة الأميركية.

ولا تبتعد أطروحات المفكر الأميركي من أصل ياباني، فرانسيس فوكوياما، عن أفكار صموئيل هنتنغتون، في كتابه "الهوية: المطالبة بالكرامة وسياسات الاستياء" (Identity: The Demand for Dignity and the Politics of Resentment)، فقد رأى أن سياسات الهوية أصبحت محورية في السياسة العالمية، مع تصاعد مشاعر الاستياء بين فئات تشعر بالتهميش، وتحدّث عن صعود سياسات الهوية واحداً من المحرّكات الرئيسية للشعبوية في العالم. ووفقاً له، يعود جزءٌ من نجاح ترامب إلى قدرته على استغلال مشاعر الإقصاء والقلق التي يشعر بها أميركيون بسبب تغيّر التركيبة السكانية والاقتصادية للبلاد، بينما يرى فوكوياما الحل في بناء هوية وطنية شاملة ومشتركة، نجد أن ترامب تبنّى خطاباً مثيراً للانقسام قائماً على الفئات المختلفة (مثل "نحن" ضد "هم"). ومن منظور هنتنغتون، يعكس انتصار ترامب رفضاً للهجرة والتعدّدية الثقافية، ويمثل محاولة لإعادة تأكيد الهوية الوطنية التقليدية. من منظور فوكوياما، يعكس فوز ترامب ردّ فعل عنيفاً ضد النخب والعولمة، فضلاً عن استغلال سياسات الهوية مخاطبة الاستياء الشعبي المتزايد.

من الممكن بناء هويّة عربية جامعة، بفضاء إسلامي واسع، بقدر ما يمكن أن تنفجر في حروب أهلية مدمرة

بعبارة أخرى، يمكن القول إن انتخاب ترامب يمثل مزيجاً من أفكار هنتنغتون وفوكوياما، فقد استخدم ترامب خطاباً قوميّاً تقليديّاً (هنتنغتون)، وفي الوقت نفسه، استغلّ مشاعر الاستياء والهويات المجزّأة التي تحدّث عنها فوكوياما. وكان انتخاب ترامب إشارة واضحة إلى أن الهويّة الوطنية الأميركية تمر بأزمة، وأن هناك شريحة كبيرة من الأميركيين تشعر بأنها مستبعدة أو مهدّدة من التغيرات الاجتماعية والاقتصادية. ولا تخصّ هذه الأزمة أميركا وحدها. عربياً من الممكن بناء هويّة عربية جامعة، بفضاء إسلامي واسع، بقدر ما يمكن أن تنفجر في حروب أهلية مدمّرة. والمثال الواضح هويّة الشيعي العربي المسلم الذي يجد سنداً من إيران في مواجهة المشروع الصهيوني، وبين من يجدها داعماً لاحتراب هويّاتي على المستوى الوطني.

وقد لعب المشروع الصهيوني، منذ نشأته على الهويات الفرعية. وبكل وقاحة، دعا وزير الخارجية الإسرائيلي الجديد، جدعون ساعر، إلى تعزيز العلاقات مع المجتمعات الكردية والدرزية في الشرق الأوسط. وأشار، في كلمته في حفل تسلّمه المنصب من سلفه يسرائيل كاتس، إلى أهمية تضافر الأقليات في المنطقة، معتبراً الأكراد حلفاء طبيعيين لإسرائيل، ومشيراً إلى الدروز في لبنان وسورية شركاء محتملين. وأكّد ضرورة فهم أن إسرائيل، كونها دائماً أقلية في المنطقة، يجب أن تسعى إلى تحالفات طبيعية مع أقليات أخرى. وقد تفاخر جيش العدوان في غزّة بقتلاه من هويات غير يهودية اخترعها، "بدوية " و"درزية"، مع أن اليهود أنفسهم ما كانوا يعرّفون أنفسهم إلا جزءاً من فضائنا الحضاري.

الهوية، باختصار، سلاح ماضٍ يمكن أن نشهره في مواجهة عدوّنا وبناء شخصية محترمة لأمةٍ تتعامل مع العالم بندّية، وممكن أن يمزّقنا وتكون هباء منثوراً وبقايا ركام حروب أهلية.

أنت

 




الوحدة.. آفة العصر التي تسبب أمراض القلب والسكري

ركز برنامج ” أنت” الذي يبَث على منصة “الجزيرة 360” على موضوع وصفه مقدم البرنامج بآفة العصر، يقصد أزمة الوحدة التي تشير دراسات إلى أنها تسبب لصاحبها الأمراض وخاصة أمراض القلب.

بانر أنت

وتقول الأبحاث أن الناس التي تتعرض إلى الوحدة يموتون مبكرا بسبب أمراض القلب ويكونون عرضة لمرض السكري وأمراض الخرف والذاكرة بنسبة 40%. ويقول العلامة ابن خلدون إن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، وهو غير قادر على أن يحيا منفردا مهما تسنّت له سبل الراحة والرفاهية.

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها"

ويوضح الدكتور ياسر صادق، وهو استشاري أمراض القلب أن المسؤول عن الوحدة وإحساس الإنسان بها هو مركز في المخ يعطي إشارات تفرز هرمونا مهما جدا يسمى "أدرينالين ونور أدرينالين"، وقال إن هذه الأمور تشكل خطورة على صحة الإنسان، لأنها تسبب ضربات قلب سريعة وانقباضات تسبب الضغط وجلطات في القلب وقصور الشرايين التاجية.

وتركز الدول الغربية منذ الثمانينيات على الأبحاث التي تدرس تأثير الوحدة على صحة القلب، ويؤكد استشاري أمراض القلب، أنه أجرى بحثا على 300 ألف شخص بعد جائحة كورونا، خلص إلى أن 65% منهم كانوا يعانون من الوحدة، و17% منهم اضطروا لدخول المستشفى.

ويضيف الدكتور أنه عندما استمر إحساس الوحدة وتفاقم عند الأشخاص الذين دخلوا المستشفى (17%)، تعرضوا لما يعرف بـ"متلازمة القلب المكسور"، حيث يكون الشخص عضويا معافى تماما، ولكنه يتعرض لجلطة قلبية، وعندما يخضع لعملية قسطرة تظهر شرايينه سليمة، ويقول الدكتور إن الغضب الشديد الناتج عن الوحدة أدى إلى حصول انكسار في القلب.

وحسب مقدم برنامج " أنت"، الدكتور خالد غطاس، فإن التعاطي مع موضوع الوحدة يتطلب توفر 4 أشياء: الأم، الحبيب، الدين، والصديق.

ويقول إنه عاش أزمة الوحدة من خلال أمرين، مع أمه ومع نفسه، ويذكر أنه هاتف يوما والدته حوالي الساعة الواحدة ظهرا، ووجد صوتها غير طبيعي، وعندما سألها أخبرته أنها لم تجرب صوتها بعد، بمعنى أنها استيقظت منذ 8 ساعات لكنها لم تتكلم مع أحد.

أما ما يتعلق به، فيقول الدكتور خالد إنه بقي في الغربة حوالي 10 سنين إلى درجة أنه أصبح يكتب شعرا.

المصدر : الجزيرة

أفكار نتنياهو عن ابتلاع الضفة هي الأخطر

 

أفكار نتنياهو عن ابتلاع الضفة هي الأخطر


تعددت الإدانات من الحكومات العربية لتصريحات وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش عن تجهيز البنية التحتية لبسط السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية العام القادم 2025، وأنه ينتظر من إدارة ترمب الاعتراف بهذا الضم، وكأن هذا الموقف المتطرف هو الأول من قادة الاحتلال؛ فالذي يجري من اجتياحات صهيونية في فلسطين يؤدي بالتأكيد إلى هذه النتيجة، مالم يحدث تحول في الموقف العربي يقلب الحسابات.

ما طرحه الوزير الإسرائيلي ليس جديدا وليس رأيا شخصيا ينفرد به، وإنما هو التوجه العام لمعظم أركان الحكم الإسرائيلي الحالي، وهو يتطابق مع التصورات التي طرحها نتنياهو بوضوح وصراحة في مذكراته التي صدرت في التسعينيات بعنوان “مكان بين الأمم” والتي كشف فيها عن الأحلام الصهيونية التوسعية، والرغبة في التهام الضفة الغربية وغزة ورفض إقامة الدولة الفلسطينية، بل وجدد الأطماع الإسرائيلية في الأردن واعتباره ضمن حدود الدولة اليهودية!

يأتي الاندفاع الصهيوني لتنفيذ كل الخطط مرة واحدة بعد عجز النظام الدولي وفشله في التصدي للجنون الإسرائيلي، وتكرار استخدام الفيتو الأمريكي الذي أصبح إسرائيليا، خاصة مع سيطرة المال الصهيوني وهيمنة اللوبي في الولايات المتحدة على الكونغرس والبيت الأبيض، والتأييد المطلق من الحزبين لما يقرره قادة الاحتلال.

رغم التعثر الإسرائيلي في غزة والاصطدام بالمقاومة في جبال لبنان وفشل الغزو البري يرى الإسرائيليون أن الطريق مفتوحا أمامهم لتحقيق أحلامهم بالجملة لتهويد كل فلسطين، والتهام ما تبقى من الأرض الفلسطينية ووضع الفلسطينيين والعالم أمام واقع جديد، خلاصته أن التوحش والبربرية هي التي تفرض كلمتها ولا مكان لشرعية دولية ولا وزن لما يسمى بـ “المجتمع الدولي”.


مذكرات نتنياهو تفضح النوايا التوسعية

أزمتنا في العالم العربي أن لا أحد يقرأ ما يكتبه العدو، ورغم أن كثيرين يرددون مقولة “إعرف عدوك” فإن دوائر متخذي القرار العربي -لو أحسنا الظن ببعضهم- لا يقرأون ولا يعرفون عدوهم، وإلا ما وصل العرب إلى ما وصلوا إليه من عجز وخذلان وهزيمة استراتيجية، فنتنياهو خدع معظمهم، وورطهم في علاقات واتفاقات؛ يبتزهم بها ويهددهم بكشف المستور.

نتنياهو الذي يتحدث عن محاربة أعداء الحضارة في غزة كشف في مذكراته التي صدرت منذ أكثر من ثلاثة عقود عن الأطماع الصهيونية الاستعمارية التي لا تعرف حدودا، فهو يرفض قيام دولة فلسطينية في الضفة وغزة، ويهاجم حكومة رابين التي عقدت اتفاقات أوسلو ويتهمها بأنها وضعت السلطة الفلسطينية كحصان طروادة في قلب فلسطين، ويرى أن ضم الضفة من ضرورات الأمن الاستراتيجي باعتبارها “يهودا والسامرة” وأهميتها من حيث الحق اليهودي التاريخي، ويرى أن غزة أقل خطرا من الضفة لكن يجب السيطرة العسكرية عليها.

يزعم نتنياهو أن مؤتمر فرساي عام 1919 عقب الحرب العالمية الأولى، بعد وعد بلفور الذي صدر عام 1917 أعطاهم الشرعية، عندما قرر التعهد لليهود بإقامة دولة تشمل الأردن وفلسطين، ثم أعقبه قرار الانتداب البريطاني عام 1920، وأشار إلى أن تغير الحكومة البريطانية المؤيدة لليهود ومجييء وزارة حريصة على مصالحها مع العرب جعلها تعطي شرق الأردن للعرب، وأنكر نتنياهو وجود شعب فلسطيني، ونفى وجود ثقافة فلسطينية، وهي ذات الادعاءات التي يرددها الوزراء المتطرفون الآن.

شرح نتنياهو وأفاض في أن قيام دولة فلسطينية في الضفة وغزة يعد تهديدا وجوديا للدولة اليهودية، واستند إلى شهادات مزعومة من قادة في البنتاجون بأن الدفاع عن “إسرائيل” يقتضي ضم الضفة لحماية الجبهة الشرقية من أي غزو عربي، وأن جبال الضفة هي الجدار العازل الذي يعطي جيش الاحتلال أفضلية في حال التصدي لأي هجوم، ويرفض أي حديث عن العودة إلى حدود ما قبل حرب عام 1967.

ادعى نتنياهو أن قيام دولة فلسطينية حتى لو كانت منزوعة السلاح سيتحول إلى تهديد، حيث ستدخل الدولة الجديدة في تحالفات مع دول أخرى، وسيعود إليها اللاجئون، ويصعب السيطرة الأمنية عليها وعدم القدرة على تفتيش كل ما يدخل إليها، وتستطيع مع الوقت تسليح نفسها ولو بصواريخ قصيرة المدى وأسلحة خفيفة، ولقرب المسافة ( 15 كم من الضفة حتى الساحل) ستكون أكثر خطرا وأشد بأسا، حيث لا يمكن استخدام القنابل النووية لأن الغبار النووي سيصيب الإسرائيليين مع الفلسطينيين!


لا مكان لدولة فلسطينية في التصورات الإسرائيلية

الاطلاع على مذكرات نتنياهو كفيل بأن يتوقف أي حاكم عربي عاقل عن التعامل معه، وأن لا يضع رقبته تحت سيف مصاص دماء لا يعرف معنى السلام، فهو يعلن بوضوح أن السلام يكون بين دول ديمقراطية متشابهة فيما بينها، ولكن ليس مع الحكام العرب المستبدين الذين لا يجدي معهم غير الردع والتخويف، ولهذا هو يستخدم القصف والتدمير بكل أنواع الأسلحة لإرسال الرسائل إلى المحيط العربي والإسلامي لإخضاعه، وليس فقط لتحقيق انتصار مستحيل على المقاومة في غزة ولبنان.

موقف نتنياهو من الدولة الفلسطينية واضح، وحتى معارضوه يختلفون معه في قضايا داخلية ولكن يتفقون معه في رفض هذه الدولة، وهذا يجعلنا نتساءل عن مطلب قيام الدولة الفلسطينية الذي تطرحه القمم العربية والإسلامية باستمرار، بدون استخدام أي أوراق للضغط، وتتجاوب معهم الإدارات المختلفة في الولايات المتحدة بصيغ خادعة، بينما السلوك الأمريكي يساعد الإسرائيليين لتحقيق خططهم وابتلاع كل الأرض الفلسطينية!

في كتاب ” الحرب” لبوب وودورد، الذي يشوه القادة العرب ويظهر بايدن ومعاونوه وكأنهم ملائكة، نقل وزير الخارجية الأمريكي بلينكن لنتنياهو أن الحكام العرب يطلبون كلاما واضحا عن حل الدولتين وقيام الدولة الفلسطينية لإرضاء شعوبهم؛ فقال رئيس الوزراء الإسرائيلي إنه سيكتب “صيغة مبدعة” تؤدي الغرض، أي أنه يشعر بأن كلام من يتعامل معهم من العرب ليس حقيقيا؛ لأن ما يقال في الغرف المغلقة غير الذي يقال في العلن، وهذا يوضح حجم الخطر الذي يواجه القضية الفلسطينية والمسجد الأقصى.

المعركة لتهويد كل فلسطين كبيرة وتتحالف فيها الولايات المتحدة وأوربا مع نتنياهو، ومع قدوم ترمب سيزداد التحدي، فالرئيس الأمريكي الجديد أعلن أن مساحة إسرائيل صغيرة وتحتاج إلى تكبيرها، وعيونهم على الضفة التي تم تمزيقها بالمستوطنات والجدران، ومئات الحواجز التي قضت على وحدتها، والأخطر هو ترك المسجد الأقصى وحيدا أمام مستوطنين متعطشين للدم يريدون تهويده والسيطرة عليه.

سيلاحق العار كل من تخاذل أو ساعد بالموافقة أو بالصمت، ولن يستطيع الذين يسكتون اليوم على ضياع فلسطين عن الدفاع غدا عن أراضيهم التي يطمع فيها المستوطنون الصهاينة ويعتبرونها ضمن أرض إسرائيل المزعومة التي تتوسع في كل الاتجاهات بلا رادع.

مَنْ يبيعُ لنا نفسَه؟!

 

مَنْ يبيعُ لنا نفسَه؟!



جاء في كتاب الجهاد لعبد الله بن المبارك:

لمَّا دنا العدوُّ من النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحُدٍ، دافعَ عنه مصعب بن عمير حتى قُتل، وأبو دُجانة حتى كثُرتْ فيه الجراح، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ رجلٌ يبيعُ لنا نفسه؟!

فوثبَ زياد بن السَّكن، فقاتلَ حتى أثخنته الجراح، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: اُدنُ مني!

فوسَّده فخذه حتى ماتَ عليها!

انتهتْ غزوة أُحد، ولكن صوتَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ما زال يصدح: مَنْ رجلٌ يبيعُ لنا نفسه!

رحلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن هذه الدنيا بجسده، ولكنه باقٍ أبد الدَّهر بدينه وشريعته وأمته، وما زال السُّوق مستقراً، وعرض البيعِ سارياً فمن يبيعُ له نفسه!

كلما رأيتَ فقيراً ذا حاجةٍ وعيالٍ تذكَّر قول نبيِّك: من يبيعُ لنا نفسه؟

وقُلْ: أنا يا رسول الله! وأخرجْ من مالكَ وتصدَّق!

كلما جُمع مالٌ لعملية جراحية طارئة لفقير تذكَّر قول نبيك: من يبيعُ لنا نفسه؟ وقل له: أنا يا رسول الله! وساهِمْ بقدر ما تستطيع!

كلَّما مرض عندكَ أم أو أب وأنتَ غارقٌ في وظيفتك وتجارتك، تذكَّرْ قول نبيك: من يبيعُ لنا نفسه؟ وقُلْ له: أنا يا رسول الله! ثم فرِّغْ وقتك، وخذ المريض منهما إلى الطبيب!

كلما نشبَ خلافٌ عائلي لن يُحلَّ إلا إذا تنازل أحدهم وبادر بالصلح والتنازل، تذكرْ قول نبيك: من يبيعُ لنا نفسه؟ وقل له: أنا يا رسول الله! وكُنْ الأطيب قلباً، والأسرع مبادرة!

كُلَّما فُتح لكَ بابٌ لشهوة حرام ميسورة مستورة، تذكَّرْ قول نبيك: من يبيعُ لنا نفسه؟ وقُلْ له: أنا يا رسول الله! ثم تعففْ متحسساً أنَّ من تركَ شيئاً لله عوَّضه الله خيراً منه!

بيعُ النَّفس لله ورسوله ليس في المعارك فقط وإن كان هذا أجملَ البيع وأجلَّه، وإنما في كل يوم هناك سوق بيعٍ للنفس في سبيل اللهِ ورسوله، فبِعْ نفسكَ!