الثلاثاء، 17 يونيو 2025

الشعوب العربية وحاجتهم إلى الشطة

الشعوب العربية وحاجتهم إلى الشطة
د. عبد الله المشوخي
ذكر ابن خلدون رحمه الله في مقدمته فصلا مطولا عن أثر الطعام في سلوك الإنسان ومظهره ومما ذكره رحمه الله قوله: 
“أكل العرب الإبل فأخذوا منها الغيرة والغلظة، 
وأكل الأتراك الخيول فأخذوا منها الشراسة والقوة.

وأكل الإفرنج الخنزير فأخذوا منه الدياثة.

وأكل الزنوج القرود فأخذوا منها حب الطرب”.

وقال ابن القيم رحمه الله: “كل مَن أَلِف ضربًا من ضروب الحيوانات اكتسب من طبعه وخلقه، فإن تغذى بلحمه كان الشبه أقوى”.

أذكر في مرحلة دراستي المبكرة كان طعامنا الوحيد الذي نحمله معنا إلى المدرسة هو رغيف خبز محشي بالشطة فقط، نضعه بجوار الكتب في مخلاة (شنطة من قماش) وكانت هذه الوجبة الوحيدة والموحدة لكافة الطلاب.

نشأنا وتربينا وترعرعنا في قطاع غزة على أكل الشطة فهي الطبق الرئيسي والمفضل في كل وجبة طعام، ومن شدة حبنا للشطة أذكر أنه في يوم من الأيام تحدث شيخ في أحد مساجد غزة عن متاع الجنة وملذاتها فذكر من طعامها وشرابها أصنافا عدة، فقام رجل من الحاضرين وقال للشيخ: “هل يوجد في الجنة شطة؟” فطمأنه الشيخ بوجود كل ما تشتهي الأنفس فسر السائل وتهللت أساريره.

هذه الشطة الحارة انعكست على سلوك طلاب قطاع غزة؛ فأصبح دمهم حارا لا يقبل الضيم، ولا المذلة، فواجهوا اليهود بالحجارة ثم بالبنادق ثم بالصواريخ.

وأذكر في أثناء دراستي في المرحلة الثانوية دخلت قوة راجلة من اليهود إلى فناء المدرسة على أثر مظاهرة، وبينما كان اليهود يطاردون الطلاب في الفناء، قفز طالب من شرفة الطابق الأول على رأس جندي يهودي وقام بضربه، فأي جرأة كانت لدى الطلاب؟! 

ولطالما هرب اليهود من أمام الطلاب المتظاهرين بعد أن أمطروهم بالحجارة.

إنها الشطة.. وما أدراك ما الشطة!

شعوبنا العربية ولا سيما جيل الشباب منهم بحاجة الى أكل الشطة ولنجعل منها وجبة أساسية عسى أن تسري حرارتها في دمائهم لتحرك مشاعرهم وتغرس فيهم مزيدا من الهمة والشجاعة والنخوة.
ولا تركن إلى اكل الدجاج الذي ولد في النفوس البقبقة والصياح؛ مما أدى إلى تكالب الأمم علينا وجعل ترامب يصرح بثقة مطلقة بإذعان مصر والأردن باستقبال أهالي غزة.

فتشططوا أيها القوم، ولا تتدجنوا عسى الله أن يغير أحوالنا، وسلامتكم.

«إخوان الظل».. خشية الغرب من نُبل الإسلام

«إخوان الظل».. خشية الغرب من نُبل الإسلام

د. ياسر محجوب الحسين


نشرت مجلة جون أفريك الفرنسية مؤخرًا تقريرًا لافتًا بعنوان «إخوان الظل»، تناولت فيه موجة القلق الرسمي الفرنسي من مما يُسمى بـ «التسلل الهادئ» للإسلام، وتحديدًا جماعة الإخوان المسلمين. 

والمجلة ـ التي أسسها مهاجر تونسي في عام 1960 كان حليفًا لنظام الحبيب بورقيبة ذي التوجه العلماني المتطرف، المتماهي تمامًا مع الثقافة الفرنسية ـ تعكس، ربما دون وعي، عمق أزمة الغرب مع الإسلام في ثوبه المدني الهادئ.

تقرير المجلة، الذي لا يخلو من نفس بوليسي ونزعة قلق وجودي، يحذّر مما يعتبره «تهديدًا داخليًا ناعما» للجمهورية الفرنسية. 

غير أن المجلة، بخلاف هذا الطرح المرتعش من شبح وهمي، قررت أن تدير العدسة نحو الوجه الآخر لأولئك «المتسللين» الذين يُنذر بهم الخطاب السياسي: العمّال والموظفين المسلمين الذين يبنون فرنسا كل يوم، في صمت نبيل، دون أن يطلبوا جزاءً ولا شكورا، ولا حتى ابتسامة امتنان.

تخيّلت المجلة، في لحظة تمرين عقلي ساخر، فرنسا بلا هؤلاء «الإخوان»: بلا أطباء طوارئ، ولا عمال نظافة، ولا سائقي قطارات، ولا معلمي مدارس. 

بكلمة واحدة، تخيلت فرنسا وقد سُحبت منها أعمدتها غير المرئية، فتحولت إلى برج إيفل مجوف: جميل في الصورة، هش في الحقيقة. 

جمهورية كاملة تنهار، لا برصاص المتطرفين، بل بغياب أولئك الذين كانوا دومًا هناك دون أن يُروا، يطعمون، ويسهرون، وينظّفون، ويعلّمون.

لكن المفارقة الفاجعة التي يكشفها هذا التقرير (دون قصد، أو ربما رغم أنفه) 

أن الغرب لم يعد يخشى المتطرف الذي يشهر سيفه، بل المسلم الذي يشهر قيمه. 

أصبح الخوف من الصلاة أشد من الخوف من القنبلة، ومن الإحسان أشد من العصيان. 

فمن ذا الذي كان يتصور أن غسيل المرضى، وتعليم الأطفال، وبناء الجسور، يمكن أن يُقرأ ـ في قاموس الجمهورية ـ كتسلل استراتيجي؟

إنها لحظة صدق كاشفة: 

ما يُستهدف اليوم ليس الإرهاب، ولا حتى «الإسلام السياسي»، بل الإسلام ذاته، باعتباره هوية تمدّ الناس بالقيم، لا كأيديولوجيا تحمل تهديدًا.

لقد بدأت الحملة تحت لافتة «مكافحة التطرف»، ثم امتدت لتشمل ما أسموه بـ «الإسلام السياسي»، ولو كان سلميًا ديمقراطيًا، يتبع قواعد اللعبة الغربية نفسها. والآن، وقد تم إسكات الخطاب وتحييد الرموز، انتقل القلق إلى «إخوان الظل»؛ أولئك الذين لا يرفعون الشعارات، بل يرفعون القمامة، لا يلقون خطبًا، بل يلقون أطفال المدارس على أبوابها كل صباح.

هنا، تنكشف خشية الغرب على حقيقتها: خشية من نجاح الإسلام في التعايش، لا من سعيه للهيمنة، فكلما نجح المسلم في أداء دوره كمواطن صالح، كلما ازداد ارتباك صُنّاع القرار، لا لأنهم يشكّون في سلوكه، بل لأنهم يخافون من صدقه، من أثره، من نبل مقاصده.

أي تناقض هذا؟! 

أن يتحول ما يُعدّ في كل الأعراف فضيلة إلى قرينة اتهام: أن تكون متدينا وملتزما، تحسن العمل وتحب الخير، فهذا ـ في عين الدولة الحديثةـ «سلوك مريب»، المسلم المجتهد في صمته صار أخطر من المتطرف الصاخب!

لكن لنعترف: الغرب لا يخشى الإسلام حين يضعف، بل حين يستقيم. 

مشكلته ليست في انحراف الإسلام، بل في كماله. 

لا يزعجه المسلم حين يتخلى عن دينه، بل حين يتمسك به دون صخب، يخاف من الإسلام حين يتحول إلى طاقة للبناء، لا إلى أداة للهدم. 

يخاف من السكينة أكثر من الضجيج.

فبينما تُمجّد الحضارة الغربية الفردانية المنفلتة والنفعية المفرطة، يأتي الإسلام ليقول: «بل الإنسان مسؤول عن غيره، وعن نفسه، وعن قيمته كإنسان». وما أخطر هذا القول في زمن طغت فيه الأصوات على المعاني، وانقلبت فيه الحرية إلى فوضى، والنجاح إلى بهرجة.

وهكذا، حين تطارد فرنسا من ينظف شوارعها، ويُسعف مرضاها، ويُدرّس أبناءها، بدعوى أنهم «إخوان في الظل»، فإننا لا نكون أمام «يقظة أمنية»، بل أمام حمّى وجودية، تخشى من المعنى أكثر من خشيتها من الخطر. إنها ليست حربًا على التطرف، بل على العمق، على المبدأ، على المعيار.

إن الإسلاموفوبيا اليوم لم تعد مجرد خطاب كراهية، بل تحوّلت إلى سياسة دولة، إلى ثقافة مؤسسية، إلى حرب ناعمة تُخاض باسم الأمن، وتُسلّح بالقانون، وتُروّج بالإعلام. حرب على الوجود الإسلامي ذاته، لا على رموزه فقط. حرب على ما تبقى من المعنى في عالم يبتلعه السطح، وتغرق فيه القيم تحت أمواج ناعمة.




الركبان.. خيمة طُويت وكرامة بقيت

الركبان.. خيمة طُويت وكرامة بقيت



أستاذ جامعي في جامعة تركية، ماجستير في العلوم الإسلامية والعربية

 في أقصى البادية، حيث الصمت يغلب الصوت، وحيث لا ظلّ إلا لشمس لاهبة، ولا جدار إلا لخيمة تهتزّ في وجه الرياح، هناك كان مخيم الركبان، أو – كما سمّوه بحقّ – مثلث الموت.

كثير من أحرار العالم، ممن في قلوبهم بقايا إنسانيّة ورحمة، شاركوا هذا الفرح، لأن "الركبان" لم يكن مجرد مخيم، بل وصمة سوداء على جبين الصمت الدولي

سنوات عجاف قاسية مرت على أهله، سُلبوا فيها أبسط مقومات الإنسانية، وذاقوا مرارة العيش في صحراء منسية، لا ماء فيها ولا دواء ولا غذاء، ولا حتى أمل. لكنهم لم يهجَّروا عبثًا، ولم يُلقَ بهم في تلك الأرض القاحلة صدفة، بل طُردوا من ديارهم لأنهم قالوا "لا" في وجه الطاغية، لأنهم هتفوا للحرية، ورفضوا العبودية تحت حكم نظام المجرم بشار الأسد.

هؤلاء المعذبون الأحرار اختاروا الخيمة على المذلة، والوحشة على الركوع، والموت البطيء في العراء على الحياة في ظل نظام قتل أبناءهم ودمر مدنهم، وخيَّرهم بين السجن والموت والانكسار. كان الركبان جرحًا نازفًا، لكنه جرح الكرامة النابضة، لا جرح الخنوع المهين.

الحمد لله.. اليوم أُغلقت أبواب الخوف، وهُدمت آخر خيمة من خيام العذاب، وارتفع الغبار الأخير من تراب الركبان إيذانًا بنهاية قصة حزينة، طالما أثقلت الضمائر وبللت العيون.

اليوم يُكتب فرح جديد على صفحات التحرير، ويضاف نصر آخر إلى سجل الصامدين.. ويا لها من فرحة! فرحة لا تقتصر على من كانوا هناك، بل تتعدى حدود المخيم، هي فرحة كبرى عمَّت قلوب المهجَّرين أنفسهم وهم يغادرون أرض القهر إلى أفق الحياة، فرحة غمرت السوريين في الداخل والخارج، أولئك الذين ظلت أعينهم شاخصة إلى "الركبان" سنوات طويلة، تدعو وتنتظر.

بل حتى كثير من أحرار العالم، ممن في قلوبهم بقايا إنسانية ورحمة، شاركوا هذا الفرح، لأن "الركبان" لم يكن مجرد مخيم، بل وصمة سوداء على جبين الصمت الدولي، وصفحة دامية من تاريخ القهر.. لم تكن الخيام تؤوي بل كانت تقهر، ولم تكن ملجأً بل سجنًا من القهر والعزلة والجوع.

غار مخيم الركبان واندمل إلى غير رجعة.. والعقبى لجميع مخيمات اللجوء في العالم، للسوريين ولغيرهم ممن بحثوا عن الحرية والحياة الكريمة

واليوم، رغم أن كثيرين عادوا إلى بيوت مهجورة، وجدران بلا سقوف، وبلدات مدمرة، فإنهم عادوا إلى الوطن الذي حُرموا منه سنوات طويلة، عادوا إلى حارات الذكريات، حيث خبز الأم وحنان الجيران، لا إلى صحراء لا تعرف سوى الوحدة والوحشة.

من الركبان خرجوا، لا بدموع اليأس بل بدموع الفرح المؤلم! خرجوا من غبار الجوع إلى سماء الوطن، التي وإن أظلت بيوتًا محطمة، فإنها تسع القلوب كلها. وهكذا تُطوى صفحة سوداء من كتاب الجرح السوري، وتفتح صفحة العودة، صفحة البداية، صفحة الحياة.

لقد غار مخيم الركبان واندمل إلى غير رجعة.. والعقبى لجميع مخيمات اللجوء في العالم، للسوريين ولغيرهم ممن بحثوا عن الحرية والعدالة والحياة الكريمة.

المواجهة بين إسرائيل وإيران

 المواجهة بين إسرائيل وإيران

نور الدين قدور رافع


لم تقتصر ضربات الاحتلال الصهيوني على المنشآت النووية الإيرانية فحسب، بل اغتالت القيادات العليا في إيران، وفي تطور خطير ينبئ باشتعال المنطقة والعالم، استهدف عملاء الموساد نخبة البرنامج النووي الإيراني.

وفي وقت لا يتأخر الغرب فيه عن إعلان الدعم لنتنياهو حال تعرض إسرائيل للهجوم، يعلن نتنياهو استمراره في حربه ضد البرنامج النووي الإيراني، في تحدٍّ شكّل خرقًا للقانون الدولي وتهديدًا مباشرًا للسلم العالمي.

وعلى قدر الصمود الذي أظهرته إيران في وجه الاغتيالات والخروقات الأمنية الخطيرة، ورهان الاحتلال على تصدع الجبهة الداخلية لها، تتعالى الأصوات الداعية لإخماد كرة اللهب الصهيونية، والتي ستؤدي بالمنطقة والعالم إلى حرب شاملة ومدمرة.

فهل تنجح المساعي الدولية في تجنيب المنطقة مغامرات نتنياهو؟ أم إنّ الخوف من "متلازمة إيران" وحده كفيل بضمان استكمال مشاريع الثيوليبرالية؟

 قرار نتنياهو المتهور بإعلان الحرب على إيران، لن يجر منطقة الشرق الأوسط وحدها نحو الكارثة، بل سيعطل الاقتصاد وتتجمد الملاحة الدولية، في حال أعلنت الجمهورية غلق المضائق

المشاريع المتشابكة

ظلت الخطابات التحريضية ضد إيران تأخذ منحى متصاعدًا في العالم، خاصة بعد التدخل الإيراني في المنطقة، وقد ساهمت السردية الصهيونية في تأجيج الصورة السوداء للجمهورية الإيرانية منذ أن تم تغيير قواعد "الاشتباك الحضاري" مع الغرب.

فعقب سقوط الشيوعية، سارعت النيوليبرالية لفتح جبهة صراع جديدة ضد ما اعتُبر خطر الإسلام السياسي الذي يعارض التوجه الإمبريالي؛ وتشكلت مع تلك العقدة مجمل الخصائص التي يمكن من خلالها بلورة أيّ عمل تحريري تقوده قوى التغيير في المنطقة، إذ مع انطلاقة موجات الانتفاضة العربية تسارعت وتيرة التصنيف العنيف للثورة التي ترسم الملامح المخيفة للتغيير، وبدل إسقاط أنظمة الوكالة الغربية، أطاح العنف بالثورة السلمية.

تدخلت إيران في المنطقة مثلما غرقت قوى أخرى في الفوضى لحماية نفوذها ومصالحها؛ إذ سارعت كابينات التطبيع إلى شيطنة المقاومة بذريعة تحالفها مع إيران، ضمن خطة يتم بموجبها تحييد السردية المناهضة لأيّ مشروع استيطاني استعماري.

وعلى اختلاف الرؤى تجاه إيران ومواقفها المتناقضة في المنطقة، عملت أميركا على تأخير برنامج إيران النووي، تارة بالمفاوضات والحصار المفروض على هياكلها ومؤسساتها، وتارة أخرى بإعلان إسرائيل موقفها من ضرب المنشآت الإيرانية النووية.

ارتبطت رؤية العالم للجمهورية الإيرانية بثلاث سرديات مهمة، ومحدِّدة لطبيعة العلاقات الدولية تجاهها، يمكن أن تلخص المتلازمة المربكة لفهم إيران في توجهاتها العدائية والتوافقية معًا:

  • فكون الجمهورية "نظامًا ثيوقراطيًا" يسعى بكل قوّة للحصول على برنامج نووي "سلمي" وفق تصريحات ساسته، يبعث القلاقل العسكرية والأمنية للإمبراطورية وذراعها الإسرائيلية، الأمر الذي فتح نوافذ الدعاية الصهيونية ضد إيران، واستغلالها عسكريًا لتبرير ضرب منشآت ومناطق مدنية في طهران.

العالم شهد غطرسة الاحتلال في غزة، وخروقاته المتواصلة في المنطقة، وهو عاجز عن إيقاف مغامرات نتنياهو وحكومته المتطرفة

لكن قرار نتنياهو المتهور بإعلان الحرب على إيران، لن يجر منطقة الشرق الأوسط وحدها نحو الكارثة، بل سيعطل الاقتصاد وتتجمد الملاحة الدولية، في حال أعلنت الجمهورية غلق المضائق.

  • من جانب آخر، تُعتبر إيران الداعم الأساسي لمحور المقاومة، ما يجعلها هدفًا مشروعًا للإمبريالية الغربية ووحشية الإمبراطورية. ولكون المقاومة آخر معاقل التحرير ضد الاستعمارية الغربية في نسختها الثيوليبرالية، تتعرض للحصار المطبق سياسيًا واقتصاديًا وحتى ثقافيًا، ولذلك فإنّها اتخذت الطريق نحو طهران ملاذًا آمنًا لإمداداتها العسكرية.

واليوم، ومع استهداف الصهيونية للقيادات العامة للجمهورية، تجد إيران نفسها أمام مأزق إستراتيجي يحتم عليها أحد الأمرَّيْن؛ فإما أن تتخلى عن برنامجها النووي ودعمها للمقاومة مقابل تسويات سياسية ورفع للعقوبات المفروضة عليها، أو أن تستعد لمواجهة حرب مفتوحة مع حكومة نتنياهو المتطرفة، والدافعة للمنطقة نحو حرب شاملة.

والحاصل أنّ الرد الإيراني الأخير، بقصف تل أبيب بمئات الصواريخ، لم يترك لبديل السردية الصهيونية مجالًا للنفخ في أبواق الجبهة الداخلية الإيرانية، إلا الأصوات التي راهنت على انكفاء الجمهورية على نفسها للوصول إلى نقطة اللاعودة عن مشروعها النووي.

  • أما الحلقة الأكثر جدليةً وتعقيدًا في فهم طموحات إيران في المنطقة فيشكلها برنامجها النووي؛ فالمشروع النووي لم يكن مرتبطًا بمدى استجابة الغرب لحاجات طهران للطاقة النووية السلمية، بقدر ما رسم الخطوط الحمراء للإمبراطورية في عدائها للمقاومة.

وإيران، بتاريخها ورهانات جغرافيتها وثرواتها الخصبة، تدرك يقينًا أنّ الردع العسكري مرهون بالتكنولوجيا العسكرية وسلاحٍ فتّاكٍ يحفظ أمنها القومي، وأنّ العالم لن يتحرك لتجريم استخدام القتل الجماعي ضد مدنيين، بل إنّ الغرب دافع بشكل هيستيري عن إسرائيل في حربها ضد الفلسطينيين، غير آبه بآلاف الضحايا من المدنيين والصحافيين.

وبالنظر إلى برنامج إيران النووي، وكونه الهوية الحضارية للجمهورية ومستقبلها، في زمن تخلت فيه الكابينات المتصهينة عن حقها النووي، يقف العالم على رجل واحدة متسائلًا: هل تستطيع إيران تحقيق وعدها الصادق، للخروج من بين فكي الأسد.

تبدو إيران مخنوقة بين فكي الأسد الصاعد إلا أنّها -كما المنطقة بأكملها- على صفيح ساخن تفور حممه على عواقب كارثية وتحديات جيوسياسية، لا يمكن تفاديها ما دام الاحتلال الصهيوني يدفع السلم الدولي نحو الانهيار

الرهانات الجيوسياسية

يأتي اسم إيران على لسان وزير خارجية أميركا لدى إدارة ترامب معنونًا بمحور الشر، قاطعًا الطريق أمام وزير خارجيتها الذي أعلن عدم ضبط النفس في الرد الحاسم على الهجمات البربرية الإسرائيلية ضد الجمهورية.

ومع أنّ المنطقة على قدر رهاناتها الأمنية والاقتصادية التي فرضتها التراكمات التاريخية، والاشتباك الجغرافي الذي ارتهنته لعبة المضائق والقواعد العسكرية، فإنها لا ترغب في فتح جبهات اشتعال أخرى، تجر المنطقة بأكملها إلى حرب لا تخدم سوى الإمبراطورية، وتغرقهم في وحل التلوث النووي المهدد لأمنهم القومي.

قوبلت دعوات التهدئة، التي انتقدت الاحتلال في دفع المنطقة نحو الكارثة، بمساعي إيران في حقها الدفاع عن أمنها القومي تجاه الغطرسة الصهيونية، وما أحدثته الصواريخ الإيرانية من زلزال في الجبهة الداخلية للاحتلال، يثبت أنّ الغرب بإمكانه التخلي عن الشتات اليهودي الذي استجمعه في مستوطنات استعمارية، في سبيل تحييد مشروع إيران النووي.

فإسرائيل -يد الإمبراطورية في منطقة الشرق الأوسط- تعمل تحت المظلة الاستخباراتية الغربية، للدفع بالجبهة الداخلية الإيرانية للانتفاض ضد النظام القائم، والتعويل على ذلك كرسه خطاب نتنياهو ودقة الأهداف المعلنة في إيران، غير أنّ المواجهة الإيرانية الإسرائيلية، تفتقد لأهم وسائل التحييد النفعي في الحروب، وهو التواصل الذي يبرز تورط الشركاء الغربيين في العمليات الحربية الصهيونية ضد إيران.

قد تبدو إيران مخنوقة بين فكي الأسد الصاعد، على اقتباس من توصيف رئيس الوزراء البريطاني السابق تشرشل، إلا أنّها -كما المنطقة بأكملها- على صفيح ساخن تفور حممه على عواقب كارثية وتحديات جيوسياسية، لا يمكن تفاديها ما دام الاحتلال الصهيوني يدفع السلم الدولي نحو الانهيار.

فالعالم شهد غطرسة الاحتلال في غزة، وخروقاته المتواصلة في المنطقة، وهو عاجز عن إيقاف مغامرات نتنياهو وحكومته المتطرفة. وما تعجز الكلمات في التعبير عنه، يحسمه تضامن الأمة المقاوِمة في مقارعة جبروت الآلة العسكرية الصهيونية.

أوراق إيران الرابحة وحماقة إسرائيل وأميركا

أوراق إيران الرابحة وحماقة إسرائيل وأميركا

كاتب ومراسل عسكري أميركي

لطالما حاولت إسرائيل وحلفاؤها من المحافظين الجدد في الولايات المتحدة إشعال حرب مع إيران – حرب لا تستطيع إسرائيل ولا الولايات المتحدة الانتصار فيها، وستؤدي إلى ردود فعل انتقامية شرسة.

المحافظون الجدد الذين خططوا للحروب الكارثية في أفغانستان، والعراق، وسوريا، وليبيا – ولم يُحاسبوا قط على إهدار 8 تريليونات دولار من أموال دافعي الضرائب، إضافة إلى 69 مليار دولار أُهدرت في أوكرانيا – يبدو أنهم يستعدون لجرّنا إلى فشل عسكري آخر، هذه المرة مع إيران.

لكن إيران ليست العراق، ولا أفغانستان، ولا لبنان، ولا ليبيا، ولا سوريا، ولا اليمن. 
إيران هي الدولة السابعة عشرة في العالم من حيث المساحة، وتعادل مساحتها مساحة أوروبا الغربية. عدد سكانها يقارب 90 مليون نسمة – أي عشرة أضعاف سكان إسرائيل – وتملك موارد عسكرية وتحالفات مع الصين وروسيا تجعلها خصمًا مخيفًا.

شنت إيران هجمات انتقامية على إسرائيل ردًا على موجات من الضربات الإسرائيلية التي استهدفت منشآت نووية وقتلت العديد من كبار القادة العسكريين الإيرانيين وستة علماء نوويين. 
سُجلت انفجارات فوق أفق تل أبيب والقدس وغيرهما، وتظهر لقطات مصورة على الأرض في تل أبيب انفجارًا هائلًا يُعتقد أنه ناتج عن صاروخ، مع تقارير عن انفجارات أخرى في نحو نصف دزينة من المواقع في محيط المدينة.

قال مسؤول إيراني كبير لوكالة رويترز: "انتقامنا بدأ للتو، وسيدفعون ثمنًا باهظًا لقتل قادتنا وعلمائنا وشعبنا". وأضاف أن "لا مكان سيكون آمنًا في إسرائيل"، وأن "انتقامنا سيكون مؤلمًا".

قال أليستر كروك، الدبلوماسي البريطاني السابق وعضو الاستخبارات البريطانية (MI6)، في مقابلة أجريتها معه عن المحافظين الجدد: "يعتقدون أن الحرب ستكون سهلة. يريدون إعادة فرض القوة والقيادة الأميركية. يرون أن تحطيم بلد صغير من حين لآخر مفيد لذلك".
وأضاف أن هؤلاء المحافظين الجدد، المتحالفين مع قيادة بنيامين نتنياهو في إسرائيل، "لا يتسامحون مع أي قوة منافسة، أو أي تحدٍ للقيادة الأميركية وعظمتها". وسيسعون لخلق "حقائق على الأرض" – أي حرب بين إسرائيل وإيران – من شأنها أن "تدفع ترامب نحو الحرب مع إيران".

رغم ضعف سلاح الجو الإيراني، الذي يتألف من مقاتلات قديمة، فإن إيران مزودة جيدًا بأنظمة الدفاع الجوي الروسية، وصواريخ صينية مضادة للسفن، وألغام ومدفعية ساحلية. ويمكنها إغلاق مضيق هرمز، أهم نقطة عبور للنفط في العالم والتي يمر منها 20% من الإمدادات العالمية.
هذا قد يضاعف أو يثلّث أسعار النفط ويشل الاقتصاد العالمي. 
تمتلك إيران ترسانة كبيرة من الصواريخ الباليستية يمكن أن تطلقها على إسرائيل، وكذلك على قواعد أميركية في المنطقة. ورغم إمكانية اعتراض الموجات الأولى، فإن الهجمات المتكررة ستستنزف سريعًا مخزون الدفاعات الجوية لدى إسرائيل والولايات المتحدة.

إسرائيل غير قادرة على تحمل حرب استنزاف، مثل الحرب التي استمرت ثماني سنوات بين إيران والعراق والتي انتهت – رغم الدعم الأميركي لنظام صدام حسين – بحالة جمود، أو مثل احتلالها جنوب لبنان لمدة 18 عامًا، والذي انتهى بانسحابها في مايو/ أيار 2000 بعد خسائر متكررة على يد حزب الله.

حين شنت إيران، ضمن عملية "الوعد الصادق"، أكثر من 300 صاروخ باليستي ومجنح على مواقع عسكرية واستخباراتية إسرائيلية في (13 و14 أبريل/ نيسان 2023)، ردًا على قصف إسرائيلي للسفارة الإيرانية في دمشق، اعترضت الولايات المتحدة معظمها.
قال جون ميرشايمر، الأستاذ في قسم العلوم السياسية بجامعة شيكاغو وخريج ويست بوينت: "إسرائيل لا تستطيع صد هجوم صاروخي إيراني".
وأضاف: "نحن أمام وضع مثير للاهتمام، فإسرائيل لا تستطيع الانتصار في هذه الحروب، لكنها تجعلها حروبًا طويلة الأمد تكون فيها معتمدة بشدة على الولايات المتحدة".
وأضاف: "لدينا أصول كثيرة في الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط، وكذلك في إسرائيل نفسها والبحر الأحمر. 
هذه الأصول مصممة لمساعدة إسرائيل في حروبها. لا يقتصر الأمر على إيران فقط، بل يشمل الحوثيين وحزب الله أيضًا. 
نحن منخرطون بعمق في مساعدتهم في القتال، ولم يكن الأمر كذلك في 1973 أو في أي وقت قبل هذه الحرب".
يعتقد الإسرائيليون وحلفاؤهم من المحافظين الجدد أنهم قادرون على القضاء على برنامج التخصيب النووي الإيراني بالقوة، وقطع رأس الحكومة الإيرانية لتركيب نظام عميل. 
هذا المنطق، الذي لا يستند إلى الواقع، فشل بالفعل في أفغانستان، والعراق، وسوريا، وليبيا، لكنهم لا يعترفون بذلك.
في الوقت نفسه، تريد إسرائيل صرف أنظار العالم عن الإبادة الجماعية والمجاعة الجماعية التي تنفذها في غزة، والتطهير العرقي المتسارع في الضفة الغربية. وقد قُطع الاتصال بالإنترنت تمامًا في غزة، وباتت الضفة الغربية تحت حصار شامل.

قال ميرشايمر: "يدرك الإسرائيليون أنه إذا حصل تصعيد عام، فلن ينتبه أحد كثيرًا للفلسطينيين".

وأضاف: "سيكون الناس مستعدين لتبرير أكثر لإسرائيل مما لو كانت الأوضاع هادئة. لذا دعونا نصعد الأمور، لنخلق حالة صدام شاملة، والنتيجة أننا سنتمكن من تنفيذ تطهير واسع النطاق في غزة، وربما في الضفة أيضًا".
سيؤدي الهجوم الإيراني، في نهاية المطاف، إلى مئات ثم آلاف القتلى. وستلجأ إيران إلى الشيعة في المنطقة في إطار ما ستقدمه كـ"حرب ضد التشيع"، ثاني أكبر طائفة في الإسلام. والتي ينتشر أفرادها في دول الخليج، وباكستان، وتركيا. أما في العراق، فيشكل الشيعة الأغلبية.

سيدعم النظام العراقي ذو الأغلبية الشيعية إيران. وسيتواصل تعطيل حركة الملاحة في البحر الأحمر من اليمن، مع استهداف إسرائيل بهجمات بالطائرات المسيرة. وسيتجدد هجوم حزب الله على شمال إسرائيل، رغم الأضرار التي لحقت به. ومن المتوقع وقوع هجمات إرهابية على القواعد الأميركية في المنطقة، وربما حتى على الأراضي الأميركية، إلى جانب تخريب واسع في إنتاج النفط بالخليج.

ستمتلك إيران قريبًا ما يكفي من المواد الانشطارية لصنع سلاح نووي. وستكون الحرب دافعًا قويًا لصنع قنبلة، خاصة مع امتلاك إسرائيل مئات الأسلحة النووية. وإذا حصلت إيران على قنبلة، فستليها تركيا ودول عربية أخرى. وستنهار الجهود لمنع انتشار الأسلحة النووية في الشرق الأوسط.

وكما يشير ميرشايمر، فإن الحرب ستعزز أيضًا التحالف بين إيران، وروسيا، والصين.

قال: "دفعت الولايات المتحدة كلًا من الصين، وروسيا، وكوريا الشمالية، وإيران إلى التقارب الشديد". وأضاف: "لقد شكلت كتلة مترابطة. وبفعل الحرب في أوكرانيا، تقاربت روسيا والصين، وبفعل ما يجري في الشرق الأوسط، تقاربت إيران وروسيا. الولايات المتحدة تساعد إسرائيل، لكن يجب أن ندرك أن روسيا تساعد إيران. 
ليس من مصلحة أميركا أن تتقارب الصين وروسيا ضد واشنطن. وليس من مصلحتها أن تتعاون إيران وروسيا ضد إسرائيل والولايات المتحدة".
وتابع: "دائمًا ما توجد إمكانية أن تتورط روسيا في هذه الحرب، إذا تصاعدت بين إيران من جهة والولايات المتحدة وإسرائيل من جهة أخرى، لأن روسيا أصبحت الآن تملك مصلحة حقيقية في دعم إيران".

قد تستمر الحرب شهورًا، وربما سنوات. ستكون حربًا جوية في الأساس، بين الطائرات الإسرائيلية والصواريخ الإيرانية. لكن إخضاع إيران سيتطلب ربما نشر مليون جندي أميركي لغزو واحتلال البلاد. وسينتهي مثل هذا الاحتلال بهزيمة مذلة كما حدث في العراق، وأفغانستان.

الوهم الإسرائيلي المتمثل في قدرتهم على تدمير إيران بضربات جوية، نسخة محدّثة من "الصدمة والرعب" في العراق عام 2003. لكن كمية القنابل المطلوبة، خصوصًا لتدمير المنشآت النووية الإيرانية المحصنة تحت الأرض، ستكون هائلة. في عملية تصفية قيادة حزب الله في بيروت، بما في ذلك حسن نصر الله، استخدمت إسرائيل قنابل خارقة للتحصينات تزن 2000 رطل من نوع JDAM.

قال كروك: "إذا كنت ستطلق طائرات "إف-35″ محملة بصواريخ JDAM، فكل واحدة منها تزن حوالي 14 طنًا".

وأضاف: "المشكلة ليست فقط في الوزن، بل في الوقود الذي تستخدمه. يجب إعادة التزود بالوقود مرة أو مرتين، ثم خوض معركة جوية لقمع الدفاعات. نحن نتحدث عن عملية ضخمة. هل تستطيع أميركا فعل ذلك؟ الإيرانيون يملكون أنظمة دفاع جوي متعددة ورادارات قوية، بما في ذلك رادارات ما وراء الأفق".

فلماذا إذن نذهب إلى الحرب مع إيران؟ لماذا ننسحب من اتفاق نووي لم تخرقه إيران؟ لماذا شيطنة حكومة تعادي طالبان وتنظيمات تكفيرية أخرى، منها القاعدة وتنظيم الدولة؟ لماذا نزعزع الاستقرار في منطقة شديدة الهشاشة أصلًا؟

الجنرالات والساسة وأجهزة الاستخبارات والمحافظون الجدد ومصانع الأسلحة والمحللون المزعومون والنجوم الإعلاميون ولوبي إسرائيل، لن يتحملوا المسؤولية عن عقدين من الفشل العسكري.

إنهم بحاجة إلى كبش فداء. هذا الكبش هو إيران. الهزائم المهينة في أفغانستان والعراق، وانهيار الدولة في سوريا وليبيا، وانتشار الجماعات المتطرفة والمليشيات التي دربناها وسلحناها، واستمرار الهجمات الإرهابية عالميًا – يجب أن يتحملها أحد.

الفوضى التي أطلقناها، خصوصًا في العراق وأفغانستان، جعلت من إيران القوة الإقليمية الكبرى. لقد مكّنا خصمنا، ولا نعرف كيف نغير هذا سوى بمهاجمته.

القانون الدولي، وحقوق ما يقرب من 90 مليون إنسان في إيران، يتم تجاهلهما، كما تم تجاهل حقوق شعوب أفغانستان والعراق وليبيا واليمن وسوريا.

الإيرانيون، بغض النظر عن موقفهم من حكومتهم، لا يرون في الولايات المتحدة حليفًا أو محررًا. لا يريدون أن يُهاجَموا أو يُحتلوا. وسيردّون. وسندفع نحن، وإسرائيل، الثمن.

الأسد الصاعد: المطلوب رأس النووي "المنتظر"

الأسد الصاعد: المطلوب رأس النووي "المنتظر"

أحمد عمر

إيران تنتظر خروج المهدي من السرداب، الذي أمسى وصف المنتظر لاصقا به، وصارت صفة المنتظر له كنية ونسبا. ليست إيران وحيدة في المرفأ، فإسرائيل ومعها أمريكا -جمهوريون وديمقراطيون- تنتظران مهديهما المسيح أيضا، في محطات القطار والمطارات والمرافئ السياسية، وتمهدان لمعركة هرماجدون وتستدرجانها.


المهدي موجود في آثار إسلامية، لكنه ليس في البخاري أصحّ كتب السنّة، ولا ينتظره أهل السنّة انتظار الشيعة، أو المسيحيين الكاثوليك، وينكره بعض علماء السنّة، فهو عندهم بدعة تسربت إلى الآثار النبوية، فإن كان المسيح سيعود من السماء، فلِمَ المهدي إذا، ولِمَ سيصلي المسيح، وهو نبي، خلف واحد من ذرية النبي التي تبعثرت وضعفت! فما أكثر أدعياء الانتساب إلى الشجرة النبوية من جهة الأم، والنسل العربي نسل آباء، والآية تقول بصريح العبارة: "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما"، وإنَّ النقاش في هذا شأن فقهي وسلالي محض ليس هذا محله. وإنَّ عقيدة المهدي أو المسيح موجودة في أكثر الديانات على الأرض، حتى في ديانات الشامان البدائية البرية. أغلب الظن أنَّ صمويل بيكيت استوحى مسرحيته "في انتظار غودو" من المسيح المخلص.

يسخر كتاب علمانيون من هذه العقائد ويعتبرونها أساطير أولين، ولطالما غيرت الأساطير العالم وصنعت حاضرها ومصائرها، فالأساطير حقائق تاريخية مصاغة بلغة مجازية وشعرية، وهي نبوءات أيضا، والمسلمون والمسيحيون ينتظرون المسيح، وإن اختلفت طريقة الانتظار.

نتنياهو محصور أمام شعبه، فهرب إلى الأمام باغيا صناعة نصرين؛ مكان تحت الشمس، وهرب من أزمة الداخل. رأى نتنياهو أن يقوم بمعركة الأسد الصاعد لنزع سلاح إيران النووي

تدفع تصريحات إيرانية عن نفسها تهمة صناعة قنبلة نووية، بالقول إنَّ الإمام مؤسس الجمهورية الإسلامية الخميني قد حرّم صنعها، لكن أحدا لا يصدقها، وإيران دولة ذات تاريخ عريق قلَّ أن يكون له نظير في العالم، فقد سادت العالم فترة، وكانت قطبا وحيدا، وهو تاريخ حافل بالأساطير والفخر والخيلاء، مثلها مثل إسرائيل التي يرى المسلمون علوها الكبير، الذي بلغ شأوا لم تبلغه من قبل، ويتطيرون من اسم الدولة التالية التي سيبغو عليها نتنياهو، ملك إسرائيل الأخير في نبوءات إسلامية ونبوءات توراتية. إن إيران وإسرائيل تتصارعان على سيادة الشرق الأوسط، وديار العرب، الذين صاروا "كالغنم في الليلة الشاتية"، فكأن التاريخ وقد عاد بنا زمن سورة الروم، وآياتها الثلاث الأولى، وإن بطريقة مختلفة.

لكن إسرائيل (طليعة الروم وربيئتها وفتوتها في ديار المسلمين) وقد اصطدمت بصخرة صلبة في غزة، وثارت ضدها عواصم أوروبية وهي ترى الإبادة رأي العين، وحُشر رئيس حكومتها وتكاد المعارضة أن تسحب شرعيته، مطالبة بانتخابات، رأت أن تغزو إيران بحملة اسمها الأسد الصاعد (رمز المعارضة الإيرانية الزرداشتية) وقد قطعت أذرعها في دمشق الأسد وفي لبنان؛ بقتل معظم قادة حزب الله، بل بلغ بها العتو والعلو أنها حرمت جمهور الحزب حتى من إقامة جنازات لهم، وأجبرت من بقي من قادتهم مكرهين على الغياب في المغاور واللواذ بالأنفاق، ومنعتهم من الظهور خوفا على حيواتهم، و"ملكها" نتنياهو محصور أمام شعبه، فهرب إلى الأمام باغيا صناعة نصرين؛ مكان تحت الشمس، وهرب من أزمة الداخل.

رأى نتنياهو أن يقوم بمعركة الأسد الصاعد لنزع سلاح إيران النووي، ولا تقارن شجاعة الإيرانيين بجبن الإسرائيليين في هذا الزمان، وكانت إيران إبّان معركتها مع العراق في عهد صدام حسين ترسل الآلاف من الصبية الانتحاريين، تكتسح بهم الألغام وتفجرها تمهيدا للعربات والمشاة، وفي أعناقهم قلائد بها مفاتيح للجنة، وعدهم بها الخميني، وهي طريقة بدائية في القتال، لكنها نفعت مع العراق وقتها، حتى أنَّ صدام حسين خرج مخاطبا جنوده، يعظهم بعدم الخوف من أصحاب الربطات، وهي ربطات شدّت على رؤوس الصبية كتب عليها: يا حسين.

أغلب الظن أنَّ المعركة بين إيران وإسرائيل محسومة، فإنما هي أكلة جَزور أو عضة كوسا، والتفاوت ظاهر في القدرات القتالية والأسلحة والتصريحات والتهديدات، إيران تقاتل وكأنها عمياء، في حين أن إسرائيل تبصر كل هدف بصر العين.

استطاعت إسرائيل قتل اثني عشر عالما نوويا أو أكثر بمعركة بيجر ثانية، أو ما يشبهها، في بيوتهم وعلى موائدهم، وقتلت قادة إيرانيين من الصف الأول بسهولة، أما إيران، فترسل طائرات وصواريخ، تصيب خبط عشواء، وإن أخافت الإسرائيليين الذي وفدوا إلى أرض اللبن والعسل من أجل العيش الرغيد الذي لا يُكدر. المفاجأة التي تواطأت فيها أمريكا مع إسرائيل أذهلت الإيرانيين الذين يدافعون عن بلدهم، والدفاع أقل من الهجوم في حرب الكترونية.

"ولتجدنهم أحرص الناس على حياة".. الإسرائيليون كذلك، لكن عقيدة الفداء الإسلامية، والشيعية منها بوجه خاص، لن يكون لها معنى في حرب حديثة تجري بالطائرات والمسيرات. ولن تجدي معها "كاميكاز" إيراني، فلا التحام في الحرب الحديثة. تشاع أقوال أن الصين وروسيا وباكستان تدعم إيران، لكن الدعم الصيني إن حصل، لا يقاس بالدعم الأمريكي السياسي والاستخباري لإسرائيل.

تتضارب تصريحات القادة الإيرانيين، فهي بين شدِّ وإرخاء، وهو يعكس اضطرابها.. الشد في التهديد والوعيد، والإرخاء في الإيهام بمتابعة المفاوضات، والرد بالمثل. إيران وحيدة، وهي عند خصومها السوريين، تنال جزاء من جنس العمل.

يباهي أنصار إيران بتخويفها الإسرائيليين ودفعهم إلى الملاجئ، وبخسائرهم في المباني، وصور النيران في ساحات مدن إسرائيلية، لكنه في القياس الاستراتيجي والخسائر التي منيت بها إيران من العلماء وخسائر التصنيع النووية في بوشهر وسواها ليست سوى أضرار جانبية. ولم ترد تقارير علمية عن قياس الإشعاع النووي في مواقع القصف، ويخشى أن ترتد على الخليج نفسه، أو أن تطول الحرب، فتحرق المنطقة برمتها.

ينسب أنصار إسرائيل التغيرات الإقليمية إلى نتنياهو، وننسبها إلى يحيى السنوار

أغلب الظن أن العقل الإيراني الفارسي المتشيع، الذي جمع بين فخر آل ساسان والعترة النبوية، ما يزال يعمل بنظرية صناعة السجاد القيشاني، وهو العمل بصمت ودأب، وصبر، ويخشى مراقبون أن تسود إسرائيل المنطقة، إلا إذا استطاعت إيران الرد بالمثل: ديمونا مقابل بوشهر.

وكنا قد ذكرنا في بداية المقال أمجاد فارس التي كان العرب يهابونها أشدّ الهيبة، وكان للشاهنشاه والأكاسرة تاج يربط بالحبال فوق رأسه لثقل وزنه، حتى أنه لو سقط لسحق كسرى، ولا زال هذا الفخر مستمرا في آيات الله، فالإمام يلقب في إيران بروح الله العظمى، وآية الله.

إيران تقاتل بلا أذرع وشبه عجماء ومعركتها خاسرة، وستُفرض عليها شروط خسارة تشبه خسارة اليابان في الحرب العالمية الثانية، إلا إذا سعت إلى توسيع الحرب، عندها للحرب شأن آخر.

 إنّ اليابان التي خسرت الحرب، وخسرت آلاف الضحايا في هيروشيما وناغازاكي، ذلّت وخضعت وانصرفت إلى العلم.

وفي الأغلب الأعم ستعتبر إيران الهزيمة نصرا، وأنها حاربت الشيطان الأكبر، وتعمد إلى ادخارها في بنك "المظلومية"، وتعود إيران إلى السرداب، وصناعة القيشاني.

ينسب أنصار إسرائيل التغيرات الإقليمية إلى نتنياهو، وننسبها إلى يحيى السنوار، ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا، "ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون".

x.com/OmarImaromar

ماذا تقول لنا المواجهة الحالية بين "إسرائيل" وإيران؟

ماذا تقول لنا المواجهة الحالية بين "إسرائيل" وإيران؟
د.سعيد الحاج


بدا الهجوم "الإسرائيلي" الأخير على إيران مع ما تبعه من تطورات كاشفا لبعض الحقائق بخصوص المنطقة، ولعل أولها ما يرتبط بموقف الإدارة الأمريكية.

فقد أتى الهجوم في ظل المفاوضات التي كانت تجريها طهران مع واشنطن على عدة جولات، والتي أكد فيها ترامب عدة مرات حرص بلاده على التوصل لاتفاق بخصوص البرنامج النووي الإيراني. فجأة ودون أدنى تردد، انتقل الرئيس الأمريكي لتبرير الهجوم "الإسرائيلي" وتحميل إيران نفسها مسؤوليته من باب أنها رفضت المقترحات الأمريكية، وصولا للشماتة بما حل بها من قصف ودمار واغتيالات. وهنا، ظهر بوضوح أن ترامب وإدارته كانا على علم بالضربة "الإسرائيلية" قبل تنفيذها وأنهما شاركا في عملية تمويه وخداع لطهران، فضلا عن تأكيد وجود ضوء أمريكي أخضر -بالحد الأدنى- لقصف إيران، على عكس ما كانت التصريحات الرسمية تدعي.

ما هو أهم، من ضمن ما كشفه الهجوم وما تلاه، يرتبط بدولة الاحتلال "الإسرائيلي" وما تعرضت له رؤيتها وأولوياتها في المنطقة من متغيرات بعد عملية السابع من أكتوبر وحتى اليوم، وهو تغير شامل يكاد يصل حد 180 درجة، بعد أن تداعت إلى حد كبير النظرية الأمنية السابقة لدولة الاحتلال والتي استمرت لعقود، حيث تتبدى اليوم معالم نظرية جديدة تنسجها حكومة نتنياهو بشكل عملي على الأرض.

تغير شامل يكاد يصل حد 180 درجة، بعد أن تداعت إلى حد كبير النظرية الأمنية السابقة لدولة الاحتلال والتي استمرت لعقود، حيث تتبدى اليوم معالم نظرية جديدة تنسجها حكومة نتنياهو بشكل عملي على الأرض


في غزة، تعلن المقاومة منذ يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 أنها تريد وقف الحرب، وقد قبلت كل ما عرض عليها من مقترحات جادة لذلك، بل إنها عرضت صفقة شاملة تطلق من خلالها كل الأسرى "الإسرائيليين" لديها دفعة واحدة، ورغم ذلك لم توافق حكومة الاحتلال على أي مقترح يشمل وقف إطلاق النار بما في ذلك مقترحات قدمتها هي عبر واشنطن.

وأما الضفة الغربية المحتلة فلم تصل في يوم من الأيام وخصوصا خلال هذه الحرب إلى مستوى تهديد متقدم (فضلا عن وجودي) للاحتلال، ورغم ذلك عمدت حكومة نتنياهو لتفعيل مشاريع الاستيطان وهدم المنازل والحصار والتهجير.

في لبنان، ضبط حزب الله "جبهة الإسناد" بمستوى معين لا يؤدي لحرب مفتوحة أو شاملة أو بلا سقف، وأكد على عدم رغبته في توسيع نطاقها، ورغم ذلك لم تسع "إسرائيل" إلى هزيمته فقط وإنما إلى إفنائه، ضمن سلسلة عمليات لتقويض كادره البشري وأسلحته الاستراتيجية وصولا لقيادة الصف الأول فيه وعلى رأسها أمينه العام السيد حسن نصر الله.

وتمثل سوريا الجديدة بعد سقوط نظام الأسد مثالا نموذجيا لما نتحدث عنه، فهي لا تشكل أي تهديد لـ"إسرائيل"، بل أكدت أكثر من مرة أنها تريد "سلاما مع الجميع" وأنها "لن تسمح بتهديد أي طرف انطلاقا من أراضيها بما في ذلك إسرائيل"، وانخرطت في مباحثات أمنية معها بوساطة أطراف ثالثة، ورغم ذلك لم توقف "إسرائيل" قصفها واغتيالاتها واختطاف المواطنين السوريين، فضلا عن توسيع الاحتلال والتخطيط لمشاريع استيطانية والإعلان عن الرغبة في تقسيم سوريا بدعم شرائح إثنية ومذهبية معينة.

ولا تشذ إيران عن هذه القاعدة، فهي لم تنخرط بشكل عملي ومباشر في الحرب دعما لغزة أو لبنان، وردّت بشكل نسبي ورمزي إلى حد بعيد على اعتداءات "إسرائيل" على أراضيها، بما في ذلك اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية على أراضيها، بل إنها لم تردَّ على العدوان الأخير عليها، وانخرطت في مفاوضات حول برنامجها النووي مع الإدارة الأمريكية، ولم يحمها كل ذلك من العدوان "الإسرائيلي" الموسّع مؤخرا.

ملخص كل ما سبق وغيره أن "إسرائيل" تغيرت جذريا في هذه الحرب بعد تداعي نظريتها الأمنية بالكامل، فما عادت تنتظر حصول تهديد لتتعامل معه احتواء أو مواجهة، وإنما تسعى لوأد أي إمكانية لتَشكل تهديد لها -ولو نظريا- في المستقبل، بما يشمل غزو الدول وإقامة مناطق عازلة فيها، ومواصلة القصف وتدمير المقدرات والاغتيالات.

تثبت "إسرائيل" أنه لا أمان لأحد في المنطقة من عدوانها بالمطلق، وأن إعادة رسم خرائط المنطقة ليست شعارا فارغا للتهويل أو التهديد وإنما سياسة مرسومة ومتبعة، وأنها تسير ضمن مخطط للاستفراد بأعدائها وخصومها الواحد تلو الآخر وفق أجندتها وأولوياتها وتوقيتها هي، بغض النظر أكان هؤلاء الأعداء والخصوم حقيقيين أم مفترضين أو حتى متوهمين


هنا، تثبت "إسرائيل" أنه لا أمان لأحد في المنطقة من عدوانها بالمطلق، وأن إعادة رسم خرائط المنطقة ليست شعارا فارغا للتهويل أو التهديد وإنما سياسة مرسومة ومتبعة، وأنها تسير ضمن مخطط للاستفراد بأعدائها وخصومها الواحد تلو الآخر وفق أجندتها وأولوياتها وتوقيتها هي، بغض النظر أكان هؤلاء الأعداء والخصوم حقيقيين أم مفترضين أو حتى متوهمين.

يعني ذلك أن رهان أي طرف على إمكانية تجنب العدوان "الإسرائيلي" بالحفاظ على سقف محدود من الرد أو بالتدرج البطيء في المواجهة أو حتى بتجاهل كل ذلك؛ رهان خاطئ لن يحمي أحدا ولن يمنع خطط الاحتلال، بل سيسهلها ويتيح المجال لوضعها موضع التنفيذ في التوقيت الأنسب للاحتلال نفسه.

وهنا الرسالة مزدوجة؛ أولها لإيران نفسها، ألا تراهن على العودة سريعا للمفاوضات مع الإدارة الأمريكية (التي أثبتت أنها جزء من العدوان عليها) قبل أن تكسر شوكة الهجوم عليها وتعيد صياغة موازين القوى وقواعد الاشتباك، وإلا منحت الاحتلال مكاسب أكبر في هذه الجولة، بما يعيدها لطاولة المفاوضات أضعف وأقرب لتقديم تنازلات كبيرة، مع احتمال كبير لعودة الاحتلال لاستهدافها لاحقا بشكل أكبر. ويتأتى ذلك بإدامة أمد الاستنزاف وتوجيه ضربات قاسية للمواقع الاستراتيجية والجبهة الداخلية على حد سواء، فرغم كل عوامل التفوق العسكرية والتكنولوجية والدعم لدولة الاحتلال، إلا أنها تبقى أقل قدرة على احتمال حرب استنزاف طويلة مقارنة بإيران؛ بعدد سكانها واتساعها الجغرافي وأسلوب حياتها وخلفية نظامها.

والرسالة الأخرى لدول المنطقة وقواها الحية، بأنها جميعا على قائمة الاستهداف والإضعاف وربما التقسيم، الآن أو لاحقا، وبأشكال وأساليب متعددة، وأن أي موقف منها اليوم، بما في ذلك السكوت أو حتى التواطؤ، لن يحميها من المصير الذي تخططه لها دولة الاحتلال وفق قراءتها لمنظومة التهديدات المحتملة عليها مستقبلا. يجعل ذلك دولا ليست منخرطة في صراع مباشر مع "إسرائيل" اليوم مثل تركيا، وأخرى أبرمت معها اتفاقات "سلام" مثل مصر والأردن، وأخرى في وارد التطبيع معها مثل السعودية، ضمن الأهداف المحتملة مستقبلا.

تلخيصا، لم تعد قواعد وموازين ومعادلات ما قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 قائمة في المنطقة وتحديدا بالنسبة لـ"إسرائيل". وعليه، فكل من يصر على التعامل وفق المعادلات "المنسوخة" سيكون من المستهدَفين والخاسرين وإن ظن عكس ذلك. في منطقة تغلب عليها السيولة والتطورات الضخمة والمواجهات العسكرية الواسعة، يصبح من السذاجة غير المقبولة البقاء في مناطق السكون والركون والثقة بما غيّرته هذه الحرب المستمرة والمتصاعدة يوما بعد يوم.

وللحديث بقية.

x.com/saidelhaj