كيف آمن نتنياهو بمفهوم “الأمة”؟
صحفي، وطالب بقسم التلفزيون والسينما في كلية الإعلام بجامعة مرمرة
خريطةٌ بلا حدود، وأرضٌ واسعة لا تفرّقها قوميات مختلفة، وقومٌ يعيشون جميعًا فوق بقعةٍ متّسعة واحدة، لا حواجز عالية تمنعهم، ولا أسوار تفصل بينهم، كيانٌ واحد على أرضٍ واحدة وتحت سماءٍ واحدة، ورايةٌ واحدة ترفرف فوق البقاع كلّها، وشعبٌ يستند إلى عقيدةٍ واحدة، يحلم بحلم واحد، ويحارب كجسدٍ واحد، في سبيل غايةٍ واحدة، وتلكم هي الأمة الواحدة، التي كَفرَ بها ورثة خير أمة، وآمن بها صاحب أسفل شعبٍ وعقيدة، حين حلم بـ”إسرائيل الكبرى”، بينما نحن غارقون في كابوس الفرقة العربيّة والخيبة الإسلاميّة، حيث تمنعنا خطوط الخريطة، التافهة، والله لا شيء غيرها، عن إغاثة قومنا المجوّعين، ونصرة أهلنا المستضعفين، ولو كانوا في حدودٍ غير الحدود لكان الفعل غير الفعل، وكلٌّ يبكي على “ليلاه” هو، لا على الصارخة “واإسلاماه” في البيت المجاور.
يقول نتنياهو، بينما تلمع عيناه، وبالدم انتفضت يمناه، إنّه يحلم بذلك الوطن الكبير، وإنّه جنّد لذلك نفسه، وأسرته؛ مفهوم إسلاميّ آخر، يؤمن به الرجل، السافل، حيث يعيش على حلمٍ بنفسه، ويأمر به أهله، ويجنّد لخدمته أرواح عائلته، كأنّه ينذر عشيرته الأقربين، بينما عشيرتنا الواسعة، من العائلة الصغيرة إلى عائلة المسلمين الكبرى، غارقة في أهدافٍ “شتى”، وكأنّ التيه الذي كتب على العدوّ استأثرنا به، بينما يبحث العدوّ نفسه عن خروج من التيه المكتوب عليه.
وذلك على رغم مفهوم “الأمة” الواسع في عقيدتنا، حيث يكون الرجل وحده أمة “إنّ إبراهيمَ كان أمَّة”، وحيث تكون الأمة كلّها أمة “كنتم خير أمة أخرجَت للناس”، وحيث يكون الجماعة من القوم أمة “وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ”، وحيث الخطُّ الواصل بين الفرد والمجتمع والأمة كلّها، هو الإيمان الذي يُنظّم ذلك الحبل المتين، ويُمهّد ذلك الصراط المستقيم، لتسير عليه في خطّ ممتدّ بين سيادة الدنيا وفوز الآخرة، وإنّ أحدهما لا يتحقّق من دون الآخر، ومن لم يسُد بالخيرية دنياه فلن يجد الخير في أخراه، والعاقبة للتقوى، والعاقبة للمتقين، ولأنّ الذي يعيشها أعمى، لا يبصر، كصم بكم عمي لا يعقلون، فإنّه في الآخر سيُحشَر أعمى، وأضلّ سبيلا، ولأنّ الذي على قلبه غشاوة من الإيمان، ومن المعنى، ومن الفداء، لن يذوق قلبه فجأةً في الآخرة حلاوة الفردوس، فإنّ الجنة جنة القلب أوّلًا، ثمّ يسري ذلك القلب المؤمن بصاحبه إلى ميادين الصلاح والهدى والصبر والثبات، حتى يعرج به إلى عزِّ السماوات.
وعليهِ، أدرك عدونا ذلك المعنى تمام الإدراك، لا يريد شيئًا من جناننا نحن، وإنّما يريد مصلحة قراره هو، وحلًا لمسألته التي تعضله، وسبيلًا لبقائه المهدّد، فلا يجد ذلك إلّا فيما أمرنا به كطوق نجاة، يهرب من تفكّكه إلى جماعته، ومن زواله إلى تنزيلنا، ومن فرقتنا إلى اتحاده، حيث “إذا اشتكى منه عضو”، في سديروت وأسدود وتل أبيب، “يتداعى له سائر الجسد”، في واشنطن، وبرلين، وباريس، وروما، وسيدني، “بالسهر والحمى”، فما الذي سرقه منّا نتنياهو غير كرامتنا العربيّة؟ الذي سرقه أعظم من لحظة مخجلة في مسار التاريخ، وأكثر من ثغرة مستغلة في جدار الأمة الصلب، وأكثر من خيانة منافقين منظّمة بين جماعة المؤمنين، وإنّما سرق منّا الخطّة، الخطّة التي هي معلنة في الأصل، لا يواريها الكتاب، ولا يخبّئها الوحي، وإنّما هي معلنةٌ، وأدواتها في أيدي بنيها، لكن بنيها يفرّطون، ولا يمسّكون الكتاب بقوة، وإنّما وهنًا على وهن، يحملون كلِّ مرةٍ بجنينٍ مجهض جديد، يتمخض الجبل، فلا يلد إلا فأرًا، آخر، يرمي أسود الأمة في السجون، ويضع أحصنتها في إسطبل مغلق بالحديد والنار، ليظنّ بأنّه سيّد قومه، وما الغبيّ بسيّدٍ في قومه، لكن سيّد قومه المتغابي.
ولأنّ تلك “الأمة” الواحدة التي يأمرنا بها ديننا كسبيلٍ لنصرنا، مهدِّدة أول ما تهدّد القوميات الضيقة، فإنّ سفلة قومنا المتعالين فوقنا، يبحثون أول ما يبحثون عن قوميات أخرى يلهوننا بها، وكلّ حزبٍ بما لديهم فرحون، يحاولون إعادتنا إلى “كيميت” وأخواتها، حيث تستبدل بحضارتنا الأم الجامعة، حضارات أخرى متفرقة، لا مانع من الاعتزاز بصنيعها، لكن ليس على حساب صنيع الدين حين طاف بها، فالحضارة الحقيقيّة حضارة نفي الجهالة عن النفوس، لكنّ بعضَ البشر توّاقون إليها، ولو كانوا سيعبدون الأهرامات من جديد، والحقيقة أنّ البديل الحقيقي هو الذي يأمرنا بالخروج من “ضيق الجغرافيا” إلى “سعة التاريخ”، ومن ضحالة العقول إلى براح الأفئدة، وحينها سنجد “أرض الله واسعة”، فنهاجر فيها، وضالّتنا هي تلك الأمة المهداة، وحينها سيخرج رجلان بأمة، أنعم الله عليهما، يقولان “ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ البَابَ، فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ، وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا، إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ”.
أمة واحدة ترجون أيتها “الإسرائيل الكبرى”، وأيها الخنَّوص نتنياهو، بينما نحن أمة كبرى فعلًا، تنشد مشروع “الأقوام الصغرى”، وذلك ليس آفة الأمة نفسها، لا أفرادها ولا جماعاتها، لكنّه ضمن مشروع نتنياهو نفسه، حيث لا يعلو علينا إلا بتوطئة جانبنا، من خلال أسافل القوم فينا.
ومع ذلك تبقى الأمة ولّادةً، تبحث عن “موسى” الجديد، حيث من قومه “أُمَّةٌ يَهدونَ بالحَقِّ وبهِ يَعدِلونَ“، يريدون أن يهلكوا فرعون بالطوفان، وقد جهّزوا “سفين نوح” من فوق الطوفان، ليستووا ذات يوم على الجوديّ، حيث تختصر الأمة الواحدة الأزمنة والأمكنة، هل تذكرون الحبل المتين والصراط المستقيم الممتدَّين على مرّ الزمان والمكان بين عالَمي الدنيا والآخرة؟ حينها، لا تكون “إسرائيل كبرى”، ولا “إسرائيل صغرى”، ولا “إسرائيل” أصلًا، حيث لا تداعى علينا “الأمم” كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، لأنّنا يومئذٍ “خير أمة”، لا غثاءً كغثاء السيل!