المواجهة بين إسرائيل وإيران
نور الدين قدور رافع
لم تقتصر ضربات الاحتلال الصهيوني على المنشآت النووية الإيرانية فحسب، بل اغتالت القيادات العليا في إيران، وفي تطور خطير ينبئ باشتعال المنطقة والعالم، استهدف عملاء الموساد نخبة البرنامج النووي الإيراني.
وفي وقت لا يتأخر الغرب فيه عن إعلان الدعم لنتنياهو حال تعرض إسرائيل للهجوم، يعلن نتنياهو استمراره في حربه ضد البرنامج النووي الإيراني، في تحدٍّ شكّل خرقًا للقانون الدولي وتهديدًا مباشرًا للسلم العالمي.
وعلى قدر الصمود الذي أظهرته إيران في وجه الاغتيالات والخروقات الأمنية الخطيرة، ورهان الاحتلال على تصدع الجبهة الداخلية لها، تتعالى الأصوات الداعية لإخماد كرة اللهب الصهيونية، والتي ستؤدي بالمنطقة والعالم إلى حرب شاملة ومدمرة.
فهل تنجح المساعي الدولية في تجنيب المنطقة مغامرات نتنياهو؟ أم إنّ الخوف من "متلازمة إيران" وحده كفيل بضمان استكمال مشاريع الثيوليبرالية؟
قرار نتنياهو المتهور بإعلان الحرب على إيران، لن يجر منطقة الشرق الأوسط وحدها نحو الكارثة، بل سيعطل الاقتصاد وتتجمد الملاحة الدولية، في حال أعلنت الجمهورية غلق المضائق
المشاريع المتشابكة
ظلت الخطابات التحريضية ضد إيران تأخذ منحى متصاعدًا في العالم، خاصة بعد التدخل الإيراني في المنطقة، وقد ساهمت السردية الصهيونية في تأجيج الصورة السوداء للجمهورية الإيرانية منذ أن تم تغيير قواعد "الاشتباك الحضاري" مع الغرب.
فعقب سقوط الشيوعية، سارعت النيوليبرالية لفتح جبهة صراع جديدة ضد ما اعتُبر خطر الإسلام السياسي الذي يعارض التوجه الإمبريالي؛ وتشكلت مع تلك العقدة مجمل الخصائص التي يمكن من خلالها بلورة أيّ عمل تحريري تقوده قوى التغيير في المنطقة، إذ مع انطلاقة موجات الانتفاضة العربية تسارعت وتيرة التصنيف العنيف للثورة التي ترسم الملامح المخيفة للتغيير، وبدل إسقاط أنظمة الوكالة الغربية، أطاح العنف بالثورة السلمية.
تدخلت إيران في المنطقة مثلما غرقت قوى أخرى في الفوضى لحماية نفوذها ومصالحها؛ إذ سارعت كابينات التطبيع إلى شيطنة المقاومة بذريعة تحالفها مع إيران، ضمن خطة يتم بموجبها تحييد السردية المناهضة لأيّ مشروع استيطاني استعماري.
وعلى اختلاف الرؤى تجاه إيران ومواقفها المتناقضة في المنطقة، عملت أميركا على تأخير برنامج إيران النووي، تارة بالمفاوضات والحصار المفروض على هياكلها ومؤسساتها، وتارة أخرى بإعلان إسرائيل موقفها من ضرب المنشآت الإيرانية النووية.
ارتبطت رؤية العالم للجمهورية الإيرانية بثلاث سرديات مهمة، ومحدِّدة لطبيعة العلاقات الدولية تجاهها، يمكن أن تلخص المتلازمة المربكة لفهم إيران في توجهاتها العدائية والتوافقية معًا:
- فكون الجمهورية "نظامًا ثيوقراطيًا" يسعى بكل قوّة للحصول على برنامج نووي "سلمي" وفق تصريحات ساسته، يبعث القلاقل العسكرية والأمنية للإمبراطورية وذراعها الإسرائيلية، الأمر الذي فتح نوافذ الدعاية الصهيونية ضد إيران، واستغلالها عسكريًا لتبرير ضرب منشآت ومناطق مدنية في طهران.
العالم شهد غطرسة الاحتلال في غزة، وخروقاته المتواصلة في المنطقة، وهو عاجز عن إيقاف مغامرات نتنياهو وحكومته المتطرفة
لكن قرار نتنياهو المتهور بإعلان الحرب على إيران، لن يجر منطقة الشرق الأوسط وحدها نحو الكارثة، بل سيعطل الاقتصاد وتتجمد الملاحة الدولية، في حال أعلنت الجمهورية غلق المضائق.
- من جانب آخر، تُعتبر إيران الداعم الأساسي لمحور المقاومة، ما يجعلها هدفًا مشروعًا للإمبريالية الغربية ووحشية الإمبراطورية. ولكون المقاومة آخر معاقل التحرير ضد الاستعمارية الغربية في نسختها الثيوليبرالية، تتعرض للحصار المطبق سياسيًا واقتصاديًا وحتى ثقافيًا، ولذلك فإنّها اتخذت الطريق نحو طهران ملاذًا آمنًا لإمداداتها العسكرية.
واليوم، ومع استهداف الصهيونية للقيادات العامة للجمهورية، تجد إيران نفسها أمام مأزق إستراتيجي يحتم عليها أحد الأمرَّيْن؛ فإما أن تتخلى عن برنامجها النووي ودعمها للمقاومة مقابل تسويات سياسية ورفع للعقوبات المفروضة عليها، أو أن تستعد لمواجهة حرب مفتوحة مع حكومة نتنياهو المتطرفة، والدافعة للمنطقة نحو حرب شاملة.
والحاصل أنّ الرد الإيراني الأخير، بقصف تل أبيب بمئات الصواريخ، لم يترك لبديل السردية الصهيونية مجالًا للنفخ في أبواق الجبهة الداخلية الإيرانية، إلا الأصوات التي راهنت على انكفاء الجمهورية على نفسها للوصول إلى نقطة اللاعودة عن مشروعها النووي.
- أما الحلقة الأكثر جدليةً وتعقيدًا في فهم طموحات إيران في المنطقة فيشكلها برنامجها النووي؛ فالمشروع النووي لم يكن مرتبطًا بمدى استجابة الغرب لحاجات طهران للطاقة النووية السلمية، بقدر ما رسم الخطوط الحمراء للإمبراطورية في عدائها للمقاومة.
وإيران، بتاريخها ورهانات جغرافيتها وثرواتها الخصبة، تدرك يقينًا أنّ الردع العسكري مرهون بالتكنولوجيا العسكرية وسلاحٍ فتّاكٍ يحفظ أمنها القومي، وأنّ العالم لن يتحرك لتجريم استخدام القتل الجماعي ضد مدنيين، بل إنّ الغرب دافع بشكل هيستيري عن إسرائيل في حربها ضد الفلسطينيين، غير آبه بآلاف الضحايا من المدنيين والصحافيين.
وبالنظر إلى برنامج إيران النووي، وكونه الهوية الحضارية للجمهورية ومستقبلها، في زمن تخلت فيه الكابينات المتصهينة عن حقها النووي، يقف العالم على رجل واحدة متسائلًا: هل تستطيع إيران تحقيق وعدها الصادق، للخروج من بين فكي الأسد.
تبدو إيران مخنوقة بين فكي الأسد الصاعد إلا أنّها -كما المنطقة بأكملها- على صفيح ساخن تفور حممه على عواقب كارثية وتحديات جيوسياسية، لا يمكن تفاديها ما دام الاحتلال الصهيوني يدفع السلم الدولي نحو الانهيار
الرهانات الجيوسياسية
يأتي اسم إيران على لسان وزير خارجية أميركا لدى إدارة ترامب معنونًا بمحور الشر، قاطعًا الطريق أمام وزير خارجيتها الذي أعلن عدم ضبط النفس في الرد الحاسم على الهجمات البربرية الإسرائيلية ضد الجمهورية.
ومع أنّ المنطقة على قدر رهاناتها الأمنية والاقتصادية التي فرضتها التراكمات التاريخية، والاشتباك الجغرافي الذي ارتهنته لعبة المضائق والقواعد العسكرية، فإنها لا ترغب في فتح جبهات اشتعال أخرى، تجر المنطقة بأكملها إلى حرب لا تخدم سوى الإمبراطورية، وتغرقهم في وحل التلوث النووي المهدد لأمنهم القومي.
قوبلت دعوات التهدئة، التي انتقدت الاحتلال في دفع المنطقة نحو الكارثة، بمساعي إيران في حقها الدفاع عن أمنها القومي تجاه الغطرسة الصهيونية، وما أحدثته الصواريخ الإيرانية من زلزال في الجبهة الداخلية للاحتلال، يثبت أنّ الغرب بإمكانه التخلي عن الشتات اليهودي الذي استجمعه في مستوطنات استعمارية، في سبيل تحييد مشروع إيران النووي.
فإسرائيل -يد الإمبراطورية في منطقة الشرق الأوسط- تعمل تحت المظلة الاستخباراتية الغربية، للدفع بالجبهة الداخلية الإيرانية للانتفاض ضد النظام القائم، والتعويل على ذلك كرسه خطاب نتنياهو ودقة الأهداف المعلنة في إيران، غير أنّ المواجهة الإيرانية الإسرائيلية، تفتقد لأهم وسائل التحييد النفعي في الحروب، وهو التواصل الذي يبرز تورط الشركاء الغربيين في العمليات الحربية الصهيونية ضد إيران.
قد تبدو إيران مخنوقة بين فكي الأسد الصاعد، على اقتباس من توصيف رئيس الوزراء البريطاني السابق تشرشل، إلا أنّها -كما المنطقة بأكملها- على صفيح ساخن تفور حممه على عواقب كارثية وتحديات جيوسياسية، لا يمكن تفاديها ما دام الاحتلال الصهيوني يدفع السلم الدولي نحو الانهيار.
فالعالم شهد غطرسة الاحتلال في غزة، وخروقاته المتواصلة في المنطقة، وهو عاجز عن إيقاف مغامرات نتنياهو وحكومته المتطرفة. وما تعجز الكلمات في التعبير عنه، يحسمه تضامن الأمة المقاوِمة في مقارعة جبروت الآلة العسكرية الصهيونية.