الاثنين، 28 أبريل 2025

قراءة في كتاب: “خارطة الدم”

 قراءة في كتاب: “خارطة الدم” 


كتاب:“خارطة الدم” 

المؤلف: وليد بن عبد الله الهويريني


قراءة  ياسمين الحايك

يكشف الكتاب كيف استخدمت أمريكا وحلفاؤها استراتيجيات معقّدة لإعادة رسم خريطة العالم الإسلامي، وكيف تمّ تنفيذ مشاريع مثل “خارطة حدود الدم” و”الفوضى الخلّاقة” لإضعاف الدول الإسلامية، كما يُبرز دور الإعلام والعقوبات الاقتصادية والمنظمات الدولية في فرض السيطرة الغربية، مؤكدًا أنّ الحلّ يكمن في الوعي والوحدة والتنمية المستقلّة لمواجهة مخطّطات التفكيك والهيمنة، وزيادة عمل الدعاة والمفكّرين في نشر الفكر الإسلامي.

لمحة عن الكتاب:

يتناول الكتاب الجهود الغربية في تقسيم البلاد الإسلامية بما يتوافق مع مصالحها، مستعرضًا مشاريع مثل مشروع سايكس بيكو ومشروع الشرق الأوسط الكبير، كما يناقش دور القوى الإقليمية التي تحرّكت لتحقيق أطماعها القومية في ظلّ هذه المخططات، مؤكّدًا على أهمية الوعي بهذه المشاريع الغربية كخطوة أولى لمواجهتها.

صدر الكتاب عن مركز “تكوين” في عام 2014م، ويحتوي على 216 صفحة.

لمحة عن المؤلف:

وُلد الدكتور وليد بن عبد الله الهويريني في المملكة العربية السعودية، وهو كاتب وباحث متخصّص في الفكر السياسي والاجتماعي، حصل على درجة الدكتوراه في مجال تخصّصه، تتميز كتاباته بالتحليل العميق والرؤية النقدية، معتمدًا على منهجية تجمع بين التاريخ والسياسة لفهم التغيرات في العالم الإسلامي.

من مؤلفاته الأخرى:

» “عصر الإسلاميين الجدد”، يقدّم رؤية لأبعاد المعركة الفكرية والسياسية في حقبة الثورات العربية.

» “تحوّلات الإسلاميين من لهيب سبتمبر إلى ربيع الثورات”، يستعرض فيه التحولات التي شهدتها الحركات الإسلامية بين أحداث 11 سبتمبر والثورات العربية.

بين ثنايا الكتاب:

الفصل الأول- أرض الإسلام من الوحدة إلى التقسيم:

يتناول فيه المؤلف الخلفيةَ التاريخية والاستراتيجية لمخططات تقسيم العالم الإسلامي، مستعرضًا الدوافع والأحداث التي قادت القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة إلى التدخّل في شؤون المنطقة.

أبرز النقاط في هذا الفصل:

1. الجذور التاريخية للمخططات الغربية:

يستعرض هذا الفصل المراحل المختلفة التي مرّت بها المنطقة الإسلامية في ظلّ الاستعمار والهيمنة الغربية بعد سقوط الدولة العثمانية التي تعدّ آخر دولة حفظت بيضة المسلمين، حيث بدأ الاستعمار الغربي عندما احتلت فرنسا الجزائر عام 1830م ثم احتلت بريطانيا مصر عام 1882م.

كما يسلّط الضوء على اتفاقية سايكس بيكو ودورها في تقسيم الشرق الأوسط بين فرنسا وبريطانيا، ويذكر أنّ الحدث العظيم الذي يعتبر إعلانًا مروّعًا لسقوط العالم الإسلامي هو إعلان إلغاء الخلافة العثمانية وإعلان دولة تركيا الحديثة.

وفي منتصف القرن العشرين خرج العالم العربي من الاستعمار العسكري وبرز المشروع القومي الناصري وانضم الشباب لهذا المشروع، لكنّ الإسلاميين كانوا يعيشون محنة القمع والتنكيل الأمني من الحكومات، إضافة لشعورهم بالاغتراب المجتمعي، إلا أنّ هذا المشروع تلقّى طعنة عندما هُزم العرب من دولة الصهاينة في يونيو 1967م ثم مات المشروع بعد غزو العراق للكويت ودخول العالم العربي عصر الهيمنة الأمريكية.

2. الصفقة الخاسرة:

يرى المؤلف أنّ شرارة الصحوة العربية انطلقت عقائديًا وثقافيًا لإيجاد نموذج إسلامي يحاكي النموذج الذي كان في العهد النبوي والراشدين، وهنا قام الغرب بالاتفاق مع النظم العربية الاستبدادية لقمعها بكلّ الوسائل في مقابل دعمها سياسيًا وعسكريًا وأمنيًا، وقد حقّق هذا الاتفاق مصالح آنية للطرفين ولكنّها ليست بعيدة المدى، فقد أدركت الشعوب العربية أنّ الغرب هو العدو الأكبر وهو الداعم للأنظمة العربية القمعية، وهذه النظم من جهة أخرى -وبسبب الدعم الغربي- استكانت لأوضاعها وتنازلت عن قضايا الأمة الكبرى فغرقت البلاد بالفقر والمرض والجريمة.

3. تشكّل النظام الدولي الجديد:

في هذا المبحث يشرح المؤلف كيف أنّ تشكّل هيئة الأم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية كان له دور كبير في ترسيخ الانقسام بين الدول، ومن نتائج إنشاء هيئة الأمم المتحدة: اعتبار الدولة الحديثة بحدودها الجغرافية هي شرط الاعتراف الدولي بأيّ كيان سياسي وقبول عضويته في النظام الدولي. ودول المركز تمتلك أربع أدوات تسيطر فيها على الدول الأطراف وهي:

‌أ- القوة العسكرية “السلاح”:

يرى المؤلف أنّ الدول المركز هي التي تحتكر السلاح تصنيعًا وتسويقًا، منحًا ومنعًا، أمّا دول الأطراف فلا يُسمح أن تكون لها صناعات عسكرية مستقلة، ولذلك فقد دُمّر المفاعل النووي العراقي في الثمانينيات، واغتيل مئات العلماء العراقيين في المجالات العلمية بعد الغزو الأمريكي عام 2003م.

‌ب- الطاقة والموارد:

يذكر المؤلف أنّ دول المركز تحرص على احتكار الطاقة والموارد الطبيعية كالنفط والغاز والقمح ومنابع المياه؛ حتى تسدّ حاجتها أولاً، ولكي تضع يدها على تلك الموارد وتُبقي دول العالم تحت سيطرتها، ولذا تُمنع أيّ دولة أن تستقل بتحقيق الحدّ الأدنى من أمنها الغذائي كزراعة القمح مثلاً.

ج- الشرعية الدولية: “هيئة الأمم المتحدة”، وقد تقدّم الحديث عنها.
د- العولمة (الثقافة والتعليم والإعلام):

يؤكد المؤلف أنّ الإعلام هو أهم أدوات الهيمنة على ثقافة الشعوب وصياغة مفاهيمها واتجاهاتها وأفكارها، حيث إنّ دول المركز تحرص على توظيف الإعلام في كافّة المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، مما يجعل شعوب دول الأطراف شعوبًا مستعمَرة ثقافيًا، وعندها شعور بالهزيمة الحضارية؛ فتنظر للنموذج الغربي بقيمه وثقافته على أنّه النموذج المعياري للحضارة والرقي والتقدّم.

4. فخّ التراجع الأمريكي:

في هذه الفقرة يناقش المؤلف فكرة أنّ التراجع الأمريكي في المنطقة الإسلامية قد يبدو ظاهريًا وكأنّه هزيمة أو انسحاب، لكنه في الحقيقة قد يكون جزءًا من استراتيجية أعمق، تقوم على إعادة التموضع واستخدام أدوات غير مباشرة للحفاظ على النفوذ.

أبرز الأفكار في هذا المبحث:

أ. الانسحاب كخدعة استراتيجية:

يشير المؤلف إلى أنّ الولايات المتحدة لا تنسحب من مناطق الصراع دون تحقيق أهدافها، بل تعيد تموضعها بطرق جديدة. مثال ذلك: الانسحاب الأمريكي من العراق لم يكن تخلّيًا عن النفوذ، بل تمّ استبدال أدوات أخرى بالاحتلال المباشر مثل دعم الميليشيات المحلية والتدخل غير المباشر.

ب. استخدام الوكلاء بدلاً من التدخل المباشر:

فبعدما أصبحت الحروب المباشرة مكلفة وغير شعبية داخل الولايات المتحدة، بدأ الاعتماد على الحلفاء الإقليميين والجماعات المسلحة لتحقيق الأهداف الأمريكية. مثال ذلك: دور بعض الدول في تمويل وتسليح الفصائل المسلحة في سوريا والعراق.

ج. الاقتصاد والحروب غير التقليدية:

لم تعد الحروب تعتمد فقط على الجيوش، بل أصبحت الأدوات الاقتصادية (مثل العقوبات) السياسية والإعلامية تلعب دورًا أكبر، وأمريكا تستخدم العقوبات الاقتصادية لإضعاف الدول المستهدفة، كما فعلت مع إيران وسوريا وفنزويلا.

د. إيجاد حالة عدم الاستقرار لضمان استمرار النفوذ:

يشير المؤلف إلى أنّ التراجع الأمريكي لا يعني انتهاء التأثير، بل يتم استبداله بسياسات تُبقي الدول في حالة ضعف وانقسام. مثال ذلك: حال أفغانستان بعد انسحاب القوات الأمريكية.

الإعلام هو أهم أدوات الهيمنة على ثقافة الشعوب وصياغة مفاهيمها واتجاهاتها وأفكارها، حيث إنّ دول المركز تحرص على توظيف الإعلام في كافّة المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، مما يجعل شعوب دول الأطراف شعوبًا مستعمَرة ثقافيًا، وعندها شعور بالهزيمة الحضارية؛ فتنظر للنموذج الغربي بقيمه وثقافته على أنّه النموذج المعياري للحضارة والرقي والتقدّم.

5. مركزية الحدث السبتمبري:

تناقش هذه الفقرة كيف أنّ أحداث 11 سبتمبر 2001م لم تكن مجرّد هجوم إرهابي عابر، بل كانت نقطة تحوّل استراتيجية استغلتها الولايات المتحدة لإعادة تشكيل سياساتها تجاه العالم الإسلامي، وإطلاق مشروع جديد للهيمنة تحت ذريعة “الحرب على الإرهاب”.

أبرز الأفكار في هذه الفقرة:

أ. ذريعة للتدخل العسكري:

وفّرت هجمات 11 سبتمبر مبررًا مثاليًا للولايات المتحدة لغزو أفغانستان (2001م) والعراق (2003م) بحجّة محاربة الإرهاب، رغم أنّ الأدلة على تورط العراق لم تكن موجودة.

كما تمّ استغلال الحادثة لشرعنة التدخلات العسكرية في الشرق الأوسط والتوسع في بناء القواعد العسكرية.

ب. فرض سياسات أمنية مشددة عالميًا:

تحولت مكافحة الإرهاب إلى أداة للضغط على الدول الإسلامية، مما أدّى إلى تقويض سيادتها، من خلال فرض سياسات أمنية أمريكية.

كما تمّ تبرير انتهاك حقوق الإنسان (مثل معتقل غوانتانامو، والتعذيب في السجون السرية) بذريعة “حماية الأمن القومي”.

ج. إعادة تشكيل خريطة العالم الإسلامي وفقًا للمصالح الأمريكية:

فقد تمّ إدخال دول المنطقة في دوامة الحروب الأهلية والصراعات الطائفية التي ساعدت على إضعافها.

د. التوظيف الإعلامي والخطاب المعادي للإسلام:

استخدمت الإدارة الأمريكية والإعلام الغربي خطابًا يربط الإسلام بالإرهاب، مما أسهم في إيجاد موجة عداء ضد المسلمين عالميًا، وتمّ استغلال ذلك للضغط على الدول الإسلامية للقيام بإصلاحات سياسية واقتصادية تتماشى مع الرؤية الأمريكية.

الفصل الثاني- مخطط التقسيم من التنظير لأرض الواقع:

يوضّح هذا الفصل كيف أنّ الاستعمار لم ينتهِ بانسحاب الجيوش الأجنبية، بل استمر من خلال سياسات الهيمنة الاقتصادية والثقافية، ويناقش كيف تمّ رسم حدود الدول الإسلامية بطريقة تضمن استمرار النزاعات الداخلية، ويُبرز دور المؤسسات المالية الدولية (كصندوق النقد الدولي) في إضعاف الاقتصادات الإسلامية وإبقاء الدول تحت السيطرة، فما يحدث في الشرق الأوسط ليس مجرّد أحداث عشوائية، بل هو جزء من استراتيجية طويلة المدى تهدف إلى تفتيت الدول الإسلامية وفقًا لمصالح الغرب.

1. مشروع الشرق الأوسط الكبير الجديد:

تناقش هذه الفقرة كيف أنّ “مشروع الشرق الأوسط الكبير” لم يكن مجرّد فكرة إصلاحية كما روّج له، بل هو مخطط استراتيجي لإعادة تشكيل العالم الإسلامي وتفكيكه وفقًا للمصالح الأمريكية والغربية، مستغلاً أدوات سياسية واقتصادية وعسكرية لتحقيق أهداف الهيمنة والتقسيم، مع تحييد الهوية الدينية والثقافية في تعامل الدول العربية مع الصهاينة، وهذا يتطلب ثورة في المفاهيم كما قال بيريز.

أبرز الأفكار في هذه الفقرة:

أ. الهدف الحقيقي للمشروع:

ذوبان المنطقة بهمومها وقضاياها في براح شاسع جغرافيًا، متنوّع ومتفاوت في هويته الثقافية والسياسية والاجتماعية، بحيث تتوه هوية العرب وقضاياهم وسط هذا الخضمّ الهائل الاتساع.

ب. أدوات التنفيذ:

 التدخّل العسكري: تم استخدام القوة العسكرية المباشرة كما حدث في العراق وأفغانستان لإضعاف الدول وخلق فراغات سلطة، وكذلك دعم الجماعات المتطرّفة لإثارة النزاعات الداخلية.

• الفوضى الخلاقة: بدعم الثورات والحركات الاحتجاجية كوسيلة لإسقاط الأنظمة دون تقديم بديل مستقر، مما يؤدي إلى حالة عدم استقرار دائم.

• الاقتصاد كأداة ضغط: بفرض العقوبات الاقتصادية على الدول التي ترفض الانصياع للمخططات الغربية مثل إيران وسوريا.

ج. التقسيم وإعادة رسم الحدود:

يهدف المشروع إلى تقسيم الدول الكبرى إلى كيانات أصغر لضمان عدم وجود قوة إسلامية مركزية قادرة على مواجهة النفوذ الغربي، ومن الأمثلة على ذلك: الخرائط التي تظهر تقسيم العراق إلى ثلاث دول (سنّية، شيعية، كردية)، وسوريا إلى عدة مناطق عرقية وطائفية.

د. دور إسرائيل في المشروع:

يؤكد المؤلف أنّ أحد الأهداف غير المعلنة للمشروع هو تعزيز مكانة إسرائيل عبر إضعاف الدول المحيطة بها، ويتمّ ذلك عبر إيجاد صراعات داخلية تمنع الدول العربية والإسلامية من تشكيل تهديد حقيقي لإسرائيل.

“مشروع الشرق الأوسط الكبير” لم يكن مجرّد فكرة إصلاحية كما تمّ الترويج له، بل هو مخطط استراتيجي لإعادة تشكيل العالم الإسلامي وتفكيكه وفقًا للمصالح الأمريكية والغربية، مستغلاً أدوات سياسية واقتصادية وعسكرية لتحقيق أهداف الهيمنة والتقسيم، مع تحييد الهوية الدينية والثقافية في تعامل الدول العربية مع الصهاينة، وهذا يتطلب ثورة في المفاهيم كما قال بيريز.

2. خارطة حدود الدم:

يقدم هذا المبحث تحليلاً لمفهوم “حدود الدم”، الذي يعدّ من أخطر المشاريع التي طُرحت لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، حيث يستند إلى تقسيم الدول الإسلامية إلى كيانات أصغر على أسس طائفية وعرقية؛ مما يؤدي إلى نزاعات مستمرة تُضعف أي إمكانية لنهوض العالم الإسلامي، وتضمن بقاء المنطقة ضعيفة وممزقة، مما يسهل السيطرة عليها واستغلال مواردها.

أبرز الأفكار في هذا المبحث:

أ. مفهوم “حدود الدم” وأصله:

يشير المؤلف إلى أنّ مصطلح “حدود الدم” يرتبط بمقالة نشرتها مجلة القوات المسلحة الأمريكية عام 2006م للكاتب “رالف بيترز”، حيث عرض فيها خريطة جديدة للشرق الأوسط تعكس رؤية أمريكية لتقسيم الدول الإسلامية وفقًا للانتماءات الطائفية والإثنية.

تؤكّد هذه الخطة أنّ الحدود الحالية للشرق الأوسط لا تعكس “الواقع الديموغرافي”، لذا يجب إعادة رسمها بشكل يناسب المصالح الغربية.

ب. أهداف المشروع:

• خلق كيانات صغيرة متناحرة لمنع ظهور أيّ قوة إقليمية موحدة.

• استغلال التوترات العرقية والطائفية كأداة لتفكيك الدول، مثل استغلال الخلافات بين السنّة والشيعة، والعرب والأكراد، والمسلمين والمسيحيين.

• تعزيز الأمن الإسرائيلي عبر إضعاف الدول المجاورة لها.

ج. مخطط التقسيم وفق “خارطة حدود الدم”:

• العراق: تقسيمه إلى ثلاث دول (شيعية في الجنوب، سنّية في الوسط، كردية في الشمال).

• سوريا: تفتيتها إلى عدة مناطق على أسس طائفية (دولة علوية، دولة سنّية، دولة كردية).

• السعودية: تقسيمها إلى عدة مناطق، تشمل دولة مستقلة للأقلية الشيعية في الشرق حيث تتركز الموارد النفطية.

• إيران وتركيا: تحجيم نفوذهما عبر دعم الحركات الانفصالية، مثل الأكراد والبلوش.

• السودان وليبيا: استكمال مشاريع التقسيم، كما حدث في انفصال جنوب السودان عام 2011م.

د. الأدوات المستخدمة لتنفيذ المخطط:

• أولاً– تفجير المكونات الداخلية: من خلال تفعيل شعور الأقليات بالتهميش لتثويرها، والهدف الاستراتيجي هو تفتيت الدولة العربية المعاصرة، ويذكر المؤلف أنّه كثيرًا ما يتم توظيف الاقتتال الداخلي نحو فرز المكونات المتنوعة المتداخلة جغرافيًا، وهذا يتجلى في الحالة السورية حيث ساهمت الثورة المسلحة في أن يأوي كل مواطن إلى طائفته مما أحدث تغيرًا في الخريطة الديمغرافية.

• ثانيًا– توظيف الجماعات القتالية الجهادية: فكثير من هذه الجماعات ترى أنّ صناعة الفوضى الأمنية هي المدخلَ المناسب للتغيير في العالم العربي والمشروع الجهادي، كما أنّها تعتقد أنّها قادرة على إقامة إمارة تحكم بالشريعة على أيّ بقعة من الأرض، ومن ثمَّ تقوم هذه الإمارة بإعلان الحرب على النظام الدولي ابتداء بالغرب ومرورًا بإيران والشيعة، وانتهاءً بالنظم العربية.

• ثالثًا– إثارة النزاعات الداخلية: بدعم الحروب الأهلية، كما حدث في العراق وسوريا وليبيا.

• رابعًا– التدخلات العسكرية المباشرة: كما حدث في الغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان.

• خامسًا– الدعاية الإعلامية: بالترويج لفكرة أنّ التقسيم هو الحلّ الوحيد لتحقيق الاستقرار.

كل هذه الأدوات تؤدّي في النهاية إلى: حالة من الفوضى المستمرة فتتحوّل النزاعات الداخلية إلى صراعات طويلة الأمد، وتُفقد الدول القدرة على أن تصبح قوة إقليمية مما يبقي المنطقة تحت السيطرة الغربية، وتتيح للقوى الكبرى (أمريكا وإسرائيل) التحكّم في الموارد الاستراتيجية مثل النفط والممرات البحرية.

مفهوم “حدود الدم” يعدّ من أخطر المشاريع التي طُرحت لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، حيث يستند إلى تقسيم الدول الإسلامية إلى كيانات أصغر على أسس طائفية وعرقية؛ مما يؤدي إلى نزاعات مستمرة تُضعف أي إمكانية لنهوض العالم الإسلامي، وتضمن بقاء المنطقة ضعيفة وممزقة، مما يسهل السيطرة عليها واستغلال مواردها.

3. هل ستقبل الشعوب العربية خيار التقسيم؟

يذكر المؤلف أنّ البعض يستبعد وقوع التقسيم مستندين على تصوّرهم للحالة الظاهرية لواقع الشعوب العربية، ولكنّ المؤلف يرى أن هذا المنطق غير دقيق لأمرين:

الأول: أنّه لا يوجد بلد عربي يخلو من وجود فجوات بين مكوّناته، وبعض المكونات أخذت نصيبًا كبيرًا من الثروة والسلطة في حين حُرمت مكوّنات أخرى من ذلك، وهذه فرصة للدخول في هذا المشروع.

الثاني: أنّه في بداية الأحداث والثورات يرفض الكثيرون التقسيم ويحاولون الحفاظ على الوحدة، على الرغم من دفع ثمن كبير من مال وعرض وأرض، ولكن بعد زيادة هذه الأثمان لدرجة يصعب تحملها قد يصبح التقسيم مطلبًا.

 الفصل الثالث- أهمية الوعي وسبل مقاومة مخطط التقسيم:

يرى المؤلف أنّه من الضروري بناء تصوّر دقيق للواقع قبل اتخاذ أي موقف صحيح، ويذكر أنّ حدث الثورات العربية كان ضخمًا أربك النخب الإسلامية والليبرالية والقومية؛ ممّا أدّى لحدوث اصطدام في الآراء بين هذه النخب، ويذكر أهم الأسباب التي أنتجت هذه الحالة:

1. توصيف الواقع بناء على قراءة سابقة انتهت صلاحيتها:

فتحليل النخب الإسلامية للأحداث ظلّ أسيرًا للموقف الغربي القديم الذي يقوم على دعم النُظم الاستبدادية في مقابل قهر الشعوب وقمع الإسلاميين وتأمين مصالحه في المنطقة، على الرغم من أنّ الغرب بدأ في تغيير مواقفه وإحلال معادلات جديدة لتأمين مصالحه في المنطقة، وهذا التغيير لم يأت فجأة، بل مرّ بخطة خضعت للمراجعة والمتابعة على مرّ سنوات أو عقود.

2. التطرف في التعامل مع نظرية المؤامرة:

من الناس مَن يعتقد أنّ كلّ التحوّلات التي نعيشها يتحكم بها الغرب، وبالتالي فلا أمل في التغيير، بينما يسخر البعض الآخر من هذه النظرية ويرون أنّ الغرب لا علاقة له بما يعانيه المسلمون من تخلف واستبداد.

3. مشاركة الإسلاميين في المسار السياسي:

في حقبة ما -قبل الثورات- لم يكن لدى الإسلاميين تواجد حقيقي في العمل السياسي مما جعل دورهم في التحليل والنقد متخففًا من استحقاقات الصراع السياسي الذي تفرضه حسابات أي حزب يخوض مسار العمل الديمقراطي، كما أنّ لديهم خلافات وإشكالات حقيقية مع بعض مكوّنات الديمقراطية الغربية في مجال التشريع والحريات الليبرالية، بالإضافة إلى التركة السياسية الثقيلة التي تركتها حكومات ما قبل الثورات التي كانت ترتبط بعلاقات استراتيجية مع الغرب والعدو الصهيوني، إضافة إلى محاولتهم الإصلاح المتدرّج من الداخل ومحاولة التصالح مع مؤسسات الدولة العميقة؛ وهذا كله أدى إلى عدم قدرتهم على صياغة خطاب سياسي إعلامي متماسك؛ الأمر الذي تسبب في الثورة المضادة لإسقاطهم.

يرى المؤلف أنّه من الضروري بناء تصوّر دقيق للواقع قبل اتخاذ أي موقف صحيح، ويذكر أنّ حدث الثورات العربية كان ضخمًا أربك النخب الإسلامية والليبرالية والقومية؛ ممّا أدّى لحدوث اصطدام في الآراء بين هذه النخب

دور النظم العربية في مقاومة مخطط التقسيم:

يؤكد المؤلف أنّه عند حدوث أيّ أزمة لأيّ مجتمع فإنّ حجم المسؤولية عن الأزمة يتم توزيع أوزانها بحسب ما تمتلكه كل جهة من سلطة وصلاحيات.

والشعوب هي الضمانة الوحيدة لاستقرار الدول، والمجتمعات العربية تحتاج لخطوات إصلاحية لتقوية جبهتها الداخلية ونسيجها الوطني لتلافي التصدّع في مكوناتها والتهديدات الخارجية التي تطرق أبوابها.

كما أنّ مشاريع الاتحاد كمشروع الاتحاد الكونفدرالي في الخليج سيكون مهمًا جدًا في ظلّ التحدّيات التي تستهدف المنطقة، وسيغلق -لو تحقّق- فجوات مهمّة في أمن دول الخليج.

دور النخب والشعوب في مقاومة مخطط التقسيم:

يشرح المؤلف كيف أنّ الشعوب العربية تعاني من الشعور المفرط بالوعي والتحرر الذي منعهم من تجاوز مرحلة الصدمة التي أعقبتها فرحة غامرة لم تنجح في التعاطي مع حجم التحديات السياسية والفكرية والاجتماعية لحقبة الثورات العربية، ويرى أنّنا نحتاج اليوم أن نقف موقفًا وسطيًا معتدلاً بين رؤية مغرقة في الأحلام ظنّت أنّ الشعوب العربية قلبت صفحة التخلف والاستبداد خلال أشهر قليلة، والرؤية المعاكسة المتشائمة من تداعيات الثورات العربية التي ظنّت أنّه لا شيء تغير في مسيرة هذه الشعوب، ويذكر أنّ زلزال الثورات العربية هو منعطف حادّ جاء كحلقة من التدافع التاريخي بين الحق والباطل، وأنّ حجم التربص الاستعماري الغربي والكيد الصفوي يجعلان من توحّد الأمة حول الأصول العامة مهمًّا للغاية.

تمتين الجبهة الداخلية:

أنتج غياب العدالة الاجتماعية في المجتمعات الإسلامية وجود فجوات اقتصادية واجتماعية بين شرائح المجتمع؛ مما أثّر سلبًا على تماسك البنية المجتمعية، إضافة إلى وجود العنصرية والطائفية والمناطقية فيها، ومما ساعد على خروج هذه المشكلات هو مناخ الثورات العربية وانفتاح المجتمعات على الإعلام، لذلك يرى المؤلف أنّه من الضروري أن يعمل المفكّرون على تصحيح هذه المشاكل، وبناء مجتمع يُعلي من شرط الكفاءة على كل الامتيازات الفئوية التي تفرزها البيئات الفاسدة.

أنتج غياب العدالة الاجتماعية في المجتمعات الإسلامية وجود فجوات اقتصادية واجتماعية بين شرائح المجتمع؛ مما أثّر سلبًا على تماسك البنية المجتمعية

تقويم ثنائية الثائرين:

يشرح المؤلف هذا المصطلح بأنّ تزامن تراكم ملفات الاستبداد مع اندلاع الثورات العربية أوجد ما يسمى ثنائية الثائرين أو استبداد الثائرين، حيث أصبح بعض الثوار الطامحين للإصلاح لا يرضى من المخالفين له بإدانة الظلم فحسب، بل يجب أن توافقه في مسلكه في تغيير هذا الظلم، حتى لو كانوا من العلماء والمفكرين، ويرى المؤلف أنّنا بحاجة ماسّة لتجنّب تشطير جهود دعاة الإصلاح والتغيير، وهذا يحتاج صبرًا وعدلاً من المصلحين بألا يحتكروا سبل التغيير في مشروعهم.

الإعداد الإيماني ومضاعفة الجهد الدعوي:

يرى المؤلف أن المجتمعات العربية لا تزال توجد فيها فراغات في المجالات الفكرية والتربوية والإيمانية، وتحتاج لانصراف ثلّة من الدعاة لبناء المجتمع وتربيته على القيم الإسلامية وتصحيح ممارساته الخاطئة.

مجابهة الخطر الإيراني الصفوي بما يتناسب مع 

ظرفه الزماني والمكاني:

يذكر المؤلف أنّ التعويل الغربي على الورقة الطائفية جعل من المشكلة تتوزع في معظم المجتمعات العربية، فقد نجح النظام الإيراني في زرع تنظيمات حركية داخل الطائفة الشيعية الحركية، وقوتها تختلف من بلد لآخر، ففي لبنان واليمن هناك توظيف للقوة العسكرية، أمّا في البحرين فقد تمّ توظيف المظاهرات السلمية لإسقاط البلد في حضن إيران، وعلى أهل السنّة أن يتعاملوا بحكمة لصدّ هذا الخطر بما يتناسب مع المكان الجغرافي له وأسلحته المستخدمة فيه.

دعم الجهاد الفلسطيني ضدّ الصهاينة:

يرى المؤلف أنّه من تداعيات الثورات العربية انكفاء كل شعب على همومه القطرية وتواري القضية الفلسطينية في سلم اهتمامات الشعوب الإسلامية لمرتبة متأخّرة، في حين أنّ الجهاد الفلسطيني يتميّز بثلاث خصائص هي: قدسية القضية، والإجماع الشعبي على مشروعية هذا الجهاد، وأهمية دولة الاحتلال الاستثنائية للغرب.

يرى المؤلف أن المجتمعات العربية لا تزال توجد فيها فراغات في المجالات الفكرية والتربوية والإيمانية، وتحتاج لانصراف ثلّة من الدعاة لبناء المجتمع وتربيته على القيم الإسلامية وتصحيح ممارساته الخاطئة.

الورقة الأخيرة: أحلامنا الخالدة التي لن تموت:

يذكر المؤلف ثلاث فجوات في منظومة الوعي التي تهدّد جيل الشباب:

الفجوة الأولى- الانقطاع التاريخي:

فالأجيال الحالية ولدت في ظلّ هيمنة الحضارة الغربية على العالم، وهي تتحكّم في مسار حياة الشباب عبر قاطرتين، الأولى: إفرازات الدولة الحديثة المعاصرة التي تصوغ حياة الأجيال اقتصاديًا وثقافيًا وسياسيًا، حيث إنّ معظم الدول الإسلامية بنيت أسسها وفق مفاهيم علمانية؛ مما أوجد تشوهات عميقة في أفكار ومفاهيم قطاعات شعبية غير قليلة. والثانية: الهيمنة الغربية الاستعمارية، فقد تم احتلال شريحة من عقول الشباب العرب الذين باتوا يعانون من الاستعمار الثقافي وهو أصعب من الاستعمار العسكري المباشر، فأصيبت ذاكرتهم بفجوة انقطاع في فهم تاريخ الأمة وهويتها، والقراءة الفاحصة للحظة سقوط الأمة في أسر الحضارة الغربية.

 الفجوة الثانية- التعجل التغييري:

يرى المؤلف أنّ من الأسباب التي أدّت لفشل العديد من التجارب الدعوية والجهادية والسياسة في تحقيق أهدافها هو التعجل التغييري، ومعناه: محاولة الجماعة تحقيق أهداف طموحة لا تمتلك الأدوات الكافية لترجمتها لواقع، ويرى أنّ تفادي فجوة التعجل تبنى على ركيزتين: الأولى: الفهم والاستيعاب العميق القائم على دراسات علمية متخصصة في كافّة المجالات بحجم إمكانات أعداء مشروع الأمة الإسلامية. والثانية: معرفة حجم القدرة على تمدّد المشروع الإسلامي في الفضاءات التي تنشأ عن تدافع القوى المختلفة وحراكها السياسي والجهادي.

الفجوة الثالثة- الغرق المرحلي:

على المصلحين -كما يرى المؤلف- التدرّج في الإصلاح، وخاصة في الميادين الجهادية والسياسية، لكنّ الاستمرار بهذا التدرّج يفضي إلى التعوّد عليه والغرق في تفاصيله وبحث طرق نشره، مما يغرق الإنسان في دائرته فيفقد القدرة على التفكير خارجه، ويتحوّل العمل المرحلي إلى محطّة نهائية، فينجح الخصوم في جرّ المصلحين للتعايش مع الأوضاع الفاسدة، وعلى علماء الأمة ردم هذه الفجوة من خلال نشر المفاهيم الشرعية لدى الجماهير بعيدًا عن مقتضيات الصراع السياسي.

في نهاية الكتاب يبيّن المؤلف أنّه من خلال إسهابه في الحديث عن مخططات الغرب وشواهدها أراد إلقاء الضوء على جانب مغيّب في الإعلام بسبب أجواء الصراع التي عاشتها الشعوب خلال الثورات العربية، ويقول المؤلف: إنّ الغرب يخطط كثيرًا فينجح حينًا ويفشل حينًا، وكم أفشلت الشعوب والنخب مخططات استعمارية أُنفق عليها ملايين الدولارات، فهذه الشعوب تحلم بغدٍ مشرق يزخم بقيم الحرية والعدل تحت ظلال أعظم شريعة عرفتها البشرية جمعاء.

على المصلحين التدرّج في الإصلاح، وخاصة في الميادين الجهادية والسياسية، لكنّ الاستمرار بهذا التدرّج يفضي إلى التعوّد عليه والغرق في تفاصيله وبحث طرق نشره، مما يغرق الإنسان في دائرته فيفقد القدرة على التفكير خارجه، ويتحوّل العمل المرحلي إلى محطّة نهائية، فينجح الخصوم في جرّ المصلحين للتعايش مع الأوضاع الفاسدة، وعلى علماء الأمة ردم هذه الفجوة من خلال نشر المفاهيم الشرعية لدى الجماهير بعيدًا عن مقتضيات الصراع السياسي.


ياسمين الحايك

بكالوريوس إرشاد وتوجيه نفسي، ناشطة وباحثة في قضايا المرأة.


 

قراءة في كتاب ركائز الإيمان بين العقل


قراءة في كتاب ركائز الإيمان بين العقل




أسم الكتاب:  ركائز الإيمان بين العقل
 
اسم الكاتب: الشيخ محمد الغزالي 

وصف الكتاب
نحن نعرف ما فعل الاستعمار الحقود بتراثنا الثقافي والسياسي والاجتماعي. إلا أننا يجب أن نلوم أنفسنا ، لا أن نلقي باللائمة على الآخرين. إن هذا الاستعمار كان نتاجا طبيعيا لابد منه لأمة جهلت نفسها واستثقلت تكاليف اليقظة والسعى !” ” أمة حولت تراثها إلى ثرثرة لفظية وتقاليد بالية ، فما زالت تتخلف عن ركب الحية الرحب حتى سبقتها غيرها بأشواط بعيدة. أننا فعلنا بأنفسنا أكثر مما فعله الاستعمار بنا ، ومن حق الاستعمار أن يقول لنا ” لا تلوموني ولوموا أنفسكم“. هناك إيمان ضرير لا يبصر الحياة، ولا تسحره عجائبها ، ولا تستهويه أسرارها! هناك إيمان جبان قاعد ، قد يفر إلى صومعة ، أو يحيا داخل قوقعة ، فلا يجرؤ على الضرب في الأرض ، ولا يستطيع مغالبة الأنواء.

هذا الإيمان نستطيع أن ننسبه إلى أى مصدر إلا – كتاب الله تعالى– الذي قذف بالمسلمين من كل فج ، ومن ورائهم هذا النداء القوى: ” يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياى فاعبدون” وهذا الكتاب ” ركائز الإيمان .. بين العقل والقلب ” يكشف خزايا الثقافة المتميعة التي تهدي العقل والقلب إلى منابع الثقافة الإسلامية الرفيعة . مسترشدا بكتاب الله تعالى والسنة النبوية المطهرة.. وكيف يحصل الإنسان على حلاوة الإيمان والطريق إليها. ثم ينفض الغبار ويزيح الركام عن البدع التي ألصقت بالتصوف والمتصوفة ويفند “مزاعم الروحية الحديثة” … إلخ .. بأسلوب سهل بعيد عن المصطلحات المعقدة..

عرض لأهم الركائز التى يقوم عليها الإيمان وهل هى تعتمد فى مجملها على معطيات عقلية فقط أم على مشاعر وأحاسيس قلبية فقط. ويحاول فيه محاربة الخرافات التى تختلط بالعقائد الإسلامية وكيفية محاربتها على أهلها.


قراءة كتاب ركائز الإيمان بين العقل والقلب





 

الأحد، 27 أبريل 2025

إنَّها الهزائمُ المكبوتة !

نقطة نظام

 إنَّها الهزائمُ المكبوتة !



قالَ أعرابيٌّ لابنِه وهو يوصيه: اِجعلْ لكَ في كُلِّ بلدٍ بيتاً!

‏فنظرَ الابنُ إلى أبيه بدهشةٍ، وسأله باستغرابٍ: ومن

أين لي كلَّ هذا المال؟!

‏فقالَ له أبوه: إنّما عنيتُ أن تجعلَ في كُلِّ بلدٍ صديقاً!

‏لي في «أربيل» بيتٌ، وصديقٌ «كُرديٌّ» اسمه
«فرهنك» كلُّ ما فيه وسيم، وجهه، وقلبه، وخُلقه، ودينه!

‏شاركتُ مرّةً في مؤتمرٍ للشِّعر في اسطنبول، وجاء
من أربيل ليراني، وتفاجأ عند وصوله أنّ المؤتمركان
في مسرح الجامعة التي درسَ فيها في إسطنبول! وبينما نحن جالِسَيْن مرّةً في «كافيتريا» الجامعة نشربُ القهوة في إحدى فترات استراحة المؤتمر، قال لي: حدثَ معي هنا موقفٌ لا أنساه ما حييتُ! 
كانت الغربة موحشة في بدايتها، أول مرّة أترك أهلي، وحيد لا أعرفُ أحداً هنا، ولا أفهم اللغة التّركية! مضى الشّهرُ الأوّل لي هنا بطلوع الرُّوح، اليوم كالسّنة، ثقيل ولا يمضي! 
لا أنا أشكو لأهلي كي لا أُثقلهم، ولا أنا أُفضفضُ لأرتاح! 
إلى أن وقفتُ يوماً في طابور الطلاب لأشتري، وعندما حان دوري أردتُ أن أطلب من البائع أن يُضيف لي حليباً إلى الشاي، فلم أعرف معنى كلمة حليب! وعلى استعجال من كان ورائي لي، وحثّ البائع عليَّ لأُسرع، انفجرتُ بالبكاء كصبيٍّ صغير! فجعلَ الجميعُ يواسونني بكلماتٍ لا أفهمُ منها شيئاً، وإنما أعرفها من تعاطف ملامح الوجوه!

‏ما حدثَ مع «فرهنك» لم يكن قصة حليبٍ يُضاف إلى الشّاي، ببساطة إنها الهزائم المكبوتة، والدُّموع التي يُمسكها المرء بقوّة كي لا تنفلتَ في المواقف الكبيرة، فإذا بها تنفلتُ لأصغر الأسباب! 
أحياناً ينهارُ الإنسانُ ليس لأنه ضعيف، بل لأنه كان قوياً أكثر مما يجب!

‏تمرُّ بنا لحظاتٌ نستطيعُ فيها أن نحمل جبال الدُّنيا، ثم تمرُّ بنا لحظاتٌ أخرى نعجزُ فيها أن نحملَ حجراً واحداً! 
وتمرُّ بنا لحظاتٌ لا تهُزُّنا فيها عواصف الدُّنيا مهما كانت هوجاء، ثم تمرُّ بنا لحظاتٌ أخرى تطرحُنا فيها نسمة! 
نحن لا ننهارُ مرّةً واحدة ولكنها التّراكمات، والهزائم المكبوتة، والضّربات التي تلقيناها دون أن يُسمعَ لنا أنين!

‏الأشجارُ الضخمة لا تسقطُ من ضربة فأسٍ واحدة، ولكن هناك ضربة أخيرة ستجعلها تسقطُ دفعةً واحدة! هذه الضربة ليست بالضرورة أقوى من سابقاتها، ولكن ما عاد فيها قدرة على الاحتمال! 
وهكذا نحن، لا ننهار عند الضربة الأقوى، نحن ننهار بفعل كل تلك الضربات التي تجلَّدنا ونحن نتلقّاها!

‏إنَّ صُراخاً مجنوناً يصدرُ من أحدنا في لحظةٍ ما، هو في الحقيقة كل تلك الصّرخات التي فات أوان صراخها! 
وإنّ مأتماً نُقيمه عند خذلانٍ صغير، هو في حقيقته كل تلك الجنائز التي حملناها بصمت! 
إنَّ الكأس لا تفيضُ من قطرة، ولكنها عند تلك القطرة كانت ممتلئةً حتى الشَّفة!

‏في الحقيقة لا أعرفُ بما أنصحكم، هل أقول لكم أعطُوا كل حزنٍ، وكل خيبةٍ، وكل جرحٍ حقّه في وقته؟ 
أم أقول لكم: تجلَّدوا واصبرُوا ما استطعتم؟! 
لا أعرفُ طريقةً مُثلى، كل ما أعرفه أن الخيبات المكبوتة أشبه بالدُّمل المملوء قيحاً، سينفجرُ عند أول رأسِ دبُّوسٍ يمسّه!.




غزة الفاضحة للجميع

 غزة الفاضحة للجميع

              

ممدوح الولي


فضح السكوت عن استمرار عمليات التجويع الجماعي والإبادة الجماعية لسكان غزة الجميع، عربا ومسلمين ومجتمعا دوليا، فالجميع يرون عمليات استهداف المنازل جوا وبرا، وتدمير المستشفيات والبنية التحتية، وحتى أماكن توزيع الطعام ومخيمات النازحين والمساجد والمدارس، دون أي تحرك عملي من أي طرف لإدخال الطعام والدواء، رغم إعلان برنامج الغذاء العالمي نفاد الغذاء والدواء وتفشى الأوبئة بسبب تلوث المياه وسوء التغذية.


فضحت غزة كل القيادات العربية التي تدعى نصرة فلسطين، بينما هي تتواطأ مع دولة الاحتلال لاستمرار الحصار والتجويع، وتواصل التبادل التجاري معها والمشاورات الدبلوماسية، دون أن تستخدم تلك العلاقات السياسية في إدخال الماء والغذاء والدواء للجوعى في غزة، وبما ينم عن رضائها عن ذلك الحصار والتجويع والإبادة لتصفية القضية الفلسطينية إرضاء لدولة الاحتلال، ومن ورائها الحكومة الأمريكية والدول الغربية، كي يبقى هؤلاء الحكام على مقاعد السلطة، مع الحرص على مساندة هؤلاء من خلال المؤسسات الدولية الاقتصادية، حيث كشف المسؤول عن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مؤخرا، عن وجود آلية للتنسيق بين الصندوق والبنك الدولي وشركاء إقليميين لمساندة الحكام المنفذين للأجندة الصهيونية من دول الجوار لفلسطين.

فضحت غزة الجميع، سواء الذين يدعمون دولة الاحتلال بشكل مباشر ومتعدد الأشكال عسكريا ودبلوماسيا وتجاريا وسياسيا ولا يعترفون بحقوق الفلسطينيين، أو الذين كانوا يدّعون مساندتهم للقضية الفلسطينية مثل الصين وروسيا

لا فرق في ذلك بين محمود عباس الذي يمارس مهامه القذرة منذ عام 2009 دون استناد إلى أي شرعية، أو غيره من الحكام الذين جاءوا من خلال انقلابات عسكرية أو بالوراثة المحمية من الصهاينة وحُماتها، والذين يمنعون شعوبهم من أية مظاهر عامة للتضامن مع غزة، وفي نفس الوقت يسعون للقضاء على المقاومة ويسعون إلى تخليها عن سلاحها، من خلال التنسيق مع دولة الاحتلال لاستمرار الحصار والتجويع لدفع المقاومة إلى الاستسلام.

وهنا لا فرق بين قيادة عربية أو قيادة إسلامية، فالكل سواء في الصمت والخذلان والتآمر، مع وجود بعض الفوارق من حيث التنديد الشكلي بممارسات دولة الاحتلال للتدليس على شعوبهم وعلى الرأي العام الدولي، حتى أن مواقف قيادات بعض الدول الغربية مثل أيرلندا وإسبانيا وبلجيكا وبوليفيا وكولومبيا تعد أفضل كثيرا من مواقف حكام عرب ومسلمين.

مجلس الأمن مشغول بقضايا أخرى

وهكذا فضحت غزة المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، والتي أصابها الخرس تجاه ما يحدث في غزة من إبادة وتدمير وتعذيب وحشي للمعتقلين الفلسطينيين داخل السجون الإسرائيلية، ونفس الموقف للمنظمات المعنية بحرية الإعلام وهي ترى مقتل عشرات الإعلاميين خلال تغطيتهم للأحداث، بينما كانت تشهر وتندد لمجرد احتجاز صحفي أجنبي لساعة واحدة بمطار إحدى الدول خلال سفره! وكذلك برلمانات الدول الغربية التي تدعي مناصرة قضايا الحريات والأقليات والنساء والطفولة، والتي أصابها العمى مع كبر أعداد الضحايا من الأطفال والنساء.

وبعد أن فشل مجلس الأمن في وقف القتال أكثر من مرة بسبب التواطء الأمريكي والغربي، لم يعد المجلس ينظر في القضية رغم استمرار عمليات الإبادة التي أسفرت عن أكثر من 51 ألف شهيد وأكثر من 117 ألف جريح.

ولم تجرؤ أية جهة على إدانة ممارسات دولة الاحتلال الدموية، وبما ينم عن اتفاق غربي ضمني على تلك الإبادة مثلما حدث مع مسلمي البوسنة، وإتاحة الوقت لقيادات دولة الاحتلال للتنفيذ بعد أن أخفقوا في تحقيق أهدافهم طوال تلك الشهور التسعة عشر الماضية، وها هو رئيس الوزراء الإسرائيلي يسافر إلى أكثر من دولة ويتم استقباله رسميا رغم قرار المحكمة الجنائية الدولية باعتقاله، وها هم المستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى مرات عديدة دون أي موقف عربي أو إسلامي.

الأمل في القطاعات الشعبية الحية

فضحت غزة الجميع، سواء الذين يدعمون دولة الاحتلال بشكل مباشر ومتعدد الأشكال عسكريا ودبلوماسيا وتجاريا وسياسيا ولا يعترفون بحقوق الفلسطينيين، أو الذين كانوا يدّعون مساندتهم للقضية الفلسطينية مثل الصين وروسيا، فالكل صامت تجاه استمرار الحصار والتجويع والقصف والإبادة واستمرار الاستشهاد اليومي للعشرات.

لذا يصبح الأمل في القطاعات الحية داخل الشعوب، والتي لم تتأثر بالإعلام العربي الصهيوني، من أجل مساندة سكان غزة بما يستطيعون من عون بالمال، وتوصيله إلى داخل غزة حتى تستطيع الجمعيات الخيرية شراء الغذاء وتوزيعه على السكان، أو لشراء الدواء بعد أن نفد مخزون العلاج في المستشفيات، والتواصي بالحق والصبر من خلال عدم التأثر بالحملة الإعلامية الضارية التي تلصق كل نقيصة بالمقاومة وتدعوها للتخلي عن سلاحها، وعدم الانشغال بما تتيحه تلك السلطات من أشكال من اللهو والعبث لإلهاء الناس، من خلال المباريات الرياضية والحفلات الفنية وتسهيل الزنا وتعاطي المخدرات، وترك الناس فريسة للغلاء ليصبحوا محاصرين بين الاستبداد السياسي والقمع والفساد والغلاء والبطالة والفقر.

كما يصبح الأمل في استمرار مناصري فلسطين في العواصم الغربية بالقيام بالفعاليات الدورية لتذكير العالم بالقضية الفلسطينية، واستمرار مقاطعة منتجات الشركات الدولية الداعمة لدولة الاحتلال، واستخدام مواقع التواصل الاجتماعي للتذكير بمعاناة سكان غزة، والإدراك بطول أمد الصراع وتعدد مجالاته وتحالف قوى الشر الدولية والمحلية على هدف استبعاد كل ما من شأنه المطالبة بحقوق الفلسطينيين.

وإذا كان سكان غزة يقاومون الحصار، فعلينا كشعوب عربية وإسلامية أن نقاوم الحصار المفروض علينا من السلطات المحلية والتشويه الذي تقوم به وسائل إعلامها وأباطيل مشايخها أو قيادات أحزابها السلطوية، وأن نخصص جانبا من أموالنا لمساندة غزة، وأن نكثف الدعاء لهم وأن نكون على يقين بأن الله ناصرهم رغم كل هذا الدمار والحصار والمعاناة، بعد أن صدقوا مع الله وجاهدوا في سبيله بكل غال ونفيس، وصبروا على دمار بيوتهم ومحو أسر كاملة من السجلات الرسمية بعد استشهاد أفرادها، وهذا الكم الكبير من فقد الأطراف والحواس، والنزوح المتكرر في أنحاء غزة، وتحمل المرض والجوع وآلام الخذلان والتآمر ممن كان من المفترض أن يساندونهم في محنتهم.

x.com/mamdouh_alwaly

عبد الناصر 2025... السي سادات

 عبد الناصر 2025... السي سادات

وائل قنديل

لم يترك عبد الحكيم جمال عبد الناصر الحيرة تستبدّ برؤوس الجماهير طويلاً، فخرج بسرعة ليعلن أنه مصدر تسريب المكالمة بين والده، الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، والعقيد معمّر القذّافي، تلك المكالمة التي أشعلت الجدل منذ يومين، إذ تقدّم نسخةً من جمال عبد الناصر مطابقةً للمواصفات المطلوبة في هذه اللحظة من العام 2025.


خرج ابن عبد الناصر في تصريحات صحافية أمس ليعلن بفخر أنه مصدر التسريب، ولديه المزيد، ثمّ يقول ببراءة الأطفال: "المحادثة ليست تسريبأ... لا أعرف من يستفيد من نشرها، لكن الحقائق تظلّ حقائق. 
عبد الناصر لم يقل إطلاقاً إنه سيرمى إسرائيل فى البحر أو يحرّر فلسطين من النهر للبحر.. سأرفع العديد من المواد الأخرى على قناة Nasser TV على يوتيوب (الشروق)".
حاول ابن عبد الناصر توريط مكتبة الإسكندرية في الموضوع بالقول إن التسجيل مودع مع تسجيلات أخرى عديدة في المكتبة التي سارعت إلى نفي أيّ علاقة لها بنشر المكالمة التي أثارت هذا الجدل، إذ إن مضمون المكالمة الشخصية المنشورة من طريق الابن الأصغر بين والده عبد الناصر والقذافي، التي يقال إنها كانت في أغسطس/ آب 1970، قبل وفاة عبد الناصر بشهر تقريباً، يقدم لنا عبد الناصر مختلفاً عمّا استقرّ في الذاكرة الجمعية، بل يمكن القول إنها نسخة ساداتية، أو حتى سيسية، من عبد الناصر، ملائمة تماماً لمعايير اللحظة الراهنة، إذ تظهره المكالمة ضعيفاً يائساً انهزامياً مسلّماً بالتفوّق المطلق للكيان الصهيوني، ومقرّاً بأن لا طاقة له ولمصر في مواجهته، ولا سبيل (والحال كذلك) سوى الاستسلام لما تريد الولايات المتحدة فرضه من معادلات في الشرق الأوسط.
تظهر المحادثة عبد الناصر وقد ضجّ بعروبته وانكفأ على مصرّيته، يكاد يعلن انسحابه واستقالته من القضية الفلسطينية، إن لم يستجب العرب للمسار الذي تفرضه مبادرة روجرز، أو فليذهبوا هم لمحاربة الكيان الصهيوني، لكنّنا لن نحارب، نحن هنا قاعدون ولن نضحّي بأولادنا ويمكن أن ندفع خمسين مليون دولار لمساعدة من يريد أن يحارب. كما يبدو الرجل غاضباً وساخطاً على الجميع، حكومات عربية وفصائل فلسطينية، وهو الغضب الذي يفسرّه ابنه عبد الحكيم في تصريحاته (أمس) بأن "الدول التى انتقدت جمال عبد الناصر كانت تزايد عليه من دون أن تفعل شيئاً، وتخلّوا عنه، رافعين شعار ضرورة الحرب بلا نهاية حتى آخر جندى مصري".
ينسف هذا المضمون صورة جمال عبد الناصر، ويشعل النار في الرجل وتاريخه وذكراه، بوصفه ذلك الزعيم الذي امتلك قلوب جماهير الأمة العربية، وقال في رثائه نزار قباني "قتلناك يا آخر الأنبياء"، وهنا لا تكون صعوبة في التعرّف إلى المستفيد من اختراع هذه النسخة من عبد الناصر في هذا التوقيت، الذي تتهيأ فيه المنطقة للانتقال من حالة عربية تعادي الاحتلال الصهيوني إلى حالة شرق أوسطية تتعاون فيها معه وتذعن لهيمنته عليها، والسبب، كما يقدّمه عبد الناصر في التسريب، أنه لا قبل لأحد بمحاربة إسرائيل وأميركا، ولا مكان للمقاومة، وعلى الجميع التخلّي عن أسلحتهم والجلوس بين يدي روجرز وكيسنجر وترامب.
المستفيد هنا هو نظام عربي انتهى، أو أوشك على التخلّص من إسلام سياسي معاصر يتّخذ المقاومة سبيلاً لانتزاع الحقوق، واحتفل بمقتل رموز المقاومة كلّها، واحداًَ وراء الآخر، إسماعيل هنية وحسن نصر الله ويحيى السنوار ومحمّد الضيف، وابتهج بعزل حزب الله في لبنان وحصار "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في فلسطين، ولم يعد باقياً من مسبّبات الإزعاج سوى ظلال الرموز القديمة التي رفعت شعارات مثل "لا صلح لا اعتراض لا تفاوض"، و"ما أخذ بالقوة لا يستردّ بغير القوة"، فلنحرق رموز الماضي كما أحرقنا الحاضر المقاوم.
الصدمة من جرأة الابن الأصغر لعبد الناصر على إشعال النار في تاريخ الوالد، دفعت كثيرين إلى الميل إلى فرضية أن مكالمة شخصية بهذه الحساسية والخطورة قد تكون من منتجات تقنيات الذكاء الاصطناعي. وبصرف النظر عن صحّة ذلك من عدمه، فإن هذه النسخة "السيساداتية" المسرّبة من عبد الناصر تصطدم بمعطيات الواقع الحقيقي لتلك الفترة، ولدينا هنا مجموعة حقائق أن عبد الناصر الذي تظهره المكالمة وقد كفر بالعرب والعروبة، وصبّ غضبه على المقاومة الفلسطينية والأردن ودول عربية، وعلى الكفاح المسلّح، هو نفسه عبد الناصر الذي دعا بعد أيام من تاريخ المكالمة المزعومة إلى قمّة عربية طارئة في القاهرة لوقف حمام الدم الفلسطيني في الأردن، والتوصّل إلى مصالحة بين ملك الأردن وقيادات المقاومة، وهي القمّة التي فاضت روح عبد الناصر بعد ختام أعمالها مباشرة.
لدينا كذلك، في السياق نفسه، عديد الشهادات من رجال عبد الناصر وخصومه لم تذكر واحدةٌ منها أن الرجل كان قد تملّكه اليأس والضعف فآثر خيار الاستسلام، بل عكس ذلك هو الصحيح، إذ كان قد استنفر طاقات الدولة والأمّة كلّها، للاستعداد للهجوم على العدو، وهذا موضوعٌ بحاجة إلى تفصيل.
يبقى أنه منذ اليوم الأول لوصول الجنرال عبد الفتّاح السيسي إلى السلطة، لا يترك ابن عبد الناصر الأصغر مناسبةً تمرّ من دون أن يوظّف تاريخ والده لخدمة الجنرال. 
وكما قلتُ مبكّراً في كلّ مرة يفتح خزانة ملابس والده، ويستخرج قطعة يضعها على عبد الفتّاح السيسي، ثمّ يهتف مثل أطفال الحارة "بابا رجع"، من دون أن يدري أنه في اللحظة التي يحاول أن يستر السيسي فيها بقميص والده، فإنه يعرّي تاريخ الأب، وينزله إلى مستوىً لا يرضاه له جمهوره.

شهادة طبيب أمريكي: غزة أصبحت كـ"هيروشيما "والدمار ضرب كل شيء

شهادة طبيب أمريكي: غزة أصبحت كـ"هيروشيما "والدمار ضرب كل شيء


نشرت مجلة "نيويوركر" الأمريكية رسالة مؤثرة لطبيب أمريكي تحدث فيها عن الأوضاع الكارثية في قطاع غزة، والانهيار شبه الكامل للبنية التحتية الطبية، ونقص الموارد الحاد، وآلاف الضحايا الذين يعانون من إصابات مروعة.
وقال طبيب الطوارئ، كلايتون دالتون، الذي عمل في غزة مؤخرا، إن المستشفيات لم تعد ملاذاً آمناً، بل أصبحت هدفاً مباشراً للهجمات. ومع ذلك، يستمر الأمل والإصرار على الحياة بين سكان القطاع.

نص رسالة الطبيب كلايتون دالتون:
ترجمة عرب21 
في التاسع والعشرين من يناير (كانون الثاني)، بعد أسبوعين من توصل إسرائيل وحماس إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، عبرت إلى غزة كجزء من بعثة طبية تتشكل من اثني عشر شخصاً. بعد أن قطعنا جنوب إسرائيل ضمن قافلة تابعة للأمم المتحدة، سرنا على خطى مرافق عسكري إسرائيلي عبر مجموعة من الحواجز الخرسانية. ثم خرجنا من سياراتنا وحملنا حقائبنا المعبأة بالأساسيات، الشاش، المضادات الحيوية، القسطرات، مقصات الطوارئ – وعبرنا بها من خلال باب معدني مضاد للانفجارات.

اجتزنا عبر منطقة حرام محاطة بالأسلاك الشائكة تكثر فيها نبتة الهندباء البرية. وأخيراً صعدنا إلى حافلة ركاب صغيرة زجاجها محطم، وانطلقت بنا نحو خان يونس، وهي مدينة يقطنها عدة مئات الألوف من الناس في جنوب غزة. كان سائقنا يميل بحافلته تارة ذات اليمين وتارة ذات الشمال تجنباً للحفر في الطريق. ما من مبنى مررنا به إلا وناله حظ من التدمير الكامل أو الجزئي.

رأينا عند أحد المنعطفات مئذنة تقف فوق مسجد مدمر. ومع ذلك كانت المدينة تعج بالحياة. رأيت أفراد عائلة يحتسون الشاي داخل بناية بلا سقف. تتدلى الملابس من حبال الغسيل المنصوبة على شرفات البيوت، ونبات الخس ينمو في حديقة أحد المباني المدمرة. ما يقرب من نصف سكان غزة البالغ عددهم مليوني نسمة هم من الأطفال، والأطفال ينتشرون في كل مكان – يضحكون، يلوحون، ويلهون بالطائرات الورقية.

عندما تعاقدت على العمل في غزة، في أواخر عام 2024، كان الجيش الإسرائيلي يشن هجمات برية وجوية شبه يومية. كانت أعداد الجرحى تثقل كاهل نظام الرعاية الصحية في المنطقة، والذي يكاد يلفظ أنفاسه. كنت أتوقع أن ألتحق بمستشفى واحد لأقضي فيه أسبوعين وأنا أساعد في علاجهم. بدلاً من ذلك، عندما وصلت، كانت القوات الإسرائيلية قد انسحبت من أجزاء من غزة، وتوقفت الغارات الجوية إلى حد كبير، وكانت العائلات المشردة قد بدأت بالعودة إلى الأماكن التي نزحت منها. وهذا يعني أن نظرتنا لم تكن محصورة فيما نشاهده داخل مبنى واحد. بل سنحت لي الفرصة لأطلع على صورة كاملة لما كان عليه وضع البنية التحتية الطبية في غزة.

قضينا الليلة في مستشفى ناصر، وهو عبارة عن مبنى بني اللون يتكون من خمسة طوابق في خان يونس. بينما كنا نتجه نحوه، صاح فينا عبر نافذة حافلتنا شخص يقف على قارعة الطريق وقد عرف أننا من فرق المتطوعين العاملين في الإغاثة، قائلاً: "ابقوا معنا. لا تكتفوا بالقدوم والمغادرة. الإنسانية تحصل ههنا". كان مستشفى ناصر هدفاً لهجوم كبير في فبراير (شباط) 2024، عندما قصف الجيش الإسرائيلي المستشفى، وقطع عنه الكهرباء والأكسجين، ثم داهم المبنى.

حينها، أخبر أحد الأطباء محطة السي إن إن إنه أثناء إخضاعه للتفتيش جرد من كل ملابسه، وقال: "إننا محاصرون بالكامل، لا يكاد يوجد لدينا أي طعام أو ماء." وحينها أعلنت وزارة الصحة في غزة أن عشرات المرضى قضوا نحبهم بسبب الهجوم، وحذرت منظمة الصحة العالمية من أن "المزيد من الإخلال بنظام الرعاية الصحية الذي ينقذ حياة المرضى والجرحى سوف يفضي إلى مزيد من الوفيات".

إلا أن الجيش الإسرائيلي حكى رواية مختلفة، فقد قال إنه وجد داخل مستشفى ناصر أسلحة، بالإضافة إلى أدوية كانت مقررة للرهائن الإسرائيليين. وزعم أنه ألقى القبض على المئات من الإرهابيين المشتبه بهم، بما في ذلك بعض الأشخاص الذين ادعى أنهم انتحلوا صفة عاملين في المستشفى أو كانوا ضمن طاقمه الطبي. وجاء في بيان الجيش الإسرائيلي ما يأتي: "لقد تم تنفيذ العملية بشكل يضمن حداً أدنى من الإخلال بالنشاطات التي يقوم بها المستشفى ودون المساس بالمرضى أو بالطاقم الطبي".

وأضاف البيان: "سوف يستمر الجيش الإسرائيلي في القيام بمهامه بموجب القانون الدولي ضد منظمة حماس الإرهابية، والتي تعمل بشكل ممنهج من داخل المستشفيات". تكرر هذا السيناريو المرة تلو الأخرى في كل واحد من مستشفيات غزة الستة والثلاثين، وكان الجيش الإسرائيلي يبرر باستمرار قصف ومداهمة المستشفيات والقيام بما قد يعتبر جرائم حرب من خلال اتهام حماس بارتكاب جرائم حرب: تحويل المراكز الطبية إلى "مراكز إرهاب" والاختفاء خلف البنى التحتية المدنية. إلا أنه لا يحصل أن يقدم المسؤولون الإسرائيليون دليلاً كافياً لوسائل الإعلام الإخبارية وللمنظمات الدولية لإثبات مزاعمهم تلك. في نفس الوقت تنفي حركة حماس أنها تستخدم مرافق الرعاية الصحية لأغراض عسكرية.

تم إلى حد كبير إصلاح مستشفى ناصر، ولكن آثار العنف تشاهد في كل مكان. ففي حقل مجاور توجد بقايا سيارات الإسعاف المحترقة، وعلى شرفة خارج مقر إقامتنا عرض علينا طبيب فلسطيني ثقوباً أحدثتها رصاصات أطلقها قناص قال إنه كان بها يستهدف الطبيب وزملاؤه. وأخبرنا جراح ضمن فريقنا أنه في مهمة سابقة عثر على عظمة إصبع بشري داخل المستشفى، ولأنه لم يعرف ماذا يفعل بها فقد بادر إلى دفنها.

في اليوم التالي، توجه عدد منا إلى مستشفى شهداء الأقصى على بعد عشرة كيلومترات في وسط غزة. في طريقنا نحو الشمال شاهدنا أحياء سكنية كاملة وقد سويت مبانيها بالأرض، وأقيمت على أنقاضها وسط الركام الخرساني مئات الملاجئ غير الرسمية باستخدام الصفائح المعدنية وأبواب السيارات والبسط والأغطية البلاستيكية. كان الناس يبحثون بين الحطام عن ما يمكنهم استخدامه، ومررنا برجل ينظف الشارع باستخدام مكنسة من القش.

مستشفى شهداء الأقصى عبارة عن مجموعة من المباني المشيدة من الطوب الأصفر، تشوهت ملامحها بفعل الشظايا، تقع وسط حي سكني مزدحم. تم إنشاء المستشفى في الأساس للعناية ببضع مئات من المرضى. ثم أجبر ما يقرب من مليون إنسان على النزوح إلى المنطقة تحت وطأة القصف الجوي والاجتياحات البرية من قبل الجيش الإسرائيلي والقتال الكثيف مع المسلحين الفلسطينيين. كان المستشفى يستقبل أحياناً ما يزيد على الألف مريض في اليوم الواحد، وكثيراً ما كانت موارده من الوقود والمستلزمات الطبية تنفد. وتحول مستشفى الأقصى إلى هدف، حيث أصاب القصف الجوي ساحته التي كانت تؤوي آلاف الناس في خيام. قال الجيش الإسرائيلي إن المستشفى كان مقراً لمركز قيادة إرهابي.

كان مرشدنا في مستشفى شهداء الأقصى محمد شاهين، الطبيب المقيم المتخصص في جراحة العظام، وهو شاب ممتلئ الجسم يبلغ من العمر خمسة وثلاثين عاماً. قال مازحاً إن الصراع كان مفيداً لجسمه لأنه خسر بسببه ثلاثين كيلوغراماً. فتح باب سقيفة معدنية غائرة تستخدم جناحاً مؤقتاً للمرضى، وقال: "لقد أنشأنا هذا الجناح في عشرة أيام".

غدت السقيفة الآن مظلمة، توجد في زاوية منها مجموعة من حمالات المرضى الفارغة. قال لي: "نحن الآن نتحول من معالجة الصدمات إلى إعادة البناء." فما لا يحصى عدده من الغزيين بحاجة إلى الرعاية الطبية إما لجروح قديمة أو لحالات طبية لم تحظ بالعلاج. كان لا بد من إخلاء أحياء كاملة من الركام ومن الذخيرة التي لم تنفجر.

في قسم الطوارئ التابع لمستشفى شهداء الأقصى حيز إضاءته خافتة يشتمل على ما يقرب من خمسة عشر سريراً. فوجئت بأن سريراً واحداً منها فقط ينام فيه مريض. بدا لي كما لو أن تخصصي، وهو طب الطوارئ، لم يعد عليه طلب كبير منذ بدء وقف إطلاق النار. ولذلك اقترح مدير مستشفى شهداء الأقصى أنه لربما كان من الأفضل لي بدلاً من أن أحصر نفسي في قسم الطوارئ الذي يسوده الهدوء المخيف أن أقوم بتقييم أوضاع المستشفيات في كافة أنحاء غزة، وقال: "إننا نستحق حياة أفضل من هذه".

عصر ذلك اليوم، في غرفة العمليات، رأيت شاباً تعرضت يده اليسرى للتشويه. بينما كان أحد الجراحين يفرك يديه أخبرني بما حدث: لقد عاد الرجل إلى حطام منزله فانفجرت فيه قنبلة. لم تكن تتوفر لديهم أربطة، فتم ربط أنبوب قسطرة مثانة حول ذراعه لوقف النزيف. ولم تكن توجد لديهم أرواب مستشفيات، فكان يرتدي صدرية صوفية عندما خدره أخصائي التخدير.

في الطبقة العليا كانت توجد وحدة العناية المركزة. كتب أحدهم على بابها، الذي كان مغلقاً، عبارة باللون الأحمر تقول "وحدة العناية المركزة". جاء رجل من الممر وفتح الباب عنوة باستخدام ملعقة.

في الداخل، كان أحد زملائي، واسمه شيراز سليم، وهو شاب ملتح متخصص في العناية المركزة، يعالج صبية تعاني من الحماض الكيتوني السكري، وهي حالة خطيرة يمكن أن تودي بالحياة يصاب بها مرضى السكري بسبب نقص الإنسولين. إلا أن أطباءها كانوا يواجهون مشكلة في رصد مستوى السكر في دمها لأنه لم يكن يوجد لديهم جهاز لقياس السكر، وهو جهاز يباع في الصيدليات الأمريكية بما يقرب من عشرين دولاراً.

في جناح الأطفال، وهي حيز ضيق رسمت على جدرانه صور شخصيات كرتونية، كانت توجد طفلة في التاسعة من عمرها اسمها مريم، وكانت تبكي بصوت منخفض بينما يقوم أحد زملائي الآخرين بالكشف عليها. كان شعرها مجدولاً ومربوطاً بشبرة صفراء اللون. فقدت مريم أحد ذراعيها، الذي بتر بعد إصابتها في غارة جوية. وقد تسببت شظية بإحداث ثقب في جسمها ما بين المثانة والمستقيم. تم حتى الآن إجراء خمس عمليات جراحية لها.

في السرير المجاور لسريرها ينام طفل في الثالثة من عمره، والذي كان بحاجة إلى عملية جراحية بعد إصابته في غارة جوية قتل بسببها شقيقه الذي يبلغ من العمر خمسة أعوام. كان الولد يعاني من تقيح في جرح العملية. قال لي سليم فيما بعد: "لا يشعر المرء بأن ما يراه حقيقي. وكيف لشيء بهذه الفظاعة أن يكون حقيقياً؟".

في المساء، عرض علي طبيب فلسطيني متخصص في المسالك البولية صوراً من على هاتفه لمرضى كان يقوم على علاجهم. رأيت صورة شاب أصيب بعدة طلقات نارية في منطقة أصل الفخذ أطلقها عليه قناص إسرائيلي، وامرأة في الخامسة والثلاثين من العمر أصيبت في فرجها، ورجل تشطر كيس صفنه (الخصيتين). استحال لون وجه الأخصائي إلى الرمادي بينما كانت تنعكس عليه إضاءات الصور المنبعثة من هاتفه. ظل يتصفح ويقلب عائداً إلى الماضي إلى أن دخلت الصور التي التقطتها كاميرا هاتفه فجأة إلى واقع مختلف – صور الملتقيات العائلية، وصور الأطفال وهم يلعبون ويركضون فوق العشب.

في السابع من أكتوبر 2023 قام آلاف المسلحين بقيادة حماس بالعبور إلى إسرائيل حيث نفذوا العديد من الهجمات المعدة بعناية ضد المدنيين، والذين كان كثيرون منهم يحضرون مهرجاناً موسيقياً. حاصر المسلحون الذين كانوا على متن دراجات نارية وشاحنات صغيرة الناس الهاربين وأطلقوا عليهم النار.

وفي كيبوتز مجاور، تنقلوا من بيت إلى بيت، يطلقون النار على بعض السكان ويخطفون بعضهم. قتل في ذلك اليوم ما يقرب من 1200 شخص، بما في ذلك عشرات الأطفال، وأخذ أكثر من 250 شخصاً، تتراوح أعمارهم ما بين تسعة شهور وخمسة وثمانين عاماً رهائن (ومازال يوجد في غزة 59 رهينة، يعتقد بأن 24 منهم ما زالوا على قيد الحياة)...

(هذا بحسب الرواية التي نسجها الإسرائيليون طبعا وصدقها ورددها الغربيون).

أغرق إسرائيل وبقية العالم طوفان من الصور لما آلت إليه الأوضاع بعد الهجوم. بعض الصور كانت لجثث أحرقت ولم يعد ممكناً التعرف على هويات أصحابها. بنهاية ذلك اليوم، لم يعد الزعماء الإسرائيليون يتحدثون فقط عن العدالة وإنما أيضاً عن الانتقام، حيث أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو "إننا سوف ننفذ انتقاماً عظيماً لهذا اليوم الأسود. وكل الأماكن التي تختفي فيها حماس ومنها تعمل – سوف نحيلها إلى مدن من الحطام".

حتى الآن، أسقطت إسرائيل من المتفجرات فوق غزة أكثر مما تم إسقاطه على لندن ودريزدن وهامبورغ مجتمعة في الحرب العالمية الثانية. قتل أكثر من خمسة وخمسين ألف فلسطيني. ولم توفر المستشفيات، بل معظمها بات خارج الخدمة. قبل بضعة أسابيع من رحلتي، أعلنت منظمة الصحة العالمية أن أكثر من ألف من العاملين في قطاع الرعاية الصحية قد قتلوا، وأنها تحققت من تعرض المرافق الطبية في غزة لستمائة وأربعة وخمسين هجوماً. وقال ممثل عن منظمة الصحة العالمية إن قطاع الصحة في القطاع "تم تفكيكه بشكل ممنهج".

وفقط في الشهر الماضي، تم تصوير الجنود الإسرائيليين وهم يفتحون النار على سيارات الإسعاف في جنوب غزة، حيث قتلوا خمسة عشر من عمال الإغاثة. في البداية، زعم متحدث باسم الجيش الإسرائيلي أن العربات كانت "تتقدم بشكل مريب نحو قوات الجيش الإسرائيلي بدون أنوار ولا علامات طوارئ." ولكن ما لبث الجيش الإسرائيلي أن تراجع عن ذلك التصريح وفتح تحقيقاً بعد أن نشرت صحيفة نيويورك تايمز صوراً لأحد عمال الإسعاف بزيه الرسمي إلى جانب عربات إسعاف متوقفة ومعلمة بوضوح، وما تلا ذلك من إطلاق نار من قبل الجيش الإسرائيلي استمر خمس دقائق.

منذ السابع من أكتوبر، غدا إرسال التقارير من داخل غزة محدوداً للغاية. وبحسب لجنة حماية الصحفيين فإن ما لا يقل عن 169 من العاملين في الإعلام داخل إسرائيل والمناطق الفلسطينية المحتلة – أحدهم كان داخل خيمة للإعلاميين أمام مستشفى شهداء الأقصى، في العام الماضي، وآخر بالقرب من مستشفى ناصر، في وقت مبكر من هذا الشهر. حينما كنت هناك، كان مجرد استطاعتي مغادرة المستشفى أمراً يشي بالسريالية.

في إحدى الأمسيات، خرجت أتمشى مع سليم شاهين، طالب الطب الذي يبلغ من العمر اثنين وعشرين عاماً. مررنا بباعة يبيعون أحذية غير متجانسة وبعض المنتجات التي وردت حديثاً. شاهدت رجلاً في مقعد الحلاق الذي راح يقصر له من شعره. سمعنا طلقات نارية تردد صداها عن بعد، قيل لي بأن مصدرها أفراد عصابات. سمعت طيوراً تغرد فنظرت حولي فإذا بي أرى ثلاثة أقفاص معدنية مربوطة بجانب خيمة، في داخل كل واحد منها يوجد عصفور صغير.

ثم أتينا على مدرسة مهجورة كانت قد استخدمت ملجأً. ظهرت مجموعة من الأطفال من عتمة الليل. فنادى علينا أحد الأولاد قائلاً: "كيف الحال؟".. قادنا الأطفال إلى السطح وأشاروا نحو حقل غرست فيه مؤخراً أشجار زيتون – كان ذلك منظراً جميلاً يبعث على الأمل. قبل أن أغادر المدرسة مع سليم، جاء الولد الذي اسمه علي يجري نحونا، ولف ذراعيه حول ذراعينا، وراح يتأرجح بيننا بقدميه المسودتين كما لو كانتا بندولاً. تردد صدى ضحكاته في أنحاء المدرسة.

في صباح اليوم التالي، أخذني طالب الطب إلى محطة إسعاف بجوار مستشفى شهداء الأقصى. ظهرت على كل واحدة من عربات الإسعاف علامات تشير إلى أضرار. أخبرني عامل إسعاف في الستين من عمره أنه بعدما يتعرض مبنى ما للقصف فإن المسيرات عادة ما تحلق فوق المكان، ولذا يخشى المنقذون الاقتراب من المبنى إلى أن تغادر المسيرات. سألت المسعفين ما هو أصعب شيء في عملهم هذا. قال أحدهم إن أصعب شيء هو أن تخرج لإنقاذ ضحايا القصف الجوي فتكتشف أنهم أفراد عائلتك. وقال آخر إنه انتشال جثث الأطفال. توقف قليلاً ثم أضاف: "غريب أن يسمح العالم لهذا الأمر بأن يحدث لنا".

كما أتى بي طالب الطب إلى قسم جراحة العظام. وهناك قال أحد جراحي العظام وهو يشعل سيجارته: "جراح المتفجرات ملوثة. نحاول الحد من الضرر". وقال إنه لا يمكنك إصلاح العظام بالصفائح والبراغي لأن الجرح سوف يتلوث بالجراثيم. بدلاً من ذلك، وعبر عملية تسمى التثبيت الخارجي، يدفع الأطباء بالدبابيس المعدنية عبر الجلد إلى داخل العظم، وتكون هذه الدبابيس مربوطة بسقالة خارج الجسم. ومع ذلك فإن معدل التلوث الناتج يصل إلى ثمانين بالمائة. ونظراً لأن المستشفى ينقصه المحلول الملحي يعمد الأطباء إلى خلط ماء الحنفية بالكلور الذي يستخدم عادة في برك السباحة.

في ذلك اليوم، كان أحد الشباب يخضع لعملية جراحية داخل ما كان ذات مرة حجرة اختبار. قال أحد الجراحين إن مسيرة أطلقت عليه النار فأصابته في فخذه، فشطرت عظم فخذه. نجحت عملية التثبيت الخارجي في جبر الكسر، إلا أن العظم تلوث بالجراثيم بشكل لم يعد ممكناً السيطرة عليه. كش الجراح ذبابة، ثم فتح الجرح لكي يريني نهايات العظم الحادة والمكسورة. كان يخطط لبتر من نوع غير مألوف يسمى انفكاك الورك. لو كتبت للمريض حياة بعد ذلك فإن من غير المحتمل أن يتمكن من المشي.

ما يقرب من ستين ألف شخص أجريت لهم عمليات تثبيت خارجي في غزة، وكثيرون سوف يضطرون للانتظار سنين قبل أن تجرى لهم عملية أخرى. قال جراح العظام: "سوف تكون تلك حياة بائسة بالنسبة لهم". ثم عرض علي صورة لقدم ممزقة لأحد المرضى، كان لابد من بترها. ثم انتقل إلى صورة صاروخ فضي يبرز من الأرض أمام بيته، حفرت على جانبه عبارة CBU-39. بحثت عنها فيما بعد لأكتشف أنه صاروخ أمريكي موجه زنته 250 رطلاً، من صنع شركة بوينغ.

أسوأ حالات الدمار هي تلك التي شهدها شمال غزة، والذي يبدو في بعض الصور مثل هيروشيما بعد أن قصفت بالقنبلة النووية. معظم المستشفيات الاثنين والعشرين في الشمال تعرضت للهجوم المباشر، طبقاً لما أوردته السي إن إن. ظللت أسمع أن الشفاء، المستشفى التعليمي الأساسي في غزة والذي تحول إليه الحالات الصعبة، قد دمر تماماً. في صبيحة اليوم الخامس، خرجت أتمشى برفقة أحمد العسولي، أحد منسقي البعثة الطبية، وسرت في شارع الرشيد، الذي يمتد على ساحل البحر المتوسط. كنا نرجو أن نقوم بزيارة أهم المستشفيات في الشمال، وهو ما لم يكد يتمكن من إنجازه أي من الأجانب منذ السابع من أكتوبر.

لم يسمح الجيش الإسرائيلي لأي صحفيين أجانب بالزيارة بدون مرافقة من قبلهم، وعادة ما يبقى العاملون في المجال الطبي داخل مستشفى واحد، لأسباب تتعلق بالسلامة. كان بإمكاننا أن نرى من على يسارنا أمواجاً متألقة من صيادي السمك العاكفين على تسوية وترميم شباكهم. وعلى يميننا أرض قفر، بينما يتصاعد الدخان الأسود في الأفق البعيد، وترفرف فوق مبنى تعرض للقصف والتدمير راية بيضاء.

بعد أن مشينا لبضع ساعات، تمكن العسولي من إيقاف سيارة، فتسلقنا إلى المقطورة التي كانت تجرها. كان يجلس إلى جواري رجل بادر بفتح علبة بسكويت وقدم لي قطعة منها. على مشارف مدينة غزة، تسلقنا عربة إس يو في مهشمة. رأيت امرأة تلقي بجردل من الفضلات عبر نافذة مفتوحة، ورأيت رجلاً يدخن داخل شقة فقدت أحد جدرانها.

لم يكن سهلاً التعرف على قسم الطوارئ في مستشفى كمال عدوان، شمالي مدينة غزة، كمرفق من مرافق الرعاية الصحية. رافقنا عز، طالب طب نحيف في الثالثة والعشرين من عمره، مموج الشعر، والذي قام بمهمة الترجمة لنا في الشمال. زعم الجيش الإسرائيلي أن مستشفى كمال عدوان كان مركزاً لقيادة عسكرية تابعة لحماس. خلال اقتحام نفذه الجيش الإسرائيلي في ديسمبر التهمت النيران المستشفى ودمرته.

تمكنت من رؤية الأماكن التي تدفق منها الدخان عبر النوافذ المحطمة، مما أحال لون المبنى من الخارج إلى السواد. ارتديت كمامة طبية وتبعت جراحاً اسمه صخر حمد نحو الداخل. كانت الرائحة الكريهة تتخلل المكان، وكانت ألواح الزجاج المحطم تسحقها أقدامنا أثناء السير. استخدمنا هواتفنا الخلوية لإضاءة الطريق أمامنا. أشار عز إلى حجرة خضع فيها لاختبار طبي قياسي أثناء الصراع، لم يعد يوجد بها الآن سوى إطارات أسرة محترقة. قادني حمد إلى الطابق العلوي، إلى أجنحة الولادة، وهذه أيضاً كانت محترقة. وفي وحدة العناية المركزة للأطفال حديثي الولادة، وتلك كانت آخر وحدة من نوعها في شمال غزة، تناثرت الحاضنات المحطمة على الأرض. يذكر أنه بعد اجتياح قواتها لوحدة العناية المركزة، نشرت إسرائيل فيديو لما قالت إنها أسلحة وجدتها في إحدى الحاضنات.

وفي جناح آخر شاهدنا مع حمد ثلاث غرف عمليات محترقة. اخترقت حزمة من ضوء النهار شقاً في السقف. وفي الجانب الآخر من القاعة توجد حجرة غسيل الكلى، وتلك كانت حطاماً كذلك. غادرنا المستشفى عبر ما كان ذات مرة المدخل الرئيسي، وغدا الآن مجرد ثقب في واجهة مسودة ومتهاوية. أمام المستشفى يوجد قبر جماعي كما أخبرني حمد. سألته كم عدد الناس المدفونين هناك، فقال: "هذا ما لا يعلمه منا أحد".

تم تدمير منزل عز في اليوم الثاني من الحرب، فانتقل إلى الإقامة كمتطوع في مستشفى الشفاء – أكبر المرافق الطبية في غزة، بما يحتويه من سبعمائة سرير وخمس وعشرين غرفة عمليات. بعد ذلك قال الجيش الإسرائيلي إن المعلومات الاستخباراتية تشير إلى وجود مركز قيادة لحماس داخل أنفاق تمتد تحت المستشفى. في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، بدأت القوات الإسرائيلية في فرض حصار انتهى إلى مداهمة المستشفى وتعطيله عن العمل. فيما بعد نشرت القوات الإسرائيلية صوراً لأنفاق وأسلحة قالت إنها وجدتها هناك.

أخبرني عز أن الأطباء اضطروا أثناء الهجوم إلى إجراء عمليات شق الصدر لتخفيف الضغط الناجم عن الإصابات الداخلية بدون استخدام مسكنات للألم أو مواد مخدرة، وقال: "كان صراخ المرضى مرتفعاً جداً". لم تكن تتوفر لديهم أجهزة فحص بالتصوير المقطعي ولا يوجد جراحو أعصاب، ولذلك قضى العديد من المرضى الذين كانوا يعانون من إصابات في الرأس نحبهم بعد أن توقفوا عن التنفس. على الرغم مما مر به من تجارب مريرة، مازال عز مصراً على ممارسة مهنة الطب في غزة، ربما بعد أن تتاح له فرصة التدريب في مكان ما في الخارج، وعن ذلك يقول: "هذه هي غايتي".

استقبلنا معتز حرارا، مدير قسم الطوارئ في مستشفى الشفاء، في عيادة خارجية سابقة تقع على مسافة قصيرة من المستشفى الرئيسي. وكان قد جهز العيادة بثمانية وعشرين سريراً وحولها إلى قسم صغير مؤقت للطوارئ. أخبرنا الدكتور حرارا أنه بعد كل غارة جوية، كانت العيادة تستقبل أحياناً ما يتراوح بين ثلاثمائة وأربعمائة مريض.

أما مستشفى الشفاء، أو ما تبقى منه، فقد تم هجره تماماً. ما كان ذات يوم ردهة مستشفى فسيحة وجيدة التهوية، غدا الآن كومة من الحديد الملوى والخرسانة المكسرة. في جانب من المكان تُشاهد تهوية المصعد وجزء من الدرج هوى نحو الطبقة الدنيا، بينما تتدلى من السقف الأجزاء الأخرى المتبقية من الدرج. سرنا بحذر نحو النصف الخلفي من الطابق الأرضي مروراً بأعداد من النقالات وعربات الأجهزة المحترقة، فيما كان يوماً قسم الطوارئ.

كانت غرفة الطوارئ ضخمة، ولكنها خالية إلى حد كبير، وقد اسودت بفعل الحريق. كل ما تبقى من الجدار الخلفي فيها بعض الأعمدة. تمكنت من خلال الفراغات التي بينها من رؤية مقبرة ضخمة خلف المستشفى، حيث أعيد استخدام أجزاء من الركام كشواهد للقبور. عندما سألت الدكتور حرارا عن ما إذا كان بالإمكان إعادة إصلاح أي جزء من المستشفى، هز رأسه بالنفي. وكان مسؤول في العون الطبي للفلسطينيين، وهي جمعية خيرية بريطانية، قد قال إن إعادة بناء المستشفى قد تستغرق أكثر من عشرين سنة.

منذ عام 1950، لم تزل إسرائيل عضواً موقعاً على معاهدات جنيف، والتي تنص على أن المستشفيات المدنية "لا يجوز في أي ظروف من الظروف استهدافها بالهجوم، بل ينبغي أن تظل طوال الوقت محترمة ومحمية". وفي تعديل أدخل عليها في عام 1977، تحرم المعاهدات شن أي هجوم "قد يتوقع منه التسبب في إزهاق أرواح المدنيين أو في إصابتهم بجروح، أو التسبب في الإضرار بالمنشآت المدنية، أو فيما هو مزيج من ذلك، مما قد يعتبر تجاوزاً لما يتوخى تحقيقه من مصلحة عسكرية مباشرة".

منذ السابع من أكتوبر، تعهدت إسرائيل بتجنب البنى التحتية غير العسكرية والأشخاص المدنيين. وقال سفير إسرائيل لدى الاتحاد الأوروبي في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023: "سوف نبذل قصارى جهدنا لتجنب الإضرار بالأبرياء. نحن ملتزمون بالقانون الدولي". يُذكر أن المستشفيات تحتفظ بوضعها الخاص حتى لو قدمت العلاج للمقاتلين الجرحى، ولكن فيما لو استخدمت في "أعمال تضر بالعدو" مثل إخفاء الجنود أو تخزين السلاح – وهو ما يعتبر انتهاكاً للقانون الدولي – فإنها تفقد حماياتها الإنسانية. (ولكن حتى في هذه الحالة، يظل العاملون المدنيون في الكادر الطبي والمرضى متمتعين بالحماية القانونية).

في الخريف الماضي، نشر فريق من الباحثين من جامعة هارفارد تحليلاً للمسافة بين مستشفيات غزة والحفر التي تسببت بها قنابل إم 84 زنة ألفي رطل. بإمكان قنبلة إم 84 تفريغ ما وزنه خمسة أطنان من الردم والتسبب في موجات اهتزازية لديها من القوة ما يكفي لتفجير الرئتين والجيوب. وقال عنها مسؤول سابق في وزارة الدفاع الأمريكية: "إنها تحول مبان كاملة إلى شطائر من البانكيك." ولاحظت الورقة البحثية أنه خلال الأسابيع الستة الأولى من الصراع، كان أربعة وثمانون بالمائة من مستشفيات غزة يقع ضمن مجال التدمير لواحدة على الأقل من مثل هذه الحفر، وأن ربعها كانت تقع ضمن المجال الفتاك.

وقد أخبرني أحد المشاركين في صياغة الورقة البحثية، وهو أخصائي في علاج الأوبئة المكانية وطبيب طوارئ اسمه بيه غريغ غريناف بما يأتي: "لا أجد دليلاً واحداً على أنهم حاولوا حماية المدنيين أو البنى التحتية المدنية". وأضاف: "كيف يمكن للمرء استخدام تلك الأنواع من الأسلحة في مثل هذا الوضع ثم يستمر في الإصرار على أنه يلتزم بالقانون الدولي الإنساني؟"، إلا أن الجيش الإسرائيلي أخبر ذي نيويوركر بأنه "لا يستهدف عن عمد المدنيين غير المشاركين". وقال إنه "يقر بالحمايات الخاصة الممنوحة للفرق الطبية بموجب القانون الدولي الإنساني، وملتزم باتخاذ جميع الإجراءات الضرورية للتخفيف من الضرر الذي قد يلحق بها والحد من تعطيل الخدمات الطبية".

يمكن بوضوح من داخل مستشفى الشفاء رؤية إحدى المقابر التي أقيمت على عجل.

عندما دخلنا عبر بوابة المستشفى العربي الأهلي – وهو الأقرب إلى ما يمكن أن يعتبر المستشفى الذي بقي عاملاً في الشمال – شاهدنا بنايتين حنطيتي اللون وبرجاً يبدو أنه حديث، ركبت على سطحه ألواح طاقة شمسية. كانت معظم نوافذه مسننة بالكسر الزجاجية. تأسس المستشفى الأهلي في عام 1882 على يد مبشرين أنجليكان. توجد عليه لوحة للتذكير بالتحديث والترميم الذي تم فيه على نفقة المنظمة الأمريكية يو إس إيد في عام 2011. كانت العربات التي تجرها البغال تنقل بشكل دوري المرضي وتنزلهم على بابه، كثيرون منهم كانت أذرعهم أو سيقانهم مزودة بمسامير تثبيت تبرز للعيان.

تم تحويل معبداً ملحقاً بالمستشفى إلى جناح طبي رغم ما ناله من أضرار بسبب الشظايا التي أصابته. قادنا عز إلى غرفة طوارئ صغيرة، والتي رغم وقف إطلاق النار كانت تعمل بكامل طاقتها.

لا توجد أجهزة تنفس ولا أجهزة مزيلة للرجفان ولا مضخات وريدية. أحصيت جهازين للكشف عن القلب وثمانية عشر مهوداً. قال عز: "جهازا كشف لنصف مليون إنسان. إنه شيء لا يصدق".

قدمني عز إلى فاضل نعيم، الذي يدير المرفق. كان المستشفى يحتوي على حيز لما يقرب من خمسين مريضاً، ولكنه يقدم بشكل روتيني العناية لعدة مئات من المرضى، ولذلك يضطر البعض منهم إلى النوم في الخارج. كان نعيم هو اختصاصي جراحة العظام الوحيد في المستشفى، ولكنه يستفيد من مساعدة من تسنح الفرصة لتدريبهم على يديه كلما أمكنه ذلك. قال لي فاضل نعيم: "لدي طالب طب في السنة الثالثة يمكنه الآن أن يقوم بمهام جراح العظام".

في وقت مبكر من الصراع، اتصل نعيم بعز ليحكي له أخباراً فظيعة. وصلت والدة عز إلى غرفة الطوارئ في المستشفى الأهلي، فقد تعرض منزل جديه للقصف، ثم بعد وصول عناصر الإسعاف انفجرت قنبلة ثانية في الجوار، كما قال عز. نجت والدته ولكن عشرين من أعضاء العائلة، بما في ذلك والده وشقيقه وجدته وابنة شقيقه وزوجة أخيه قتلوا. أخبرني عز بأن "بعضهم مازالوا مدفونين تحت الركام".

ببساطة، لم تتضرر كثير من المنازل في بيت لاهيا، في الجزء الذي يقع في أقصى الشمال من قطاع غزة، فحسب، بل سويت بها الأرض تماماً. كان المستشفى الإندونيسي، وهو مبنى مكون من أربعة طوابق، واحداً من المباني القليلة التي ظلت على قائمة على أصولها في الجوار، مع أنه هو أيضاً تعرض للقصف كما قيل. تحط العصافير على كومة من الركام ثم تنطلق إلى أخرى. سمعت ما يحتمل أن يكون قنبلة غير منفجرة جرى تفجيرها في مكان ناء. قادنا مروان سلطان، إخصائي القلب ومدير المستشفى، عبر الممرات المعتمة، ومريوله الطبي منتفخ من ورائه.

لم يبق شغالاً سوى غرفة الطوارئ، حيث أجرى الأطباء عملية جراحية في الأعصاب في كرسي عيادة أسنان، وأجروا عمليات بتر على الأرض، كما يقول سلطان. في الخارج، أشار إلى حطام العديد من المولدات وحطام محطة أكسجين، قائلاً: "لقد حطمت القوات الإسرائيلية رئتي المستشفى". رأيت ثغرة في جانب المبنى، قال لي إن دبابة اخترقت الجدار هي التي فتحتها. توجد في ساحة المستشفى شواهد قبور صنعت من بلاطات كانت تشكل جزءاً من السقف. قال ناطق باسم الجيش الإسرائيلي إنه تم العثور على أسلحة وأنفاق في المكان.

قادني سلطان إلى الطابق العلوي، إلى غرفة العناية المركزة، حيث تعصف الرياح بالنوافذ المحطمة. أراد أن يعرض علي شيئاً اكتشفه بنفسه بعد أن غادرت القوات الإسرائيلية المستشفى. أشار إلى جهاز كشف القلب بالقرب من إحدى الجدران. بدا كما لو أن شاشة الجهاز تم اختراقها برصاصة. إلى جواره توجد آلة تخطيط كهرباء القلب وقد حطمت شاشتها.

دخلنا غرفة خزين ضخمة في زاوية من زوايا وحدة العناية المركزة، وكانت مزدحمة بالأجهزة الطبية: آلات الموجات فوق الصوتية، مضخات وريدية، آلات غسيل الكلى، أجهزة قياس ضغط الدم. كانت كل منها مدمرة بفعل إطلاق الرصاص عليها – ليس بالنمط الذي يتوقعه المرء في حالة إطلاق النار العشوائي، وإنما بشكل منهجي. صدمني ذلك. لم أتمكن من إيجاد أي تبرير عسكري ممكن لتدمير المعدات التي تستخدم لإنقاذ الحياة. عندما سألت الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، قال الناطق: "إن المزاعم بأن الجيش الإسرائيلي يتعمد استهداف المعدات الطبية باطلة وعارية تماماً عن الصحة".

في نهاية المطاف استمر وقف إطلاق النار في غزة لشهرين فقط. في شهر فبراير (شباط) طرت عائدة إلى الولايات المتحدة. وفي الثاني من مارس (آذار)، منعت إسرائيل المساعدات الإنسانية، بما في ذلك المستلزمات الطبية، من الدخول إلى غزة سعياً منها للضغط على حماس حتى تقبل بإعادة النظر في شروط وقف إطلاق النار. وفي مساء الثامن عشر من مارس (آذار)، استأنفت إسرائيل حملة القصف والتفجير.

بحلول الصباح كان أكثر من أربعمائة شخص قد قتلوا، بحسب ما أعلنت عنه وزارة الصحة في غزة. سرعان ما اكتظت مستشفيات الشمال بالمرضى، ولكن لم يكن يتوفر لديها سوى النزر اليسير من لوازم علاجهم، كما أخبرني عز في رسالة نصية بعث بها إلي، حيث كتب يقول: "في كل يوم نواجه خيارات مستحيلة". وفي الأسبوع الأخير حذر الجيش الإسرائيلي الطاقم الطبي في مستشفى الأهلي بوجوب إخلاء المرضى. ثم بعد عشرين دقيقة، أخرجت الصواريخ قسم الطوارئ من الخدمة ودمرت معملاً للوراثة. قال الجيش الإسرائيلي إن حماس تعمل هناك، إلا أن الجماعة نفت ذلك.

عندما بدأت القنابل تتساقط على خان يونس، كان فيروز سيذوا، طبيب الصدمات الأمريكي الذي زار غزة من قبل، في مستشفى ناصر، نائماً في نفس الحجرة التي مكثت فيها من قبل. كنت قد تعرفت عليه من خلال مجموعة حوارية بين العاملين في قطاع الرعاية الصحية الذين شاركوا في مهمات طبية مثل تلك التي شاركت فيها. صحا سيذوا من نومه على صوت الانفجار الذي خلع باب الحجرة، فقام مسرعاً وهرول نحو غرفة الطوارئ.

خلال الساعات التي تلت ذلك، جيء بمائتين وواحد وعشرين شخصاً إلى المستشفى، ما لبث اثنان وتسعون منهم أن فارقوا الحياة. راح سيذوا يبحث عن المرضى الذين يحتاجون إلى عمليات مستعجلة. وعن ذلك يقول: "كانت حالة من الفوضى العارمة. كانت الحجرات تغص بالأطفال الذين يموتون على الأرض، ينزفون، يصيحون، ويبكون". بعض المرضى كانوا أحياء، ولكن إمكانيات المستشفى المتواضعة كانت دون القدرة على إنقاذ حياتهم.

شاهد سيذوا العديد من الأطفال الذين أصيبوا بجروح بالغة في الدماغ. لم يكن لدى المستشفى جراح أعصاب، ولذلك لم يكن ثمة الكثير مما يمكن فعله لمساعدتهم. بعد فحصه لفتاة صغيرة، أشار سيذوا على قريب لها بأن يأخذها إلى مكان معين داخل غرفة الطوارئ، حيث يتم إرسال المرضى الذين يحتضرون. يتذكر أنه قال له: "احملها وخذها إلى هناك، وفقط ابق معها".

المريض الآخر الذي عاينه كان فتاة في الخامسة من عمرها، أصيبت بجراح في الصدر والبطن والرأس بفعل الشظايا. غرفة الطوارئ التي كانت فارغة عندما زرتها في يناير كانت مكتظة بالمرضى لدرجة أنه لم يتمكن من دفع الطاولة التي ترقد عليها باتجاه جهاز الفحص بالتصوير المقطعي. فما كان منه إلا أن حملها ونقلها بنفسه. أفادت الصور الملتقطة لها بأنها يمكن أن تنجو رغم ما أصيبت به من جراحات في دماغها، فحملها إلى غرفة العمليات وعالج الجراحات التي كانت في بدنها. (بعد خمسة أيام عادت إلى الكلام من جديد).

ثم مضى ليعالج ثقباً بحجم كرة التنس في ظهر إحدى النساء، ثم ليعالج مريضاً آخر تهتك لديه شريان الأورطي، ثم ليعالج صبياً في الخامسة من عمره كل بدنه مصاب بالشظايا، مما نجم عنه سكتة قلبية. قام أحد زملاء سيذوا بفتح صدر الصبي كما لو كان صدفة محار وغرز ثقوباً في بطيني قلبه. أعاد الزميل تشغيل قلب الصبي من خلال حقنه بالإبنفرين، وقاما معاً بإصلاح التلف الذي أصاب كبد الصبي وغلافه الحاجز، ومصرانه الغليظ، ومعدته، وكليته. ولكن بالرغم من كل ما بذلاه، مات الصبي.

قال سيذوا إن واحداً من أواخر مرضاه في تلك الليلة كان صبياً في السادسة عشرة من عمره اسمه إبراهيم، أصيب بجراحات في أمعائه بسبب شظية. قام سيذوا بخياطة مستقيمه وعمل له فغراً للتصريف – وهو ثقب من الجسم إلى الخارج – للسماح لقناته الهضمية بالتعافي. إبراهيم شعره أسود، وهو نحيل بسبب سوء التغذية. كان يتوقع له أن يتعافى تماماً. بدا أن والد الغلام لا يعرف سوى كلمتين باللغة الإنجليزية – شكراً لكم، وظل يرددها. قال لي سيذوا: "كان ذلك جميلاً منه".

بعد خمسة أيام كان إبراهيم مستعداً للعودة إلى منزله. في عصرية ذلك اليوم كان سيذوا في طريقه إليه ليتأكد من وضعه، فأشار إليه زميل له، فذهب إليه، وبينما هما يتحاوران بشأن أحد المرضى، هز انفجار المستشفى. قام زملاء سيذوا الفلسطينيون بسحبه بعيداً عن النافذة. لقد تعرض المبنى للضرب. قال الجيش الإسرائيلي فيما بعد إن القصف استهدف أحد كبار قيادات حماس السياسية اسمه إسماعيل برهوم. زعم الناطق باسم الجيش أن برهوم كان "داخل المستشفى من أجل القيام بعمل إرهابي".

وصف سيذوا هذا الزعم بأنه هراء وسخيف. كان برهوم من أقارب إبراهيم، كما أخبرني سيذوا، ولذلك كانوا يتلقون العلاج الطبي في نفس الغرفة. وقال: "لقد كان مصاباً وكان هنا بوصفه مريضاً. وأنا أخبرك بذلك كشاهد عيان".

بعد الهجوم هرول سيذوا مسرعاً نحول غرفة الطوارئ. قال لي: "لم نكن نعلم ما إذا كان الإسرائيليون سيهاجمون المستشفى أو سيقصفونه ثانية". في النهاية، سارع عدد من الرجال بالدخول، وحملوا غلاماً ملفوفاً في غطاء سرير، وأتوا به إلى حجرة الصدمات ووضعوه على طاولة المعاينة. عندما كشف سيذوا غطاء السرير أصيب بالصدمة. كان بطن المريض مقطعاً وأمعاؤه تتدلى منه. كان ذلك إبراهيم، وكان قد فارق الحياة.