الأربعاء، 2 أبريل 2025

بيني وبينك.. رُحماك يا ربّ

 بيني وبينك.. رُحماك يا ربّ



كيفَ يُمكن أنْ يكون العيدُ في غزّة؟ يُصلّون على الرّكام، ويسجدون على الحُطام، وينظرون إلى الهَدْم، ويقفون على الرَّدْم، ويرفعون أكفًّا قد رفعتْ أمسِ شهيدًا، ويمسحون على وجوهٍ قد أغاضَ الوجع بهاءَها، وصدورٍ قد ملأتِ الدّماءُ ثيابَها، وقد مرّ على الحرب الّتي سحقتْ كلّ شيءٍ عامٌ ونصف عام، لم يلتقطوا فيها أنفاسَهم، ولا شَبِعوا من خُبزٍ، وأينَ الخُبز؟ ولا ارتَوَوا من ماء، وأين الماء؟ ولا مسحوا دُموع الفَقد، وأينَ الدُّموع؟

في صبيحة العيد يُكفّن الآباء أطفالَهم بدلَ أنْ يُلبِسوهم الثّياب الجديدة، أكانَ بَياضُ الكفنِ قدرًا محتومًا على أهلِ غزّة؟! إنّهم يسيرون بأطفالهم إلى المقابر بدلًا من أنْ يسيروا بهم إلى المُصلَّيات، ويزورون بهم الدّيار المُقفرة بدلًا من البيوت العامرة، ويُودِعونهم في الحُفر والطّوامِي بدل أنْ يرفعوهم على الرّؤوس ويُلاعبونهم ويُلاطِفونهم.

غيرَ أنّ الله يَرى، وهو أرأفُ بهم منّا، وأرحمُ بضعيفهم من أرحمنا، ولا بُدّ أنْ يجبر كَسرَهم، وهذا ظَنُّهم بالله وظَنُّنا، وأنْ يُقيل عثرتهم، وأنْ يرفَع البلاء عنهم، وأنْ يمسحَ على جِراحهم فتعود بلسمًا، وتُزهر من طيبٍ، وتُثمر من رِضًا.

إنّ حالَ أهل غزّة دَرْسٌ، وعِظةٌ وعِبرة، وآيةٌ كُبرَى، يقفُ خطيبهم صبيحة العيد في العراء تُحيطُ به البنايات المُهدّمة من كلّ جهة، ويفترشُ المُصلّون التّراب، ولا يجدون حتّى سِجّادة صغيرة تحول بين جِباههم والرَّغام حينَ يسجدون، وتسمعُ خطيبهم يهتف: رغم الجِراح سنفرح، رغم الشّهداء سنستمرّ، رغم الخُطوب وصُروف الزّمان سنُكبّر، ورَغم أنفِ أعدائِنا سنعيش، إنّنا نُحبّ الحياة لله، الحياة الّتي يكونُ كلّ شيءٍ فيها له، الجِدّ واللّهو، الشُّغل والفراغ، الصِحّة والسَّقَم.

تقتلُ إسرائيل أكثر من مئة شهيدٍ في غزّة كلّ يومٍ منذُ أكثر من عشرة أيّام، بعدَ أنْ كانتْ قد توصّلتْ مع المقاومة إلى اتّفاق تهدئة قبل شهرين ونصف الشّهر، إنّ أهل غزّة يرون أنّ الهروب لا يكون إلاّ إلى الأمام، وأنّه إذا لم يكن من الموت بُدّ كما قال المتنبّي، فلا موتَ إلاّ موتَ الشُّجعان، موتَ الإقبال لا الإدبار.

إنّ شَجاعةَ أهل غَزّة نموذجٌ عزيز، وإنّه يقفُ في الصّفوف الأولى من شجاعة الشّعوب عبر التّاريخ، ولكنّهم إلى ذلك بشر، لهم حاجاتهم وآمالُهم وآلامُهم وتطلُّعاتهم، ولهم غَدُهم الّذي ينتظرونه كما تنتظره الشُّعوب الحُرّة، ولهم شمسُهم الّتي ينتظرون أنْ تُشرِق بعدَ أنْ طال اللّيل وطَمّ وَعَمّ.

فيا ربّ غَزّةَ ارحم أهلَ غَزّةَ، وانظر إليهم بعين عنايتك، فإنّهم والله مكلومون كَلْمًا يسيلُ نزيفُه إلى البحر فيكادُ أنْ يملأه، وإنّهم لا نصير أعزّ منك، ولا ملجأ آمَن من ملجَئِك، ولا ملاذَ أحنّ من ملاذك. فاستجبْ يا مَلِكَ كلّ شيءٍ.

AymanOtoom@

otoom72_poet@yahoo.com

وادي النيل في سياق الأزمة السودانية

 أمواج ناعمة

وادي النيل في سياق الأزمة السودانية

د. ياسر محجوب الحسين 

كاتب سوداني- المملكة المتحدة

العلاقات السودانية - المصرية امتدّت جذورها عبر التاريخ، وهي أواصر تتجاوز حدود السياسة والجغرافيا، فلم تفت التوترات المستمرة بين البلدين في عضد الروابط التاريخية والمصيرية بينهما. 

هذه الخصوصية استمرت رغم اختلافات سياسية وأيديولوجية شديدة بين النظامين في البلدين عبر العقود الماضية. 

حتى في الوقت الذي قاطعت فيه الدول العربية مصر بسبب اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل في 1978، بقيت العلاقة بين البلدين قائمة في عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري، رغم تأييد السودان للموقف العربي آنذاك. وفي عهد الرئيس عمر البشير، ورغم تزايد الشد والجذب بين القاهرة والخرطوم، تحولت العلاقة إلى تعاون شبه استراتيجي، متجاوزة الاختلافات الأيديولوجية العميقة بين النظامين.

ومع تفاقم الأزمة السودانية الراهنة، أصبحت إحدى أخطر التحديات التي تواجه هذه العلاقات. منذ بداية الصراع الداخلي في السودان بين القوات المسلحة السودانية، ومليشيا الدعم السريع في أبريل 2023، فقد عصف الإعصار بالسودان ليتركه في دوامة فوضى أمنية واقتصادية لا قرار لها، مما أدى إلى نزوح أعداد كبيرة من المدنيين إلى مصر ودول الجوار. 

هذه الأزمة خلقت بيئة من عدم الاستقرار السياسي والأمني، وأثرت بشكل مباشر على الحسابات المصرية في المنطقة.

وتشكل الأزمة في السودان تهديدًا للأمن القومي المصري على عدة أصعدة. فالتصعيد المستمر يعزز المخاوف من اتساع نطاق الفوضى الإقليمية التي قد تشمل المناطق الحدودية بين البلدين، كما أن أي تصاعد في العنف قد يضر بالاستقرار في منطقة حوض النيل، التي تُعد من أهم مناطق المصالح الاستراتيجية لمصر، خاصة فيما يتعلق بقضية المياه وسد النهضة الإثيوبي. 

علاوة على ذلك، تتسبب الأزمة في السودان في اضطرابات اجتماعية واقتصادية تؤثر على حركة التجارة والتنقل بين البلدين، وتزيد من ضغوط الأعباء الاقتصادية التي تتحملها مصر بسبب تدهور الاقتصاد السوداني.

وتعلم مصر يقينا أن السودان يمثل حجر الزاوية في معادلة أمنها القومي واستراتيجياتها الإقليمية، وتحاول جاهدة الحفاظ على توازن دقيق في علاقاتها مع الأطراف الإقليمية والدولية. تسعى القاهرة إلى تجنب انزلاق السودان إلى صراعات تؤثر سلبا على استقرار المنطقة بأسرها، ما قد يعقد المشهد الإقليمي ويزيد من تعقيد حسابات مصر في المنطقة. لذا تسعى مصر إلى تعزيز شراكتها الاستراتيجية مع السودان عبر الحوار السياسي المعمّق، والتعاون الاقتصادي، والتكامل الأمني، وتقوية الروابط الشعبية بين الشعبين.

في هذا السياق، تبدو عدة تساؤلات حاضرة بقوة: كيف يمكن لمصر إدارة حساباتها في ظل التحديات الحالية؟ 

ما هي القضايا المشتركة التي تهم البلدين في هذه الأزمة؟ 

كيف تؤثر الأوضاع الراهنة في السودان على المصالح الثنائية بين البلدين؟ 

وما هي التحديات الكبرى التي تواجه العلاقات المصرية السودانية، سواء على المستوى الأمني أو الاقتصادي؟ 

وكيف سيؤثر ذلك على مستقبل العلاقة بين مصر والسودان في المستقبل القريب؟

ينطلق الموقف المصري في دعم استقرار السودان وحمايته من أي تهديدات قد تؤثر على أمنه وسلامته الإقليمية من تأثير ذلك المباشر على إمنها القومي. وتركّزت المحاور الاستراتيجية على عدة نقاط أساسية بالنسبة لمصر؛ 

أولًا، يمثل السودان الرئة التي تتنفس عبرها مصر أمنها واستقرارها، وجسرا يصل حاضرها بمستقبلها. إذ أن استمرارية الصراع في السودان قد يؤدي إلى اضطرابات قد تمتد إلى مصر، بما في ذلك تدفق اللاجئين، والجماعات المسلحة. 

ثانيًا، يعتبر السودان شريكا مهما لمصر في ملف مياه النيل، ولذلك فإن استقرار السودان له تأثير مباشر على إدارة ملف سد النهضة الإثيوبي.

على الصعيد الاقتصادي، يعد السودان سوقا مهمة للصادرات المصرية، وهو يمثل بوابة لزيادة النفوذ الاقتصادي المصري في القارة الأفريقية. ولكن عدم استقرار السودان يشكل تهديدا للاستثمارات المصرية، خاصة في قطاعات الزراعة والصناعة والبنية التحتية، مما يعرقل بالضرورة نمو الاقتصاد المصري في هذه المجالات.

إن تصاعد الصراع في السودان قد يدفع قوى إقليمية ودولية للتدخل لتحقيق مصالحها الخاصة، مما يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي المصري. 

كذلك فإن استقرار السودان يرتبط أيضًا باستقرار منطقة القرن الأفريقي، التي تعد ذات أهمية استراتيجية لمصر فيما يتعلق بالتجارة الدولية وأمن البحر الأحمر. 

أي اضطرابات في السودان قد تمتد إلى دول الجوار، مما يخلق بيئة إقليمية متوترة تؤثر بشكل مباشر على المصالح المصرية في المنطقة.

كذلك فإن دور مصر في الوساطة بين السودانيين يعزز وضعها الإقليمي، والدولي ويؤكد مكانتها كداعم للحلول السلمية. بشكل عام، يظهر أن مصر تدير الموقف بحذر بهدف تعظيم مصالحها الاستراتيجية وتجنب أي أخطار قد تنشأ عن تدهور الوضع في جارتها الجنوبية. 

وهدفت مصر من خلال محاولاتها إلى الحفاظ على مؤسسات الدولة السودانية لاسيما الجيش الوطني، ورفض التدخلات الخارجية في شؤونه. 

ومع ذلك، يرى البعض أن هذه التحركات لم تكن كافية، إذ كبّلتها تقاطعات إقليمية تمحورت بشكل رئيس في الأزمة الاقتصادية في مصر التي تحد من تأثيرها ومرونة فعلها الدبلوماسي. 

ولذا بقيت هذه المحاولات في حدها الأدنى وفي إطار المحافظة على دور ما في السودان عوضا عن الغياب التام.

بعد استقرار الوضع في السودان، سيكون هناك حاجة كبيرة لإعادة بناء البنية التحتية وتعزيز التنمية الاقتصادية. 

يمكن لمصر أن تصبح شريكا رئيسيا في إعادة إعمار السودان وتعزيز بنيته التحتية، خاصة في مجالات الربط الكهربائي والنقل، كما يمكن أن يساهم السودان المستقر في تعزيز مواقف مصر في قضايا إقليمية، خصوصًا في البحر الأحمر.

وإذا ما استمر توتر العلاقات وتفاقم الأزمات يحدث إذا استمر الصراع في السودان أو تصاعد. في هذا الوضع، يمكن أن تتأثر العلاقات سلبا عبر تحديات أمنية مثل انتشار الجماعات المسلحة على الحدود، التوتر بسبب التدخلات الإقليمية، والضغوط الاقتصادية مثل تعطل التبادل التجاري. 

ورغم أن اتفاقية الحريات الأربع (2004) المعطلة من جانب مصر كانت قد حققت نجاحا عمليا في تسهيل التنقل والتعاون، إلا أنها لم تصل إلى طموحات اتفاقية التكامل (1974) التي كانت تهدف لاتحاد أعمق بين البلدين. 

الفارق الجوهري يكمن في طموحات الأولى الواقعية مقارنة بالسقف العالي للأخيرة.

المناصب تُجمِّل!

نقطة نظام

المناصب تُجمِّل!

أدهم شرقاوي


 يقول «محمد كرد علي» في مذكراته:

قال لي رجل اختلطَ بأحد ملوك الشرق، إنه رآه لمَّا ضاع ملكه، أصبحَ كالطفلِ، وضعفَ تفكيره!

فقلتُ له: لقد كان كذلك طيلة عمره، وإنما كان سلطانه يستره!

المناصب تُجمِّلُ أصحابها، وقد يجلس الصَّغير على الكرسيِّ الكبير، فلا ينتبه أحد إلى حقيقة حجمه، لأنَّ للكرسيِّ رهبة تشغلُ الناسَ عن حقيقة الجالسين عليها، ولكن متى ما غادروها انكشفتْ عورة قدراتهم، وبان عوار إمكاناتهم، وبدت ضآلة مضمونهم!

الأقلام دروع حصينة يختبئُ خلفها الناس! 

كثير من كلام الزُّهد لم يكتبه زاهد، وكثير من قصائد العشق نظمها لاهٍ، أغلب منشورات اللصوص هي عن الأمانة، وما أكثر كلام الغادرين عن الوفاء، وكثيراً ما يتذمَّر الذين لهم ألف وجه من ارتداء الناس للأقنعة، فلا تنخدعوا، يحدث أن يكون الناسُ في وادٍ وكلامهم في وادٍ، لم تعرف البشرية وسيلة للتخفي أنجح من الكتابة!

يقولُ الجاحظ: الفرزدق زير نساء، وليس له في هذا بيت شعرٍ واحدٍ، وجرير عفيف، لم يعشق امرأةً قط، ولكنه أغزل الناسِ شعراً!

وأزيدكم أنا من الشِّعر بيتاً، وفي المزمار نغمةً: عندما كان عمر بن أبي ربيعة على فراش الموت أخذ يسأل الله المغفرة!

فقيل له: بعد كل الذي كان منك؟

فأمسكَ إزاره وقال: واللهِ ما فككته على حرام!

اللاعب البطل الذي يُحمل على الأكتاف ويعتلي منصات التتويج، ليس بالضرورة بطلاً في الحياة، ثمة أبطال حملهم الناس بينما كان الذين عاشروهم يتمنون لو داسوهم بالأقدام!

كثيرٌ من الذين يُطلوِّن علينا في مواقع التواصل ويعلموننا كيف نعيش، حياتهم مزرية!

ليس الذي يُعطيه منصبه وقلمه وشهرته انطباعاً جيداً هو بالضرورة إنسان جيد! وليس الذي نحكم عليه بالسوء لظاهر أمره هو بهذا السوء فعلاً!

هناك عصاةٌ كُثر يُحبّون الله ورسوله، ولكن الشيطان غلبهم عن أنفسهم، وبذرة الخير فيهم باقية، أساؤوا بحقِّ أنفسهم ولكنهم ما أساؤوا بحقِّ أحد!

في الشَّام أيام الدولة العثمانية، لاحظ إمام مسجد السوق ضيقه على المصلين، فخطب يوم الجمعة، وحثَّ المصلين التجار على بذل المال فلم يتصدق أحد! وعندما خرج من المسجد غاضباً لقيه جار المسجد، تاجر القماش الثري السَّكير، وسأله عن سبب غضبه، فأخبره، فنادى التاجر على مساعده أن يحضر كيس النقود وكان النقد يومذاك ذهباً، فدفعَ كلفة توسعة المسجد وحده، فأخذَ الشيخ النقود ومضى!

فقال له التاجر: ادعُ اللهَ لي بالهداية!

فقال له الشيخ: أخافُ أن تصير مثلهم!

الحويني نسيج وحده بين الأزهريين والسلفيين 1/3

 

الحويني نسيج وحده بين الأزهريين والسلفيين 1/3

رئيس الهيئة العالمية لأنصار النبيﷺ ، 
وعضو مجلس الأمناء بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


أبو إسحاق الحويني هو حجازي محمد يوسف شريف تكنى بأبي إسحاق محبة في كنية الصحابي سعد بن أبي وقاص خال النبي ﷺ، والحويني نسبة إلى قرية “حوين” في محافظة كفر الشيخ، وسماه والده “حجازي” لأنه ولد في 10 يونيو/حزيران 1956م بعد عودته من الحج.

كان للشيخ الحويني حضوره في الحقل الدعوي والإسلامي، ومع بدايات انطلاق قناة الناس الفضائية أطل الشيخ أبو إسحاق على الناس من خلالها، وأصبح ضيفا أسبوعيا في بيوت المسلمين كل أربعاء من خلال برنامج فضفضة، الذي كان يذاع مدة ساعتين كاملتين، ومن موافقات الخير أني دخلت القناة مع الشيخ الحويني في أول ظهور له، في برنامج يذاع بعد برنامجه، وكان أول لقاء يجمعني به، وإن لم أكن لقيته، فقد بلغني صيته، ثم كانت مرحلة الانتشار الواسع من خلال الفضائيات، ولمست فيه من اللقاء الأول رقة الطبع ولين الحاشية، والتواضع المطبوع سجية دون تكلف، فهو كثير الإنصات، يؤثر الاستماع على عادة الندرة من الكبار، والأصل أن من كان يجلس إليه، إنما حضر ليفيد منه، لكنه كان أحرص على الاستفادة من غيره، على علو منزلته، وبفضل الجوار في قناة الناس، كنت أسعد به كلما حضر لبرنامجه، وذهبت يوما متأخرا فوجدته يقود سيارته بنفسه، وفيها تلامذته الكبار الذين لا يفارقونه، فسلمت عليه وقلت يكفيك أحد الشباب أمر القيادة، فأجاب بأنه حريص على خدمتهم والقيادة بهم، وامتدت بركة الجوار إلى السكن الذي ينزل فيه بالقاهرة قرب مسجد الشيخ الحصري رحمه الله، وبعد ثورة يناير كان يلقي فيه درس الفجر في رمضان، ويأتيه الناس من كل أرجاء القاهرة، حتى كأن المسجد وميدان الحصري في وقت خطبة الجمعة، وزرناه في إحدى الليالي الرمضانية، وطال الحديث معه، وأكرمنا بالسحور كعادته في إكرام من يدخل بيته، ثم انصرفنا لصلاة الفجر وإذا به يعتذر عن حضور الدرس لأنه لم يُحضر له، وطلب مني أن أخلفه فيه، فكان درسا لي جعلت منه مادة الدرس للحضور، في حين أن كل من يعرفون الشيخ الحويني عن قرب، يدركون أن الحلقات والدروس التي كان يسميها خواطر دعوية أو رسائل ونصائح للدعاة، كانت من أمتع وأجمل ما يلقيه، وكنت لا أعرف السبب حتى سألته لماذا لا تجعل لنا حلقة ثابتة عن هذه الخواطر والنصائح؟ فقال لا أفعل ذلك إلا إن ضاق الوقت عن التحضير اللازم، أو شغلت عنه بشاغل، فقلت له إذن نتمنى أن لا تُحضّر في كل مرة.

الهوة بين السلفيين والأزهريين

وهناك درس آخر في هذا الشأن هو أنني لا أعرف من يفعل ذلك من مشايخ التيار السلفي، بل كان يظهر على بعض التلاميذ التبرم والضجر، لأن الهوة بين السلفيين والأزهريين في الأعم الأغلب كبيرة، ويسعى الغلاة من الفريقين إلى تعميقها، حيث يرى أحدهما الآخر دخيلا على الصنعة، ويرى الآخر أنه أحق بها وأهلها، وهذا عين ما تفرد به الشيخ الحويني عن غيره، من خلال قدرته الفائقة على جمع الناس من حوله، ويخص كل واحد بالإقبال عليه، حتى يظن أنه أقرب الناس إليه، ومعلوم أن الشيخ وجه أولاده جميعا للدراسة في الأزهر الشريف، ويظهر من ذلك كيف كانت فكرته ونظرته، بل إن من أوائل من طلب الشيخ الحويني علم الحديث على أيديهم كان الشيخ محمد نجيب المطيعي الرمز الأزهري الكبير، وكان رحمه الله يتحدث عن الأستاذ الأديب محمود شاكر أكثر من حديثه عن أخيه العلامة المحدث أحمد شاكر، ومما سمعته منه أن كتاب أباطيل وأسمار للأستاذ محمود شاكر هو أقرب الكتب إلى سريره، ويضع نسخة منه في كل مكان يطول مكثه به، ولا يطول به العهد عن النظر فيه، ولعل ما كان في الشيخ الحويني من رقة الطبع ولين الجانب، مرده إلى ذائقته الأدبية الرائقة، وحصيلته الشعرية الفائقة، فقد حفظ ديوان أبي تمام في مقتبل عمره، بل بلغ بي الأمر لما رأيت ولعه بالشعر والأدب، أن سألته عن ملحمة شعر العامية التي كتبها الشاعر عبد الرحمن الأبنودي عن “حراجي القط”؟ فقال نعم سمعتها وقرأتها، وهذا في أدبيات السلفيين لو تعلمون عظيم!

حديث الفريق سعد الدين الشاذلي

أذكر أيضا في معرض حديثنا عن الفريق سعد الدين الشاذلي -قائد أركان الجيش المصري في حرب العبور- أني سألته عن شهادته على العصر مع الإعلامي أحمد منصور، فقال سمعتها أكثر من مرة، وقرأتها مكتوبة أيضا، وللشيخ الحويني مقاطع متداولة يتحدث فيها عن الفريق الشاذلي، ويذكر شيئا من مآثره رحمه الله.

كان الشيخ الحويني حريصا على الوقت كما كان حال السلف، ومن مأثوراته أن الله جعل اليوم 24 ساعة حتى تكون القسمة على اثنين، فحظ العلم والتحصيل النصف وما زاد عن 12 ساعة فهو الربح، وكان رحمه الله يقضي أحيانا 15 ساعة بين قراءة وتعليق، وتدقيق وتحقيق، ومع ذلك كان له حظه من مطالعة الأخبار، ومتابعة أخبار المسلمين، حتى يشعرك كأنه تفرغ لهذا الشأن، وكان يذكر لي أسماء برامج لمؤثرين على وسائل التواصل عرفتهم من خلاله، وكان أولاده وخاصته يحاولون حجب بعض الفواجع التي تقع بالمسلمين عنه، حيث بلغ تأثره ببعضها حد المرض والحاجة إلى المستشفى، ومما ذكر أمامي في ذلك أنه كان يعد لحلقات تلفزيونية فيها ذكر الأندلس وما حل بالمسلمين فيها، فلما أكَبّ على التحضير لها، وعاش أحداثها ومآسيها مرض ثلاثة أيام يعاد في منزله.

إن أبا إسحاق الحويني لم يكن مَعْلما في حفظ السنة، ونخل المتون، ومقابلة الأسانيد، وأبواب الجرح والتعديل، والتصحيح والتضعيف وحسب، بل كان مدرسة تربوية وراية دعوية وعالما ربانيا، ذهب بموته علم وفير وانقطع خير كثير، ووقعت بالأوساط العلمية ثُلْمة نسأل الله أن يخلفنا فيها.

فَما كانَ قَيسٌ هُلكُهُ هُلكُ واحِدٍ 

                              وَلَكِنَّهُ بُنيانُ قَومٍ تَهَدَّما.

الضربة الأمريكية المحتملة لإيران!

 الضربة الأمريكية المحتملة لإيران!

في ظل تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول نيته توجيه ضربة عسكرية «قوية» لإيران.. تتزايد التكهنات حول التداعيات الچيوسياسية لهذا السيناريو على الشرق الأوسط.. يأتي هذا التهديد في وقت تُعاني فيه إيران مِن تراجع غير مسبوق في نفوذها الإقليمي.. نتيجة سلسلة مِن الضربات الاستراتيچية التي طالت «محور المقاومة» الذي تقوده.. مقتل قادة بارزين مثل حسن نصر الله أمين عام حزب الله وهاشم صفي الدين.. خليفته في قيادة الحزب.. إلى جانب سقوط نظام المجرم النصيري بشار الأسد في سوريا وتدمير قدرات الحوثيين في اليمن.. يضع هذا التغيير إيران في موقف دفاعي غير معهود.
التطورات الأخيرة تُشير إلى أنَّ إيران تواجه أزمة وجودية تهدد هيكلها السياسي والعسكري.. لقد كان حزب الله في لبنان بمثابة الذراع الأقوى لطهران في المنطقة.. لكن مقتل نصر الله وصفي الدين في غارات إسرائيلية دقيقة أضعف قدراته التنظيمية والعسكرية بشكل كبير..
وفي سوريا أدى سقوط الأسد وعصابة القرامطة النصيرية الباطنية إلى قطع خط الإمداد الرئيسي بين إيران وحزب الله.. مما جعل الأخير معزولًا جغرافيًا..
أما في اليمن.. فقد نجحت الضربات الأمريكية والإسرائيلية في تحجيم قدرات الحوثيين الصاروخية والطائرات المسيرة.. مما قلَّص من قدرة إيران على استهداف المصالح الغربية في البحر الأحمر.. هذه التطورات مجتمعة تضع إيران أمام خيارات محدودة خاصة إذا نفذت الولايات المتحدة تهديدها بضربة عسكرية شاملة.
وفي حال نفذت إدارة ترامب تهديدها فمن المرجح أنْ تستهدف الضربة الأمريكية البنية التحتية العسكرية والنووية لإيران بما في ذلك مراكز القيادة والسيطرة ومواقع الدفاع الجوي والمنشآت النووية الرئيسية مثل «نطنز» و«فوردو».. الهدف الاستراتيچي سيكون تعطيل قدرات إيران العسكرية وإجبارها على التفاوض من موقع ضعف.. ومع ذلك فإنَّ نجاح هذه الضربة يعتمد على عوامل مختلفة منها دقة المعلومات الاستخباراتية وقدرة الولايات المتحدة على تحييد الدفاعات الجوية الإيرانية التي تعتمد جزئيًا على أنظمة روسية مثل إس- 300.
إنَّ سقوط المرشد الأعلى علي خامنئي سواء نتيجة الضربة الأمريكية أو بسبب الاضطرابات الداخلية الناتجة عنها سيفتح الباب أمام تحوّلات جذرية في الإقليم العربي..
ستشهد دول الخليج وخاصة السعودية والإمارات شعورا كبيرًا بالقوة بعد زوال القوة الإيرانية.. وقد يؤدي انهيار النظام الإيراني إلى صعود قوى معارضة داخلية في إيران مثل المنظمات القومية أو الليبرالية مما قد يعيد تشكيل ديناميكيات السلطة في طهران ويقلل من طموحاتها الإقليمية..
وفي العراق ولبنان قد تفقد الفصائل الموالية لإيران مثل الحشد الشعبي وحزب الله دعمها اللوچستي والمالي مما يعزز نفوذ الحكومات المركزية أو القوى السنية والمستقلة.
رغم ضعفها الحالي تمتلك إيران أدوات للرد على ضربة أمريكية لكن فعاليتها ستكون محدودة.. يمكن أن تلجأ طهران إلى استهداف القواعد الأمريكية في الخليج مثل قاعدة العديد في قطر أو قاعدة الظفرة في الإمارات باستخدام صواريخ باليستية أو طائرات مسيرة.. ومع ذلك فإنَّ أنظمة الدفاع الجوي الأمريكية مثل باتريوت وثاد قد تحد مِن تأثير هذه الهجمات.. كما أن أي رد إيراني قد يُستخدم كذريعة لتصعيد أمريكي أكبر مما يضع النظام في موقف أكثر هشاشة.. وفي الداخل قد تواجه إيران تحديات إضافية إذا استغلت المعارضة الشعبية الوضع للتحرك ضد النظام.
السؤال: هو ما إذا كانت إيران قد تتخلى عن برنامجها النووي تحت ضغط ضربة أمريكية مدمرة.. منذ نشوء نظام الولي الفقيه اعتبرت طهران برنامجها النووي ركيزة أمنها القومي وأداة ردع ضد التهديدات الخارجية.. لكن في ظل انهيار نفوذها الإقليمي وتهديد بقاء النظام ذاته قد تجد إيران نفسها مضطرة للتفاوض.. إدارة ترامب المعروفة بسياسة «الضغط الأقصى» قد تشترط تفكيك البرنامج النووي مقابل تخفيف العقوبات أو ضمانات أمنية.. ومع ذلك فإنَّ أي تنازل سيعتمد على حسابات النظام الداخلية خاصة موقف الحرس الثوري الذي يرى في السلاح النووي رمزاً للصمود.
ولننظر الآن في مواقف الدول التي تصنيفها أمريكا «مارقة»: روسيا والصين وكوريا الشمالية..
- ستعارض روسيا أي ضربة أمريكية بشدة لأن إيران تُعد شريكًا استراتيچيًا في مواجهة الهيمنة الأمريكية.. قد تقدم موسكو دعمًا دبلوماسيًا في مجلس الأمن.. وربما تزوِّد إيران بأسلحة دفاعية متقدمة.. مثل إس- 400 لكنها ستتجنب التدخل العسكري المباشر خوفًا مِن مواجهة مع الولايات المتحدة..
- تركز الصين على حماية مصالحها الاقتصادية خاصة استثماراتها في قطاع الطاقة الإيراني.. قد تدعم طهران دبلوماسيًا لكنها ستتردد في الانخراط عسكريًا مفضلة الحفاظ على توازن علاقاتها مع الغرب والخليج.
- قد تقدم بيونج يانج دعمًا رمزيًا مثل تبادل الخبرات في مجال الصواريخ لكن تأثيرها سيكون محدودًا بسبب عزلتها الدولية وقدراتها الاقتصادية الضعيفة.
يمكننا القول إنَّ الضربة الأمريكية المحتملة لإيران قد تكون نقطة تحول في الشرق الأوسط حيث ستعيد تشكيل موازين.. وسقوط خامنئي قد يُسرع من انهيار النظام الثيوقراطي.. لكن ذلك قد يتبعه فوضى داخلية تهدد الاستقرار الإقليمي.. وإيران قد ترد بضربات محدودة لكنها ستكون حذرة من التصعيد الذي قد يطيح بها نهائيًا أما روسيا والصين وكوريا الشمالية.. فستقتصر مواقفها على الدعم السياسي والتقني دون مواجهة مباشرة.
في 2 إبريل 2025م

هذا دورنا الذي يجب أن نفعله لمن حُرموا فرحة العيد

هذا دورنا الذي يجب أن نفعله لمن حُرموا فرحة العيد

كاتب وصحفي تركي

كانت أعياد جيلنا في الطفولة جميلة للغاية. 

ربما تسترجعون أنتم أيضًا ذكرياتكم قائلين: "أين تلك الفرحة؟"، وتشعرون بالحنين إلى تلك الأيام. قد يكون السبب أننا كنا ننظر إلى الأشياء بإيجابية في طفولتنا، ونفرح بأقل الأمور، ولهذا كانت تلك الأيام تبدو أجمل.


لكن مع تقدّمنا في العمر، بدأ طعم الأعياد يتلاشى؛ بسبب الحروب الكبرى، والاضطرابات، والمآسي التي تعصف ببلداننا، والعالم الإسلامي، ودول الجوار والعالم بأسره. ففي سوريا وحدها، على مدار أربعة عشر عامًا من الحرب الأهلية، قُتل الآلاف وهُجّر الملايين، وتحوَّلت الأعياد إلى كوابيس.


أما الفلسطينيون، فقد عانوا من القمع لعقود طويلة، حتى إن أحدًا لم يعد يحصي عدد الأعياد التي مرت عليهم وهم تحت الاحتلال والاضطهاد. كم من جيل أمضى العيد في المنفى، أو تحت القصف، أو بين جدران السجون! المجازر الأخيرة حصدت وحدها أرواح خمسين ألفًا، لم تتح لهم الفرصة ليفرحوا بالعيد.


هذا ليس سوى مثال واحد من عشرات الأمثلة.. ففي عشرات الدول، رحل آلاف الناس عن هذه الدنيا قبل أن يحظوا بفرحة العيد.


أتصدقون أن هذا المقال يتحدث عن العيد! كان يجدر بي أن أكتب شيئًا مفعمًا بالأمل والفرح والسعادة للشباب، لكنني أجد نفسي مرة أخرى أكتب عن الأحزان في يوم العيد.


يتردد بين أبناء جيلي في تركيا مؤخرًا سؤال واحد: "في أي زمن نعيش؟"

إنه زمن مليء بالأزمات والصراعات والمآسي، حتى إننا لا نتوقف عن طرح هذا السؤال على أنفسنا. خلال السنوات الخمس الماضية، شهدنا كل أنواع المصائب، من الكوارث الطبيعية إلى الحروب الكبرى، ومن الأوبئة إلى موجات الهجرة الجماعية، ومن الأزمات الاقتصادية إلى الصراعات السياسية.

لقد استُنزفت فرحتنا بالحياة..

لكننا لم نفقد الأمل في الله، ولم يعد لدينا ملجأ سوى التضرع إليه. هو الباب الوحيد المفتوح أمامنا، فلنلجأ إليه قائلين: "اللهم كن لنا عونًا".

كثيرًا ما نشعر بالعجز، وربما في لحظات العجز هذه تحديدًا يكون اللجوء إلى الله والابتهال إليه هو الحل الوحيد.

عندما كنت أتجول في شوارع دمشق بعد الثورة، كنت أفكر: قبل عشرة أيام فقط، كانت هذه الشوارع تعيش تحت قمع نظام الأسد. أما الآن، فقد استعاد الشعب السوري حريته، وبدأ بإعادة بناء وطنه بأمل جديد. ومع كل يوم يمر، تثبت سوريا قدرتها على الوقوف على قدميها، مثل طفل صغير بدأ لتوّه بالمشي، وكنت أشعر بسعادة غامرة وأنا أشاهد هذا التحول.

امتلأ قلبي بالأمل في دمشق.. فإذا كان نظام الأسد قد سقط بعد 61 عامًا، فلماذا لا يسقط الاستبداد الصهيوني أيضًا؟

ولماذا لا تنهار أنظمة الطغيان والقمع التي تحكم شعوبها بالحديد والنار؟

إن كان الله قد منح الشعب السوري النصر في غضون عشرة أيام، فلا شك أنه قادر على منح النصر لشعوب أخرى أيضًا.

لكنْ هناك شيئان أساسيان لا بد من التمسك بهما لتحقيق ذلك:

أولًا: الثقة بالله.

ثانيًا: العمل بجد للقضاء على الظلم.

أنا مؤمن بأن الله لا يخذل المؤمنين الذين يتمسكون به ويعملون بلا كلل لنصرة الحق.

ربما علينا أن نغرس هذا المفهوم في نفوس شبابنا: ثقوا بالله واعملوا جاهدين لتصبحوا أقوياء. ومهما كان المجال الذي تعملون فيه، فلتقدموا فيه أفضل ما لديكم، لأن كل جهد صادق يسهم في إنهاء الظلم.


أما أن نبقى مكتوفي الأيدي، نذرف الدموع، ونتحسر على واقعنا، ونتحدث عن مآسينا دون أن نبذل جهدًا، فهذا لا معنى له. المسلم لا بد أن يكون صامدًا، مجتهدًا، متفائلًا.

في هذا العصر الذي يطغى فيه الظلم، علينا أن نكون أقوياء. علينا أن ننظر إلى أهل غزة الذين يواجهون آلة القتل الصهيونية بصدورهم العارية، ونستلهم منهم القوة لاستعادة توازننا. علينا أن ننهض، ونستعيد عزيمتنا على حماية أوطاننا، وشعوبنا، وأمتنا الإسلامية.

هذا النظام الإمبريالي سيجلب للعالم مزيدًا من الكوارث في المستقبل، لذا يجب أن نستعد منذ الآن للنضال من أجل عالم أفضل.

فلنفكر في أولئك الذين لم يشهدوا العيد. نحن وإن كنا نعاني، ما زلنا نشهد فرحة العيد، لكن إذا أردنا لأطفالنا أن يعيشوا أعيادًا جميلة كما عشناها في طفولتنا، فعلينا أن ننهض، ونجاهد، ونصبح أقوى.

دعنا نجدد تلك الآمال مرة أخرى بمناسبة هذا العيد.

هل يكتب نتنياهو وترامب الفصل الأخير؟

 هل يكتب نتنياهو وترامب الفصل الأخير؟

كاتب ومراسل عسكري أميركي


هذا هو الفصل الأخير من الإبادة الجماعية. إنه الدفع النهائي الملطّخ بالدماء لطرد الفلسطينيين من غزة. لا طعام، لا دواء، لا مأوى، لا مياه نظيفة، لا كهرباء.


إسرائيل تحوّل غزة بسرعة إلى موقع من البؤس الإنساني، حيث يُقتل الفلسطينيون بالمئات، وقريبًا، مجددًا، بالآلاف وعشرات الآلاف، أوسيُجبرون على الرحيل دون عودة.


يمثّل هذا الفصل الأخير نهاية الأكاذيب الإسرائيلية: كذبة حلّ الدولتين. كذبة أن إسرائيل تحترم قوانين الحرب التي تحمي المدنيين. كذبة أن إسرائيل تقصف المستشفيات والمدارس فقط لأنها تُستخدم من قبل حماس. كذبة أن حماس تستخدم المدنيين كدروع بشرية، بينما تجبر إسرائيل الفلسطينيين الأسرى على دخول الأنفاق والمباني التي يُحتمل أن تكون مفخخة قبل قواتها.


كذبة أن حماس أو حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية مسؤولتان – غالبًا يُزعم أن السبب صواريخ فلسطينية طائشة – عن تدمير المستشفيات أو مباني الأمم المتحدة أو سقوط ضحايا فلسطينيين.


كذبة أن المساعدات الإنسانية إلى غزة تُمنع؛ لأن حماس تستولي على الشاحنات أو تهرّب الأسلحة. كذبة أن أطفالًا إسرائيليين قُطعت رؤوسهم، أو أن الفلسطينيين ارتكبوا اغتصابًا جماعيًا بحق نساء إسرائيليات.


كذبة أن 75% من عشرات الآلاف الذين قُتلوا في غزة هم "إرهابيون" من حماس. كذبة أن حماس، لأنها كانت تعيد التسليح وتجنيد مقاتلين، تتحمل مسؤولية انهيار اتفاق وقف إطلاق النار.


الوجه العاري لإسرائيل الإبادية مكشوف الآن. لقد أمرت بإجلاء سكان شمال غزة، حيث يُخيّم الفلسطينيون اليائسون وسط أنقاض منازلهم.


ما يأتي الآن هو مجاعة جماعية -إذ قالت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في 21  مارس/ آذار؛ إن لديها ستة أيام فقط من إمدادات الطحين- وموت بسبب الأمراض الناتجة عن المياه والطعام الملوث، وسقوط عشرات القتلى والجرحى يوميًا تحت وابل القصف بالصواريخ والقذائف والرصاص.


لا شيء سيعمل: المخابز، محطات معالجة المياه والصرف الصحي، المستشفيات – إذ فجّرت إسرائيل مستشفى فلسطين التركي المتضرر في 21 مارس/ آذار – المدارس، مراكز توزيع المساعدات أوالعيادات. أقل من نصف سيارات الإسعاف الـ53 التي تديرها جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، تعمل بسبب نقص الوقود. وسرعان ما لن يبقى شيء.


رسالة إسرائيل واضحة: غزة لن تكون صالحة للعيش. غادروا أو موتوا.


منذ يوم الثلاثاء، حين خرقت إسرائيل وقف إطلاق النار بقصف مكثف، قُتل أكثر من 700 فلسطيني، بينهم 200 طفل. وفي فترة 24 ساعة فقط قُتل 400 فلسطيني. وهذا ليس سوى البداية. لا أي من القوى الغربية، بما فيها الولايات المتحدة التي تمد إسرائيل بالأسلحة، تنوي إيقاف هذه المجازر.


كانت صور غزة خلال ما يقرب من 16 شهرًا من الهجمات المدمّرة فظيعة. لكن ما هو آتٍ سيكون أسوأ. سيضاهي أبشع جرائم الحرب في القرن العشرين، بما في ذلك مجاعة جماعية، مذابح جماعية وتسوية حي وارسو بالأرض على يد النازيين عام 1943.


مثّل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول خطًا فاصلًا بين سياسة إسرائيلية كانت تهدف إلى إخضاع الفلسطينيين وقمعهم، وسياسة تدعو إلى إبادتهم وتهجيرهم من فلسطين التاريخية.


ما نشهده الآن يوازي لحظة تاريخية مشابهة لما حدث بعد مقتل نحو 200 جندي بقيادة جورج أرمسترونغ كاستر في معركة "ليتل بيغ هورن" عام 1876. بعد تلك الهزيمة المهينة، تقرر إبادة الأميركيين الأصليين أو حشر من تبقى منهم في معسكرات أسر، سُمّيت لاحقًا "المحميات"، حيث مات الآلاف من الأمراض وعاشوا تحت أعين المحتلين المسلحين، في حالة من البؤس واليأس. توقعوا الشيء نفسه للفلسطينيين في غزة، حيث سيتم دفنهم، على الأرجح، في واحدة من جحيم الأرض، ومن ثم نسيانهم.


"سكان غزة، هذا هو تحذيركم الأخير"، هدّد وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت: "السنوار الأول دمّر غزة، والسنوار الثاني سيُدمّرها بالكامل. ضربات سلاح الجو ضد إرهابيي حماس كانت مجرد الخطوة الأولى. الأمور ستزداد صعوبة، وستدفعون الثمن كاملًا. سيبدأ قريبًا إجلاء السكان من مناطق القتال مجددًا.. أعيدوا الرهائن وتخلصوا من حماس، وسيفتح لكم طريق آخر، منها الرحيل إلى أماكن أخرى في العالم لمن يرغب. البديل هو الدمار الكامل".


اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس صُمم ليُنفّذ على ثلاث مراحل. المرحلة الأولى، ومدتها 42 يومًا، تقضي بوقف الأعمال القتالية. تطلق حماس 33 رهينة إسرائيلية تم أسرهم في 7 أكتوبر/ تشرين الأول2023 – بمن فيهم النساء، والمسنون، والمرضى – مقابل الإفراج عن نحو 21,000 فلسطيني من الرجال والنساء والأطفال المعتقلين لدى إسرائيل (أفرجت إسرائيل عن حوالي 1,900 فلسطيني حتى 18 مارس/ آذار).


حماس أطلقت 147 رهينة حتى الآن، بينهم ثمانيةٌ متوفَّون. وتقول إسرائيل إن 59 إسرائيليًا ما زالوا محتجزين لدى حماس، تعتقد أن 35 منهم قد فارقوا الحياة.


بموجب الاتفاق، تنسحب القوات الإسرائيلية من المناطق المأهولة في غزة في أول أيام الهدنة. وفي اليوم السابع، يُسمح للفلسطينيين النازحين بالعودة إلى شمال غزة. وتسمح إسرائيل بدخول 600 شاحنة مساعدات يوميًا تحمل الطعام والدواء.


المرحلة الثانية، وكان يفترض التفاوض عليها في اليوم السادس عشر من وقف إطلاق النار، تشمل إطلاق بقية الرهائن الإسرائيليين. وتُكمل إسرائيل انسحابها من غزة، مع إبقاء وجود لها في بعض مناطق ممر فيلادلفيا، الذي يمتد على طول الحدود بين غزة ومصر. كما تسلم السيطرة على معبررفح الحدودي لمصر.


المرحلة الثالثة كانت مخصصة للتفاوض بشأن إنهاء دائم للحرب وإعادة إعمار غزة.


لكن إسرائيل دأبت على توقيع اتفاقيات – مثل اتفاق كامب ديفيد واتفاق أوسلو – تتضمن مراحل وجداول زمنية، ثم تخرقها بعد تحقيق ما تريده في المرحلة الأولى. هذا النمط لم يتغير أبدًا.


رفضت إسرائيل الالتزام بالمرحلة الثانية. منعت دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة قبل أسبوعين، ما يُعد خرقًا للاتفاق. كما قتلت 137 فلسطينيًا خلال المرحلة الأولى من الهدنة، بينهم تسعة أشخاص – ثلاثة منهم صحفيون – عندما هاجمت طائرات مسيرة إسرائيلية فريق إغاثة في 15 مارس/ آذار في بيت لاهيا، شمال غزة.


استأنفت إسرائيل قصفها العنيف على غزة في 18 مارس/ آذار، بينما كان معظم الفلسطينيين نائمين أو يستعدون لوجبة السحور قبيل الفجر في رمضان. إسرائيل لن تتوقف عن هجماتها، حتى لو تم إطلاق سراح جميع الرهائن – وهو السبب المعلن لاستئناف القصف والحصار.


تشجّع إدارة ترامب هذه المجازر، إلى جانب قادة الحزب الديمقراطي مثل زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ تشاك شومر. يهاجمون منتقدي الإبادة باعتبارهم "معادين للسامية"، يجب إسكاتهم أوتجريمهم أو ترحيلهم، بينما يضخّون المليارات من الدولارات في شكل أسلحة لإسرائيل.


الهجوم الإبادي الإسرائيلي على غزة هو ذروة مشروعها الاستيطاني الكولونيالي ودولتها القائمة على الفصل العنصري. الاستيلاء على كامل فلسطين التاريخية – بما في ذلك الضفة الغربية، التي من المتوقع قريبًا أن تضمها إسرائيل – وتهجير كل الفلسطينيين كان دائمًا هدف الحركة الصهيونية.


أسوأ فظائع إسرائيل وقعت خلال حربَي 1948 و1967، حين استولت على مساحات واسعة من فلسطين التاريخية، وقتلت آلاف الفلسطينيين، وهجّرت مئات الآلاف قسرًا. وبين تلك الحروب، استمرت السرقة البطيئة للأراضي، وتوسيع المستوطنات، والاعتداءات الدموية، والتطهير العرقي المتواصل في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية.


ذلك الرقص المحسوب انتهى. هذه هي النهاية. ما نشهده الآن يفوق كل الهجمات التاريخية على الفلسطينيين. حلم إسرائيل الإبادي المجنون – كابوس الفلسطينيين – على وشك التحقق. 

وسينسف إلى الأبد أسطورة أننا، أو أي دولة غربية، نحترم حكم القانون أو ندافع عن حقوق الإنسان والديمقراطية و"فضائل" الحضارة الغربية. 

همجية إسرائيل هي انعكاس لنا. قد لا ندرك هذا، لكن بقية العالم يدركه تمامًا.