الرقصة الأخيرة للواء السيسي
حسام الغمري
المحطات النهائية للطغاة لطالما أثارت اهتمامي، وأذكر أني سألت نفسي في عام 2011: تُرى كيف ستكون نهاية القذافي ملك ملوك إفريقيا؟
وجاءت إجابة القدر سريعة عن طريق فيديو بثه ثوار سرت، رأيت فيه مَن ظنه بعض شعبه أسداً جسوراً وهو يتوسل حياته من جلاديه، بالطبع كنت أتمنى أن يمثل القذافي أمام محاكمة عادلة، ولا أشك مطلقاً أن الكثير من صناديق المنطقة السوداء المغلقة كانت ستفتح حال حدوثها، ولكن أبت الأقدار إلا أن ترسل رسائلها الخاصة لكل مَن يفتن بالطاغية، وويل لكل مَن رأى نهايته ولم يعتبر.
قديماً أغرق الله فرعون مصر ونجَّى بدنه؛ ليكون للناس عبر القرون آية، وقديماً أيضاً ارتقى رويعي الغنم عبدالله بن مسعود، قصير القامة، نحيل البدن، فوق صدر أبي جهل، الذي قال له في كبر أبى أن يفارقه حتى النهاية: لقد ارتقيت مرتقاً صعباً.. قبل أن يضمه مصير القليب الملعون!
ستالين، ذلك الطاغية المرعب، تُرك ملقى على الأرض في حجرته حتى مساء اليوم التالي لعشائه الأخير، تعددت الروايات، ولكن لغز نهاية ستالين يوضح تصنيفه بين الطغاة.
أما المحطة النهائية الأغرب، هي تلك التي أقدم عليها الطاغية هتلر، الذي كان قراره الأخير هو عقد قرانه مع عشيقته إيفا براون قبل ساعات من انتحارهما معاً، ولعل هتلر رأى في السيدة براون كل شعبه، فكانت رؤيته التودد إليها بعقد الزواج على غرار "بن علي": "أنا فهمتكو"، أو خطاب مبارك العاطفي، أو خطاب تنحي عبدالناصر الذي أعلن فيه أنه على استعداد لتحمل المسؤولية كاملة.
ولعلها واحدة من أسخف عبارات الكون وفق اعتقادي، فمن يفترض أن يتحمل مسؤولية النكسة، الفلاحون الذين حشدوا إلى جبهة سيناء بالجلباب وفاجأتهم طائرات الكيان الصهيوني قبل أن تصرف لهم ذخيرة القتال، ثم ذبح أسراهم بدم بارد، لا أحد يحمل هؤلاء المسؤولية بالطبع؛ لذا لم يكن التاريخ بحاجة إلى تلك الجملة السخيفة التافهة، ولكن كل هذه النهايات تضعنا أمام مؤشر لا يخطئ، هو أن الطاغية حين يشعر بقرب نهايته يبدو أكثر رومانسية مع شعبه، عله ينجح في تخديره وخداعه مرة أخرى، تكفل بقاءه ونجاته من مصير بات يعلمه أو يقرأه بين طيات تقارير مؤسسات دولته الزائلة؛
لذا عندما قرأت تدوينة السيسي التي استخدم فيها تعبير المقاتل، بدلاً من وصف نفسه بالقاتل، التدوينة التي تحدث فيها عن "ملل" شعبه؛ بدلاً من أن يتحدث عن بؤس وشقاء وصدمة شعبه، أدركت يقيناً أن مؤشر نهاية الطاغية بدأ يعمل، والسيسي كسائر الطغاة بدأ يستشعر قرب النهاية، وتصادف هذا مع مؤشرات أخرى تأتي من مشارق الأرض ومغاربها، وقد نالوا من مصر في عهد اللواء السيسي ما نالوا، ثم تيقنوا أن استمراره سيدفع مصر صوب انفجار غير محمودة عقباه، انفجار أكبر من طاقة المنطقة المترنحة فوق برميل بارود، فبات الخلاص منه ضرورة مُلحّة تنتظر فقط الاتفاق النهائي على اسم البديل.
وليس أدل على ذلك من خروج أكثر من مقال لكتاب خليجيين يتحدثون صراحة عن ضرورة رحيل اللواء السيسي، أحدهم قال إنه يرفض زعامة المملكة السعودية للمنطقة، وآخر قال إنه ظن أن بمقدوره السحب على المكشوف من مليارات الخليج، وثالث تحدث عن إدارته السفيهة لمشكلات مصر وتخليه عن حلفائه في ضرورات الأمن القومي العربي في سوريا واليمن، ومن هؤلاء الكتاب إماراتيون، وهذا مؤشر هام لا يمكن تجاهله، والجميع يعلم دور إمارات "بن زايد" في دعم انقلاب اللواء السيسي.
الأخبار لم تحمل لنا نبأ أي اتصال بين أوباما والسيسي منذ شهور طويلة، كما أن رئيسة الوزراء البريطانية لم تسمح له بتهنئتها عبر الهاتف، ولولا صفقتي الرافال والميسترال، وعقد شركة سيمنز الألمانية، وأراضينا الممنوحة للروس دون مقابل شرق بورسعيد، لكنا أكدنا بملء الفم أن اللواء السيسي يعيش عزلة دولية حقيقية، خاصة بعد حادثة مقتل ريجيني، بالطبع أستثني صلاته الدافئة بالعدو الصهيوني الذي رفض وزير خارجية السيسي المفدى سامح شكري وصف قتله لأطفالنا إرهاباً، أي انحراف؟!
والطبيعي المتوقع أن يسعى السيسي إلى تغيير نبرته مع شعبه عودة على ذي بدء، فبدلاً من أن يقول مجدداً: "ما تسمعوش كلام حد غيري"، أتوقع أن يعود إلى نغمة: "انتو نور عينينا"، "تتقطع إيدينا لو تتمد عليكم.. صحيح.." وهكذا، عله يستعيد شعبية كفته لاستكمال مسرحيته الهزلية مع حمدين صباحي، ولكن سرعان ما تهاوت حتى بات صدى الأصوات المتبرئة منه من بعد تأييد تزلزل القصر من حوله ويطرب لها الأحرار في كل مكان، لا سيما في إسطنبول.
لا أتوقع أن تكون نبرة السيسي الحالمة التي حاول رسمها في تدوينته توحي بحقيقة الدرب الذي سيسلكه إذا ما ازداد شعوره بحتمية الرحيل، فقاتل مثله أسكره حلم وجد سبيلاً لتحقيقه فجلس على عرش من جماجم المصريين أكاد أجزم أنه لا يتورع عن حرق القاهرة، أو دفعها دفعاً إلى حرب أهلية أو طائفية، بدلاً من رحيل آمِن يتعهد به حلفاء سابقون.
كما لا أعول كثيراً على المؤسسة العسكرية التي جعل السيسي من صهره رئيساً لأركانها، ولا أتوقع أن ينجح جنرال سابق في إحكام السيطرة عليها، كما تتوهم بعض القوى في الخارج؛ لذا فالقادم أخطر، وملفات المحروسة كلها ساخنة، ومن السهل العبث بأي ملف فيها؛ ليزداد لهيبة فيحرق به ما تبقى منها؛ ليضعنا اللواء السيسي من جديد أمام معادلة: "أنا أو الفوضى"، "أنا أو ازدياد نفوذ الإرهاب في سيناء، أو ربما الوادي"، "أنا أو البدء والاستمرار في تنفيذ أحكام الإعدامات"، "أنا أو فتنة طائفية تزيد أوجاع الصعيد أوجاعاً".
وكلها سيناريوهات كابوسية، ولا نجاة منها إلا بالتحام العقلاء من نخبتنا ممن لم يتلوث تاريخهم بتأييد فاجر، أو المسارعين إلى إبداء الندم الشديد معتذرين إلى الشعب، متعهدين بالعمل الجاد لإنجاز أجندة شعبية تتم دعوة الملايين إلى الاحتشاد في الميادين لفرضها على جنرالات الجيش والقوى الدولية التي يبدو أنها لم تسأم بعد من العبث في محروستنا، بهذا فقط يلج الجمل من سَمِّ الخِيَاط، وتشهد المحروسة خروجاً جديداً صحياً آمناً نحو المستقبل عبر فترة انتقالية أخيرة تعبر بها صوب الحكم الرشيد الذي افتقدته منذ عهد الوزير قراقوش، الذي نفض عنها غبار الحكم الفاطمي البائس في الماضي، ومهد لها الأرض؛ كي تصبح قوة إقليمية حقيقية تصمد أمام أطماع الطامعين.
والأيام القادمة حُبلى بالمفاجآت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق