أ. د. زينب عبد العزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية
|
تمثل أكذوبة "هروب العائلة المقدسة إلى مصر"، فرية الفريات التي نسجتها الكنيسة في القرن الرابع وما بعده. وهي إضافة جديدة إلى كل ما سبق ونسجته، لتؤكد ان كل جزء في هذه المسيحية عبارة عن تحقيق لإحدى نبوءات العهد القديم.. إلا أن العلماء الذين اهتموا بالبحث في مختلف المجالات، بالنسبة لأصول تلك الديانة، يؤكدون ويثبتون، تفاصيل أكبر عملية تزوير في قصص الأناجيل وأساطيرها..
فعندما تم فرض المسيحية في القرن الرابع ديانة رسمية لكل الإمبراطورية الرومانية، انبرى الكهنة في كل دولة لاستكمال صياغة الأناجيل ليتم فرضها كنصوص منزلة، متخذين من نصوص العهد القديم دليلا على كيانهم الذي يختلقونه.
كما قامت في نفس الوقت بإدخال أهم الجزئيات من الديانات المحلية لتسهيل عملية دخول الأتباع في المسيحية. وهو مما تم فرضه في مجمع نيقيه الأول سنة 325 لتأليه يسوع.. وهنا يؤكد كلا من ديفيد إيكة، وجيرالد ماسيه، وجريفز ـ على سبيل المثال لا الحصرـ إلى وجود من مائة إلى ثلاث مائة نقاط تشابه بين يسوع وكريشنا.. ولا أقول هنا شيئا عما استحوذوا عليه من الديانة المصرية القديمة وغيرها..
أصل الحكاية:
إن السند الوحيد في الأناجيل لقصة "هروب العائلة المقدسة إلى مصر" هو إنجيل متّى فقط.
وأبدأ بعرض ما ورد به:
"وبعد أن انصرفوا إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلا قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك. لأن هيرودس مزمع يطلب الصبي ليهلكه. فقام وأخذ الصبي وأمه ليلا وانصرف إلى مصر، وكان هناك إلى وفاة هيرودس. لكي يتم ما قيل من قبَل الرب بالنبي القائل من مصر دعوت ابني" (متّى 2: 13 ـ 15). وعندما علم هيرودس "ان المجوس قد سخروا به غضب جدا. فأرسل وقتل جميع الصبيان الذين في بيت لحم وفي كل تخومها من ابن سنتين فما دون بحسب الزمان الذي تحققه من المجوس. حينئذ تم ما قيل بإرمياء النبي القائل" (متّى 2: 16 ـ 17).
وفي الفقرة التالية يواصل متّي: "فلما مات هيرودس إذا ملاك الرب قد ظهر في حلم ليوسف في مصر قائلا. قم وخذ الصبي وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل. لأنه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي. فقام وأخذ الصبي وأمه وجاء إلى أرض إسرائيل. لكن لما سمع إن أرخيلاوس يملك على اليهودية عوضا عن هيرودس أبيه خاف أن يذهب إلى هناك. وإذ أوحى إليه في حلم انصرف إلى نواحي الجليل. وأتى وسكن في مدينة يقال لها الناصرة. لكي يتم ما قيل بالأنبياء أنه سيدعى ناصريا" (متّى 2 : 19 ـ 23).
هذا هو كل ما هو وارد بالإنجيل وفقا لمتّى: يوسف النجار يحلم بأن ملاك الرب ظهر له في الحلم وأمره أن يهرب بالطفل وأمه إلى مصر، وفي حلم آخر يسمح له الملاك بالعودة إلى إسرائيل، لكن يوسف يخالف قول الملاك ويخشى الذهاب إلى إسرائيل، فقام الملاك بتغيير رأيه وأمر يوسف في حلم ثالث بالذهاب إلى مدينة الناصرة التي لم تكن موجودة أيام المسيح!!
واللهم لا تعليق، لكن العلماء في الغرب يعلقون ويفنّدون ولا يعبئون..
فالغريب أنه لا مرقص ولا يوحنا يتحدثان عن تلك الرحلة المزعومة، رغم أهميتها فرضا، ولوقا قد غير تاريخ قصة التعداد ليضعها بعد اثني عشر عاما، أي بعد وفاة هيرودس.
غير إن هذا التغيير قد نجم عنه تناقضا جديدا: لماذا عاد هيرود بسن الأطفال الذين يود اغتيالهم إلى عامين ؟
والرد هو: لأن الوقت بين مجيء "الرعاة" وسفر العائلة المقدسة إلى مصر هو بضعة أشهر.. إن نبوءة ارميا التي استشهد بها كاتب هذه الفرية لا تتحدث عن اغتيال الأطفال وإنما عن ترحيلهم.. كما إن المؤرخ فلافيوس جوزيف قد تحدث طويلا وبالتفصيل عن هيرودس في كتابه "آثار يهودية"، لكنه لم يقل أي شيء حول قراره اغتيال الأطفال هذا.. بل ولا يوجد له أي أثر في أهم المراجع لنسخ الكتاب المقدس الكاملة باللغة اليونانية التي ترجع للقرن الرابع، وهي: النسخة السينوية والفاتيكانية والسكندرية...!
والأدهى من ذلك، إن المراجع التاريخية لا تذكر سوى واقعة واحدة لذبح الأطفال، وقعت أيام إسكندر ينّاي، ملك منطقة اليهودية وكبير كهنة القدس (103 ـ 76)، الذي أخمد ثورة للفلاحين الفريسيين، وأمر بصلب ثمانمائة فريسي وتعليقهم على خشبة، ثم ذبح زوجاتهم وأطفالهم أمامهم وهم معلقون في انتظار الموت.. والثابت تاريخيا إن هذه الواقعة حدثت قبل الميلاد بثمانية وثمانين عاما..
وهنا يقول ميشيل كوكيه، أحد الباحثين الفرنسيين والشماس الكاثوليكي السابق: "المؤرخون، ولله الحمد، أقروا أن قصة هروب العائلة المقدسة إلى مصر، مثلما يحكها إنجيل متّى لا يمكن تصديقها. إذ إن عبور صحراء شديدة الحر نهارا قارصة البرد ليلا، طولها خمسمائة كيلومترا، في منطقة غير آمنة، بها اللصوص والحيوانات المتوحشة، على ظهر حمار لا يمكنه أن يحمل على ظهره المياه والطعام اللازم لمثل هذه الرحلة، هي مغامرة من المحال تحقيقها بالنسبة لزوج وزوجة وطفل رضيع. فإذا افترضنا جدلا إن يوسف النجار كان يسير بواقع خمسة عشر كيلومترا في اليوم، فكان عليه أن يسير حوالي شهرا في هذه الظروف القاسية. فالطريق كان يتجه من بيت لحم إلى الخليل، ثم من غزة كان على العائلة المقدسة أن تتبع طريق القنطرة والإسماعيلية ومنها إلى القاهرة. وفي حقيقة الأمر، نحن لا نمتلك أي دليل على هذه الرحلة، حتى وإن كانت الكنيسة القبطية قد أصدرت حديثا (بواسطة وزارة السياحة المصرية!) [وارد في النص بين قوسين وعلامة تعجب] خط سير هذه الرحلة اعتمادا على بردية من القرن الخامس، مكتوب عليها الطريق الذي سلكته العائلة المقدسة، بل ويحددون إن إقامة العائلة امتدت في مصر إلى ثلاث سنوات وأحد عشر شهرا.. وبكل أسف إن القرن الخامس هو ذلك القرن الذي كان فيه اختراع قصة يسوع على وشك الانتهاء".. ("حياة يسوع بلا خداع"، 2003)..
ثم يوضح ميشيل كوكيه قائلا: "بعد قرن من الحفائر الأثرية المقدسة لم يتم العثور على أي دليل عن الهروب إلى مصر ". وقد استقروا في الناصرة لكي تتم نبوءة الأنبياء: "إنه سيدعى ناصريا" (متّى 2: 23). وهنا يوضح كوكيه: "تظهر مشكلة جديدة: فما من مؤرخ وجد مثل هذه النبوءة في العهد القديم، كما لم يتم العثور على مدينة الناصرة في تلك الفترة. لذا لا يوجد أي أمل في العثور على ما يثبت ذهاب العائلة المقدسة إلى مصر".
إن الثابت تاريخيا إن الديانة المسيحية ديانة انتقائية النزعة لإثبات وجودها استنادا إلى تحقيق نبوءات العهد القديم. أي أنها تنتقي الجزئية التي تناسبها وتترك الباقي حتى وإن كانت جملة واحدة. فعبارة "من مصر دعوت ابني" (هوشع 11: 1) هي النصف الثاني من جملة متعلقة بإسرائيل، إذ يقول هوشع: "لما كان إسرائيل غلاما أحببته ومن مصر دعوت ابني" (طبعة 1966)! أما في طبعة 1671 فتقول الجملة: "كما جاز الصبح كذلك جاز ملك إسرائيل لأن إسرائيل صبي وأحببته ومن مصر دعوت ابني".. وفي كلا الحالين الجملة متعلقة قطعا بإسرائيل طفلا ولا علاقة لها بيسوع..
تنويعات في صياغة الفرية :
تتفق بعض المصادر على قول إن العائلة المقدسة حين هربت إلى مصر لم تسلك أحد الطريقان المعروفان آنذاك، وإنما سلكت طريقا آخر. والدليل الوحيد على ذلك التغيير هو نص ثيوفيلس، بطريرك الإسكندرية، وكل ما دونه في يومياته بناء على حلم رآه.. ومن اللافت للنظر إن العهد القديم يغص بالقصص الدرامية والمآسي والهروب، أما العهد الجديد فلا ترد به سوى حالة هروب واحدة، إلا أنه تم غرسها في الوجدان التاريخي للمسيحيين وأصبحت أحد الموضوعات الهامة حتى في المجال الفني الى القرن الثامن عشر عندما بدأ يختفي تصوير هذا الموضوع لبداية عصر التنوير وكشف ما قامت به الكنيسة من فريات ومآسي..
والغريب إن هذه القصة واردة باقتضاب شديد في إنجيل متّى فقط. ولا ترد عنها أية تفاصيل، في حين أنها تمثل، فرضا، جزئية هامة في حياة يسوع. وكل المعلومات والتفاصيل مستقاه من إنجيل "متّى المزعوم" أو "المستبعد". والأكثر غرابة أنه يذخر بالتفاصيل بصورة غير تقليدية ويشرح خط سير العائلة المقدسة في مصر. والداعي للدهشة هنا إن هذا الإنجيل المستبعد والذي أخذوا عنه كل تفاصيل الرحلة مكتوب فيما بين القرن الثامن والتاسع، أي بعد الحدث المزعوم بثماني أو تسعة قرون! وهذه التفاصيل هي التي تم أخذها على أنها حقائق تاريخية.. وفيما يلي بعض ما تناقلته المراجع وتم ترسيخها على أنها حدثت فعلا :
يقول هذا الإنجيل المستبعد من الكيان الكنسي، في الإصحاح العشرين: "في اليوم الثالث مريم كانت متعبة، جوعى وعطشى. فجلست في ظل نخلة، لكن النخلة كانت شديدة الارتفاع ويوسف لم يتمكن من الوصول إلى فاكهتها، عندئذ قال يسوع الطفل: "يا شجرة انحني ورطبي أمي بفاكهتك"، وعند سماع هذه الكلمات انحنت النخلة حتى أقدام مريم فجمعوا الفاكهة وجميعهم ارتووا. وبعد أن جمعوا كل الفاكهة (...) قال يسوع: "ليتدفق من بين جذورك النبع المدفون وأن تجري المياه بقدر حاجتنا". فارتفعت النخلة وسالت المياه من بين جذورها نقية ندية. وحينما رأوا المياه امتلأوا سعادة وشربوا مع كل الحيوانات الموجودة والرجال الموجودين، وحمدوا الرب".
ومنذ القرن التاسع بدأت تظهر معجزة النخلة ونبع المياه في الأيقونات جنبا إلى جنب مع الأشخاص الرئيسية الثلاثة الأصليين. ولا يقال لنا من أين أتت هذه الحيوانات ولا هؤلاء الرجال الذين لا سند لهم في الأصل..
وفي الإصحاحات من 22 إلى 24 في نفس الإنجيل المزعوم أو المستبعد، نطالع قصة الفارين الثلاثة عند دخولهم معبد "سيوتنن" حيث كان يوجد 365 تمثالا : "وحينما دخلت مريم والطفل في المعبد كافة التماثيل وقعت على الأرض، لتكشف بوضوح أنها لا تعني شيئا (...)، وعندما أخبروا أفروديزيس، حاكم المدينة، جاء إلى المعبد واقترب من مريم وأدى التحية للطفل الذي بين ذراعيها (...)، وفي هذه اللحظة كل سكان المدينة آمنوا بالله عن طريق يسوع المسيح" !..
وتم تناقل هذه القصة مع تزايد في المعجزات وفي عدد السنوات التي من المفترض قضاها يسوع. وعلى الرغم من أنه لا يوجد أي دليل تاريخي حول هروب العائلة المقدسة وإقامتها في مصر في الأناجيل المعتمدة سوى في الإنجيل وفقا لمتّى، فإن الأناجيل المحجبة تزخر بالتفاصيل حول مدة السنوات التي امضوها في مصر لتنتقل من ثلاث سنوات وبضعة أشهر إلى سبع سنوات مع تدوين مختلف التفاصيل والقصص المختلقة. ويحتفل الأقباط ببيت العذراء في دير المحرّق، ويحتفلون بهروب العائلة المقدسة إلى مصر في 26 ديسمبر..
وبغض الطرف عن المغالطة في هذا التاريخ، فالمفترض زعما إن يسوع وُلد في 25 ديسمبر، وظل حتى ختانه في اليوم الثامن ثم تم تقديمه للمعبد بعد أن تطهرت مريم من ولادته (وهو الإله المزعوم !)، ثم تأتي عملية الهروب المزعومة أيضا، فكيف يتم الاحتفال بالهروب ثاني يوم مولده الذي اعترف البابا يوحنا بولس الثاني أنه كذبة من الأكاذيب الكنسية، فذلك تاريخ ميلاد الإله ميترا، الشمس التي لا تقهر ؟
وتقول الباحثة ألكسندرا دورّ في بحثها حول "طفولة يسوع" : "إن هذه القصة تطورت بناء على تكوين النموذج الأوّلي، الذي تمت صياغته فيما بين القرن الخامس والسادس، وبدأ التكوين الفني يزدحم بإضافة شخص ثم مجموعة ثلاثة أشخاص حتى وصل الجمع إلى مدينة مزدحمة .. وذلك في الوقت الذي يقول فيه المصدر الإنجيلي الوحيد: "فقام وأخذ الصبي وأمه ليلا وانصرف إلى مصر" (متّى 2: 14). وبينما يقول متّى إن الهروب إلى مصر وقع قبل "مذبحة الأبرياء"، فإن النصوص المحتجبة اتفقت على تغيير التاريخ وجعلت الهروب إلى مصر عقب المذبحة. كما ملأوا النص بالتفاصيل وأهمها إضافة الأشخاص".
وتحت عنوان "وقائع تاريخية وعبادة" تقول الباحثة: "لا يوجد أي أثر مكتوب يشهد تاريخيا بأن الهروب إلى مصر قد وقع فعلا. والإنجيل وفقا للوقا لا يتجاهل واقعة الهروب فحسب، وإنما يعلن أن العائلة المقدسة، بعد تقديم الطفل يسوع إلى المعبد، عادت إلى منطقة الجليل، في مدينة الناصرة (لوقا 2 : 39). وهو الأصح تاريخيا بما إن هيرودس لم يزعج المسيح ابدا لأنه كان يجهل وجوده في تلك المدينة"..
وذلك هو ما أقصده تماما بقول إن المسيحية الحالية ديانة انتقائية تلفيقيه، تأخذ ما يروقها وتترك الباقي. ففي الأناجيل المعتمدة إنجيل يقول ان العائلة المقدسة هربت إلى مصر (متّى)، وإنجيل آخر، هو لوقا، يقول إنها عادت إلى الناصرة، أي أنها لم تحضر إلى مصر على الإطلاق.. فاختارت المؤسسة الكنسية ما يبرر لها تلفيق وترسيخ وجودها في مصر منذ الخطوات الأولى للمسيحية، ـ التي ظل الرومان يحاربونها فيها وبضراوة حتى القرن الخامس!
أما جويندولين دي مولينير، فيقول في بحث عن "سقوط الأصنام أثناء الهروب إلى مصر" : "إن جزئية تصوير سقوط الأصنام عند هروب العائلة المقدسة كثيرا ما تناقلها فنانوا القرون الوسطى، مستوحين فقرة إنجيل "متّى المستبعد". وهو موضوع مرتبط بتراث شفهي منتشر في الشرق ويعود أساسا إلى أناجيل محتجبة تتعلق بطفولة يسوع. ويرجع إنجيل "متّى المستبعد" الذي تمت صياغته في أواخر القرن السادس أو بعد ذلك، لكننا لا نمتلك منه أي نسخة مخطوطة قبل القرن الحادي عشر. كما توجد تنويعات لهذه القصة في الإنجيل العربي لطفولة يسوع الذي تمت صياغته في القرن السادس، ويضم الكثير من القصص الأسطورية حول طفولة يسوع".
ويعلق دي مولينير على هذه الجزئية في بحثه قائلا: "إن هذه التقنية في التفسير التي يطلق عليها الدليل عن طريق الكتابة، تتلخص في إظهار الحدث الذي عاشه يسوع على أنه تحقيقا للعهد القديم. وقصة سقوط الأصنام عند مرور يسوع تعتمد على نفس التقنية: فقد تولدت من نص نبوءة في العهد القديم وكان لا بد من تبريرها (إشعياء 19: 1 ؛ إرمياء 43 : 13)".
أما في تعليقه على معنى تحطيم الأصنام فيقول إنها بدأت في القرن الحادي عشر والثاني عشر لإثبات انتصار يسوع وانعكاس سلطانه على الوثنية المصرية، موضحا: "إن تمثيل سقوط الأصنام هو جزء لا يتجزأ من أسلوب سيطرة الديانة المسيحية على العقائد الأخرى، القائمة على تحطيم صورة الآخر وفرض وجهة النظر الجديدة".. غير إن كمّ التماثيل المصرية القديمة الذي لا يزال قائما يعد أكبر دليل على هذه الأكاذيب.
الموسوعة: وعنوانها الفرعي: "القاموس العقلاني للعلوم والفنون والحِرَف":
وهي أول موسوعة شاملة في التاريخ الفرنسي، في القرن الثامن عشر، وتضم سبعة عشرة مجلدا للمقالات وأحد عشر مجلدا للوحات البيات والصور. وتمثل السلاح الأساسي في الصراع العلمي والفلسفي في معركة العلماء ضد ظلمات الكنيسة وتعتيمها على التقدم العلمي والإنساني وعلى ما اقترفته من فريات. وقد امتدت صياغتها خمسة عشر عاما واستغرقت طباعتها واحد وعشرين عاما. وقد قام البابا كليمنت الثالث عشر بإدانة الموسوعة ووضعها ضمن الكتب المحرّمة، في وثيقة "الإنديكس" يوم 5 مارس 1759، كما هدد الكاثوليك بالطرد والحرمان إن لم يقوموا بحرق النسخ التي لديهم..
وفي جزئية الأناجيل المحتجبة، وعدد الوارد منها تسع وثلاثين، تقول الموسوعة عن إنجيل يسوع:
"إنه مصنف للمعجزات التي يفترضون أن يسوع قام بها منذ نعومة إظفاره في رحلته إلى مصر وبعد عودته إلى الناصرة حتى سن الثانية عشر. وهو باللغة العربية ومعه ترجمة باللاتينية بقلم هنري سيكيوس. كما قام السيد كوتييه بإضافة جزءا باليونانية. وفيما يلي بعض عينات من الأساطير والخرافات التي يتضمنها هذا الإنجيل المزيف. ويتحدثون عن مولد يسوع المسيح في هذه الظروف: إن يوسف جرى إلى بيت لحم يبحث عن داية وعندما عاد إلى المغارة كانت مريم قد وضعت والطفل ملفوف ونائم في مزوده: وإن الداية التي أحضرها يوسف كانت مصابة بالجزام لكنها ما أن لمست الطفل حتى شفيت من الجزام: وإن الطفل تم ختانه في المغارة وتم الاحتفاظ بغرلته في آنية من الألبستر والمراهم، وإن نفس هذه القنينة هي التي اشترتها مريم الزانية ودهنت أقدام الرب (...). يلي ذلك هروب العائلة المقدسة وإقامتها في مصر. وامتدت هذه الرحلة ثلاث سنوات مليئة بالمعجزات التي لا ترد على الإطلاق في أي نص آخر ؛ ومنها زوجة شابة أصيبت بالبكم وما أن قبّلت الطفل يسوع حتى عاد إليها النطق، ورجل كان مسحورا على هيئة بغل عاد إلى شكله الطبيعي ما أن رأى الطفل يسوع. وعند عودته إلى بيت لحم قام بمعجزات أخرى".
وتدرج الموسوعة العديد من التفاصيل لتنهي هذا الجزء بمعلومة لافتة للنظر خاصة وأنه يتم التعتيم عليها في كافة الوثائق الكنسية المعلنة: "وأخيرا وصل يسوع إلى سن الثانية عشر وظهر في المعبد وسط العلماء الذين أدهشهم بأسئلته وإجاباته، لا حول الشرع فحسب، ولكن أيضا حول الفلسفة وعلم الفلك وكل مختلف العلوم. ثم عاد به يوسف ومريم إلى مدينة الناصرة حيث ظل بها إلى سن الثلاثين، خافيا معجزاته ودراسته للشرع. وذلك هو ملخص الأشياء الرئيسية الواردة في النص العربي الذي ترجمه سيكيوس. أما الجزء اليوناني الذي ترجمه السيد كتلييه فهو يختلف قليلا فيما يتعلق بترتيب المعجزات والظروف، لكنه يحتوي على وقاحات وقصص أكثر استهزاء مما تقدم"..
والغريب ان كافة الوثائق الكنسية لا تذكر شيئا عن حياة يسوع من سن الثانية عشر حتى سن الثلاثين، حين بدأ يبشر !!
خلاصة الفرية:
لو حاولنا تلخيص أصل الحكاية لوجدنا أنها قائمة على سندين اثنين:
1 ـ ان ملاك الرب ظهر ليوسف في الحلم، وطلب منه الهروب إلى مصر حماية للطفل الذي يريد هيرودس قتله. وعند وفاة هيرودس ظهر ملاك الرب ليوسف وأمره بالعودة إلى إسرائيل لكن يوسف يرفض قول ملاك الرب، فيقوم ملاك الرب بتغيير نصيحته ويطلب من يوسف، في حلم ثالث، أن يذهب إلى الجليل ويسكن في الناصرة كما قال لوقا في إنجيله (2 : 39)، وهو ما يتناقض مع الرواية الأصلية، رواية متّى الذي قال أنه أخذ الكفل وأمه وذهب إلى مصر!
أي إن القصة قائمة على ثلاثة أحلام شاهدها يوسف، ليتمم نبوءات العهد القديم، ويثبت إنجيل آخر هو إنجيل لوقا أن يوسف لم يذهب إلى مصر وإنما عاد إلى الناصرة.
وأكذوبة أخرى متعلقة بهيرودس ومذبحة مزعومة لم يقم بها وإنما هي قد تمت قبل ميلاد يسوع بثمانية وثمانين عاما أيام إسكندر ينّاي.. وقد أقر المؤرخون المعاصرون إن القصة كما هي واردة في إنجيل متّى من المحال تصديقها وشرحوا السبب عمليا وعلميا: بناء على الحفائر الأثرية وبناء على استحالة أن يقوم رجل وامرأة ووليدها بالسير لمدة أكثر من شهر في صحراء على ظهر حمار !!! كما إن المؤرخين قد أقروا بعدم وجود أي دليل تاريخي على تلك الفرية حتى وإن كانت الكنيسة القبطية قد أصدرت بواسطة وزارة السياحة المصرية كتيّبا لإثبات تلك الأكاذيب. بل أجمعوا على إنه لا يوجد أمل في العثور على ما يثبت ذهاب العائلة المقدسة إلى مصر بناء على الحفائر الأثرية التي تمت.
2 ـ أما السند الثاني فهو الحلم الذي رآه البطريرك ثيوفيلس في أواخر القرن الرابع بأن السيدة مريم زارته في المنام وحكت له الرحلة المزعومة. فقام ودونها في مذكراته الشخصية. ثم تم الاستعانة بها وبكل التفاصيل الواردة في إنجيل مكتوب في القرن الثامن أو التاسع لينسجوا قصة لم تحدث على الإطلاق.. وتوالت الفريات بزعم رحلة بطول القطر المصري وعرضه وزعم تدمير كل التماثيل المصرية القديمة، التي لا يزال أغلبها قائم، لزعم فرية إن كل سكان مصر آمنوا بيسوع وانتصاره على الوثنية وتنصروا..
ولا تعليق لي إلا: اللهم ارحمنا من الفريات !!
فكيف يمكن كتابة التاريخ بناء على حلم في إطار نصوص تتناقض، وبناء على حلم آخر بعده بأربعة قرون ليتم صياغة الفرية بناء على تفاصيل إنجيل مزيف ومستبعد من نفس المؤسسة الكنسية ؟؟
زينب عبد العزيز
14 أغسطس 2016
|
الدرة (( إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ، إِنْ سَاحَ طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ )) الامام الشافعي
الاثنين، 15 أغسطس 2016
أكذوبة زيارة العائلة المقدسة !
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق