صليب الإبادة!
بقلم: د. محمود القاعود
في القرن الحادي عشر الميلادي.. دوّت صيحة البابا أوربان الثاني في مجمع كليرمون عام 1095م، معلنًا الحرب «المقدسة» على المسلمين تحت شعار «هكذا شاء الرب».. كان الهدف المعلن هو «تحرير» القدس، لكن التاريخ يكشف الحقيقة: إبادة جماعية، مجازر بشعة، واستخدام نصوص الكتاب المقدس لتبرير ذبح عشرات الآلاف مِن المسلمين واليهود وحتى المسيحيين الشرقيين.
اليوم، في مارس 2025م، نرى ظلال تلك الحروب تعود من جديد، لكن بأدوات القرن الحادي والعشرين: تهديدات ترامب لأهالي غزة بالموت، وعقاب جماعي يتردد صداه في تصريحات ماركو روبيو وزير الخارجية الأمريكي، وهو يرسم الصليب على جبهته، معلنًا بفخر أنَّ هذه «القيادة الواضحة» هي ما انتظرته أمريكا طويلًا.. فهل نحن أمام حرب صليبية جديدة؟
عندما اجتاح الصليبيون القدس عام 1099م، لم يكن «التحرير» المزعوم سوى قناع رقيق للغزو والإبادة.. يروي المؤرخ الصليبي «ريموند داجيل» في كتابه «تاريخ الفرنجة الذين فتحوا القدس» كيف غرقت شوارع المدينة بالدماء حتى أعناق الخيول، حيث قُتل أكثر من 70 ألف مسلم ويهودي في أيام معدودة.. كانت النصوص الدينية، مثل سفر التثنية (الإصحاح 20) تُستخدم للإبادة:
«حِينَ تَقْرُبُ مِنْ مَدِينَةٍ لِكَيْ تُحَارِبَهَا اسْتَدْعِهَا إِلَى الصُّلْحِ،
11 فَإِنْ أَجَابَتْكَ إِلَى الصُّلْحِ وَفَتَحَتْ لَكَ، فَكُلُّ الشَّعْبِ الْمَوْجُودِ فِيهَا يَكُونُ لَكَ لِلتَّسْخِيرِ وَيُسْتَعْبَدُ لَكَ.
12 وَإِنْ لَمْ تُسَالِمْكَ، بَلْ عَمِلَتْ مَعَكَ حَرْبًا، فَحَاصِرْهَا.
13 وَإِذَا دَفَعَهَا الرَّبُّ إِلهُكَ إِلَى يَدِكَ فَاضْرِبْ جَمِيعَ ذُكُورِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ.
14 وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالأَطْفَالُ وَالْبَهَائِمُ وَكُلُّ مَا فِي الْمَدِينَةِ، كُلُّ غَنِيمَتِهَا، فَتَغْتَنِمُهَا لِنَفْسِكَ، وَتَأْكُلُ غَنِيمَةَ أَعْدَائِكَ الَّتِي أَعْطَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ.
15 هكَذَا تَفْعَلُ بِجَمِيعِ الْمُدُنِ الْبَعِيدَةِ مِنْكَ جِدًّا الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ مُدُنِ هؤُلاَءِ الأُمَمِ هُنَا.
16 وَأَمَّا مُدُنُ هؤُلاَءِ الشُّعُوبِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا فَلاَ تَسْتَبْقِ مِنْهَا نَسَمَةً مَّا،
17 بَلْ تُحَرِّمُهَا تَحْرِيمًا: الْحِثِّيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ، كَمَا أَمَرَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ»
كانت تُستخدم هذه النصوص كتبرير للمذابح الرهيبة.. لم تكن هذه الحروب مجرد صراع عسكري، بل كانت مشروعًا أيديولوچيًا يهدف إلى فرض الهيمنة الغربية باسم الدين.
واليوم نرى تكرارًا لهذا النمط.. تهديدات ترامب لأهالي غزة ليست مجرد كلمات.. بل جزء من سياسة عقاب جماعي تذكّرنا بما فعله الصليبيون في الماضي. أمريكا بتفوقها العسكري والتقني والاقتصادي، تضرب المسلمين في أضعف حالاتهم، مستغلة تشتت الأمة وخيانة بعض أبنائها..
تصريح روبيو، وهو يرسم الصليب، ليس مجرد رمزية عابرة.. بل إعلان عن استمرارية تلك الروح الصليبية التي تجد في الإسلام عدوًا أبديًا.
تخيلوا لو خرج وزير خارجية مسلم في لقاء تلفزيوني.. رافعًا المصحف أو ممسكًا بمسبحة أو راسمًا الهلال على جبهته، معلنًا أن بلاده ستشن حربًا «مقدسة» ضد الغرب.
ماذا سيكون رد الفعل؟
ستُطلق صيحات الاستنكار مِن كل حدب وصوب: «الإرهاب الإسلامي»، «التطرف الديني»، «تهديد للعلمانية والحضارة».
وسائل الإعلام الغربية، بدعم من النخب المثقفة الحاقدة على الإسلام، ستشن حملة شعواء لتصويره كمتوحش ينتمي إلى العصور الوسطى.. لكن عندما يرسم روبيو الصليب ويبارك سياسة الإبادة، يُنظر إليه كرمز لـ«القيادة الواضحة».. هذه هي ازدواجية المعايير التي تفضح كذب الغرب وادعاءاته بالعلمانية والمساواة.
العلمانية الغربية، التي تُروَّج كقيمة محايدة، ليست سوى أداة لخدمة الهيمنة المسيحية-الصهيونية.
فلماذا يُسمح للصليب أن يظهر في السياسة الأمريكية بينما يُحظر أي رمز إسلامي؟
لأن الغرب، في عمقه، لم يتخلَّ عن جذوره الصليبية، بل يوظفها اليوم تحت شعارات «الحرية» و«الديمقراطية».
أما النخب العربية والإسلامية العميلة، التي تتسابق لإرضاء الغرب، فهي جزء مِن المأساة، تبرر الصمت على المجازر باسم «الواقعية السياسية»، وتدين أي مقاومة بـ«التطرف».
في غزة اليوم نرى تجسيدًا حيًا لفظاعات الحروب الصليبية.. القصف العشوائي، الحصار الخانق، والتهديدات العلنية بالموت تكشف عن نفس العقلية التي دمرت القدس قبل ألف عام.. أمريكا وأوروبا، بترسانتهما العسكرية الهائلة، لا تكتفيان بالتفوق المادي، بل تستخدمان التفوق الإعلامي لتشويه المقاومة وتبرير الجرائم.
وكما استُخدم الكتاب المقدس في الماضي لتبرير الذبح، يُستخدم اليوم خطاب «مكافحة الإرهاب» لتبرير العقاب الجماعي لشعب أعزل.
لكن التاريخ يعلمنا أن الظلم لا يدوم.
فكما صمد المسلمون في وجه الصليبيين لعقود حتى طردوهم من القدس عام 1187 بقيادة صلاح الدين، فإنَّ غزة اليوم، رغم ضعفها، تقاوم ببسالة تفضح ضعف الروح الصليبية الحديثة. إنها ليست معركة أسلحة فقط، بل معركة إرادة وحق.
إنَّ ما يحدث اليوم ليس صدفة، بل استمرار لتاريخ طويل من العداء الصليبي للإسلام.. تصريحات روبيو وتهديدات ترامب ليست مجرد زلات لسان.. بل تعبير عن هوية الغرب العميقة التي لم تتغير.. ومع ذلك فإن ازدواجية المعايير التي يتبناها الغرب وعملاؤه في العالم العربي والإسلامي لن تخفي الحقيقة:
الصليب الذي يرسمه روبيو هو نفس الصليب الذي غُرز في صدور أجدادنا.. والمسلمون اليوم، رغم ضعفهم، لن يركعوا.
يا أمة الإسلام استيقظي! إنْ كان الغرب يفخر بصليبه ويبرر به جرائمه، فلماذا نخجل نحن من قرآننا وعقيدتنا؟
صدق الله العظيم: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (التوبة: 111).
في 6 مارس 2025م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق