رجل بمليون
بريطاني يتسلق ساعة بيغ بن في لندن حاملاً علم فلسطين (8/3/2025 Getty)
قبل انتصاف الليل، وعند الساعة 11:57 بالضبط، خرج أحد رجال الإنقاذ البريطانيين من الرافعة، ونزل إلى الحافّة أعلى برج إليزابيث (Big Ben)، أشهر معالم لندن، مقترباً من الناشط الذي تسلّق البرج محتضناً علم فلسطين، مقدّماً له بعض الطعام.
وعند الساعة 12:00، أنهى البطل المجهول ملحمته الأسطورية، ووافق على ركوب الرافعة، والنزول والعلم يرفرف ساطعاً بالمثلث الأحمر، معانقاً الأسود والأبيض والأخضر.
أمضى رافع العلم الفلسطيني 16 ساعة و36 دقيقة ملوّحاً بالعلم الفلسطيني، وهاتفاً: "الحرّية لفلسطين"، في أكثر الأماكن ازدحاماً بالبشر في قلب العاصمة البريطانية، على بعد خطواتٍ من مبنى البرلمان، حيث بدأت تظاهرته غير المسبوقة عند الساعة 7:24 صباحاً، معلناً أنه هنا من أجل الحرّية لفلسطين، ومن أجل الحرّية لمحبّي فلسطين، المعتقلين على خلفية التظاهرات المؤيّدة للحقّ الفلسطيني، ومن أجل إنهاء ممارسات الشرطة ضدّ المتظاهرين، محذّراً رجال الأمن من الاقتراب منه أو محاولة إنهاء تظاهرته الصاخبة بالقوّة.
نهارٌ كاملٌ ونصفُ ليلةٍ، ظلّ هذا الناشط البريطاني (تردّد أن اسمه دان) ملوّحاً من الأعلى بالعلم الفلسطيني، والدم ينزف من قدميه الحافيين، نتيجة تسلّقه البرج، يجلس أحياناً، ثمّ يقوم يحرّك قدميه، بينما ثلاثة من رجال الشرطة والإنقاذ يقفون داخل برج الرافعة العملاقة على مسافة قصيرة منه، يفاوضونه على النزول، ويعرضون عليه تقديم أيّ شيء يحتاجه من غذاء ومياه، وهو مصمّم على أنه لن ينزل إلّا في التوقيت الذي يقرّره وبشروطه.
ماذا لو كانت هذه التظاهرة في عاصمة عربية؟
أمضى رافع العلم الفلسطيني 16 ساعة و36 دقيقة ملوّحاً بالعلم الفلسطيني، وهاتفاً: "الحرّية لفلسطين"، في أكثر الأماكن ازدحاماً بالبشر في قلب العاصمة البريطانية، على بعد خطواتٍ من مبنى البرلمان، حيث بدأت تظاهرته غير المسبوقة عند الساعة 7:24 صباحاً، معلناً أنه هنا من أجل الحرّية لفلسطين، ومن أجل الحرّية لمحبّي فلسطين، المعتقلين على خلفية التظاهرات المؤيّدة للحقّ الفلسطيني، ومن أجل إنهاء ممارسات الشرطة ضدّ المتظاهرين، محذّراً رجال الأمن من الاقتراب منه أو محاولة إنهاء تظاهرته الصاخبة بالقوّة.
نهارٌ كاملٌ ونصفُ ليلةٍ، ظلّ هذا الناشط البريطاني (تردّد أن اسمه دان) ملوّحاً من الأعلى بالعلم الفلسطيني، والدم ينزف من قدميه الحافيين، نتيجة تسلّقه البرج، يجلس أحياناً، ثمّ يقوم يحرّك قدميه، بينما ثلاثة من رجال الشرطة والإنقاذ يقفون داخل برج الرافعة العملاقة على مسافة قصيرة منه، يفاوضونه على النزول، ويعرضون عليه تقديم أيّ شيء يحتاجه من غذاء ومياه، وهو مصمّم على أنه لن ينزل إلّا في التوقيت الذي يقرّره وبشروطه.
ماذا لو كانت هذه التظاهرة في عاصمة عربية؟
ماذا مثلاً، لو أن مصرياً حمل علم فلسطين، وصعد برج القاهرة هاتفاً: "الحرّية لفلسطين"، أو وقف في ميدانٍ عامٍّ بالإسكندرية يهتف لفلسطين وبيده العلم؟... الإجابة هي: قرّرت الدائرة الأولى بمحكمة جنايات القاهرة المصرية، تجديد حبس أمين الشرطة في قسم الدخيلة بمحافظة الإسكندرية، عبد الجواد محمد عبد الجواد السهلمي، البالغ 45 عاماً، مدّة 45 يوماً إضافية، واستمرار حبسه في سجن بدر 2 على ذمّة التحقيقات في القضية رقم 717 لسنة 2024 (حصر أمن دولة)، على خلفية تضامنه مع الفلسطينيين العزّل في قطاع غزّة، ورفعه علم فلسطين.
وتستطيع أن تعدّد حالاتٍ أخرى بالتفاصيل، وردّات الفعل ذاتها، التي لا تخرج عن اتهام "مرتكب" رفع علم فلسطين بالجنون، أو بمشاركة جماعة إرهابية أهدافها.
وتستطيع أن تعدّد حالاتٍ أخرى بالتفاصيل، وردّات الفعل ذاتها، التي لا تخرج عن اتهام "مرتكب" رفع علم فلسطين بالجنون، أو بمشاركة جماعة إرهابية أهدافها.
هذا، إن بقي في قيد الحياة.
هذه الأسئلة، وغيرها كثير، فرضتها الطريقة التي تعاملت بها السلطات البريطانية مع الرجل الذي أوقف الحياة مدّة 17 ساعة في قلب لندن، إذ ظلّت المنطقة المحيطة بالبرج الشهير مغلقةً طوال اليوم، وهي المنطقة التي يمرّ بها ملايين البشر يومياً، ما يعني أن تظاهرة الشخص الوحيد صارت أكبر من مليونية، وأضخم من مسيرة تقطع شوارع لندن وميادينها، يشارك فيها مئات الآلاف، فيما نجحت ملحمة الرجل في كسر حالة العمى الإعلامي، وفرضت نفسها خبراً رئيساً في كلّ الصحف والمحطّات التلفزيونية البريطانية، والعالمية.
فما الذي يدفع رجلاً إلى هذه المخاطرة الرهيبة، والتحدّي الكبير للصمت الدولي المتواطئ مع الجريمة الصهيونية ضدّ الشعب الفلسطيني؟
وما الذي تعنيه هذه الجسارة الاستثنائية في النضال؟
المعنى الأكثر وضوحاً لهذه الليلة الخالدة، التي أعتلت فيها فلسطين قمّة أكبر معالم لندن السياحية (والسياسية كذلك)، أن فلسطين هي مسطرة العالم الأخلاقية، هي خطّ الاستواء الإنساني، والحدّ الفاصل بين الحقّ والباطل، وبين العدل والظلم، وبين أن تكون إنساناً أو تكون ترامب وتشكيله العُصابي.
تقول لنا ملحمة الرجل أيضاً، إنه ليس شرطاً أن تتكلّم العربية، وأن تحمل ملامح واسماً عربياً لتكون شقيقاً للشعب الفلسطيني، بل يمكنك أن تكون شقيقاً لفلسطين وأنت لا تعرف العربية أو تعيش في بلد عربي، يكفيك فقط أن تكون إنساناً وصاحب ضمير، مثل دان، ومثل نائبة حزب العمّال البريطاني، جو كوكس، وهي أمّ لطفلتين صغيرتين، لقيت حتفها عام 2016 بيد يميني عنصري متطرّف، قتلها رمياً بالرصاص وطعنا بالسكّين، في حادثة إرهابية استهدفتها لأنها الناشطة المعروفة بمواقفها الداعمة للقضية الفلسطينية، إذ كانت عضوةً في مجموعة أصدقاء فلسطين في البرلمان البريطاني عن حزب العمّال، عندما كان في رأسه رجل نبيل اسمه جيرمي كوربين.
تستحق جو كوكس، بل تشرّفنا أخوّتها، فقد كانت قطعة من ضمير يتذكّر فلسطيننا المحتلّة، وتناهض السطو الصهيوني في الأرض وفي التاريخ.
المعنى الأكثر وضوحاً لهذه الليلة الخالدة، التي أعتلت فيها فلسطين قمّة أكبر معالم لندن السياحية (والسياسية كذلك)، أن فلسطين هي مسطرة العالم الأخلاقية، هي خطّ الاستواء الإنساني، والحدّ الفاصل بين الحقّ والباطل، وبين العدل والظلم، وبين أن تكون إنساناً أو تكون ترامب وتشكيله العُصابي.
تقول لنا ملحمة الرجل أيضاً، إنه ليس شرطاً أن تتكلّم العربية، وأن تحمل ملامح واسماً عربياً لتكون شقيقاً للشعب الفلسطيني، بل يمكنك أن تكون شقيقاً لفلسطين وأنت لا تعرف العربية أو تعيش في بلد عربي، يكفيك فقط أن تكون إنساناً وصاحب ضمير، مثل دان، ومثل نائبة حزب العمّال البريطاني، جو كوكس، وهي أمّ لطفلتين صغيرتين، لقيت حتفها عام 2016 بيد يميني عنصري متطرّف، قتلها رمياً بالرصاص وطعنا بالسكّين، في حادثة إرهابية استهدفتها لأنها الناشطة المعروفة بمواقفها الداعمة للقضية الفلسطينية، إذ كانت عضوةً في مجموعة أصدقاء فلسطين في البرلمان البريطاني عن حزب العمّال، عندما كان في رأسه رجل نبيل اسمه جيرمي كوربين.
تستحق جو كوكس، بل تشرّفنا أخوّتها، فقد كانت قطعة من ضمير يتذكّر فلسطيننا المحتلّة، وتناهض السطو الصهيوني في الأرض وفي التاريخ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق