عسكر دمهم خفيف!
(1)
تسريبات أسيادنا الكابسين على أنفاس مصرنا المنكوبة بهم، عموما أصبحت مصدر بهجتي وتسليتي الوحيدة هذه الأيام. من زمان لم أعد أفتح «موجة كوميدي» أو «روتانا سينما مش هتقدر تغمض عينيك».. الدنيا اختلفت.. دخلنا عصر «اغمز بعينيك» و « قرب لي.. بص لي». قناة «مكلمين» تعيد تكرار بث التسريبات. وكل مرة أسمعها أكتشف فيها الجديد.لا أستطيع أن أفرق بين تسريب وآخر. كلهم في المسخرة سواء. الكل ظل يحلل ويفند التسريبات، وركز على حكاية الطمع و «الرز المتلتل» و «الحباية ونص» و «التراامادول» وطريقة الكلام والتعبيرات السوقية.
ربما لم ينتبه أحد لطريقة الحوار، فبطل التسريبات سكرتير المكتب، لم يعارض سيده أبداً في أية كلمة قالها أو رأي طرحه. حتى لما طلب الأخير أن يكون «التسول» نقدا، رد العبد المطيع: «تمام يا فندم». هنا مربط «البيادة».
دولة العسكر لا تعرف سوى السمع والطاعة. لا نقاش ولا تشاور ولا شورى. الواحد منهم ظل طول عمره إما أن يتلقى أوامر، أو يعطي أوامر. ليس مهما أن تكون صحيحة أو خاطئة. المهم التنفيذ من دون قيد ولا شرط حتى لو كانت النتائج كارثية.
(2)
التسريبات ذكرتني بتجربة محدودة عشتها عن قرب عدة أيام في «تفكير الدولة المعسكرة»، تكشف الأسلوب المتدني والشتائم في التعامل فيما بينهم.قبل نحو 11 سنة ذهبت مع زميل مصور ومسؤولة الإعلانات في المجلة التي كنت أعمل بها أيامها، إلى محافظة ساحلية لعمل ملف عن السياحة هناك. الملف كان يتضمن مادة إعلانية عن القرى السياحية في المحافظة. لم أكن أعرف وقتها «سيادة اللواء المحافظ».
لكن السؤال الذي ألـح على بالي: لماذا لواء لمحافظة سياحية.. هل يفهم في السياحة ولديه رؤية لتطويرها.. هل هو خبير في التسويق السياحي.. أم أن كل خبرته السياحية أنه زار مع الأولاد الأهرام وأبوالهول؟!
لم أجد إجابة. الوحيد الذي يعلم إمكانات هذا الرجل شخص واحد فقط اسمه حسني مبارك. كان المخلوع يضمن ولاء رجال الجيش بتعيينهم في وظائف مهمة بعد خروجهم على المعاش. محافظ أو رئيس مجلس مدينة أو رئيس شركة قابضة أو جهاز محاسبي أو رقابي. بالتالي كان الجميع يصمت على أي فساد في الدولة انتظارا لمكافأة ما بعد الخدمة التي تدر عليه «شيء وشويات» مصحوبة بمظاهر أبهة لم يعشها في حياته.
(3)
في بداية التعارف مع المحافظ لاحظت أنه يوبخ مساعديه ومعاونيه في الهاتف بشتائم مقذعة. لما لاحظ دهشتي، قال: ما تستغربش.. أصلي أول ما جيت مشيــت جميع رؤساء مجالس المدن وجبت بدالهم زملائي السابقين في الجيش اللي كانوا تحت إيدي.. يعني أشتمهم براحتي ويتحملوا (!).
بتكرار لقاءاتي مع سيادة اللواء المحافظ، اكتشفت طبيعته وطريقة تفكيره التي استمدها من حياة «الميري» ولا تعرف غير تنفيذ الأوامر، وإلا فالبديل هو «أورنيك الذنب».
لما بدأنا جولتنا في القرى السياحية لعمل الملف، كان أصحاب بعضها يرفضون الإعلان في مجلتنا -ومعهم حق- فهي تصدر بالعربية، بينما زبائنهم من الدول الأوروبية ولن يروا أساسا تلك المجلة، وبالتالي فالإعلان بها بلا فائدة.
لكن زميلتي مسؤولة الإعلانات لم تكن تصمت. ترفع الموبايل وتتصل بسيادة اللواء المحافظ، فيتصل بدوره بصاحب القرية مهددا: «هتعمل الإعلان ولا أقطع عنكم الميه والكهرباء!!».
كان المسكين يرضخ مجبرا ويخسر مبلغ الإعلان، وإلا حلت عليه لعنة المحافظ.
كنت أتعجب من سر مجاملة سيادة اللواء لزميلتنا، حتى عرفت أن والدها كان لواء أيضا وزميلا لسيادة المحافظ. مفيش مشكلة اللواءات لبعضيهم وزيتنا في دقيقنا!
كان المحافظ يقابلنا كل ليلة تقريبا على العشاء بعد انتهاء عمله، نتجاذب أطراف الحديث. كالعادة عندما يتكلم تظن أنه في ثكنة عسكرية. على الجميع أن يصمت ثم يشيد بحكمة وحنكة سيادته، وهي المهمة التي كان ينفذها باقتدار زميلي المصور وزميلتي مسؤولة الإعلانات. كنت أحيانا أكتم الضحك من تحليلاته وآرائه التي تنتمي لفصيلة «الفكاكة».
ذات مرة استدعى «صاحب أكبر شركات عقارات في المحافظة» -حسب تعبيره- لنجري حوارا عن مشروعاته ودوره في خدمة الإسكان بالمحافظة. حضر صاحبنا فوجدناه مقاولا بائس المظهر. نهره سيادة المحافظ بشدة: أيه القرف ده.. روح استحمى والبس كويس وتعالى عشان هتتصور في المجلة.
ذهب «رجل الأعمال الكبير» نفذ الأوامر سريعا وعاد.
أجرينا معه الحوار فكان المحافظ يلقنه الإجابات.
بعد ذلك عرفت أن ذلك «المقاول» هو مجرد واجهة أسس له المحافظ الشركة، وأسند إليها تنفيذ مشروعات الإسكان، بينما عائدها يعود لجيب المحافظ ذات نفسه. يجعله عامر!
(4)
لم يكن الأمر يختلف عند رؤساء مجالس المدن الذين التقيناهم.. هم كما ذكرت عسكر مثل قائدهم المحافظ. فعلوا مثله وجلبوا معاونين لهم من زملائهم السابقين بالمعسكرات حتى يشتموهم براحتهم. أظرفهم كان ذا شارب يقف عليه الصقر. في مكتبه كان يتحدث بعفوية. لما بدأنا تسجيل الحوار الصحافي، قام فجأة وقال: «لأ..استنى شوية.. الحوار له أصوله»، ثم خلع جاكت البدلة، الأمر الذي أثار ريبتي مع زميلي المصور وزميلتي مسؤولة الإعلانات. لكن الرجل كان حسن النية. فتح مكتبه في ركن الحجرة، وأتى منها برابطة عنق وقال مبتسما وهو يرتديها: صورة الحوار لازم تكون رسمية بكرافتة.. مش كده الأصول ولا أيه؟!جلس منتشيا وبدأنا التسجيل. لاحظت أنه يحاول ارتداء ثوب الجدية، وقد ظن نفسه مثل الجنرال شوارزكوف -وكان ملء السمع والبصر أيامها- وهو يجيب عن أسئلة محطة CNN.
سألته عن خطته للنهوض بالمدينة، فأجاب: «بـص بقى.. أنا أول ما جيت وضعت خطة بنت............ كلب للتطوير.
وكنت أنزل بنفسي في حملات إزالة الإشغالات من الطريق.. ولو قابلني واحد مخالف أقوله امشي يا..........أمك من هنا، ولا كان يهمني».
ثم استطرد بخفة ظل: طبعا الكلام والشتايم دي مش هتنزل في المجلة، و «تفلتروها» طبعا.. فطمأناه: طبعا.. طبعا!
(5)
بعد الحوار الذي لم أستطع خلاله أن أتوقف عن الضحك بسبب تعبيراته وأسلوبه الذي كان يبدأ جادا، وينتهي هزليا، قرر اصطحابنا ليتفقد معنا القرى والفنادق بنفسه. وقفت وقلت له: اتفضل يا سيادة اللواء.
لكنه كعادته راح فجأة إلى ركن الغرفة وخلع الكرافتة والجاكت، وارتدى نظارة شمسية و «كاب»، وقال وهو أمام المرآة يهذب شاربه: «مش اتفقنا إن كل حاجة وليها اللي يناسبها».
وأضاف: هناك سياح من كل حتة.. وبرضه الأمر ما يسلمش.. ممكن نقابل سايح ولا سايحة فالواحد يكون مستعد لو محتاجة حاجة عشان يعرفوا إننا مش معقدين والمسؤول عندنا كاجوال!
هذا هو نمط وتفكير من يتركون أقدس وأشرف مهمة وهي الدفاع عن الوطن، ويعملون في مناصب ليسوا مؤهلين لها.
إذا كنتم يا أهل مصر تريدون مثل هذه النماذج تحكمكم فـ «بالهنا والشفا» عليكم «الرز المفلفل»!
• shrief.abdelghany@gmail.com
 @shrief_ghany
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق