عطاء
- كم أعطيته؟
سؤال عفوي قاله الطفل لوالده، وهو يدسُّ شيئاً من المال في يد محتاج ظاهر الفاقة!
- يا بني لو افترضت أن هذا هو السؤال الخامس فما تتوقع أن تكون الأسئلة الأربعة قبله؟
(أولاً) ماذا أعطيته؟
العطاء ليس مادة فحسب، وأخوك الإنسان محتاج إلى عطاء الحب والعاطفة والمساندة، محتاج إلى العطاء المعنوي قبل المادي وأكثر من المادي.
قد يعتذر أحد عن شيء لا يملكه، ولكنه يعوّضك بما يملك من الدعاء والتفاؤل والوعد الطيب والدعم اللغوي الجميل، فلا تملك إلا أن تقول له: إن ما أعطاك أعظم مما كنت تريد!
ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.
(ثانياً) لماذا أعطيته؟
أن تعطي لله شكراً، أو يحملك على العطاء إحساس نبيل، أو دافع إحسان لقرابة أو جوار أو رغبة في فضل أو توقع عوض من الله عاجل وآجل، يعني أن يدوم العطاء ويثمر؛ لأن دافعه عميق وصادق.
أو أن تعطي فخراً ورياءً وتظاهراً بالجود أو حباً للاستعلاء على الناس فهو الحبل المنقطع الواهن {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا } (9) سورة الإنسان.
الدافع هو المهم.
(ثالثاً) كيف أعطيته؟
ما الوعاء الذي وضعت فيه أعطيتك؟ أهو البذل السخيّ النديّ الكريم الذي لا يرى لنفسه فضلاً، أم هو المن والأذى؟
أن تعطي ببسطة الكف وطلاقة الوجه وابتسامة الرضا ومقاربة الاحتواء.. أم تمد يدك بتثاقل وإعراض وازدراء، وكأنك ترى المحتاج داءً تخشى عدواه، أو تحاذر بلواه؟
{قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} (263) سورة البقرة.
(رابعاً) متى أعطيت؟
توقيت العطاء يضعفه أو يضاعفه، مَنْ أعطيته على حين فاقة وفي ظرف عصيب لن ينسى جميلك، وحين تعطي وأنت محتاج فتُقاسم أخاك خبزتك ولقمتك وقرشك فهو الفلاح {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (9) سورة الحشر.
الكريم يعطي قبل السؤال، ويجود قبل التعرّض، ويكفيه رقياً أنه أدرك حاجة أخيه قبل أن يبوح بها، كما قال أمية بن أبي الصلت:
أَأَذكُرُ حاجَتي أَم قَد كَفاني حَياؤُكَ إِنَّ شيمَتَكَ الحَياءُ
إِذا أَثنى عَلَيكَ المَرءُ يَوماً كَفاهُ مِن تَعَرُّضِهِ الثَناءُ
أما (كم أعطيته)؟
فربما أغنى القليل عن الكثير، وقد يبارك الله في الدرهم فيسبق ألف درهم؛ كما في الصحيح، وخير الصدقة جهد المُقلّ، وأطيب العطاء ما كان عن سخاوة نفس وطيب خاطر، وفي محكم التنزيل ضُرب المثل للمتصدِّق بـ {حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (261) سورة البقرة.
حين تعطي فأنت تأخذ، وحين تعطي فأنت تعطي نفسك، تعطي يسيراً وتأخذ كثيراً، وما تعطيه فهو من فضل الله الذي آتاك {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (9) سورة الحشر.
اصنع جميلا ًوارم في البحر، لا تتحدث عما أعطيت ولا تتذكره إذا لقيت الآخذ، ولا تعلن عنه إلا أن يكون في ذلك حفز للآخرين على البذل والعطاء، وسع مفهوم العطاء وتجاوز به حدود الماديات إلى العواطف والمشاعر الإنسانية الفياضة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق