السبت، 9 سبتمبر 2023

الربيع المفقود

 الربيع المفقود

جيل اليأس

أنا من جيل كان اليأس قد ملأ أركان حياته، فاقد الأمل في أن ترى أوطاننا العربية فسحة من الحرية يومًا. بدأت الدولة العربية الحديثة في تسعينيات القرن الماضي(حقبة وعينا) تفقد ملامحها الإيديولوجية، وجلس أبو عمار مع الصهاينة في صلح يتلوه آخر، وقبلها كان صدام بخطوته الجنونية في الغزو قد حطم كل مشروع رأى الأمل في نهاية الثمانينيات: مجلس التعاون العربي، اتحاد المغرب العربي. تقاسمتنا حينئذ رؤى واتجاهات مشوشة، وكنا نحسبها طوق النجاة لنا جميعا للخروج من نكبات لا حد لها، كان آخر النكبات تلك احتلال بغداد: عاصمة مجدنا وركننا الذي تأوي إليه ذاكرتنا المنهكة.

شهدنا غزوات العولمة وفتْح الأوطان لبضائع الغربي ونفوذه وثقافته ووجباته السريعة…السريعة جدا. رأينا كيف عزمت الجمهوريات لتكون ملكيات بدون تيجان ولا عروش، نردد النشيد (الوطني) ليخلف الابن أباه في مسيرة إذلالنا المتوارثة. فقدت الأوطان ألقها، ليبدأ الهروب الكبير وتصبح الغربة لنا وطنا. خدعتنا مظاهر الاستهلاك، وتكاثر القنوات الفضائية، وانفتاح الانترنت على مصراعيه، فلم نر إلى أي هاوية كنا نغنّي بالسقوط إليها. كنا نشعر أننا في عصر جديد لم يمر مثله في تاريخ البشرية، صرعتنا تلك السكرة، وكان السجان-أثناء ذلك- يشيد معتقلاته في كل أرجاء الوطن، والزعيم يهيئ لنا أجواء رحبة من الكبت والقمع، والغازي أعد عدته لينزل في كابل وبغداد، وبقية العواصم اعتمد فيها على غلمانه من العلقميين. كانت التسعينيات ختام لعبة جلس فيها لاعبا (الشطرنج)-قطبا العالم-ليحركونا، نحن (أحجارها)، كيفما شاءت رياحهما، ثم انهار كل شيء لتخرج الرأسمالية منتصرة حتى في أوكار اليسار.

لعبة نحن أحجارها

انتهت عند جيلنا حقبة الثمانينيات؛ انهزم اليسار بوفاة أبيه، ورضت الصين-آخر معاقل الشيوعية-بنشر بضائعها بأسعار بروليتارية تناسب الجميع، وسحقا للأفكار المهترئة. انتهى جهاد الأفغان بذبح المجاهدين بعضهم بعضاً، وعاد الأفغان العرب ليوجهوا بنادقهم إلى (الكفرة) الذين فروا من الزحف. وكانت مآسي المسلمين تتوالى حينها: من الشيشان إلى البوسنة، وقبلهما فلسطيننا التي تخلى عنها الجميع. والعمليات المجنونة لاستهدافنا لم تتوقف؛ من الشقيق قبل العدو الذي بدأ ينقل معركته التي دعم فيها (المجاهدين) بالأمس، فاجتمعت مدافعه مع مدافع أعوانه البارحة والذي أطلق عليهم (إرهابيين). وتوج الجنون باقتحام المسجد الأقصى (سنة 2000) ثم ضربات الحادي عشر من سبتمبر، والتي اتخذ منها الاحتلال ذريعة لغزونا بعد أن ضاق باحتلاله لنا (عن بُعد). كان على المحتل حينها أن يواجه روح الصمود التي تواجهه، والتي كان الإسلام والانتماء إليه محركها ووقودها.

الصحوة التي ترنحت

غزا صدام الكويت فجلب الغزاة الذين حسبنا أن آباءنا قد طردوهم إبان حركات التحرر الوطني، اكتشفنا حينها أن الغزو وراثة يرثه المحتلون لأبنائهم، ونرث نحن الذلة وصنوف القهر. وزج بمن عارض مجيء المحتل في السجون، ودخلت بلدان مثل الجزائر في مسيرة من الدماء طال أمدها، واعتلى السودان إسلاميون أثبتوا ألا فرق بين من كان يقهرنا باسم الاشتراكية والقومية العربية، وبين من يقتلنا باسم الله. خرج علماء السلطة ليعلنوا أن سيد قطب قتل بسيف الشرع، وأن الحاكم هو حاكم بأمر الله ومعصوم من فعل كل شيء إلا من سفك دمائنا. تشوهت صور اللحى إذن؛ فخرجت مسلسلات وأفلام التسعينيات معلنة الحرب بلا هوادة على اللحية والحجاب، وأن الحل هو في لبس الجينز ومشاهدة أفلام هوليوود، والرقص على أنغام ماكرينا، ووجبات مكدونالد التي ستسارع بنا إلى أبواب الحضارة. تخلت الأنظمة عندنا عن ملامحها لتساير حقبة النظام العالمي الجديد، وتمارس دورة أخرى من دورات قهرنا بأقنعة جديدة ومختلفة.

أنظمة بلا ملامح

انهار الاتحاد السوفيتي فانهارت معه الملامح الأيديولوجية للأنظمة العربية، مما أوقع من يعارضها في أزمة فكرية غريبة؛ فالأنظمة بدأت تلعب على كل الأوتار الفكرية، تارة تستخدم الإسلام، ومرة ترفع شعار العروبة، حتى وصل بها الأمر أخيرا إلى استخدام الوطنية بأسوأ ما يمكن استخدام دعاوى (أصحابها أدعياء).  أصبح لدى الأنظمة العربية عدد من الأقنعة تغيرها متى ما تشاء، وتسحب بها البساط من تحت من يعارضها. رضي بعض مثقفينا أن يصبح (زمّارًا) يعزف للأنظمة أغاني المديح، ولندخل في سكرة إلى حين عذاب، ليطول سهرنا الطويل وليلنا الذي استحكمت ظلماته، ونملأ فلوات خيباتنا رقصًا على آلامنا، ونلوذ من آمالنا بتسبيحات لا تنتهي من الحذر والريبة، طال انتظارنا لصبح شعرنا أنه خاننا (أزيد في الليل ليلُ، أم سال بالصبح سيلُ).

وأراد الشعب…

كانت الشموع تخادعنا بوهم احتراقها لتضيء لنا أركان خيباتنا، فأتى شاب تونسي (مات) لنحيا نحن. تبخرت حكمة الشموع ومعها كثير من الأوهام والأكاذيب، وصعدت شعوبنا على قهرها وقاهريها، فخلدوا بوعزيزي بالتسبيحة الكبرى: الشعب يريد إسقاط النظام. تساقطت الأنظمة التي لم نكن نحلم يوما بانقضاضها، واكتشفنا أن إرادتنا جعلت من هذه الحكومات بيوتًا من ورق. تلاشت الفروقات والإيديولوجيات بيننا، توجهنا نحو قصور الذين ظلموا، ورأى العالم وجوها تنشد الحرية، ودماء تٌقرّب من أجلها، وشقت ليل تونس الطويل بشارة التونسي لأبناء وطنه (بن علي هرب). حاولت الأصنام النجاة بنفسها، قال وثن أنه فهمنا أخيرا، وأرسل آخر الجمل بدلا منه ليدهس أرواحنا، وصنم توعد بأن يطهر أوطاننا منّا (دار دار، زنقة زنقة)، وبحث آخر عن أيادٍ أمينة ليسلمنا لها، واستعان أخوه ببراميل الموت لتنهي عزيمتنا وترسلنا إلى المقابر.

طغاة في صف واحد

أبى عقد الطغيان أن تنفرط حباته، تلاشت الحدود بين الطغاة واجتمعوا صفا واحدا، وأصبحوا جميعهم في (الطغيان) شرقٌ، أدرك الطغاة أن ثوراتنا قد جعلتهم (جذاذًا)، فأضرموا النار وتنادوا فيما بينهم: حرّقوهم (وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين). سارت الأموال ومعها الجيوش وكثير من حشود صدمتها يقظة الحرية، وعدد من مغفلي الثورات، (وتنادوا مصبحين) أن اغدوا على وأد ثورات الحرية!

أبى الطغيان إلا الزج بأوطاننا في أنفاق مظلمة من القتل والتشريد والتهجير، فاستقبلتنا الملاجئ ومتاهات العذاب وأعماق بحار الظلمات، وتوسد وجه (إيلان) الصغير رمال شاطئٍ أبى أن يستقبله، غدر به البحر كما غدر بنا كل شيء. حسب الظالمون وجنودهم أن تلك النار التي اتقدت قد أطفأها انتقام القنابل والصواريخ وإخلاء الأوطان من ذرات ترابها، لكن جذوة الحرية ما فتئت تتقد في العراق ولبنان والجزائر والسودان، وفي الأخيرتين تساقط صنمان ولحقا بأندادهم الذين ولوا في ربيع 2011. وما حدث أعقاب ربيعنا الأول تكرر بعد ربيعنا الثاني؛ فدخلت أوطاننا في متاهة من الدمار، لتتوجه أصابع من استمرأ الوثنية إلى الثوار والثورات، وأن نداءات الحرية هي التي قوضت الأوطان، وليست عقود القهر والفساد والإفساد الذي مارسه الطغاة بنجاح منقطع النظير، فكل شيء في أوطاننا عبثي وعشوائي ما عدا الإفساد المنظّم الذي طالما أفلح فيه المفسدون في الأرض.

سؤال الألم

إذن، جاء دور سؤال الألم: هل أخفقت ثوراتنا؟ هل فُقد ربيعنا مع كل ما فقدناه لنحبر فيه المراثي ونكتفي بذلك؟ أربكتنا مثل هذه الأسئلة منذ تنكر الجميع للثورات حتى أبناؤها.

ثوراتنا الأخيرة لم تربكنا بالمعنى القريب والمبتذل للإرباك؛ بل أحدثت فينا هزّة بعثرت كل ما عهدناه وعرفناه واعتدنا عليه من رتابتـنا (المقدّسة). عرفنا الثورات السابقة واضحة المعالم، سافرة الوجوه، محددة الأيديولوجيا، وربما اكتفينا من أهدافها بكتابتها على الصفحة الأولى من جرائدنا، أو ترديدها أثناء الطوابير الصباحية في المدارس، أو غير ذلك (ربما كانت لوحة ضخمة تعلقت بأعلى عمود ترقد تحته أكوام من المهملات)…كل ذلك لا يهم؛ فربما كان ذلك دغدغة لأحلامنا التائهة بوجود أرض تأوي إليها. ولكننا فهمنا الثورة ضمن سياق واسع وطويل؛ فهمها بعضنا كقانون رياضي واضح ومحدد يأتي لنا بحل المعادلة الشائكة بعد جهد بسيط أو جهيد، ولعل بعضنا فهم الثورات كمباراة كرة سدد أحد الفريقين ما يكفي من الأهداف للفوز واللعنة على الخاسر. كانت الثورات بالنسبة لنا هكذا؛ حدثٌ مفهومٌ يؤدّي إلى نتيجة ملموسة، قد تكون ملموسة ولو في خطب الزعيم فوجودها الحسّي في الواقع لا يهم كذلك.

كيف لنا إذن استيعاب ما حدث في السنوات الأخيرة وهو أتى مغايراً لكل ما عرفناه من (ثورات) الماضي؟ كيف لنا فهم ذلك ونحن غارقون في رتابة قاتلة لأكثر من نصف قرن؟ هذه الرتابة، والاعتياد على الفشل، أو الرغبة الجموح في أن نرى ولو جانبا (ناجحا) في أوطاننا… كل ذلك أملى هذا السؤال الأليم: هل فشلت ثوراتنا؟ لم يكن السؤال ذا علاقة بالثورات بقدر ما كان له علاقة بتركيبتنا الفكرية التي تشكلت خلال سنوات المتاهة. لذلك نسأل عن النجاح والفشل ولو في مفاهيم لا علاقة لها بذلك أصلاً؛ كفكرة (الثورة) كما شهدناها في السنوات الأخيرة. فليست ثوراتنا تلك انقلابات نبحث عن فشلها أو نجاحها؛ بل هي هزّة فكرية تعرّضنا لها كشفت لنا فداحة صمتنا لعقود امتلأت بالخيبات. كشفت لنا هذه الثورة/الهزة فوضى حياتنا بكل جوانبها، وأرتنا ما حرصنا على دفنه من فساد استشرى في أركان أوطاننا تجاوز الأنظمة التي تحكمنا إلى جوانب مرعبة. هذه الثورات، كما أزعم، كانت دلالة على تغيير فكري وسلوكي لم نعد قادرين على كتمانه أو إعطائه أصناف (المهدّئات) لنبقى تلك الشعوب المهذّبة الساكنة المعتادة على قول (نعم في وجه من قالوا نعم). كان لا بد لتلك الـ(لا) الدنقلية أن تخرج صارخة وبكل قوّة لأنّنا لم نثر أوّلاً؛ بل تغيّرت أفكارنا قبل كل ذلك.

لم تكن هذه الثورات إسقاطاً لأسماء تعلقت صورها على كل جدراننا الصامتة؛ بل كانت كشفاً لمدى الدمار الذي حل في الأوطان والشعوب. ما يُكتَب هنا وهناك وما نتتبّعه كقرّاء وكل النقاشات التي تدار في كل محافلنا عن كل شيء هو أثر من آثار هذه الهزّة التي سميناها (ثورة).

 ربما علينا أن نعي اليوم أنّ الثورات ليست حلاً سحريّاً، ولا عصا موسى نضرب بها بحر صدماتنا فينفلق لنعبر إلى ضفّة الأمان. بل إنّ هذه الثورات طريق طويل؛ مملوء بالعقبات والتحدّيات التي تعطينا قوّة الانتصار عليها بدلاً من الهزيمة عندها. وعلى أولئك الذين يبحثون عن النجاح والفشل في الثورات – إذا سلّمنا بمثل هذا الجمود هنا – أن يدركوا أنّ الفشل هو محطّة إلى النجاح كذلك؛ فالحياة سعي مليء بكل ما يفرحنا ويترحنا، ولا يتوقّف عن هذا السعي سوى من أراد الموت!

ستعود الثورات لا محالة، وسيقود الذين هُجّروا من أوطانهم المسيرة نحو الحرية، وسيدرك الطغاة أن الثورات التي خانوها بالرغم من سلميتها ستعود، ولكنها هذه المرة لن تكون (بردا) ولا (سلاما).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق