أليكس هوشولي: «العالم انتهى عام 1973»
في مقاله المنشور حديثًا في مجلة نيوستيتسمان البريطانية تحت عنوان «The world ended in 1973» (العالم انتهى عام 1973) يقول الكاتب البرازيلي أليكس هوشولي أن الغرب يواجه تراجعًا وانحطاطًا تاريخيًا بعد مرور أكثر من عقد من صعود الموجة الشعبوية التي أعقبتها جائحة كوفيد- 19 العالمية، وعودة الحرب إلى منطقة شرق أوروبا، ويشير إلى أن هذا التصور عن الغرب أصبح سائغًا وغير مستهجن، بل وبات منتشرًا أيضًا على نطاق واسع.[[1]]
يشير هوشولي إلى أن هذه السردية ذائعة الصيت مشبعة في إحدى جوانبها برؤى اليمين السياسي، الذي غالباً ما يتوق إلى القيم المفقودة التي ازدهرت خلال فترة خمسينيات القرن العشرين على صعيد الاقتصاد الحر والأدوار التقليدية بين الجنسين؛ وهي بحسبه رؤية طوباوية للأشياء قبل أن تنهار. ويشير كذلك إلى أن اليمين عادة ما يترافق لديه التراجع الحضاري بجنون العظمة العنصري، والرثاء لفقدان القوة الوطنية. ولكن اليسار من جهة أخرى وفقًا لهوشولي لديه كذلك حنينه الخاص به إلى عصر ما قبل تاتشر وريجان، الذي شهد ازدهار دولة الرفاه في الغرب، حيث التزمت الحكومات بدور أكبر على صعيد الخدمات والرعاية الاجتماعية، وتمتعت فيه النقابات العمالية بقوة أكبر.
بحسب هوشولي يسعى كل من اليسار واليمين اليوم إلى العودة إلى يقينيات حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ويشير إلى أن الصورة التي رسماها هي صورة واحدة اختار كل منهما التركيز على جزء مختلف فقط من اللوحة. ويشير إلى أن سردية تدهور الغرب السائدة اليوم تشهد على هذا التخلي عن النظام الاجتماعي الذي يرتكز على النمو الاقتصادي القوي والمستمر وعلى التنمية الإنسانية. ويؤكد أن هذا النظام قد انتهى في الغرب حقيقًة عام 1973، ولكن الأمر استغرق حوالي خمسين عاماً قبل أن يصبح الوعي بهذا الانحدار الغربي منتشرًا على نطاق واسع.
كان عام 1973 بحسب هوشولي هو العام الذي لم يتعاف منه الغرب أبدًا، حيث كانت الصدمة النفطية التي أحدثتها منظمة أوبك بمثابة نهاية لعصر الطاقة الرخيصة، وأدى التضخم والتباطؤ الاقتصادي الذي أعقب ذلك إلى توليد أزمة من شأنها أن دفعت صناع السياسات إلى التوصل إلى حلول ليبرالية جديدة. وكان انقلاب بينوشيه في تشيلي في ذلك العام هو أول الملامح الوحشية لذلك الهجوم المضاد. وكان تنصيب ريتشارد نيكسون في الولايات المتحدة رئيساً لفترة ولاية ثانية، يوحي بأن ثورة الشباب الغربي الجذرية التي بلغت ذروتها في عام 1968 قد انتهت. وفي ذلك العام أيضًا بدأت ظاهرة الزيادة الهائلة في أعداد نزلاء السجون الأمريكية، في دلالة واضحة على أن المجتمع الأمريكي لم يعد قادرًا على حل المشكلات الاجتماعية من خلال خلق مجتمع أكثر أمنًا وعدلاً، يستطيع أن يوفر الرعاية والرفاه للجميع.
منذ ذلك الحين وصاعدًا انعطف التقدم التكنولوجي إلى مجالات جديدة مثل مجال الاتصالات عوضًا عن مجالات الصناعة الثقيلة مثل صناعة السيارات ووسائل النقل؛ ومن هنا كانت بذور العصر الرقمي؛ ويشير هوشولي في هذا السياق إلى أن أول مكالمة تليفونية عن طريق الهاتف المحمول قد جرت في عام 1973.
خلال تلك الفترة الممتدة منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا لم تعد المؤسسات السياسية الغربية تستجيب بشكل فعال للإرادة الشعبية بحسب هوشولي. وباتت المجتمعات الغربية تعاني من الاكتئاب والتشتت، وأصبحت فريسة سهلة للوقوع تحت تأثير الساسة الديماغوجيين. وأصبحت الثقافة الغربية مسطحة وبلا حياة بسبب التسليع. وباتت الاقتصادات الغربية تعاني من الركود، وانحدرت معدلات إنتاجية الأفراد بعد انفصال الأجور عن الإنتاجية، الأمر الذي أدى إلى تزايد عدم المساواة في المجتمع. ويشير هوشولي إلى أن الكثيرين يميلون إلى تحميل المسؤولية عن كل هذا لما يسمى بـ “النيوليبرالية” أو “الليبرالية الجديدة” وكأن متاعب العقود الماضية كانت ببساطة كانت مجرد قصة منعطف خاطئ في السياسة؛ بحيث إذا عُكس ذلك الوضع، فمن الممكن أن يعود الغرب إلى أيام مجده.
يقول هوشولي إن العودة إلى ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت مستحيلة؛ فقد كان هذا الوضع وضعًا تاريخيًا فريدًا، انخفضت خلاله معدلات البطالة، وانضبط سلوك النخب السياسية بسبب تجربة الحرب المروعة والخوف من التهديد الشيوعي، وشهدت الاقتصادات معدلات نمو مرتفعة خلال فترة إعادة إعمار ما دمرته الحرب، وكان الاقتصاد العالمي ينمو بمعدل 5 في المائة سنويا من عام 1951 إلى عام 1973، بينما يتراوح هذا الرقم الآن حول 3 في المائة في أحسن الأحوال.
يشير هوشولي إلى أن الإجماع السياسي الغربي في فترة ما بعد الحرب، عندما مُنحت الطبقات العاملة ثقة عالية بالنفس، لم يعد موجوداً. ويقول إن إعادة هذه الترتيبات سوف تتطلب حرباً أخرى بالحجم نفسه، وأن الإصرار على العودة إلى هذه الأوضاع هو مجرد حنين؛ وأن النظر إلى تلك الفترة باعتبارها الخط الأساسي لما ينبغي للغرب أن يكون عليه هو خطأ فادح. وأن من يفعل ذلك سواء من اليسار أو اليمين، فهو يخلط بين حالة الاستثناء التاريخي وفكرة النموذج أو المثل الأعلى.
يقول هوشولي إن الحقيقة المظلمة هي أننا نواجه تباطؤاً اقتصاديًا دوليًا وإعادة تشكيل عالمي للاقتصاد، ولا يوجد أمل كبير في أن يتمكن معظم العالم من اللحاق بالركب. ويؤكد على أن الغرب قد وصل إلى نهاية طريقه التنموي ومعه العديد من الدول الأخرى. فالبلدان الفقيرة لا تتمتع اليوم بفرصة كبيرة للتصنيع؛ والعديد منها لن تصبح بلداناً متوسطة الدخل أبداً. وفي الوقت نفسه، تجد الدول المتوسطة الدخل نفسها في فخ ارتفاع التكاليف الإنتاجية وتراجع القدرة التنافسية؛ ومن ثم الاتجاه إلى تقليص التصنيع، وهو ما بدأ الغرب ككل القيامَ به منذ عقود من الزمن. وهنا، مرة أخرى، يمكننا أن ننظر إلى عام 1973 باعتباره نقطة تحول بارزة في هذا السياق؛ حيث وصل النظام المالي الدولي لبريتون وودز إلى نهايته في أوائل السبعينيات. وبدأ النظام الاقتصادي العالمي المستقر نسبيا في الانهيار.
يشير هوشولي إلى أن ارتفاع أسعار النفط في عام 1973 أدى إلى تدفق دولارات النفط إلى الأسواق المالية الجديدة. وكان النمو الهائل الذي شهدته أسواق رأس المال الدولية في واقع الأمر بمثابة دخول فاعل جديد إلى الشؤون الدولية، وهو صناديق ومصارف التمويل الدولي العملاقة، التي لعبت دورًا بدعم من مؤسسات رئيسية مثل صندوق النقد الدولي في إجهاض المسارات التنموية الوطنية.
يشير هوشولي إلى أن صناديق رأس المال الجديدة تلك، سمحت لفترة من الوقت، للدول ذات السيادة بالاقتراض، على أمل استمرار النمو القوي. ولكن بعد ذلك رفعت الولايات المتحدة أسعار الفائدة عام 1979، وهو الحدث المعروف باسم “صدمة فولكر”. وأصبحت خدمة الديون أمراً بعد ذلك لا يطاق، الأمر الذي أدى إلى ما عرف باسم “العقد الضائع” في مختلف أنحاء أميركا اللاتينية وخارجها. وأصبحت بعدها أزمات الديون السيادية ظاهرة متكررة، وخنقت أيدي التمويل العالمي سلسلة من البلدان مثل: المكسيك، والبرازيل، والأرجنتين، وتايلاند، وإندونيسيا، وروسيا، واليونان، وغيرها.
لم يكن عبء الديون وعولمة التمويل وحدهما ما قضى على حلم الدول النامية؛ فلم تعد الصناعة بعد ذلك من النوع الذي يعتمد على أشياء مثل المطاط والبنزين والصلب (كصناعة السيارات، على سبيل المثال) هي الصناعات الرائدة في مجال السلع ذات القيمة المضافة. بل صارت الأشياء ذات القيمة العالية، هي أمور غير مادية مثل براءات الاختراع والأسرار التقنية، التي تتم حمايتها من خلال حقوق الملكية الفكرية. ومع منع الدول النامية من دخول اللعبة، فإن العديد من البلدان ذات الدخل المتوسط باتت تشهد توجهًا مقلقًا ألا وهو التراجع عن التصنيع، بما تنطوي عليه تلك العملية من آثار سلبية طويلة الأمد. وهي آثار فعلت فعلها في مدن ومناطق كاملة في الولايات وبريطانيا؛ ولذا يمكننا أن نطلق لخيالنا العنان اليوم إزاء آثار نفس هذه العملية على دول ومجتمعات أخرى ذات مستوى دخل أقل بكثير.
يشير هوشولي إلى أن الصناعة أصبحت اليوم لا تنمو ولا توفر فرصًا للعمل، وأن الزراعة ذات الطراز القديم التي لا تعتمد على الآلات، بل على العمالة البشرية الكثيفة، قد اختفت أيضًا، مما دفع الجماهير إلى هجر الريف والانتقال إلى المدينة. وفي ظل العمل غير المستقر فقط في القطاع الخدمي، فإن التراجع عن الزراعة وتراجع التصنيع أدى إلى ما أطلق عليه الجغرافي مايك ديفيس ” planet of slums” (كوكب الضواحي الفقيرة).
قبل أن ينهي مقاله المطول والماتع يشير هوشولي إلى أن التطور الرأسمالي واللحاق بالركب بدا إمكانية حقيقية للدول النامية قبل عام 1973، ولكن الطموحات باتت اليوم محدودة. وهذه التوقعات المنخفضة تقلل الضغوط على القادة السياسيين؛ وهذا بدوره ينبغي أن يدفعنا جميعًا للبدء في التفكير خارج الصندوق فيما هو أبعد من حدود النظام العالمي الراهن الذي يتسبب في حرمان ومعاناة معظم جنسنا البشري. ويقول ختامًا إنه ليس ثمة عودة إلى عام 1973. ولكن إذا كان بوسعنا وبوسع الغربيين التأمل في هذه السيرورة من الانحدار الطويل، وفي حقيقة أن هذه العقود كلها هي “عقود ضائعة”؛ فقد يعمل هذا على تحفيزنا نحو تبني طريقة جديدة للتفكير، وعلى تصور عالم منفتح على احتمالات أخرى أكبر من حدود ما هو مطروح في الوقت الحالي.
[[1]]https://www.newstatesman.com/ideas/2023/08/world-ended-1973
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق