في ظلال الدستور: سيادة الأمة والملك العضوض والأمر بالطاعة (1-2)
المستشار شفيق إمام
عطفاً على المقالين المنشورين على هذه الصفحة يومي الأحد 3 في ظلال الدستور: الحكم الديموقراطي فريضة إلهية في الإسلام (1) و الحكم الديموقراطي في الإسلام فريضة إلهية (2)10 سبتمبر من الشهر الجاري اللذين تناولت فى أولهما الشورى باعتبارها فريضة إلهية ملزمة لكل من الحاكم والمحكومين يأثمان إثماً عظيماً بمخالفتها، وقد نزل فيها قوله تعالى: «وشاورهم في الأمر» وقوله سبحانه: «وأمرهم شورى بينهم»، وأرجعت في المقال الثاني مبدأ سيادة الأمة إلى هاتين الآيتين الكريمتين، فالشورى جوهر الحكم الديموقراطي، الذي نزل به القرآن الكريم في القرن السادس الميلادي، قبل الملكية الدستورية في بريطانيا في القرن السابع عشر وقبل الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر. وقد كان مبدأ الشورى ومبدأ سيادة الأمة مطبقين في عصر النبوة والخلافة الراشدة، وفي فترة قصيرة من العصر الأموي، في خلافة سيدنا عمر بن عبدالعزيز التي لم تزد على عامين وبضعة شهور وأيام، أعاد فيهما روح عصر الخلافة وروح الإسلام. المعجزة ومقومات الحكم في الإسلام ولئن كنت قد انبهرت بهاتين الآيتين الكريمتين في الشورى في قصرهما، فلم تتعدّ كلماتهما الست كلمات إلا أن المعاني التي حفلت بهما والتي بنى عليها الغرب أنظمة الحكم الديموقراطي بأشكاله وألوانه وتكويناته المختلفة أكبر من أن تحصى وتعد، فهي نعمة من نعم الله على عباده التي لا تحصى ولا تعد، فضلاً عن السنّة النبوية التي أفاضت في ذلك. وقد أقر القرآن الكريم مقومات الحكم فى الإسلام، ووضع الأساس القوي المتين والحصن الحصين في حكم عادل، يتمتع فيه الأفراد بحرياتهم الشخصية وحقهم في الحياة، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام»، ويقول المولى عزوجل: «مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً». (المائدة 22)، كما كفل الإسلام المساواة بين الناس جميعاً، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى»، ويخطب الرسول في الناس، فيقول: «إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»، كما كفل الإسلام الحريات جميعاً وأولها وعلى رأسها والتي بنى عليها سائر الحريات حرية العقيدة. حرية العقيدة فأول مبدأ أرساه المولى عز وجل في القرآن هو حرية الإيمان بدينه الذي أرسله هدى للعالمين، في قوله سبحانه: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ»، (البقرة 256)، وقوله: «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ». (الكهف 29)، وقوله تعالى: «قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا» (الإسراء 107)، وقوله جلت قدرته: «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ». (يونس 99)، فكيف يكون لعبد من عباده، مهما علت مكانته، سلطان أو سطوة على سائر عباده.يقول المولى عز وجل: «كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى». (العلق6-7) ومن قصص القرآن الكريم في آياته البينات على لسان فرعون حاكم مصر: «مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ». (يونس 92)، ومقابل ذلك يقول المولى عز وجل في قصصه على لسان ملكة سبأ (بلقيس): «قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ». (النمل 22).
الملك العضوض
وجاء بعد عصر النبوة والخلافة الراشدة ملك عضوض تنبأ به الرسول عليه الصلاة والسلام في العصر الأموي، أو بالأحرى الدموي، وقد نكل الخليفة بكل من لم يبايعه أو من خالفه في الرأي، حتى وصل التنكيل والقتل بآل بيت رسول الله.
وقد شهد شاهد من أهلها هو الخليفة الأموي العادل سيدنا عمر بن عبدالعزيز، إذ قال رضي الله عنه: «لو جاءت كل أمة بخطاياها، وجئنا نحن بالحجاج وحده، لرجحناهم جميعاً». وقد تلاه العصر العباسي ليقتل كل من يخرج على طاعة أمير المؤمنين أو طاعة حكام العصر العباسي، حتى أهل بيت رسول الله لم يسلموا من التنكيل والقتل وقد قتل الخليفة العباسي عمه العباس.
ویروی عن الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور أنه خطب في المسلمين قائلا: «يا أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده، وحارسه على ماله أعمل فيه بمشيئته وإرادته وأعطيه بإذنه، فقد جعلني الله عليه قفلا، إن شاء الله أن يفتحني فتحني لإعطائكم، وقسم أرزاقكم وإن شاء أن يقفلني عليها قفلني».
وقد تعاقبت على الملك العضوض في هذين العصرين حكومات إسلامية أنكرت الشورى، وتنكرت لمبدأ سيادة الأمة في بطشها وتنكيلها بالمسلمين.
الأمر بالطاعة: وقد اصطفى الملك العضوض فى كل هذه العصور بعض علماء وأئمة عصورهم الذين وجدوا غطاءً شرعياً للحكام في هذه العصور للبطش والاستبداد، هو تفسير للآية الكريمة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ».
بأن طاعة الحاكم واجبة وأنه لا مكان لمن يعارض الخليفة أو يخالفه الرأي، درءاً لفتنة تهدد وحدة الأمة التي يقوم عليها نظام الحكم في الإسلام، والتمس هؤلاء لتنكرهم لمبدأ الشورى الذي يخاطب الأمة بأسرها غطاء شرعياً لتفسيرهم بأنهم يرهنون طاعة ولي الأمر بطاعته لله ورسوله في قول سيدنا أبي بكر رضي الله عنه بعد البيعة له: «أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم».
ولكنهم فى التطبيق العملي على مر العصور، اعتبروا كل ما يأمر به الحاكم وكل ما يفعله هو طاعة لله ورسوله، ولو كان الخليفة ظالماً أو فاسقا أو فاجراً، فلم يجرؤ واحد منهم على أن يقول كلمة حق لذي سلطان جائر، وقد نال الأئمة الأربعة: أبو حنيفة، ومالك، وأحمد بن حنبل، والشافعي، من الظلم والتنكيل بهم وسجنهم ما نالوه بسبب بكلمة حق قالوها للخليفة.
وقد برر أصحاب هذا التفسير خلو النص القرآني من الأمر بالطاعة في كلمة (أطيعوا) التي تكررت في طاعة رسول الله، ولم تتكرر قبل عبارة أولي الأمر، بأن طاعة الله، وطاعة رسوله بأن كلا منها طاعة مستقلة، أما طاعة أولي الأمر فهي طاعة تابعة، اكتفى النص القرآني بأن يسبقها بحرف (واو) العطف، فهي طاعة تابعة لأن مناطها وشرطها أن يكونوا على طاعة الله ورسوله دون معصية. ومع كل التقدير لهذا التفسير الذي تبناه أيضاً علماء أجلاء نعرف فضلهم، وننحني أمام علمهم الغزير، ونعلم حسن نواياهم في هذا التفسير، وأنهم لا يعضدون به استبداداً أو طغياناً في الحكم، إلا أن ذلك لا يجوز معه أن يكون هذا التفسير موطئاً لتعطيل فريضتين إلهيتين في الإسلام: - أولاهما: مبدأ الشورى وسيادة الأمة، أي الحكم الديموقراطي في المصطلح الحديث وقد تناولناهما في المقالين السابقين.
- ثانيتهما: فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي تفتح الباب على مصراعيه للمعارضة السياسية للحاكم، بل تفتح الباب لتعددية سياسية، لتنظيمات المجتمع المدني من نقابات وجماعات وأحزاب.
وفي هذا السياق يذهب المفكر الإسلامي الراحل د. محمد عمارة إلى أن المعارضة السياسية المنظمة لا تنهض الجماعة الإ بها، وتجد أساسها فى فريضة إلهية أخرى من فرائض الإسلام هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويضيف أن مصطلح الحزب غير بعيد عن التراث الإسلامي، ولا هو بالوافد الطارئ على حضارتنا الإسلامية التي مثلت العمران المصطبغ بصبغة الإسلام، وأن كل الفرق الإسلامية قد نشأت نشأة سياسية، وكانت تيارات وتنظيمات سياسية، أو كانت السياسة واحدة من أبرز مهامها وسمتها، فهي بمنزلة أحزاب سياسية. (الإسلام هو الحل ص86-100).
ويقول د. سيف الدين عبدالفتاح «إن الأمر بالمعروف حوصر في نطاق الأخلاق دون غيره، إلا أنه عند عموم أهل العلم، مصطلح سياسي بالدرجة الأولى». (التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر... رؤية إسلامية ص364) وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق