متى ينتهي الإنسان؟
نحن نبدأ الحياة مرتين، مرة حين نولد بيولوجيا، فتبدأ لنا حياة مادية، وهذه الحياة ضرورة، ومهمة، ولكنها ليست كافية، وهناك حياة أهم، وهي الحياة التي تتجدد، ولا تتبدد، وتتقوى، ولا تتآكل، فهي حياتنا المعنوية، وهذه الحياة تبدأ حين نؤمن برسالة، ونعتقد أن لحياتنا معنى، ولوجودنا غاية، حينها تبدأ لنا حياة جديدة، ونولد من جديد، فهذه الحياة أيضا تنتهي، وتدخل في التآكل، بل تنتهي في بعض الأحيان بشكل عجيب، لأن الإنسان قد لا يعرف أن حياته المهمة قد انتهت، ومع هذا فهو يعيش دون أن يعرف أنها قد انتهت.
إن الحياة بحاجة إلى تجديد، والتجديد ليس كلاما فارغا، وليس كذلك حديثا منبريا فقط، كما أنه ليس قضية مجالس بين الناس كترف فكري، بل التجديد حالة عقلية ونفسية وواقعية تستمر مع الإنسان، وتعيش معه، فالتجديد ضرورة تاريخية، لأنه بدون تجديد تنتهى الحياة، ولا تستمر، ويتآكل الإنسان بدونه، ولا يبدع، ومن هنا، يموت الإنسان حين تنتهى منه الأسئلة، ويعيش في حياة رتيبة، وبدون طرح أسئلة.
لقد طرح أصحاب المشاريع أسئلة صعبة، ولم تكن تلك الأسئلة متوقفة عن الظهور اللحظي فقط ، ولهذا، كانت الحياة تتجدد بالأسئلة، وليست فقط بتقديم الأجوبة، فالمشاريع الكبيرة للعلماء والمفكرين تعيش بطرح الأسئلة العميقة، وليست فقط بطرح الاجتهادات المعاصرة،.
من هنا، نجد اليوم التآكل في هذا المجال، بل الشيخوخة المبكرة، والنهايات القاتلة، ذلك لأن الحياة تبدأ تفقد المعنى حين تنتهي الأسئلة، لأن السؤال يحمل معنى جديدا، ويطرح على العقل إشكاليات جديدة، وحينها يبدأ الإنسان ليعيش من جديد.
طرح المفكر الكبير كارل ماركس سؤلا صعبا، لماذا يصبح الإنسان مشروعا بلا غاية، ولكن الأجوبة التي قدمها ذلك المفكر لم تكن بعيدة عن الحياة الغربية، والتي كانت تعيش في هذه اللحظة مرحلة صعبة، مرحلة الخروج من عالم الأرض إلى عالم المادة، ومن عالم الزراعة إلى عالم المصانع، ومن عالم الثروات الضيقة إلى عالم الثروات المكدسة، ومن عالم أوروبا إلى عالم القارات، ومن مرحلة العيش في أوروبا الضيقة إلى مرحلة التمدد الاستعماري، ومن هنا، فالإنسان الغربي بدأ مرحلة جديدة، ومع هذه المرحلة بدأت أسئلة جديدة، وتجاوز العقل الغربي يطرح أسئلة جديدة من شأنها تصنع عالما يقبل الاستعمار، ويرى أن هذه المرحلة ضرورة، وليست مرحلة عادية، ويقوم بتبريرها، فقد تجاوز الغرب أسئلة كارل ماركس، ولكنه واجه الفكر في الشرق من جديد، وعندها أسئلة جديدة، وليس في الغرب، فأصبحت روسيا القيصرية كدولة تتبنّى الفكر الماركسي.
إن السؤال الصعب يصنع التجديد والتحديث، ولكن الأسئلة السهلة تنتهي في البداية، لأنها لم تطرح أسئلة المرحلة الصعبة، فقد طرح الأستاذ شكيب أرسلان، لماذا تخلف المسلمون؟
ولكن المفكر السياسي الأستاذ عبد الرحمن الكواكبي لم يطرح ذاك السؤال، بل طرح لماذا غابت الحياة الدستورية في المسلمين؟ ولماذا الاستبداد موجودا في الأمة في قرون متطاولة؟
هنا، نجد أن المفكرَين مختلفان بشكل عميق حيث طرح الأول سؤلا وصفيا، والجواب قد يكون سهلا عند بعض الناس، لأنهم يقولون بكل سهولة، السبب يكمن في بعد الناس عن الدين، ولكن هناك من يطرح الإشكالية من جديد، الغرب تقدم حينما ابتعد عن الدين، ونحن اليوم نبتعد عن التقدم، ولم نصبح بلا دين، أين المشكلة؟
لقد أصبح المفكر الدستوري عبد الرحمن الكواكبي حاضرا حتى اليوم بأسئلته العميقة، وليس فقط بأطروحاته الكبيرة، فقد تكون الأطروحات متناسبة مع المرحلة التى مرّ بها، وعاش فيها، وانتهت اليوم كموضوعات سياسية ساخنة، ولكن السؤال المحوري، ما زال موجودا بقوة، لماذا غاب العدل؟ بل السؤال المحوري الآخر ما زال يتجدد في داخل الأمة، لماذا بقي الاستبداد السياسي في الأمة؟
طرح المفكر الكبير سيد قطب سؤاله العميق، لماذا نحن بحاجة إلى الإسلام؟ بل وطرح سؤلا أعمق من ذلك، لماذا البشرية بحاجة إلى الدين الإسلامي من جديد؟
هذا السؤال كان مهما، وما زال السؤال مهما، وهذا هو الذى جعل سيد قطب يختلف عن الآخرين، لم يبحث سيد قطب عن حاجة الأمة بالتقدم، بل لاحظ في حياة الناس أن دور الدين ينحصر غربيا، بل وبدأ ينحصر عالميا، ومن هنا بدأ الرجل في وقت مبكر، هل بهذا ينتهى دور الإنسان؟ فكانت الأسئلة التى طرحها سيد قطب عميقة، ولهذا، فهو ما زال موجودا بقوة، والخلاف الذى يظهر بين الناس حول فكره متعلق بتراثه الفكري الساخن ، وليس متعلقا بأسئلته الصعبة، ولهذا نلاحظ اليوم هذه الأسئلة بشكل أعمق عند المفكر المصري (المسيري)، والفيلسوف الأوربي(محمد أسد)، وكذلك الفيلسوف المتألق (علي عزت بيجوفيتش).
ظهر في مرحلة الاستعمار والاستغفال المفكر الاستراتيجي مالك بن نبي، وطرح أسئلته الاستثنائية، لماذا لا ننهض من كبوتنا؟ هل المشكلة في الذات؟ إم هي في الموضوع؟ لماذا خرجنا فن الفعل التاريخي؟ ولماذا بقينا كظاهرة صوتية في قرون كثيرة؟ لماذا بقي العدل قيمة مجردة، وليس كقيمة حضارية في الأمة؟ ولماذا الاستعمار؟ ولماذا قبول ظاهرة الاستعمار عند بعض النخب؟ هذه الأسئلة هي التي صنعت المفكر، وصاغت الفكر، وقدمت لنا مشروع مالك بن نبي رحمه الله، ولهذا نجد اليوم مدارس كاملة في المغرب تطرح المشروع من جديد، فالإنسان لا ينتهي إلا عندما تنتهي منه الأسئلة.
إن محمد الغزالي رحمه الله، طرح أسئلته في داخل الصحوة، ولم يطرح الأسئلة الكبرى، بل كان مناضلا في داخل الصحوة الإسلامية، وكانت أسئلته تدور حول إنقاذ الصحوة عن الضياع، والسقوط، ولهذا دخل معاركه كلها حول هذه القضايا، فكان رجلا يعيش بحرقة، لأنه رأي أن هذه الصحوة تذهب إلى الهاوية وتصبح لعبة في يد الكبار، وتخرج عن طور الرشد إلى طور المراهقة، وهو ما كان، بل هذا هو الواقع، وما زال.
لقد كنت أتحدث مع سياسي صومالي لديه مسحة فكرية، وقد طرح سؤلا مفاده، ما العمل؟ فقد نظرت إليه بعمق، وتأملت إلى طرحه بقوة، فقد لاحظت عليه نهاية التاريخ، وإنه يفسر اللحظات كلها بالتآمر التاريخي، وأن الغرب هو الذي يدبّر ويعمل، وليس غير ذلك، فهذا هو الاجتهاد السهل، والطرح العادي الذي لا يحتاج إلى نوع من التأمل، فالغرب اليوم يعيش في مرحلة غير عادية، وفي الغرب أسئلة صعبة، ولكنها بدون أجوبة، بل ويعيش الغرب مرحلة بدايات أفول الحضارة، ولا يمرّ كمنظومة حضارية في بدايات التألق الحضاري، وهناك عشرات من المفكرين يحذرون من السقوط الغربي، ومع هذا، فلا يطرحون التجديد، لأن الأسئلة الكبرى انتهت منهم، ونجد إلى جانب ذلك من يتحدث عن الغرب بهوس، ويتنظر منهم طرح الأجوبة من المشكلات التي نتجت من عدم فهمنا للواقع في بلادنا.
لقد انتهت الحياة عند بعض الناس، لأن الأسئلة قد انتهت منه، وانتهى دوره الفكري، لأنه لا يملك أسئلة جديدة، من شأنها تجديد الحياة، فهذه المرحلة التى نعيشها، ليست مرحلة عادية، بل هي مرحلة صعبة، وهي مرحلة (دستورية) بالمعنى الحضاري، فالسؤال هنا،لماذا لا نفهم ظاهرة (الدولة) بشكل صحيح؟ بل هناك سؤال محوري، لماذا لا ننتج نحن دولتنا؟ لقد رأينا أن أكبر فشل في حياتنا عامة مرتبط بفشل الدولة، فالاجتهاد المعاصر يجب أن يكون في هذا المجال، وقد صدق المفكر السياسي محمد المختار الشنقيطي حين ذكر بأن عقدة الحضارة الاسلامية تكمن في الدستور، ولا يكون التصحيح الفكري إلا في هذا المجال الخطير.
لا يمكن لنا أن نبدع من جديد إلا إذا تحررنا من عقدة (الآخر) بشكل فعّال ، ونبدأ من جديد طرح أسئلتنا بقوة في هذه المرحلة الصعبة، وأهم سؤال، هو كيف نخرج من التيه السياسي؟ وهذا التيه الذي نعيشه ليس نتيجة أعمال خارجية فقط، بل هذا التيه السياسي نتج من الداخل أولا (قل هو من عند أنفسكم)، ونحن يجب أن نتقدم إلى أنفسنا قراءة من نوع جديد لنجاهد من جديد في طرح مشروع إسلامي يعمل في داخل أوطاننا، ولهذا، يجب أن نتحرر بقوة من القراءات السهلة للحياة السياسية، لأننا نتأثر بشكل مطلق أفكار ميكافيلي (أن السياسة لا تخضع للأخلاق)، ولهذا نبرر كل أخطاء الناتجة من التخبط السياسي بأن الغاية الشريفة تبرر الوسيلة، وأن للدولة ظروفا مختلفة، وأن الإكراهات السياسية تعمل عملها في الحياة، ولهذا وجدنا من بعض السياسيين الإسلاميين وقد سقطوا في فخ التطبيع بلا ثمن، وانتهى مشروعهم اللحظي بقوة، كما لاحظنا بعضهم في السقوط الأخلاقي عندما قبلوا المشاريع السوقية على حساب المشاريع الحضارية للأمة.نواصل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق