“جنرالات الدم” بين المحاكمة والانتحار والانتظار
الجرائم البشعة التي ترتكبها نظم انقلابية بحق شعوبها قتلًا وتشريدًا وسجنًا لا تسقط بالتقادم مهما طال الزمن، غالبًا لا يمكن رفع الدعاوى ضد القتلة والسفاحين أثناء وجودهم في السلطة بسبب هيمنتهم على المنظومة العدلية بشكل كامل بدءًا من النيابة العمومية وانتهاء بالمحاكم العليا.
قد يتأخر رفع الدعاوى لبعض الوقت عقب خروجهم من السلطة نظرًا لوجود داعمين لهم في السلطة الجديدة، لكن كما يقول المثل “لا يضيع حق وراءه مطالب”، وإذا كانت قوانين الدول المتقدمة تتيح حق الولاية الشاملة أي نظر دعاوى لجرائم قتل أو تعذيب لم تقع على أرضها، وهو ما يسهل رفع الدعاوى أمام محاكمها للمتضررين في بلدان أخرى، فإن قوانين دول العالم الثالث وفي القلب منها دولنا العربية تتغير بتغير حكامها، وما كانت تحظره القوانين والمحاكم بالأمس تسمح به اليوم أو الغد حسب الأوضاع الجديدة.
خلال أسبوع واحد نقلت لنا الأنباء حدثين أولهما تحريك دعوى قضائية في سويسرا ضد جزار العشرية السوداء في الجزائر وزير الدفاع الأسبق خالد نزار، وثانيهما انتحار جنرال تشيلي من قادة انقلاب بينوشيه عام 1973 بعد صدور حكم نهائي بحبسه، أي بعد خمسين عامًا من وقوع الانقلاب.
محاكمة خالد نزار
في الحدث الأول جاء قرار القضاء السويسري ضد خالد نزار يوم 29 أغسطس/آب المنصرم بتوجيه لائحة اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، والموافقة على عمليات تعذيب خلال الحرب الأهلية في التسعينيات بعد 12 عامًا من الملاحقة القضائية، التي كانت تخبو حينًا وتصعد حينًا منذ العام 2011 مع تفجر ثورات الربيع العربي.
خالد نزار هو وزير الدفاع الجزائري في الفترة 1990 حتى 1993، وهو مهندس الانقلاب على الانتخابات الديمقراطية مطلع التسعينيات، ما فتح أبواب الدم في البلاد لعشر سنوات، وأدى إلى مقتل 200 ألف جزائري (مدنيين وعسكريين)، ورغم أنه كان ملاحقًا في الجزائر نفسها عقب الحراك الشعبي (فبراير/شباط 2019) بتهمة التآمر على سلطة الدولة والشعب، إلا أن السلطات الجزائرية الحالية وفرت له الحماية، بل كرمته عقب وفاة قائد الجيش السابق قايد صالح، كما سخرت إمكانياتها المادية والدبلوماسية لحمايته من الملاحقة القضائية في سويسرا خلال السنوات الماضية، وحتى حين صدرت مذكرة الاتهامات الجديدة فإنها تحركت مجددًا للدفاع عنه، وهددت باتخاذ إجراءات عقابية ضد سويسرا بينها قطع العلاقات بدعوى تدخلها في الشأن الداخلي الجزائري.
حصانة داخلية
في العام 2006 صدر ميثاق المصالحة الوطنية بعد استفتاء شعبي في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، الذي أعفى الضباط والمسؤولين الحكوميين عن أي جرائم ارتكبوها خلال تلك العشرية، كما فتح الباب لعودة المسلحين المطاردين في الجبال بعد تسليم سلاحهم، وأطلق سراح زعماء الجبهة الإسلامية المحبوسين، لكنه حرم الجبهة من العمل السياسي، وتضمن الميثاق في مادته الخامسة والأربعين “رفض أي متابعة، بصورة فردية أو جماعية، في حق أفراد قوى الدّفاع والأمن للجمهوريّة، بجميع أسلاكها، بسبب أعمال نفّذت من أجل حماية الأشخاص والممتلكات، ونجدة الأمّة والحفاظ على مؤسسات الجمهوريّة الجزائريّة الدّيمقراطيّة الشّعبية”، فيما أوجب على الجهات القضائية المختصّة “عدم قبول أي إبلاغ أو شكوى في هذا الشأن، كما نص في مادته السادسة والأربعين على عقوبات بالحبس والغرامة “لمن يستعمل، من خلال تصريحاته أو كتاباته أو أيّ عمل آخر، جراح المأساة الوطنيّة أو يعتدّ بها للمساس بمؤسسات الجمهوريّة الجزائريّة الدّيمقراطيّة الشّعبيّة، أو لإضعاف الدولة، أو للإضرار بكرامة أعوانها الذين خدموها بشرف، أو لتشويه سمعة الجزائر في المحافل الدولية”.
لقد حصن ميثاق المصالحة المسؤولين الحكوميين عن تلك العشرية السوداء من المساءلة القانونية داخل الجزائر، لكنه لم يستطع مد تلك الحصانة خارج البلاد، ولذا فقد نجح نشطاء ومتضررون جزائريون بالتعاون مع منظمة حقوقية سويسرية (ترايال إنترناشيونال) في توجيه الاتهام أخيرًا للجنرال العجوز، وستكشف الأيام المقبلة كيف ستسير الدعوى؟
انتحار جنرال تشيلي
الحدث الثاني كان انتحار الجنرال التشيلي إيرنان تشاكون، البالغ 85 عامًا، وذلك بعد صدور حكم نهائي بحبسه لقتله مغني شعبي (من دعاة الديمقراطية) عقب وقوع انقلاب الجنرال بينوشيه ضد الرئيس المدني سلفادور ألندي عام 1973، وصدر الحكم النهائي بحبس 7 جنرالات سابقين بينهم إيرنان، وعندما ذهبت الشرطة إلى بيته لتنفيذ الحكم أطلق الرصاص على نفسه ومات على الفور.
صدر الحكم الجديد بعد خمسين عامًا بالتمام والكمال من وقوع الانقلاب، ورغم أن الحكم العسكري انتهى عام 1990 عقب استفتاء رفض استمرار رئاسة بينوشيه، ورغم أن تسوية سياسية أيضًا تضمنت حصانة (خروجًا آمنًا) للجنرال بينوشيه إلا أنها لم تتضمن حصانه لغيره من الجنرالات، ومع ذلك ظلت المطاردات القضائية تلاحق بينوشيه نفسه خلال رحلة علاجه في أوربا حتى وفاته عام 2006.
هذان الحدثان (محاكمة نزار وانتحار إيرنان) يجددان الأمل لدى ضحايا النظم العسكرية، ويثبتان مجددًا أن تلك الجرائم لا تسقط بالتقادم مهما طال الزمن، وهذان الحدثان ليسا منفصلين عن محاكمات مماثلة لجنرالات انقلابيين آخرين، تلوثت أيديهم بدماء شعوبهم، كما حدث مع كنعان إيفرين قائد الانقلاب التركي عام 1980 الذي توفي عام 2015 بعد عام واحد من صدور حكم بحبسه مدى الحياة لمسؤوليته عن جرائم قتل خلال فترة حكمه (القانون التركي لا يقر الإعدام كعقوبة)، وكما حدث مع الجنرال برويز مشرف قائد انقلاب باكستان عام 1999 الذي حكم عليه بالإعدام غيابيًا عام 2019 أي بعد 20 عامًا، ولكن هروبه إلى الخارج قبل صدور الحكم نجاه من التنفيذ، وإن توفي لاحقًا بسبب مرض غامض.
ما كان للقضاء السويسري، أو حتى منظمة “ترايال” أن يتحركا من تلقاء نفسيهما بعد 30 عامًا من وقوع المذابح، وما كان للمحكمة التشيلية أن تصدر حكمها الجديد ضد بعض الجنرالات بعد 50 عامًا من الانقلاب إلا بفضل تحركات الضحايا والنشطاء المؤمنين بقضاياهم، والمصرّين على نيل حقوقهم ولو معنويًا مهما طال الزمن، وهو ما يتكرر وينبغي أن يتكرر في حالات أخرى مشابهة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق