الثلاثاء، 12 سبتمبر 2023

متى تنتهي الدولة؟ وكيف؟

متى تنتهي الدولة؟ وكيف؟

د. عبد الرحمن بشير

داعية ومفكر إسلامي، من جيبوتي

سؤال في منتهى الدقة، متى تنتهي الدولة؟ وسؤال في غاية من الموضوعية، كيف تنتهى الدولة؟ في السؤال الأول بحث عن (الزمن)، وهو ذهاب إلى المستقبل، ولكن عبر الحاضر، وليس عبر العدم، أما السؤال الثاني، فيبحث عن الجواب في (الكيف)، وليس في الفلسفة (لماذا؟)، ومن هنا، فالبحث عن إجابات لهذين السؤالين، هو بحث عن المستقبل، وهو كذلك بحث عن الإمكانية، وليس بحثا عن حتمية، فالحتميات في العلوم الإنسانية غير موجودة، بل هنالك ما يسمى (بالممكنات) أي ما يمكن أن يكون خلافًا للعلوم الطبيعية، والتي تقوم على الحتميات، ومن هنا اختلف الفكر الإسلامي عن الفكر الماركسي الذي قام على الحتميات لا على الظنيات.

درس المفكر الكبير ابن خلدون أعمار الدولة، وربط بينها وبين أعمار البشر، فرأي أن الدولة لا يمكن أن تتجاوز عن مائة وعشرين عاما، ولكن هذا قد يكون صحيحا، وقد يكون غير صحيح، وهذا هو الواقع، هنالك دول تاريخيا، تجاوزت ذلك العمر الافتراضي للدولة، ومنها دول قديمة وحديثة، كالدولة الرومانية، والدولة العثمانية، والولايات المتحدة، وبريطانيا، ولدينا دول سقطت وانتهت أقل من ذلك العمر، وهذا يدل على أن العمر الخلدوني الافتراضي الواحد لجميع الدول غير سليم، ولكن هناك ما هو مقبول في فكر ابن خلدون، ويعتبر من روائعه، ومن دقائق فكره، وهو أن الدولة كائن طبيعي، لها عمر افتراضي، قد يطول، وقد يقصر وفقا لسنن اجتماعية، ولهذا فالدولة لا تخرج من سنة الله في خلقه (كل من عليها فان)، فالفناء حقيقة كونية واجتماعية، ولا يخرج منها شيئ سوى الله تبارك وتعالي، فالبقاء لله وحده.

إن السقوط مرتبط بأسباب، والأسباب قابلة للفهم والتفسير، ولهذا يختلف أنظار المفكرين في الفهم والتفسير، ولكن الجميع متفقون على أن البقاء محال، ولكن الإجابة عن متى ؟ يكون هو الصعب، ومن هنا يدرس عالم الدول كما يدرس عالم الإنسان صحة ومرضا، ويعالج قضايا الدولة كما يعالج قضايا الإنسان، فالدولة كما قال ابن خلدون تولد، وتكبر، وتمرض، وتشيخ، وتموت، بل وقد تشيخ في وقت مبكر، وتموت في وقت الشباب، وكل ذلك وفق السنن، فلا يوجد في الكون عبث، بل كل شيء فيه محكم، ومتقن، (خلق كل شيئ، وقدّره تقديرا).

هناك ثلاثة أمور إذا وقعت، انتهت الدولة، لأن الدولة كائن لها روح، وروحها مرتبط بهذه الثلاثية، وأولها (العصبية) كما قال ابن خلدون، أو (ذوو الشوكة) كما قال ابن تيمية، فهذه المجموعة هي التي تقوم عليها الدولة، وقد تكون هذه المجموعة (عرقا) بشريا، أو (جماعة فكرية)، أو (رؤية فلسفية)، أو خليطا بين هذه الأمور كلها، فالدولة الرومانية قامت على فكر عرقي، وقامت الدولة الفرنسية على رؤية فلسفية (الجمهورية العلمانية)، وقامت الدولة الأمريكية على الفكر والعرق الأبيض معا، وكذلك قامت الدولة الإسلامية الأولى مرحليا كما قال ابن خلدون على (الفكر والعرق) معا، ولهذا ورد في الحديث (الأئمة من قريش)، وقام ابن خلدون في تحليل النص النبوي بأنه كان مرتبطا بزمن معين، ولم يكن مرتبطا بمقاصد الشرع في إقامة الدولة، لأن العرب لا ينقادون إلا لهذا الحي من العرب.

لا تقوم دولة في العالم بدون عصبية، ومن دون عصبية فلا دولة، فالعصبية كما قلنا قد تكون عرقا من البشر، وقد تكون جماعة فكرية، وقد تكون مجموعة مصالح، وقد تكون خليطا من كل ذلك، ولكن الملاحظ حين تتحول هذه المجموعات إلى مصالح متقاتلة، ومتضادة، فإن هذه الدولة بدأت في طريقها نحو الزوال.

إن السبب الثاني في سقوط الدولة يكمن في استئثار الحكم عند مجموعة معينة، وخاصة عند مجموعة من داخل ذوى الشوكة، وفي هذه المرحلة يتحول رجال الدولة إلى قطاع طرق، أو إلى أصحاب مصالح، فتسمع من هرب بأموال الدولة إلى الخارج، أو من يبني القصور الخاصة في الداخل والخارج، أو تجد التنافس في البناء على حساب الدولة، حينها تبدأ الدولة تتآكل داخليا، وتبدأ في السقوط، لأنها قبل السقوط، تصبح دولة هشّة، وضعيفة، ولكنها تصبح قوية في مجال واحد، وهو مجال عسكرة الدولة، وبناء أجهزة أمن قوية، وإلى هذه، تذهب أموال الدولة، وحينها تجد تنافسا بين الجيوش ورجال الدولة في تقسيم الكعكة كما قال ابن خلدون، وتخطط الدولة في تكثير الضرائب والمكوس على الناس، وإلى جانب ذلك، تجد تلك الأموال تذهب إلى الجيوب، وفي هذه المرحلة، يجد الناس تناقضات عجيبة، أموال تكثر وتفيض، وفقر يزداد ويشيع، وقصور ترتفع وتكثر، وشوارع تنتهي وتختفي، ورجال من الدولة يهربون بالأموال، وحروب بين أهل المصالح، والتفكير لمن الغلبة بعد الرجل المريض الذى يحكم ؟، وليس كيف ننقد الرجل المريض الكبير (الدولة).

هناك أمر ثالث فيما وراء السقوط، وهذا الأمر الثالث يكمن في عدم الاهتمام بالشأن العام، ونهاية الضمير الجماعي عن الناس حيث يفكر كل واحد من الناس شأنه الخاص، ولا يهتمون بالشأن العام، لا وجود لأولي بقية ينهون عن الفساد، ولا وجود لفكرة الاحتساب في الدولة، بل لا وجود لصحافة حرة، ومستقلة، يأمر أهلها بالمعروف، وينهون عن المنكر، وحينها يصبح الحاكم إلها، والشعب يصير رعية، فلا معنى للمواطنة، ولا قيمة للكرامة الإنسانية، ولا صوت يعلو على صوت الحاكم، ومن هنا يبدأ الناس يتنازلون عن كل قيمة، وحينها تبدأ الدولة تعلن إفلاسها الأخير.

هذا هو المرض، وكل شيء يقع للدولة بعد ذلك يعتبر أعراضا للمرض، والمرض كما ذكرنا له ثلاثة أضلاع، وحينها تحس وتشعر بأن الدولة في طريقها نحو السقوط بلا ريب (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)، لكل أمة أجل، أي موعد للنهاية، وهذا الموعد مرتبط بعالم الأسباب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق