الحريق
“كانت حياتي حريقًا عرفت كيف أشعله، لكن لم أعرف كيف أهدئه”.
نعم البداية من نفسي أو ممن زرع فيها علو الهمة، من الحكمة في كتب الأدب أو من والد كان مصرًّا على أن أتفوق، من أم حنون صارمة لا تتنازل عن الجد في الحياة، هزلها نادر وجدها مستمر.
هل كان طموحًا أم منافسة، يأسًا من دروب بديلة أم اختيارًا لدرب لا أعرف لماذا تحدد، وإن كنت أعرف تفاصيل كيف سرت وماذا حدث.
في السنة الأولى المتوسطة (الأولى الإعدادية عند قوم) قررت ألا يقل قدر ما أقرأه يوميًّا عن خمس وأربعين صفحة خارج المناهج الدراسية.
تصاعدت القراءة حتى أصبحت الشغل الشاغل، نحو أكثر من ست عشرة ساعة يوميًّا لسنوات عديدة، فهل كان اختياري حسنًا أم لا؟
أقول اليوم إن بعضه لم يكن موفقًا، فقد انشغلت بفروع الفروع عن الأسس، لكن الذين حولي ممن أراهم يتحدثون كثيرًا عن الكتب المؤسسة لا أراهم كذلك، إذ تنقصهم الجدية وسعة الأفق، في بيئة لا تعرف إلا معادًا سليمًا مصونًا عما يعاب اجتماعيًّا؛ مما جعلني أنشئ مكتبتين مختلفتين: إحداهما للدين والفكر الإسلامي، والأخرى للهلافيت، أو لكتب أدبية تافهة أو جيدة لا يهم، وكتب فلسفة وتاريخ مما توفر في السوق أو اشتقت إليه على بعد فطلبته من كل مكان.
وكنت جادًّا في الدعوة لما اقتنعت أنه حق، أو لما قيل لي إنه حق، ورحلت وجمعت الناس وأسست جمعيات من كل نوع، تهاوى بعضها بين يدي ولا أملك إبقاءه.
لكنني بدأت أعي قبيل الأربعين ولات ساعة وعي، فأثقال القراءة كبيرة، وقيود المعتاد أكبر، ولم يلح لي أمامي أو خلفي طريق أحسن ولا أجدى.
وأقول اليوم بعد السنين لو أني رأيت في المدارس المتنافسة خيرًا مما أنا عليه لذهبت إليها، ولكن مجتمعاتنا لم تقدم لنا أحسن مما كان عليه مثقفونا من السير في قيود مذاهبهم وقبائلهم وأقطارهم، فماتت طموحاتهم بقرار التقليد أكثر من قرار الاختيار.
هل حققتُ شيئًا مما طمحت إليه؟ لست متأكدًا، وربما كنت إلى الإنكار أقرب مني إلى الإقرار. لقد كنت في البدء أطمح أن أكون شاعر الدنيا، وكتبت ديوان شعر مبكرًا جدًّا ثم تدينت فمزقته.
كان قصائد من غزل بارد وتبين لي أني لست شاعرًا. وجدتني أكتب وأكتب كثيرًا قبيل الثلاثين، وكتبت مقالات باسمي وبأسماء أخرى، وكان قرار الكتابة باسم آخر غالبًا قرارًا صحيحًا.
كتبت كتبًا ذهبت مع الريح منها ما نشرته باسم غيري، ولست نادمًا على التخفي وراء أغلفة حملت من الصراحة ما لا أطيقه.
وقد عشت أحيانًا في مدن وبقاع ومواقف بأسماء مختلفة، وأفدت كثيرًا من التنصل من ذاتي فبقيت حرًّا حيًّا.
لا تفهم من ذلك مبالغة أو أهمية ولكن ذلك ما حدث، فليس في بلدان التبعية والهزيمة ما يستحق شجاعة ولا صراحة، فالمهزوم محتال على نفسه وعلى شعبه أكثر مما تتخيل، فأن تعيش متخفيًا من الصراحة أسهل للمعيشة وعار على القيم، لكنا للأسف ارتضينا زمنًا أن نعيش كذلك فسقطنا بين بين، كما كان سقوط بلداننا مريعًا.
كتبت تلك الشذرة صباحًا بعد قراءة ثلاثين صفحة من كتاب ما كنت لأقرأه زمن شب الحريق، ولكن هذه القراءة محاولة لتهدئة اللهيب.
رميت الكتاب جانبًا فقد بلغت الساعة الثامنة صباحًا، وهناك أشغال كثيرة تنتظر، كلها استمرار لذلك الحريق المستمر الذي لا يرحم.
هل كان ذلك فشلًا أم نجاحًا؟ لا أدري حقيقة كيف ينظر الناس إليه، غير أنه في مرة واحدة سقطت دموع والدي فرحًا بنجاحي، وتلك نقطة سعادة عوضت عن حزنه على غيابي الطويل، وذلك عندي نجاح، وإن كنت أرى المجمل فشلًا وأيامًا من حريق أحرقت فيها البدن والذهن فيما لا يستحق.
وإن كان في ذلك فشل فعند بعضهم أن الفشل في المراد يبعث نجاحًا في مناطق لم يرها صاحبها ميدان النجاح. فشل المتنبي في مراده في ولاية ولو صغيرة، ربما أخطأ طريقها أو ليس من أهلها، ولكنه نجح نجاحًا هائلًا في فشله الكبير. وكذا المعري رأى في سجن العمى ما لم يره المبصرون الذين تصدهم المشاهد عن الشهود.
فهل الذين جدوا في تحقيق طموحاتهم ورأوا أنفسهم فاشلين هم الناجحون؟ أم إنني أقنع نفسي بأن الحريق اختيار صحيح؟ ربما، لست أدري، ويكفيني أن شرحت لك ما في الخاطر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق