الحقائق الغائبة في دهاليز المؤامرة (1)
بعد بضعة أيام، تطل علينا الذكرى الـ 22 للهجمات الإرهابية على مركز التجارة العالمي في نيويورك؛ الحدث الذي غيّر العالم وسلّم قيادته للولايات المتحدة الأميركية، التي كانت إدارتها برئاسة جورج دبليو بوش قد انتهت من وضع خطتها الإستراتيجية لما يُعرف بـ "القرن الأميركي الجديد" (New American Century). وكالعادة، ستحيي الإدارة الأميركية وحلفاؤها وشركاؤها هذه الذكرى كل على طريقته. وستنبري المؤسسات الإعلامية الكبرى لإعادة نشر معلوماتها حول الحادثة، دون أن تقوم بأي جهد يذكر لإماطة اللثام عن حقيقة ما حدث والإجابة عن مئات الأسئلة التي ما زال أصحاب العلاقة وعموم الناس في الولايات المتحدة وخارجها يطرحونها دون إجابات مقنعة تطوي معها هذه الصفحة في أذهانهم ووجدانهم.
تلجأ الأنظمة الحاكمة إلى نظرية المؤامرة، لتنفيذ مخططات ومشروعات معينة، أو تبرير أحداث ووقائع معينة، مستعينة بسلطاتها ومواردها وأجهزتها؛ في تكثيف الحديث عن وجود مؤامرة تهدد الدولة
مما أدى إلى حدوث تناقض كبير بين الرواية الرسمية الصادرة عن المؤسسات الرسمية في الولايات المتحدة وبين الجموع التي ترفض هذه الرواية. وأصبحت القضية برمتها أحد أبرز الأمثلة على نشوء نظريات المؤامرة، إلى جانب العديد من القضايا التي ما زالت تشغل الأوساط النخبوية والشعبية في الولايات المتحدة وخارجها. وبشكل خاص في العالم العربي والإسلامي، الذي يعاني من ظروف استثنائية تغذّي جنوحه إلى التفسير التآمري لفهم الوقائع، وتضيع الحقيقة ويضيع معها الباحثون عنها بين المصادر الرسمية والجهات المشككة فيها. والجهات الأخيرة تضطر إلى تقديم تصورات بديلة لتفسير دواعي شكها في الروايات الرسمية. فما أسباب انتشار نظريات المؤامرة؟ ومن وراءها؟ وما النتائج المترتبة عليها؟
نظرية المؤامرة السلطوية
يشير مصطلح "نظرية المؤامرة" (Conspiracy Theory) إلى التفسيرات والمعطيات والآراء التي تنطلق من فكرة وجود مؤامرة تقف وراءها كيانات معادية سواء كانت علنية أو سرية. وقد تكون هذه الكيانات دولًا، أجهزة، منظمات، مؤسسات، أو مجموعات سياسية، أمنية، اقتصادية، فكرية، دينية، أو طائفية.
وظهر مصطلح "نظرية المؤامرة" في القرن الماضي وانتشر استخدامه بشكل خاص بعد الحرب العالمية الثانيةـ وخلال فترة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. ومع انتشار الأحداث والظواهر الغريبة، كهبوط الإنسان على القمر، وسباق الأسلحة النووية، ومواضيع مثل الماسونية والحرية المطلقة والإباحية الجنسية وعبادة الشياطين، والزعم حول سيطرة اليهود على المال والإعلام، وتأسيس دولة إسرائيل في فلسطين، واغتيال الرئيس الأميركي جون كينيدي، وقضايا المساواة بين الرجل والمرأة، وغيرها من المواضيع، استمر الاهتمام بالمصطلح. وتحولت نظريات المؤامرة إلى حركة علمية وفكرية وفلسفية وأدبية وفنية وإعلامية على مستوى عالمي، حيث صدرت حولها العديد من الدراسات والكتب والروايات والأفلام والتغطيات الإعلامية.
وقد زاد انتشار هذا المصطلح بشكل لافت في القرن الحالي، وخاصة في الولايات المتحدة والعالم العربي والإسلامي. ومثل قضايا الألفية الثالثة، والحرب على الإرهاب، وتنظيم القاعدة، وهجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، والجمرة الخبيثة، والحرب على أفغانستان، وأسلحة الدمار الشامل في العراق، وتنظيم (الدولة الإسلامية) داعش، وتغيير المناخ، والربيع العربي، وشيطنة الإخوان المسلمين، والخطة المعروفة بـ "التنمية المستدامة"، وجائحة كورونا، واقتحام أنصار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مبنى الكونغرس في العاصمة واشنطن، والحرب الروسية على أوكرانيا، والمنافسة بين أميركا والصين.
وعند تتبع نظرية المؤامرة المتعلقة بهذه الأحداث، يظهر لنا عدة مؤشرات يجب الانتباه إليها وأخذها بعين الاعتبار. وفي مقدمة هذه المؤشرات اختلاف الجهات التي تقف وراء تقديم التفسير التآمري وصياغة نظرية المؤامرة، وأبرزها السلطة الحاكمة والمعارضة لها.
وكثيرًا ما تلجأ الأنظمة الحاكمة إلى نظرية المؤامرة من أجل تنفيذ مخططات معينة أو تمرير مشروعات، أو تبرير أحداث ووقائع معينة. وتستعين بما لديها من سلطات وموارد وأجهزة لتكثيف الحديث عن وجود مؤامرة تهدد الدولة وتزعزع استقرارها وتهدد مصالح مواطنيها ورفاهيتهم، وذلك سعيًا لكسب تأييد الشعب وتحفيزه على الوقوف معها، مُهيئًا إياه لتحمل النتائج السلبية المترتبة على مواجهة هذه المؤامرة ومن يقف وراءها.
بعد التغذية المعلوماتية الممزوجة بالأكاذيب، التي قامت بها الإدارة الأميركية يوميًا للتأثير على الرأي العام، كان من الطبيعي بعد وقوع الهجمات أن تتجه الأنظار وتوجه أصابع الاتهام مباشرةً إلى صدام حسين والقاعدة، غاضا النظر عن المعلومات الهائلة الأمنية التي تدين الإدارة الأميركية
نموذج هجمات 11 سبتمبر
تعتبر هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 على مركز التجارة العالمي في نيويورك خير مثال على نظرية المؤامرة السلطوية. حيث عمدت إدارة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة برئاسة جورج دبليو بوش إلى تكثيف خطابها حول خطورة تنظيم القاعدة، وحجم إمكاناته، ورقعة انتشاره، وقدرته على امتلاك أسلحة نووية من الدول المستقلة عن الاتحاد السوفياتي السابق ونقلها إلى الولايات المتحدة، رابطا ذلك بالرئيس العراقي صدام حسين وتصويره على أنه من أبرز الداعمين له، وأنه يمتلك أسلحة دمار شامل في العراق. ومنذ استلامه للسلطة في يناير/كانون الثاني 2001، وعلى مدى 9 أشهر، لم يترك الرئيس بوش وطاقم إدارته يومًا يمرّ دون أن يتحدثوا عن تهديد القاعدة وصدام للولايات المتحدة، حتى بدا تنظيم القاعدة أكثر تهديدًا لها من الاتحاد السوفياتي في السابق.
وهنا تتحدث عن مشروع القرن الأميركي الجديد (PNAC)، وهو وثيقة صدرت في التسعينيات وتتضمن رؤية إستراتيجية للتفوق العالمي الأميركي في القرن الـ 21. وللوقوف على النص الموضح أكثر:
استمر الأمر على هذا النحو حتى فوجئ الشعب الأميركي والعالم بالهجوم على مركز التجارة العالمي، مفتتحاً بذلك الحقبة التي كان يسعى إليها "مشروع القرن الأميركي الجديد" (PNAC). وهذا المشروع شهد توقيع 25 شخصاً من صقور المحافظين الجدد في الحزب الجمهوري، وقد شمل الموقعين 10 أشخاص من إدارة الرئيس جورج دبليو بوش. وكان من بين الموقعين على المشروع الرئيسيين: ديك تشيني نائب الرئيس، ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد، إلى جانب بول وولفويتز نائب وزير الدفاع.
وهذا المشروع كان يشير إلى أهمية الهيمنة العسكرية للولايات المتحدة، وضرورة مواجهة التحديات التي قد تعترض هذه الهيمنة.
ومن أجل إقناع الشعب الأميركي والمجتمع الدولي بمؤامرة تنظيم القاعدة وصدام ضد الولايات المتحدة، كانت الإدارة الأميركية تغذّي الشعب يوميًا بالمعلومات التي تزيد من تضامنهم معها وتأييدهم للخطط التي تضعها لمواجهة هذا التهديد. وتمزج هذه المعلومات بأكاذيب تزيد من قدرتها على التأثير في الرأي العام. وكانت أبرز هذه الأكاذيب مساعي القاعدة لامتلاك قنابل نووية ونقلها إلى الولايات المتحدة لتفجيرها في الأماكن الحيوية، وتهديد العراق للولايات المتحدة بأسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها.
وقد استخدمت الإدارة الأميركية منابرها السياسية والبحثية والإعلامية والدرامية لإقناع الشعب الأميركي بهذه المؤامرة وتعبئته ضدها. وفي هذا الإطار، أعدت تقارير مزورة وأجرت استطلاعات للرأي العام تدعم موقفها، قدمتها للكونغرس ليدعم موقف الإدارة في مواجهة تنظيم القاعدة وصدام. وكان من الطبيعي، بعد وقوع الهجمات، أن تتجه الأنظار وتوجه أصابع الاتهام مباشرةً إلى صدام وتنظيم القاعدة، وأن يتم تجاهل أطروحات ترسم دوائر من الشك حول جهات داخلية (أمنية وعسكرية وهندسية وبيروقراطية) بما يدين الإدارة الأميركية في هذه الهجمات، ويحملها المسؤولية عنها، حتى لو لم تكن ضالعة فيها.
وبعد مرور 14 شهرًا على وقوع الهجمات، شكل الرئيس بوش بالتعاون مع الكونغرس في نوفمبر/تشرين الثاني 2002 "اللجنة الوطنية للتحقيق في الهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة"، والتي تُعرف باسم "لجنة 11 سبتمبر". وبعد مرور 20 شهرًا على تشكيلها، قدمت اللجنة في يوليو/تموز 2004 تقريرها بخصوص الهجمات، وتمت مناقشته واعتماده ليصبح المستند التاريخي الرسمي الذي يوثق الحادث. ويُذكر أن التقرير لم يأخذ بعين الاعتبار العديد من الوثائق والبيانات والشهادات المتخصصة التي تُثير تساؤلات حول محتواه.
ونهاية عام 2006، تم إنهاء مشروع "القرن الأميركي الجديد". ومنذ تأسيس هذا المشروع عام 1997، طالب أعضاؤه بشكل ملح بضرورة العمل على إسقاط نظام صدام. كما وجهوا رسالة إلى الرئيس بيل كلينتون والكونغرس، مؤكدين على الحاجة لإصدار قانون يهدف لتحرير العراق من صدام الذي كانوا يرونه أكبر تهديد لتفوق القوة الأميركية على مستوى العالم.
وهذه الخلفية المتعلقة بنظرية المؤامرة حول إدارة الرئيس بوش أسهمت في ظهور نظرية مؤامرة أخرى ترفض ما جاء في تقرير اللجنة، وتطالب بالكشف عن الحقيقة. وعام 2004، أجري مركز زغبي الدولي الأميركي (Zogby International) استطلاعا أظهر أن 41% من المستطلعين يعتقدون أن هناك أفراداً من الحكومة الأميركية كانوا على علم مسبق بالهجمات. وفي استطلاع آخر قام به المركز عام 2006، طالب 45% من المستطلعين بإعادة التحقيق في الهجمات. وعام 2007، ارتفعت النسبة حيث طالب 51% بالتحقيق مع الرئيس بوش ونائبه. كما شدد 67% من المستطلعين على ضرورة التحقيق في أسباب انهيار المبنى رقم 7 في مركز التجارة العالمي، المكون من 47 طابقاً، الذي انهار بشكل مفاجئ وغامض بعد انهيار البرجين المستهدفين، رغم عدم تعرضه لأي هجمات مباشرة.
وما زالت السنوات تمضي تباعًا، وتتجدد ذكرى الهجمات، لترسخ نظرية المؤامرة السلطوية لدى الأجيال المتعاقبة. ورغم جبروتها وإمكاناتها، لم تستطع طمس نظرية المؤامرة المقابلة التي صدرت بشأنها العديد من الكتب والدراسات، ولا تقديم الإجابات اللازمة للأسئلة التي يطرحها المختصون. وتبقى الحقيقة غائبة بين نموذج رسمي تتبناه الدولة وتدعمه بكل ما لديها من إمكانات سياسية وأمنية وتشريعية وبحثية وإعلامية، حتى وإن تناقض مع قواعد العلم والمنطق، وبين نموذج غير رسمي يصر على موقفه الرافض مقدما تصورات بديلة لما حدث ولكنه نموذج ليس له مكان في الاحتفالات التذكارية وتغطياتها الإعلامية.
فهل سنستمر في تصديق كذب الروايات الرسمية ونظرياتها التآمرية!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق