الثلاثاء، 12 سبتمبر 2023

مظاهر الانحطاط في المجتمعات المسلمة

 مظاهر الانحطاط في المجتمعات المسلمة

  الكاتب المتخصص    

فرج كُندي

عضو مؤسس فى منظمة “إعلاميون حول العالم”

يتمظهر الانحطاط في المجتمعات المسلمة في عدة صور وأشكال، وله عدة أنماط وأسباب متشابكة ومتداخلة وأحيانا مترابطة ومتراتبة بعضها على بعض، ويقوم برعاية أنظمة ريعية استبدادية؛ أو مجندة لقوى خارجية تقوم مصالحها على استشراء الانحطاط والتخلف في البلاد الإسلامية، لضمان مصالحها السياسية والاقتصادية، وسيطرتها الثقافية على مظاهر حياة المسلمين؛ لإبعادهم عن دينهم الذي هو مصدر عزّتهم وبه نهضتهم وازدهار حضارتهم.

وللانحطاط صور ومظاهر تبرز بعد استشرائه في المجتمع الذي بدأ هذا الداء ينخر فيه، وتكون هي السائدة في الحياة اليومية العامة، وتشكل علامة من علامات وسمات هذا المجتمع، وهي العامل المؤثر في أخلاقياته وقيمه السائدة، وبديلا عن قيمه الأساسية التي كانت هي العامل الفاعل في تكوينه وتشكّله.

 إنها قيم الإسلام الحنيفة التي تدعو إلى الفضيلة وسيادة مكارم الأخلاق، ونبل القيم والتعاون على البر والتقوى والعدل والإحسان، والتكافل الاجتماعي والسمو الثقافي والإبداع الحضاري واحترام حقوق الإنسان والإخلاص في العمل.

والواقع المعاصر في المجتمعات الإسلامية بعيد بدرجات متفاوتة عن هذه القيم؛ بل يسود على معظمه مظاهر التخلف والانحطاط والبعد عن قيم الإسلام النبيلة.

يتمظهر هذا البعد في هذه الصور:

الردة الثقافية والفكرية: وتتمثل في تراجع انتشار الثقافة الإسلامية وانحسارها وإحلال الثقافة الغربية وقيمها الأخلاقية والسياسية والاجتماعية، وسيادة مفاهيم وقيم العلمانية والليبرالية والاشتراكية باعتبارها من مقومات الحضارة والحداثة وكبديل عن الثقافة الإسلامية.

تراجع المكانة الاجتماعية للعلم والعلماء: جاء هذا التراجع نتيجة عدة عوامل داخلية وخارجية أسهمت في إضعاف دور العلماء؛ أهمها تراجع دور المؤسسات العلمية في إعداد علماء مؤهلين قادرين على التأثير في المجتمع من خلال ضعف المناهج العلمية التي كانت تدرس في هذه المؤسسات، مما أدى إلى تقوقع هؤلاء المتخرجين من هذه المؤسسات، وحصر دورهم في دراسة تدريس العلوم في المدارس والجامعات دون الخروج إلى المجتمع والاتصال المباشر بالناس، وممارسة الدور الحقيقي في حل المشاكل وتقديم الحلول المناسبة للأحداث الجارية؛ مع توغل الغزو الثقافي الغربي في المجتمعات المسلمة وظهور نخبة مثقفة ترى في الحضارة الغربية الوسيلة الناجعة للخروج من التردي والانحطاط إلى التقدم الحضاري؛ مما أسهم في ظهور واتساع مظاهر الانحطاط والتخلف في المجتمعات المسلمة.

غياب تأثير العلماء والمثقفين في الحياة العامة والمجتمع: إن قمع الحريات وقيام الدكتاتوريات الاستبدادية التي تقمع العلماء  وتحارب الثقافة وتطارد  المثقفين أدت إلى غياب تأثير العلماء والمثقفين المسلمين.

 قامت الأنظمة الاستبدادية بحملات تشويه للعلماء والمثقفين أو تدجينهم وشرائهم بالمال أو تخويفهم وسجنهم ونفيهم، وسلكت كل السبل وسخّرت كل ما تملك لعزل العلماء والمثقفين عن الحياة العامة من خلال المراقبة والمتابعة والمنع.

 كل هذه العوامل وغيرها نجحت في تغييب العلماء والمثقفين عن الحياة اليومية في مجتمعاتهم، وكذلك اختيار البعض منهم العزلة كخيار شخصي بعدة حجج منها أنهم نخبة خاصة ولا يختلطون بالعامة، وأن مخالطة العامة تُضيّع وقتهم الثمين فاختاروا الحياة في أبراج عاجية؛ فغابوا عن التأثير في المجتمعات التي كان يجب عليهم أن يعايشوهم ويخالطوهم للتأثير فيهم بأفكارهم وعلومهم التي يحملونها، ولكن هذا لم يحدث وإن حدث فهو من القليل والأقل منه هو التأثير!! 

فشل المنظومة التربوية في تحقيق المهام المنوطة بها: تعثرت المنظومات التربوية في المجتمعات المتخلفة لأنها مبنية على أسس وقيم بعيدة كل البعد عن هويتها، بل مستوردة تختلف عن قيمها وتصطدم بها وتناقضها، فصعب على المجتمع التأقلم معها مما سبب ارتباكًا كبيرًا، لا هي أخذت من قيمها الأصيلة ولا قبلت بقيم تربوية غريبة عن مرجعيتها، فأصبحت تعيش حالة ارتباك وحيرة وتدور في دائرة مفرغة دون الوصول إلى حلول جذرية تصحح هذه المنظومة وتسيّرها في مسارها الصحيح الذي يحقق النتائج المرجوة منها.

 تخريج الأفواج من حملة الشهادات المفرغة وانتشار البطالة:

دأبت الحكومات الريعية وريثة الاستعمار على إنتاج نظام تعليمي شكلي مفرّغ من المحتوى خاوي المضمون؛ يقوم على المفاخرة بأعداد المدارس والجامعات التلقينية البعيدة عن إعداد الكوادر العلمية والمهنية التي يحتاجها المجتمع. مع أسلوب تسطيحي يخرج دفعات كبيرة قائمة على الكم لا الكيف؛ لا تلبي حاجات المجتمع ولا تستطيع الخوض في مجال سوق العمل مما يضاعف أعداد الطلبة في شريحة الشباب مما يكون له انعكاسات سلبية على اقتصاد وقيم المجتمع، وربما يؤدي به إلى الانهيار التام بسبب هذ البطالة في الشريحة التي هي عماد النهضة.

اختفاء القيم الجمالية وغياب الفن الهادف الذي يساهم في التشكيل:

ومن مظاهر الانحطاط والتخلف هو ما يتعرض له الفن بكافة أشكاله وأنواعه من التضييق والتحريم أو الانحراف والتأثر بمظاهر الفن الغربي الذي يحمل قيم الانحلال والانحطاط. فالفن الهادف في المجتمعات المسلمة محاصر بين دعاة التحريم ودعاة الانحلال، والمجتمعات المسلمة محتاجة إلى فن إنساني يحمل قيمًا روحية وإنسانية وأخلاقية نابعة من قيمها الأصلية؛ تساهم في تعزيز الهوية ونشر الجمال والذوق المنضبط بهذه القيم الراقية والسامية.

هيمنة موجة الردة والتخلف والانحطاط والمسخ الفكري:

تتجلى مظاهر الانحطاط في المجتمعات المسلمة بتراجع القيم والأخلاق الإسلامية وبروز الأفكار الهدّامة، وسيطرة قيم الأفكار المستوردة من اشتراكية وشيوعية وقومية مقيتة وحداثة ممسوخة واعتبارها المظهر الحقيقي للتقدم والتطور، واتهام الفكر الإسلامي بالرجعية والتخلف وأن الإسلام هو سبب تخلف المسلمين وانتشار ظاهرة الإلحاد بين الشباب واعتبارها آخر صراعات التحرر ومواكبة الأفكار الحديثة. في حين هو الهاوية السحيقة التي تودي بالإنسان إلى أحطّ المدارج وتصادم جانب الفطرة فيه وتجعله في حالة مسخ يحتاج إلى وقت وجهد كبيرين للخروج منه والعودة إلى صواب الجادة ويخرج من دائرة التخلف والردة والانحطاط.

انتشار الردة عن الصحوة وظهور موجة الإلحاد.

  الإلحاد هو إنكار وجود الله سبحانه وتعالى، واعتبار أنه لا يوجد خالق للكون ولا للإنسان، وأنهما جاءا عن طريق الصدفة، وهذا الهراء لا يقبله عقل ولا دين وتأباه الفطرة السليمة، ولكنه فكر ممسوخ جاء من الغرب الذي كفر بالكنيسة؛ فتولد عن هذا الكفر كفر بالخالق؛ فكانت ردة عن الدين سادت الغرب ثم تسربت لضعاف النفوس ممن لم يتربوا التربية الصحيحة على العقيدة السليمة والعبادة الصحيحة، فكانوا لقمة سهلة التأثر بموجة الإلحاد التي تهدم الدين والقيم بل تهدم علة الوجود أصلا قال تعالى:

{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56

عندما أصدر المفكر الألماني الشهير أزوالد اشبنغلر في العقود الأولى من القرن العشرين كتابه الذائع الصيت: (انحطاط الغرب)، أو (أفول الغرب)، أو (تدهور الغرب)، على اختلاف الترجمات، حيث اعتبر أن الغرب تجاوز مرحلة خلق الثقافة، وانتقل إلى مرحلة الحضارة أو المدنية التي تعني مرحلة الرفاه المادي، وهذا يعني في نظر اشبنغلر أفول الغرب أو انحطاطه.

وقد أحدث هذا الكتاب في وقته ومازال صدمة وفتح نقاشات سجالية لم تنته إلى اليوم، وأدخل في الثقافة الأوروبية ما بات يعرف بمفهوم التشاؤمية الثقافية.

ولعل من الأصح القول أن الانحطاط أصاب الدولة في التاريخ الإسلامي، ويمكن أن نبرهن على هذه الفكرة بمقدمة ابن خلدون التي وضعت التجربة الإسلامية في نطاق التحليل وفق قواعد وأصول علم الاجتماع وعلم التاريخ. فابن خلدون بحث عن أفول الدولة في التجربة الإسلامية، وليس أفول الثقافة أو الحضارة.

ولذلك يمكن القول أن التخلف أصاب ثقافة المسلمين وليس الإسلام.

وبقي الإسلام ومازال يبعث حيوية ودينامية ويقظة في المجتمعات الإسلامية1.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق