كيف يحرر الإسلام طاقات المجتمع من داء الغثائية
كأي أمة تمر بأزمة وركود، في واقع يدعوها في كل لحظة للنهوض، لا بسبب ما جناه عليها وضع الركود الداخلي هذا فحسب، بل بسبب أعدائها من الخارج المتربصين بها والمتعطشين لسفك الدماء فيها، وكأي من أمة هذا حالها لا بد لأمة الإسلام من انبعاث وانفكاك من قيودها، سواء القيود الداخلية أو الخارجية، وإن قدر هذه الأمة هو التحرر، ولا سبيل لهذا الانفكاك والتحرر وذاك الانبعاث إلا أن تستشرف مسارها من عامل التحرر الأول فيها، وهو هذا الدين، الذي يملك من مقومات التحرر ما لا يحدثنا عنه الناطقون باسم أصحاب القيود وكلاء الاحتلال الجاثمين على كواهلنا.
نحاول في هذا المقال تبيان جزء من طبيعة هذا الدين وسبل تحريره للمسلمين من الغثائية وبث الفاعلية في مجتمعاتنا.
المنظومة الاجتماعية بين الدولة القومية والإسلام
من التطبيق المنحرف للإسلام، عدم تصور وجود لمنظومته الاجتماعية، والانطلاق من النموذج الحالي للدولة القومية الحديثة كمنتج نهائي ثم محاولة قراءة الإسلام من داخل هذا النموذج.
لقد جنى ما سبق على فكر ووعي المسلمين بدرجة كبيرة، خاصة عندما قررت بعض النخب تبني النموذج القومي الغربي، وتقديم تجربة عملية عن ممارسة السياسة والحكم داخل محددات هذا النموذج؛ لتكون النتيجة سطوة النموذج الدخيل على تلك النخب، وغياب رؤية تغيير حقيقية تحتاجها الأمة وشعوبها نابعة من عمق وحقيقة هذا الدين.
وقبل أن نطرح تصور مبسط عن المنظومة الاجتماعية للإسلام، نُلَمّح باختصار عن كيفية دخول الأمة تحت النموذج الغربي، وقد وقع الإشارة إلى هذا الموضوع في مقالات سابقة، فقد كانت الأمة تعيش في نموذجها الاجتماعي لمئات السنين قبل مجيء الاحتلال الغربي في القرن التاسع عشر الميلادي، حيث عمل المحتلون طيلة فترة مكوثهم في بلادنا على إعادة تنظيم حياة الناس وفق المنظومة الاجتماعية للنموذج الوافد، نموذج الدولة القومية العلمانية، وتمت العملية ببطئ لدرجة أن أصبحت بلداننا صبيحة تسليم الاحتلال المباشر لمن سيخلفه -بعد خروجه- من المحتلين المحليين من بني جلدتنا، أصبحت هذه البلدان منتظمة داخل أسلوب ونموذج حياة جديد غريب عن أسلوب الحياة التي تأسس على الإسلام، أي أصبحنا شعوبًا من المسلمين داخل نظام حياة لا يتأسس على الإسلام، بل يتأسس على ضدية الإسلام.
فما الفرق (اجتماعيًا) بين المنتج الغربي وأسلوب الحياة في الإسلام؟
أما الدولة القومية الحديثة فتنقسم الحياة فيها إلى قسمين: الدولة والمجتمع، بحيث تهيمن وتحتكر الدولة على المهام الحيوية للمجتمع، ويُربط الفرد بالدولة برابط يُسمى العقد الاجتماعي الذي ينبني على رابطة المواطنة.
أما في الإسلام يتمثل أسلوب الحياة فيه على وجود ثلاثة أقسام: سلطة وجماعات وسيطة ومجتمع، بحيث تعمل الجماعات الوسيطة على تأدية المهام الحيوية للمجتمع، وتمتلك هذه الجماعات استقلال إداري ومالي وقيمي عن السلطة.
في الدولة القومية يضع المشرعون القوانين الوضعية انطلاقًا من قيم مادية؛ ليتحاكم إليها (تحت سلطان الجبر) الشعب، بينما قد يتمتع المشرّعون بحصانة قانونية.
في الإسلام يخضع الحاكم والمحكوم لمنظومة الوحي القيمية التي تنظم العلاقات بين الأفراد في المجتمع وبين الجماعات الوسيطة وبين السلطة في الدولة وبين الفرد والسلطة، وكل المجتمع بأفراده وجماعاته مكلفون بحماية قِيَمهم التي مصدرها الدين من أي انتهاك مهما كان مأتاه.
وبما أن السمة البارزة لنموذج الدولة القومية الحديثة أنها تهيمن على المهام الحيوية للمجتمع، أي تُأمِّمُها وتحتكرها، في دول ما بعد الاحتلال المباشر، أصبح هذا النموذج وسيلة لهيمنة المحتل الأجنبي بطريقة غير مباشرة عن طريق وكيله المحتل المحلي على مجتمعاتنا وحياتنا، وتحولت الدولة القومية في بلداننا إلى صانعة ومُديمة لحالة الغثائية، فما هي خصائص المنظومة الاجتماعية في الإسلام وكيف تُحرر المجتمعات من الغثائية؟
المنظومة القيمية وبث الفاعلية في المجتمع
إن عظمة المنظومة القيمية في الإسلام من عظمة مَصدرها، إن الوحي الذي أنزله خالق هذا الإنسان، والإسلام الذي بعث الله به خير الأنام صلى الله عليه وسلم، لجدير بأن يبعث هذه الأمة من جديد كلما فاءت إليه بعد شرود، فإذا هي تَثِب إلى مقدمة القيادة البشرية من جديد.
لقد جاء الإسلام كبيان حرية لهذه البشرية، يهتف في روعها بمعاني العزة والإباء، فلا خضوع إلا لرب الجود، ولا احتكام إلا لقانون السماء، إذ يوفّر الإسلام المظلة الثورية التي تمهد للتغيير ومواجهة الظلم والطغيان، ويُحرّم الاستكانة لكل عدوان خارجي أو داخلي، أو الرضا بوقوع الظلم عامة.
ويتشكل من مجموع الأحكام الشرعية منظومة قيمية شاملة، وهي من الإعجاز في إحاطتها بكامل مناحي الحياة: ابتداءً بطريقة الأكل لتبلغ طريقة القتال، من تنظيمها للأحوال الشخصية حتى تنظيمها للأحوال والعلاقات الدولية، ومن استيفائها لحق الجسد في نظافته على الفرد إلى حق الفرد والمجتمع في ثروات بلاده وخيراتها، وإذا كانت هذه المنظومة القيمية شاملة للوجود البشري بكل نشاطاته، فإنها تراعي الوجدان البشري بكل تفاعلاته، بما يضمن كرامة الإنسان في مجتمعه وكرامة المجتمع المسلم بين بقية الأمم.
لكنها مع هذا كله تُمثّل عامل يقظة وانبعاث لمجتمع المسلمين، وتَؤُزُّهُم أزًا للمعالي، وعدم التطبيع مع الظلم أو الاستكانة للظالمين.
قال رسول الله ﷺ: ((لَا يَقِفَنَّ أَحَدُكُمْ مَوْقِفًا يُقْتَلُ فِيهِ رَجُلٌ ظُلْمًا، فَإِنَّ اللَّعْنَةَ تَنْزِلُ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ؛ حين لَمْ يَدْفَعُوا عَنْهُ، وَلَا يَقِفَنَّ أَحَدُكُمْ مَوْقِفًا يُضْرَبُ فِيهِ رَجُلٌ ظُلْمًا، فَإِنَّ اللَّعْنَةَ تَنْزِلُ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ؛ حِينَ لَمْ يَدْفَعُوا عَنْهُ))1.
لقد انبثق عن الإسلام منظومة قيمية أحاطت بكل الاحتياجات النفسية والعاطفية والعقلية والجسدية للإنسان، بحيث لا يقع إهمال أي جانب من جوانب الكيان البشري، وربطت هذا الفرد بروابط ووشائج عميقة بجماعة المسلمين وأمة الإسلام داخل شبكة من العلاقات الاجتماعية في رحاب دستور أخلاقي بديع، وأَطّرت تعاملاتهم بمنظومة قانونية فريدة معيارها وعُملتها الحق.
الوظائف الاجتماعية الحيوية والجماعات الوسيطة
بمجرد وجود مجتمع مسلم، تصبح هناك فرضية إقامة وظائف أو مهام اجتماعية، يمكن استشراف تلك الوظائف من شعب الإيمان، ومدارها ما ورد في صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: ((الإيمان بضع وستون -أو بضع وسبعون- شعبة، أعلاها -أو فأرفعها أو فأفضلها على اختلاف الروايات- قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطريقِ، والحياء شعبة من الإيمان))، وقد فصل العلماء في هذه الشعب، ومن ذلك ما ورد في مختصر الإمام البيهقي لشعب الإيمان، وشعب الإيمان تحتوي على عدد كبير لا يمكن تأديته إلا بعمل جماعي منظم بين المسلمين، وهي التي نسميها مهام حيوية أو وظائف اجتماعية، والتي تُكوّن بمجملها شبكة الوظائف والمهام الحيوية.
وبما أن الإسلام يفرض تأدية هذه الوظائف، تتكون الجماعات الوسيطة التي توقف نفسها على هذه المهام، ويتحول المجتمع إلى خلايا نحل من المهام الحيوية الخادمة لهذا المجتمع ولرسالته عن طريق تأدية المهام الحيوية.
من تلك المهام مثلًا مهمة النظافة (إماطة الأذى عن الطريق)، التي تستوجب وجود مجموعة من المسلمين ينتظمون في هذه الوظيفة بحيث يكون هذا عملهم الذي يأخذون عليه مقابل مالي، وفي نفس الوقت رسالة أخروية بتحقيق شعبة من شعب الإيمان.
ومن تلك المهام وظيفة طلب العلم والتعليم، التي تفترض وجود علماء يقفون أنفسهم على تعليم المسلمين لدينهم وللعلوم التي يحتاجونها في عصرهم.
ومن تلك المهام مهمة وفريضة الجهاد، التي تفترض استنهاض الأمة لتتعامل مع الأوضاع التي ستعرَض لها بما يوازيها، فإذا كان العدو قد دخل بلاد المسلمين، فعندها يستنهض الناس للجهاد كفرض عين يتعين على الأقرب فالأقرب حتى يشمل كل الأمة إذا عجز أو تكاسل من نزل بهم العدو عن دفعه، أما إذا كان وقت جهاد الطلب فالجهاد حينها فرض كفاية.
فالمهام التي تقوم عليها جماعة وسيطة تصبح في حقها فرض عين بينما تبقى في حق بقية المجتمع فرض على الكفاية، فإذا عجز أو تكاسل القائمون عليها يقع تغطية المهمة من جهود المجتمع، بحيث لا تتوقف المهام الحيوية.
كما يضمن النظام الاجتماعي في الإسلام استقلالية التمويل لكل النشاطات الحيوية، بوجود آلية الوقف، والأوقاف مصدر تمويل يضمن استدامة المهام الحيوية وعدم انقطاعها عبر الزمن، مع بقاء استقلالها المالي عن السلطة.
وبهذا تبعث المنظومة الاجتماعية في الإسلام روح العمل والجسارة والإبداع والاجتهاد في نفوس المسلمين عامة، فكل فرد له دور، وكل مجموعة لها دور، ومجموع الوظائف الاجتماعية له رسالة، وبالروح الرسالية يتحرك كل هذا المجتمع، ويخوض تحديات واقعه، ويحقق ذاته عن طريق تحقيق رسالته.
وحركة المجتمع بهذه المنظومة دائمة التطلع للتجديد، فكل ما تحتاجه الأمة ولا تصنعه بأيديها، ولا تملك فيه قدم الصدارة، يتحول تحقيق الكفاية منه إلى فرض كفاية على الأمة، عليها أن تنتدب منها حسب الاختصاص من يرفع حاجتها منه واستغناءها عن تعويلها على غيرها، يشمل هذا كل جديد في الصناعة المدنية أو العسكرية أو الطبية أو التحويلية أو…
إنها بيئة خصبة من تشجيع المواهب ورعاية الإبداع، وإنشاء المحيط الذي يتنافس فيه المجتمع أفرادًا وجماعات على الخير وعلى الابتكار وعلى النفع العام، وعلى البطولة والجهاد والفداء.
وبهذا سارت القصص من بطون التاريخ عن علماء سبقوا عصورهم، وعن مجاهدين كابدوا الأهوال، وعن أمة سادت برسالتها الأمم.
صناعة بأس الفرد في الاسلام
ينطلق الإسلام في بناء الفرد من أساسيات تحقق فيه رسوخ صفات الإباء والكرامة وتستخرج منه معاني العزة، لدرجة أنه ليس له أن تهتز شخصيته أمام أي مطامع دنيوية في يد الناس مهما كانت مكانتهم، يقول النبي ﷺ ((مَن تواضعَ لغنيٍّ لأجلِ غِناهُ ذهبَ ثُلثا دينِهِ))2، وروى البيهقي في الشعب عن ابن مسعود من قوله: «من خضع لغني ووضع له نفسه إعظامًا وطمعًا فيما قبله ذهب ثلثا مروءته وشطر دينه»، وهذا من باب النهي عن امتهان المسلم نفسه لقصد تعظيم دنيا الناس وسلطانهم.
بل ويمنع الإسلام كل مؤمن من أن يرضى بسلب حقوقه، حتى وإن آل النزاع فيها إلى الموت، وقد ((جاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ: يا رَسولَ اللهِ، أرَأَيْتَ إنْ جاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أخْذَ مالِي؟ قالَ: فلا تُعْطِهِ مالَكَ، قالَ: أرَأَيْتَ إنْ قاتَلَنِي؟ قالَ: قاتِلْهُ، قالَ: أرَأَيْتَ إنْ قَتَلَنِي؟ قالَ: فأنْتَ شَهِيدٌ، قالَ: أرَأَيْتَ إنْ قَتَلْتُهُ؟ قالَ: هو في النَّارِ)) [صحيح مسلم: 140]. فكيف بمن ينهب الثروات من بقايا ما نهبه العدو إذا؟
بل جعل الإسلام من امتلاك الفرد لأسلحته التي يدافع بها عن نفسه وعن دينه أمر ضروري لكل مسلم، وَعدّ ذلك الاعتناء من الحق المنافي للباطل، قال ﷺ: ((كُلُّ مَا يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ بَاطِلٌ إِلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ ، وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ ، وَمُلَاعَبَتَهُ أَهْلَهُ ، فَإِنَّهُنَّ مِنَ الْحَقِّ)) [جامع الترمذي: 1637]، وقال ﷺ: ((إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ : صَاحِبَهُ الَّذِي يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ ، وَالَّذِي يُجَهِّزُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالَّذِي يَرْمِي بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) [مسند أحمد: 17610]
وخاطب الله الفرد المسلم خطابًا صريحًا يبين فيه موقفه الواضح إذا ما وقع الصراع فقال تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيل اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ۚ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا} [النساء: 84].
إنها منظومة أخلاقية تقود إنسانًا كريمًا لا يرضى أن يُهان من مستبد داخلي أو من عدو خارجي، تضمن لكل فرد امتلاكه وسائل الدفاع عن نفسه، والتكليف بالدفاع عن دينه وعرضه وماله و..، إنسانًا لا يُهان في مجتمعه ولا بين الأمم، وتعالج الضعف البشري بأن تزجره عن أن يتضعضع لغني لغناه، وتحثه على عدم التخلي عن حقوقه وإن مات دونها شهيدًا، بل يعتبر الإسلام الفرد أمة إذا كان وحده على الحق فيمضي فيه لا يخاف لومة لائم، قال ابن مسعود رضي الله عنه: «الجماعة ما وافق الحق؛ ولو كنت وحدك».
ولا يجب أن يُفهم من هذا أن الإسلام يحض على الفردانية، بل على العكس تمامًا، إن الإسلام دين جماعي بطبعه، إنما يبني كل فرد على الحق حتى ما إذا تخلص من الإمَّعِيّة والجريان مع كل تيار وعمل على تصفية معياره للحق، أصبح جنديًا داخل الذرات المتلاحمة من أمة المسلمين.
أما كل هذا الإعداد الفردي فهو مقدمة؛ لكي يكون هذا الفرد الكريم لبنة في بناء مجتمع الإسلام، ولصناعة بأس المجتمع المسلم.
صناعة بأس المجتمع في الإسلام
يصنع الإسلام مجتمعًا ملتفًا حول قضيته، يتحرك جماعيًا في سبيل تحقيقها، خاصة أن المهام الحيوية تكون بمجملها شبكة من الوظائف الاجتماعية تصب كلها في تحقيق غاية الوجود لأمة الإسلام، فلا تَخَلّف عن قضايا الوقت، عَلّمنا ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وردة فعل المجتمع الذي تربى على أنوار النبوة في قصة الثلاثة الذين خُلّفوا ولم يلتحقوا بجيش المسلمين، وواجب الوقت في غزوة تبوك، وكيف تعامل المجتمع معهم بعدها والموقف الجمعي من التخلف عن قضية المسلمين، فكيف لمجتمع يهجر عدد من أفراده من المتخلفين عن الجهاد أن يفقد قوته وتماسكه وبأسه في مواجهة أعداء الأمة؟!
يصنع الإسلام أمة التي تنتفض لدفع المظالم، أمة لا تركن للطغاة، ولا تصالح المحتلين، أمة لا يسقط واجب الجهاد فيها إذا دخل العدو حتى عن النساء، أمة تقوم بالقسط، وتتسلح ببأسها، وتنصر الله ورسوله، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25]
إن هذا الدين يُعِدّ المنتسبين إليه لخوض المعارك والصبر على ما يأتيهم خلالها {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]
وقد كانت صفة الذين بعثهم الله لحرب بني إسرائيل في إفسادهم الأول هي قوة البأس يقول الله سبحانه: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا} [الإسراء: 5]
إن الرحمة التي يشيعها الإسلام بين المسلمين بل ورتّب حقيقة الإيمان على التآخي بينهم فقال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، يقابل هذه الرحمة بأس في وجه المعتدين والظلمة والمحارَبين، فهي أمة نبي الرحمة والملحمة ﷺ، أمة السيف والقلم، ومجتمع يجيد صناعة الشهداء.
ولطالما كانت بطولات المسلمين مادة تربوية تربي الأمهات أبناءها على أناشيد قصص مغامراتهم وتحدياتهم، ولطالما كانت البطولة وقودًا يَؤز المسلمين لتكرار مجد ضائع أو إعادة رقعة محتلة، أو إنقاذ مقدس من مقدساتهم من قبضة أعدائهم.
إن البأس الذي تميّز به مجتمع المسلمين بَقِيَ لقرون عقبة منيعة أمام كل مشروع احتلالي، وبَقِيَ كدافع للتحرر في حال وقع ذلك الاحتلال، كعامل يقظة وانبعاث للأمة من جديد.
تحرير طاقات المجتمع من أسر الدولة القومية الحديثة
يتضح مما سبق أننا نعيش داخل نموذج حياة جاء به الاستعمار كبديل عن نموذجنا الحضاري، وأن من خصائص هذا النموذج الدخيل سلب فاعلية الأفراد والجماعات والمجتمع، وتأميم المهام الحيوية للمجتمع لصالح الدولة، والاستئثار باستعمال العنف وكل وسائل الضبط والمراقبة لصالح الدولة، بالتالي وبوضوح نحن أسرى داخل هذه الإقطاعيات القومية.
فالواجب إذًا أن نمتلك الوعي في البداية بخطورة الحياة داخل هذا النموذج، ثم التحرك خارج محدداته للتخلص من حالة الغثائية التي ترعاها وتشيعها الدولة.
وكلما نَمَى وعي الفرد المنطلق من ثوابته، تخلص من حالة الإمَّعِيّة، فيثقل ميزانه ويصبح كتلة ليس للسيل قدرة على تحريكها في تياره، وإذا امتلك الفرد هذه الدرجة لا بد بعدها أن يلتحم مع بقية الكتل التي تخلصت من خفة حالة الغثاء، ويكونوا معا تيارًا معاكسًا للتيار القائم ثم يصطدموا به لإعادة التيار العام إلى الوجهة الصحيحة.
إن على الفرد في أمتنا أن يعمل على امتلاك البأس من جديد، وعلى المجتمعات أن تسترجع بأسها الذي سرقته الدولة القومية والتي تعتبر بوضوح احتلال محلي ينوب الاحتلال الأجنبي، وإن بأس المجتمعات هو الذي سيعطيها قيمة في بلدانها وقيمة في العالم، الذي سيحسب لها حينها الحساب الكبير.
إننا لابد أن نسعى لحياة تستحق الحياة، حياة تعود فيها شبكة الوظائف الحيوية التي تُرجعنا أمة مرهوبة الجانب بين الأمم، وإنها معركة أمة بكل ما تملك كلمة أمة من معنى، معركة كل فرد وكل مجموعة، وكل جهد يبذله كل مسلم في سبيل طرد نموذج الاحتلال الذي فرضه الغرب علينا عن طريق المحتلين المحليين، كل جهد هو خطوة نور في طريق عودة المجد وخطوة في اتجاه الخروج من الظلمات.
هوامش
- في (مجمع الزوائد للهيثمي): رواه الطبراني، وفيه أسد بن عطاء، قال الأزدي: مجهول، ومِندَل وثقه أبو حاتم وغيره، وضعفه أحمد وغيره، وبقية رجاله ثقات. اهـ، وأخرجه العقيلي في (الضعفاء الكبير). وأبو نعيم في (حلية الأولياء). ↩︎
- أورده ابن الجوزي في (الموض وعات)، وحكم الشيخ المحدث علي ملا القاري عليه بقوله: قيل لا أصل له أو بأصله موضوع. ↩︎
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق