انتصار غزّة... هزيمة العرب
وائل قنديل
غزّة قاومت واستبسلت، وأسقطت كلّ خطط العدوان الأميركي الإسرائيلي، فلا هي تخلّت عن مقاوميها البواسل أو دفعها الألم لتتبرّأ من مقاومتها، ولا هي استسلمت واندفعت كما في المرّة الأولى، حين وقع اتفاق وقف القتال في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023.
يمكن القول، بفخر واعتزاز، إنّ غزّة بقيت رافعة الرأس ثابتةً كالجبال، على الرغم من عشرات آلاف من الشهداء، نصفُهم تقريبًا من الأطفال. وعلى الرغم من الهدم والدمار الذي لحق بمبانيها، ذلك كلّه لا يحجب حقيقة ساطعة: غزّة قاومت واستبسلت وأسقطت كلّ خطط العدوان الأميركي الإسرائيلي، فلا هي تخلّت عن مقاوميها البواسل أو دفعها الألم إلى أن تتبرّأ من مقاومتها، ولا هي استسلمت واندفعت لتقفز خارج خريطتها، خريطة فلسطين، كما أنّها، وهذا هو الأهم، لم تتوقّف عن تعليم البشرية كلّها كيف تكون الجندية الحقيقية، وكيف يكون المعنى الحقيقي للوطن.
الشعب الفلسطيني في غزّة هو الأعرف بمعنى الانتصار وعلاماته، وهو الأدرى كذلك بمعنى الهزيمة، لأنه ببساطة أعلم منا بمفهوم الحياة والموت، الوجود والعدم، فالهزيمة والفوز. وبالتالي، كلّ من يتجاهل احتفالات الفرح الغزاوي بانتصاره على الفناء، أو يتحدّث عنها باستعلاء أجوف، يهين هذا الشعب ويحتقر شواهد الواقع الذي ينطق بأنّ شعبًا صمد 470 يوماً بوجه أقوى وأقذر حلف عسكري استعماري عرفه تاريخ العالم، فإذا لم يكن هذا هو الانتصار، فما معنى الانتصار إذن؟
دافعت غزّة عن وجودها، كما استبسلت في ستر العري القومي الممتدّ بطول وعرض الجغرافيا العربية، وحالت دون سقوط ضحايا جدد في بئر التطبيع، أو أجلت هذا السقوط إلى أجل غير مسمّى، لتنجز كما في كلّ معاركها، ما أسمّيها "إعادة إعمار الروح العربية"، وإعادة الوجدان السليم إلى نظافته ونقائه، واستعادة تلك الفطرة السوّية التي يولد عليها الإنسان، فتجعله ينحاز للحقّ ضدّ الباطل، يقف مع العدل ضدّ العدوان، ويدافع عن الحرية ضدّ الطغيان، ويرى المقاومة حقًاً أصيلاً وليست إرهاباً.
كان طوفان غزّة بمثابة الدرس الأخلاقي الذي كان العالم في أشدّ الاحتياج إليه، فاستحالت شوارع العالم وميادينه، غربه وشرقه، فصولاً مفتوحة لتعليم القيم الإنسانية، وتجديد وعي العالم بمفاهيم ظننا أنّ وحوش النيوليبرالية نجحت في حرقها وتحويلها إلى رماد أخلاق.
لذا يحقّ لشعب غزّة أن يحتفل احتفال المنتصر وهو يرى كلّ أوغاد العالم يحاولون التمسّح به، ويرتدون أقنعة إنسانية بوصفهم صنّاع سلام وحماة إنسانية، وينتحلون لأنفسهم أدوارًا في وقف القتال، وكأنّ التاريخ القريب فقد ذاكرته فلم يعد قادراً على التعرّف على الذين خذلوه وخانوه وباعوه وكانوا في خدمة قاتليه طوال 15 شهراً وقف فيها الأشقاء يتفرّجون على الأعداء وهم ينفذون مشروع الإبادة والمحو من الوجود.
يعرف شعب غزّة هؤلاء الذين ناصروه وأولئك الذين حاصروه حين كان العدو يمارس كلّ أنواع القتل فيه، يعرف أنّه في أمّة النصف مليار عربي لم يهرع لنجدته ودعمه سوى رجال وأشقاء حقيقيين في لبنان وفي اليمن، وفي إيران وكولومبيا وجنوب أفريقيا ونيكاراغوا، ويعرف التاريخ ويسجّل أسوأ ما قيل من عبارات الخذلان والتخلّي منذ الأيّام الأولى للمذبحة، فمن ينسى أنّ رئيس السلطة (الوطنية الفلسطينية) محمود عباس خاض المعركة ضدّ مقاومة غزّة، ولا يزال يقاتل المقاومة في الضفة الغربية؟
ومن ينسى تصريحات السيسي مع مستشار ألمانيا في قصر الاتحادية بتاريخ 18 أكتوبر/ تشرين الأوّل "قلت هذا الأمر لفخامة المستشار وأقوله في العلن، إذا كانت هناك فكرة للتهجير توجد صحراء النقب. ممكن قوي يتم نقل الفلسطينيين حتى تنتهي إسرائيل من مهمتها المعلنة في تصفية المقاومة أو الجماعات المسلحة في حماس والجهاد الإسلامي وغيره في القطاع، ثم بعد ذلك تبقى ترجعهم إذا شاءت... لكن نقلهم إلى مصر... العملية العسكرية دي ممكن تستمرّ سنوات وهي عملية فضفاضة... أقول لسّه ما خلصناش الإرهاب. لسه ما انتهيناش من المهمة".
ومن ينسى أحمد أبو الغيط وهو يقول على الهواء مباشرة "لما النهارده تيجي تقول إن حماس يوم سبعة أكتوبر قامت بعمل عسكري أو عمل مقاومة أدى إلى تفجير الوضع بالشكل الفلاني وتتوقع إن هذا الجيش أو ذاك أو هذه الدولة أو تلك يتحرّكوا في سياق غير دبلوماسي؟ لا. عندما تفتئت إسرائيل على الشعب الفلسطيني هناك بعد آخر". ثم يضيف: "الحرب ليست سهلة ولا تحدث إلا إذا كان هناك تهديد وجودي لهذا البلد أو ذاك".
من ينسى سامح شكري وهو يقول لوزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة، تسيبي ليفني، في مؤتمر ميونيخ للأمن 17 فبراير/ شباط 2024 "حركة حماس كانت من خارج الأغلبية المقبولة للشعب والسلطة الفلسطينية، ويجب أن تكون هناك محاسبة حول تمكين حماس في غزّة، وتمويلها في القطاع لتعزيز الانقسام بين الحركة والتيار الرئيسي للكيانات الفلسطينية الأخرى صانعة السلام، سواء كانت السلطة أو منظمة التحرير".
من ينسى أنّ بلدانًا عربية تصدّت لهجمات إيران على الكيان الصهيوني ثأرًا لشهداء غزّة، وكما أعاد مجرم الحرب، أنتوني بلينكن، تذكيرنا بها، أمس، حين قال "بلدان من المنطقة دافعت عن اسرائيل".
التاريخ لا ينسى وغزّة كذلك، قد تتسامح وتغفر، لكنها أبداً لا تنسى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق