الأربعاء، 15 يناير 2025

كلنا كذّابون

 كلنا كذّابون.


سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية 

يا عزيزي كلنا كذّابون.

قد يبدو هذا الادّعاء صادماً، لكنه يحمل، في أعماقه، حقيقة مريرة ومثيرة للتأمل، حقيقة تمشي بيننا خفيةً، تتسلّل إلى ألسنتنا وأفعالنا من دون استئذان، وكأنها جزءٌ من الطبيعة البشرية لا فكاك منه. فلماذا يكذب الإنسان؟ ما الذي يدفعه إلى الانحراف عن درب الحقيقة، ذلك الدرب الذي ندّعي جميعاً أننا نسلكه؟ وهل الكذب فعل شنيع محض، أم أنه أحياناً وسيلة دفاعية تبررها الحياة بكل قسوتها وتعقيداتها؟

الكذب هو الطفل الأول للخوف. منذ اللحظة التي يخشى فيها الإنسان العقاب أو المواجهة، تنبثق الكذبة الأولى كحبل نجاة. الطفل الذي ينكر ما اقترفته يداه، والعاشق الذي يخفي ضعف قلبه تحت قناع القوة، والسياسي الذي يجمّل الحقائق ليخفي وراءها خيباته. كلهم يشتركون في شيء واحد: الخوف من الحقيقة، تلك الحقيقة التي قد تحمل في طياتها ألماً لا يُحتمل أو حكماً قاسياً من الآخرين. والخوف أقدم أعداء الإنسان وأكثرهم قدرة على صناعة الأكاذيب.

لكن الكذب لا يولد فقط من رحم الخوف، بل يخرُج أحياناً من عمق الرغبة. الرغبة في أن نكون أفضل مما نحن عليه، أن نحصل على الحب والإعجاب والقبول. حينها يتحوّل الكذب إلى صورة أقرب ما تكون إلى الفن، لوحة مرسومة بحرفية لنخدع بها الآخرين، وربما أنفسنا أيضاً. 

كم مرّة كذبنا لنبدو أجمل، أذكى، أكثر نجاحاً؟ وكم مرّة غلفنا كذبنا بورقة شفافة من الأحلام، لنقنع أنفسنا بأن ما نقوله حقيقة مؤجلة؟

وفي أحيان أخرى، نجد الكذب وقد لبس عباءة الفضيلة، ليصبح سلاحاً يُستخدم بحجّة حماية الآخر. الزوج الذي يخفي مرارة فشله عن زوجته، الأم التي تتظاهر بالسعادة لتمنح أطفالها دفء الاطمئنان، الصديق الذي يكتم حزنه في وجه صديقٍ آخر مثقل بالهموم. هنا، يتحوّل الكذب إلى تضحية غريبة، إلى جسرٍ يُبنى من الأوهام ليحمي الأحبة من الغرق في الحقيقة المؤلمة.

لكن، هل يمكننا حقاً تبرير الكذب؟ قال أفلاطون يوماً إن الحقيقة هي الفضيلة الكبرى، وأن الكذب ينتمي إلى عالم النقص والضعف. بينما ذهب نيتشه إلى أبعد، واعتبر الكذب من فنون الإنسان، ضرورة تُمكّنه من التعايش مع واقع قاسٍ يعجز عن مواجهته. وبين هذين الرأيين، تقف فلسفة الكذب متأرجحة. هل الكذب ملاذ الجبناء أم لعبة العباقرة؟

إننا حين نتأمل حياة البشر نجد الكذب حاضراً في كل زاوية.

حتى الأدب، هذا العالم السحري الذي يُفتن به الإنسان، أليس إلا شكلاً آخر من أشكال الكذب؟ الروايات التي نحبّها، الشعر الذي يسحرنا، كلها حكايات قد لا تحمل شيئاً من الحقيقة، لكنها تلامس أرواحنا وكأنها أصدق ما يكون. هل نلوم الكاتب لأنه كذب علينا، أم نشكره لأنه أعاد تشكيل العالم بطريقة أكثر احتمالاً؟

ولكن مهما بدا الكذب ضرورة في بعض الأحيان، فإنه يحمل في طياته كلفة باهظة. كذبة واحدة قد تهدم علاقة بُنيت على الثقة، وقد تترك جرحاً غائراً في قلب من صدّقها. الكذب، مهما كانت دوافعه، يترك وراءه أثراً لا يُمحى، أشبه بنُدبةٍ على وجه الحقيقة.

وإذا ما فكّرنا في عالم بلا أكاذيب، يبدو لنا حلماً بعيد المنال. الحقيقة ثقيلة، والكذب أحياناً مجرّد محاولة للتخفيف من وطأتها. لكن الإنسان الذي يختار الكذب يضع نفسه في مأزق أبدي، بين راحةٍ مؤقتةٍ وألم دائم. إننا نكذب لأننا بشر، ضعفاء، خائفون، طامحون، عاشقون للقبول، راغبون في حياة أجمل مما نعيشها.

الكذب، إذن، ليس سوى انعكاس لهشاشتنا الإنسانية. إنه مرآةٌ نرى فيها خوفنا من المواجهة، شوقنا للحب، ورغبتنا في النجاة من قسوة الحقيقة. لكن المرآة ذاتها تدعونا إلى التأمّل: هل نملك الشجاعة لترك الكذب جانباً؟ هل يمكننا أن نصمت عند رغبتنا في الكذب، ونسمح للحقيقة أن تتحدّث بدلاً منا؟

قد يبدو الكذب حلاً سريعاً، لكنه يظلّ ندبة غائرة في ضمير المرء. وكلما حاولنا تبريره ازدادت المسافة بيننا وبين الحقيقة. ربما نحن جميعاً كذابون، بنسب متفاوتة، لكننا أيضاً، في أعماقنا، باحثون عن حقيقةٍ ما، حقيقة تنقذنا من أنفسنا. في لحظة صدق نادرة، ندرك أن الخطوة الأولى نحو الحقيقة تبدأ من الاعتراف: أننا ضعفاء، أننا نخاف، لكننا، في النهاية، نسعى، بكل ما نملك من شجاعة، إلى أن نكون صادقين.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق