الأربعاء، 5 مارس 2025

قمّة معاوية وقمّة القاهرة

 قمّة معاوية وقمّة القاهرة 

وائل قنديل


اليد التي امتدّت لتزرع لغم مسلسل "معاوية" في هذا التوقيت الحسّاس، استقبالاً لشهر رمضان المُعظّم، هي ذاتها التي صنعت قمّة تشاورية أخوية إقصائية غير رسمية لمجموعة بعينها من الدول العربية، ذات المواقف المتقاربة من المقاومة الفلسطينية، استباقاً لقمّة عربية رسمية، كان من المأمول أن تكون جامعة، في القاهرة أمس الثلاثاء.

جاء المسلسل الركيك محاولة لتعميق الانقسام الروحي بين الجماهير التي كان من المفترض أن تتخفّف، مؤقتّاً، من حمّى الاستقطاب الطائفي إجلالاً لشهر الرحمة والتسامح والانعتاق من سجن التناحر المذهبي، وتجتمع حول الأصل العقائدي الواحد: أمّة إسلامية واحدة تتشارك صيام شهر عظّمه الله فعظّمته كلّ المذاهب والطوائف.

غير أنّ المسلسل باذخ الإنتاج، والفقير في كلّ عناصر الدراما الفنيّة، يبدو أنّ صنّاعه أنتجوه خصّيصاً واختاروا هذه اللحظة الملتهبة لعرضه من أجل الإبقاء على حريق الاستقطاب الجماهيري ممتدّاً، رأسيّاً لتتواصل الاشتباكات الطائفية، سنة وشيعة، وأفقيًا لتبقى معركة الانقسامات السياسية، مع المقاومة وضدّ المقاومة مشتعلة.

ما فعله المسلسل كرّرته تلك القمّة العجيبة التي التأمت في الرياض بين مجموعة محدودة من الدول العربية التي يسمّيها الإسرائيلي والأميركي "محور الاعتدال"، وتقع جميعها في نطاق عملية التطبيع، سواء الضليعة في ممارسته  سنوات عديدة مضت، أو التي عطّل طوفان الأقصى اندفاعها نحو التطبيع الشامل كما رسمه رئيس أميركا السابق جو بايدن، ويحارب من أجل تحقيقه دونالد ترامب حاكم البيت الأبيض الحالي.

عشية انعقاد قمة القاهرة أمس، تلك القمّة التي ظلّت تتسكّع في دروب المشاورات منذ أكثر من شهر على مخطّط تهجير الفلسطينيين من غزّة كما عرضه ترامب، أعلنت الجزائر أنّ رئيسها لن يشارك في الاجتماع، اعتراضاً على ما جرى في الرياض قبل أكثر من أسبوعين، حيث انفردت بضع دول عربية بمناقشة مستقبل غزّة وبحث مصير المقاومة، بمعزل عن بقية الدول العربية. وعلى الرغم من إلحاح المجتمعين في العاصمة السعودية على تسمية الاجتماع بأنه كان أخوياً تشاورياً غير رسمي، إلا أنّ أبواقاً إعلامية محسوبة على غالبية المشاركين فيها أطلّت متحدّثة عمّا قرّره اجتماع الرياض، وأبرز ما فيه لخصه عماد الدين أديب، البوق الثلاثي للقاهرة وأبوظبي والرياض بالقول: 

"لسنا (يقصد دول محور الرياض) جمعية خيرية، لذلك التعمير في غزة دون تهجير مرتبط أساساً بأن يكون لنا كلمة سياسية في مستقبل غزة وأي منطقة سوف نعمّرها سواء في جنوب لبنان أو في الضاحية.. حماس بسلاحها غير مرغوبة دولياً ولا حتّى عربياً.. حماس أصبحت عبئاً على القضية الفلسطينية".

بل إن جامعة الدول العربية تبنت موقفاً مماثلاً لموقف اجتماع الرياض، فأعلنت، مبكّراً، على لسان حسام زكي، الأمين العام المساعد والمتحدّث باسم أحمد أبو الغيط، موقفاً رافضاً بقاء "حماس" سياسيّاً وإدارياً في قطاع غزّة، الأمر الذي يشي بأنّ مخرجات اجتماع القاهرة الرسمي صيغت وأُقرّت قبل انعقاده بأسبوعين في جلسة الرياض الودّية الإقصائية. 

إذن، كانت تلك التشاورية الودّية غير الرسمية اللغم المزروع لتفجير الرسمية المؤسّسية الجامعة، قبل أن تبدأ في القاهرة، إذ لم يتوقف الأمر عند مقاطعة الرئيس عبد المجيد تبّون، الذي أرجعت وكالة الأنباء الجزائرية عدم حضوره إلى أنّ "القرار يأتي على خلفية الاختلالات والنقائص التي شابت المسار التحضيري لهذه القمّة"، حيث "تم احتكار هذا المسار من قبل مجموعة محدودة وضيقة من الدول العربية، التي استأثرت وحدها بإعداد مخرجات القمّة المرتقبة بالقاهرة، من دون أدنى تنسيق مع بقية الدول العربية المعنية كلها بالقضية الفلسطينية".

وكما امتنع رئيس الجزائر عن الحضور والمشاركة، أعلن الرئيس التونسي، قيس سعيّد، الموقف نفسه، وإن لم يوضّح أسباب الغياب، غير أنّ المفاجأة كانت في غياب وليّ عهد السعودية محمد بن سلمان، الذي ترأس قمّة الرياض التشاورية التمهيدية لاجتماع القاهرة، كذلك غاب رئيس الإمارات محمد بن زايد.

إذن شواهد عديدة تنطق بأنّ قمة القاهرة الطارئة كان يًراد لها أن تكون مجرّد صدى لتلك الأخوية التي شهدت تمثيلاً على أعلى مستوى في الرياض، وأن تتخذ موقفاً ضدّ مشروع المقاومة الفلسطينية، فكرةً وممارسةً، الأمر الذي يُخرج هذه القمّة من كونها "فعل غضب عربي" من إهانات الرئيس الأميركي ومخطّطه للتهجير، إلى محاولة إرضائه بخطّة بديلة بشأن غزّة تجعلها منزوعة المقاومة، معدومة القدرة على إزعاج الاحتلال الإسرائيلي، فاقدة أهم ما تملكه الأمم الواقعة تحت الاحتلال: حقّ المقاومة وحقّ امتلاك السلاح المقاوم.

صحيحُ أنه لم يتطرّق أحد من المتحدثين أمس إلى الموضوع الأساس، وهو حقّ شعب واقع تحت الاحتلال في مقاومة هذا الاحتلال، ولم يُجب أحد عن السؤال الأهم: ماذا لدى العرب تجاه الحصار الإسرائيلي المفروض على الشعب الفلسطيني، غير استجداء ترامب وانتظار إذن نتنياهو بإدخال المساعدات؟ 

وما مستقبل المقاومة في ظلّ هذه التظاهرة الرسمية العربية لتسويق سلطة محمود عباس بديلًا ومحاولة استرضاء إسرائيل عنه؟

لكن من الناحية الأخرى من الجيّد أنّ هذه القمّة الرسمية لم تردّد ما خرج به اجتماع الرياض الذي كان عنوانه استئصال المقاومة مقابل إعادة الإعمار ورفض التهجير.

يبقى أنّ القمّة العربية الطارئة بالقاهرة، هي الثالثة بعد اثنتين انعقدتا في السعودية خلال حرب الإبادة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، ويلفت النظر إلى أنّ قمتي الرياض نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 ثم في الشهر نفسه 2024 شهدتا حضوراً إيرانيّاً وتركيّاً على أعلى مستوى، وهو ما لم يحدث في قمّة القاهرة أمس، على الرغم من أنّ الموضوع واحد ولم يتغيّر.

هل يصلح لتفسير هذا الأمر أن ذلك حدث في فترة لم يكن فيها دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، ومطلقاً يد إسرائيل في غزّة تقتل وتبيد وتستأنف العدوان كما تريد وكيف تشاء، معلناً دعمه الكامل كلّ ما تقرّره تل أبيب؟ 

أيّاً ما تكون الأسباب والتفسيرات، فإنّ الثابت بداهًة أنّه لا يكون العرب عرباً إذا لم يكونوا لفلسطين التي تقاوم كما ترامب للصهاينة الذين يعربدون في كلّ المنطقة العربية، وكما أوروبا لأوكرانيا، إذ ليس من العروبة في شيءٍ أن يكون الحرص على حفظ أمن إسرائيل أولوية مساوية لمطلب إقامة دولة فلسطينية، على نحو ما ورد في كلمة عبد الفتاح السيسي الافتتاحية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق