منذ خمسين عاما أريد أن أتحدث إلى الإخوان
بقلم/ الداعية الإسلامى أبو الحسن علي الحسنى الندوي
محتويات
١ مقدمة الشيخ محمد الغزالي
٢ مقدمة الكاتب
٣ خصائص دعوة الإخوان
٤ سيرة الأنبياء مع الدعوة إلى الله
1-مقدمة الشيخ محمد الغزالي
إنها صبغة الله .. ومن أحسن من الله صبغة ؟
عندما قرأنا للداعية الاسلامى الجليل العلامة أبى الحسن على الحسنى الندوى رسائله التى سبقت مقدمه الى مصر ثم عندما قرت عيوننا برؤيته وطابت نفوسنا بعشرته تأكدت لنا هذه الحقيقة الكريمة وزدنا بها إيمانا وهى أ ن الإسلام على اختلاف الأمكنة والأزمنة يصنع نفوس أتباعه على غرار واحد ويجعل المشابه قريبة جدا بين نطرتهم الى الأشياء وأحكامهم على ا لأمور . وأن انفجار الوعى الإسلامى فى مصر والشام والهند والمغرب تمخض عن نفر من الرجال الأمجاد أحسنوا فهم الأسلام وأحسنوا العمل له فضمهم ـ من حيث لا يشعرون ـ نهج واحد فى الاصلاح ولفتهم عاطفة واحدة نحو ما يعترض المسلمين من عوائق ويرمون به من مكايد وخصومات ..
أصغينا الى الأستاذ وهو يحدث عن إخواننا المسلمين بالهند ويؤرخ لسير الإسلام هنالك فرأيناه يبصر الأسباب الخفية ولا تخدعه حركة عما وراءها . وأصغينا اليه يصف مشاعره نحو إخوانه المسلمين بمصر خاصة والشرق الأوسط عامة فرأيناه فطنا الى التيارات المتضاربة مقدرا لجهود الدعاة المخلصين ومقدرا كذلك ما يزحم طريقهم من صعاب وهو مع تمسكه الشديدبالاسلام شكلا وموضوعا ـ حتى ليظنه السطحيون متزمتا ـ تراه واسع منادح النظر .مرنا فى مواجهة ما يرضى وما يسخط مرونة الخلق العالى لا مرونة التحلل وقلة الاكتراث . وكم يحتاج رؤساء الهيئات الإسلامية عندنا الى هذا المسلك الراشد .
زارنا الأستاذ أبو الحسن ـ ونحن نكافح الأمر العسكرى بحل جماعتنا ـ فتعهدنا الرجل الحصيف بنصحه . وقام بحق الاسلام عليه فى توجيهنا الى مرضاة الله وخدمة دينه وحفظ المقدسات العظيمة التى آلت إلينا من أسلافنا الأمجاد . والثبات ضد أمواج الغزو الصليبى والتبشير الثقافى الذى يرمينا الغرب به بين الحين والحين .
وتحرى أن نلتزم فى جهادنا للإسلام الأساليب الإسلامية نفسها فإن الخير لا يدرك إلا بالخير . وهيهات أن تصل الى حق بباطل . وقد سجل هذه النصائح فى الرسالة التى نتشرف بتقديمها للإخوان المسلمين .
ونحن إذ نشكر الله سبحانه على ما أتاح لنا من خير عندما ساق لنا الأستاذ أبا الحسن فإنا نعاهده علىأ ن نظل ما حيينا أبناء برره للقرآن الكريم وجنودا مهرة فى تنفيذ أوامره وبلوغ أهدافه .
محمد الغزالي
2-مقدمة الكاتب
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الإخوان والسادة ! كان من أعز الأمانى وأحلى الأحلام عندى أن ألتقى فى مصر بفضيلة الأستاذ الشيخ حسن البنا المرشد العامللإخوان ولكن تأخرت زيارتى لمصر لأسباب قاسرة واستأثرت به رحمه الله وسبقت له الحسنى ولا أزال طوال عمرى ألوم نفسى على هذا التقصير والتأخير فى السفر على أن ما فات الإنسان من خير لم يكن ليدركه وكان أمر الله قدرا مقدورا وليس لى عزاء عن هذاا لحرمان إلا فى وجودكم والاجتماع بكم والحديث معكم فأريد أن أحييكم تحية كنت أحييها فقيد الإسلام وأبث إليكم بما فى قلبى من خواطر وأفكار وآمال وآلام وما أحمل لهذه الدعوة العظيمة وصاحبها من التقدير والإجلال والحب والإخلاصوما يخامر نفسى فى ذلك من سرور وأمل وما يساور نفسى كذلك من إشفاق ووجل فأرجوكم أن تسمحوا لأخيكم بشىء من التفصيل وتتكرموا عليه بشىء من وقتكم العزيز .
لستم فى حاجة أيها الإخوان الكرام أن أصور لكم العالم الإسلامى وما تجتاحه الآن من موجات سياسية واقتصادية وخلقية وأصف لكم الأخطار المسلطة على رقاب المسلمين وما أصيب به هذا العالم ويستقبله من نكبات ومصائب فأنتم من أعلم الناس بها ولكن الذى أريد أن أقول لكم أنه فى حيرة عظيمة وارتباك شديد إنه يتأرجح بين عوامل متناقضة وقوى متنافسة .
إن العالم الإسلامى حائر العالم بين دين لا يسهل عليه العمل به والقيام بمطالبه لعادات نشا عليها وحكومات أفسدته وتعليم أزاغه وشهوات لا تتفق مع عقيدته ورسالته وبين جاهلية لا ينشرح لها صدره لإيمان لا تزال له بقية فيه وقومية عجنت مع الاسلام وحضارة تخمرت مع الدين .
إن العالم الاسلامى حائر بين شعوب مسلمة بسيطة فى عقليتها ودينها وحكومات داهية لم تنشرح صدور رجالها لهذا الدين ولم تطاوعهم نفوسهم علىا لعمل به ولكنهم يصرون على أن يحكموا هذه الشعوب التى تؤمن بهذا الدين ولا يرون حياتهم وشرفهم إلا فى البقاء فى الحكومة ولا يرون لهم محلا فى الحياة إلا الزعامة والحكومة ولا موضعا فى العالم إلا المجتمع الإسلامى الذى ولدوا ونشأوا فيه فالشعوب فى تعب منهم وهم منها فى بلاء وعناء .
إن ا لعالم الإسلامى حائر بين فطرته التى تنزعه الى الدين وتاريخه الذى يدفعه الى الإيمان والجهاد والكتاب الذى يقبل به إلى الآخرة ويبعث فى نفسه الثورة على المجتمع الفاسد والحياة الزائفة وبين التربية العصرية التى تزين له المادية وتطبعه على الجبن والضعف والزعامة التى تفرض عليه الاتكال على الغير والاعتماد علىالعدو والفرار من الزحف .
إن العالم الإسلامى حائر بين شباب ثائر ودم فائر وذهن متوقد وأزهار تريد أن تتفتح وبين قيادة شائخة شائبة قد أفلست فى العقلية والحياة وحرمت الإبتكار والإبداع والشجاعة والمغامرة .
إن العالم الإسلامى حائر بين مواد خام من أقوى المواد وأفضلها فى الإيمان والقوة والشجاعة وبين موجهين وصانعين لا يعرفون قيمة هذه المواد ولا يعرفون أين يضعونها وماذا يصنعون منها .
هذا هو العالم الإسلامى الذى يواجهه العالم اليوم فلا يجد فيه غناءه ولا يجد فيه غوثا ومعقلا عن لصوص العالم المنظمين وذئاب الإنسانية التى تحكمت وعاثت فيها .
ثم هذا هوالعالم العربى الذى تعيشون فيه أيها السادة وهو اليوم مع كل أسف أضعف أعضاء جسم العالم الإسلامى وقد كان واجبا أن يكون أقوها وأصحها وأن يكون فى العالم الإسلامى بمنزلة الرأس أو القلب فى البدن وقد تضافرت عليه عوامل الإفساد والضعف فأحدثت فيه عللا كثيرة قد ولد فيه ضعف الحكم التركى وغفلته عت تعليم الشعوب وتربيتها وإنفاقه الأموال فى غير موضع والاحترام فى غير وقت وعسفة فى غير هوادة أورث كل هذا البطالة وسقوط الهمة والجهل المطبق فى كثير من البلاد العربية وجاء الإستعمار الأوربى فأورث التفسخ فىالأخلاق والانحلال فى الدين والاندفاع المتهور الى المادية والتهالك علىا لشهوان وقامت الحكومات الشخصية فأورثت التملق وكثرة المجاملات والنفاق والخنوع للقوة والمادة ثم جنى عليهقربة من أوربا فكان هدفا لتياراتها المدنية ومنتجاتها الصناعية وأفكارها المتطرفة وأساء اليه موقعه الجغرافى وأهميته السياسية والاستراتيجية فلج به الغرب وطمع فيه الاستعمار وطوقته الجنود الأجنبية وكان من بقايا الحضارة الشرقية والنظام الإقطاعى والحكم الشخصى الترف والبذخ والتفاوت الشديد بين الطبقات فى المعيشة ثم كان أن خفت فى العالم العربى صوت الدعوة الدينية من زمان وانقرض الرجال الذين كانوا يكافحون المادية ويكبحون جماحها ويلطفون من حدتها بدعوتهم إلى ا لله وإلى الآخرة وإلى الزهد والاعتدال فى الحياة وقمع الشهوات ويشعلون جمرة الإيمان واستسلم العلماء ورجال الدين أمام تيار الغرب وتغيرات العصر فوضعوا أوزارهم للمدنية الغربية وهجم عليه الأدب الشهوانى والصحافة الماجنة فحلت العقد ونفخت فى الشهوات واجتمع بعض ذلك الى بعض حتى أصبح هذاالعالم منحلا منهارا متداعيا لا يمسكه الإيمان ولا تحفه القوة المعنوية ولا تقف فى طريق اندفاعه دعوة قوية .
فى مثل هذه الفترات المظلمة والسحب المتراكمة كان الله يبعث الأنبياء والمرسلين فى الزمن السابق ولكن نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم لم تكسف شمسها ولم يتوار نورها وإن دينه لا يزال حيا وإن الكتاب الذى جاء به لا يزال محفوظا وإن أمته التى أرسلت معه لتبليغ رسالته والقيام بدعوته لا تزال فيها الحياة والروح .
لقد أغنانا الله بفضل دينه المحفوظ وكتابه المتلو ونبوءة محمد صلى الله عليه وسلم الخالدة عن رسالة جديدة ورسول جديد ولكن لا بد من تجديدواسع ودعوة صارخة وكفاح شديد يغير هذا الوضع الجاهلى الذى تورط فيه العالم الاسلامى تورطا قبيحا وأمعن فيه العالم العربى إلى أبعد الحد وقد وعد الله وأخبر رسوله باستمرار هذه الدعوة الإسلامية وبقاء التجديد الدينى ودوام الكفاح فى تاريخالإسلام ضد الجاهلية التى ترفع عبقريتها زمنا بعد زمن وحينا بعد حين وقد أصبح خطب العالم الإسلامى وفساد أحوال المسلمين وانحرافهم عن جادة الاسلام وطغيان بحر المادية أعظم وأوسع من أن يتدارك بجهود فردية وخطب منبرية ودروس دينية ورسائل دورية مباحثات فقهية ومسائل جزئية ومحاربة الأفراد والأشخاص إن السبيل لا يمسكه إلا سبيل مثله والتيار لا يدفعه إى تيار أقوى منه فلا بد من كفاح عنيف وصراع شديد يغير مجرى الزمن ويقلب تيار الحياة من جهة الى جهة ويحدث أنقلابا فى المجتمع والحياة وفى الأذواق والرغبات وفى قيم الأشياء وموازينها .
من هنا كان سرورنا عظيما لما رأينا نورا جديدا على أفق العالم العربى ظهرت دعوة الإخوان من مصر ـ زعيمة العالم العربى ومصدر الخير والشر للشرق الأدنى ـ فتجدد الأمل فى مستقبل الاسلام واعتقدنا أنها هى الدعوة المنتظرة لإحياء المسلمين وهى التى ستحقق آمال المصلحين وأحلامهم وتتدارك هذا العالم المنهار وتمسك به وما لبثت أن تحولت هذه الدعوة الى سيل متدفق وتيار جارف فأمسك سيول الإباحية والتحلل والإلحاد واللادينية وصد تيارات المدنية الغربية التى كانت تجرف بالبقية الباقية من الغيرة الاسلامية والحياة الدينية وأصبحت تؤثر فى حياة البلاد تأثيرا قويا كاد يغير اتجاه البلاد .
3-خصائص دعوة الإخوان
وقد اجتمع لهذه الدعوة خصائص كثيرة لم تجتمع على ما علمنا منذ أمد بعيد لحركة دينية وإصلاحية فى هذا البلد .
1ـ منها شخصية الداعى الأول وهو فضيلة الأستاذ الشيخ حسن البنا رحمه الله عليه فقد كانت ـ كما بلغنا ـ شخصية فريدة يظهر من حياة صاحبها ونشأته أنها قد أعدت لهذا الأمر العظيم إعدادا وقد كان ـ رحمه الله ـ يجمع بين الفهم الواسع لــالإسلام والغيرة الملتهبة عليه والنشاط الدائم والعمل المتواصل لإعلائه والخطابة الساحرة والشخصية الجذابه والنفوذ العميق فى نفوس أصحابه وأخوانه أو بلفظه هو نفسه " الفهم الدقيق والإيمان العميق والحب الوثيق " ولابد للزعيم المسلم وقائد الدعوة الدينية أن يجمع بين هذه الصفات .
2ـ اجتمع لهذه الدعوة ما قلما تجتمع للحركات الدينية من قوة الإيمان وقوة العمل والعلم العصرى والتنظيم الحديث والأدب والصحافة والصناعة والتجارة مما جعل هذه الدعوة دعوة شعبية عصرية عامة يجتمع فيها العالم الدينى مع المثقف المدنى مع التاجر الكبير مع العامل الصغير مع الكاتب الأديب مع الصحافى البارع مع الصانع الماهر مع الفلاح القوى مع الطالب الشاب مع المعلم الوقور مع الموظف المسئول مع الطبيب النطاسى مع المحامى الكبير مع السياسى المحنك تجمع بينهم رابطة الإخوانوتربطهم شخصية الداعى الكبير .
3 ـ لقد بعثت تربية الداعى والاشتغال بالدعوة ورد الفعل ضد التحلل والتفسخ حماسة عظيمة وتماسكا عجيبا فى نفوس الدعاة وجعلت من الشعب " الرخو الرقيق " ـ كما قال زعيم من زعماء الإخوان ـ شبابنا أثبتوا بطولتهم فى حرب فلسطين وجددوا ذكريات تاريخ الجهاد الإسلامى وأثبتوا رجولتهموعصاميتهم فى عهد الإعتقال والمحنة والتعذيب .
4ـ امتاز الداعى الأول والدعاة بدورهم بالتصريح بالحقائق الإسلامية والظهور فى المظاهر الدينية التى كان الناس يخجلون منها فتشجع الناس وأصبح الدين فى هذا البلد شيئا لا يخجل منهالمثقفون والمتظرفون وبدأ الناس يصلون فى المقاهى والنوادى والولائم وقارعة الطريق بعد ما كانوا يستحيون من ذلك وأصبح الخطباء والكتاب يطالبون بالحكم الإسلامى وتطبيق أحكام الإسلامالإجتماعية ويثيرون موضوعات دينية كانت وقفا على رجال الدين ولم تكن تتجاوز دائرة البحث العلمى ولا شك أن ذلك من نتائج الحركةالاسلامية القوية .
كان كل ذلك ولو طالت حياة المرشد العام وجرت المياه فى مجاريها لكان أكثر من هذا لتغير الوضع الإجتماعى والخلقى للبلاد وماتت بدع كثيرة وعاشت سنن ميته وأقفرت الحانات وعمرت المساجد وتوارى الفجار والدعاة الى الإباحية والخلاعة وكسد الأدب السافر الفاجر واحتجبت المجلات الماجنة والصحف الخليعة وخف السفور الوقح واختلاط الرجال بالنساء الى غير ذلك من العيوب الخلقية والإجتماعية التى يعانيها المجتمع .
ولكن البلاد لم تستطع أن تقدر هذه النهضة قدرها كما أن المعدة الضعيفة المريضة لا تستطيع أن تهضم الغذاء الصالح القوى فتتخم فى بعض الأحيان . فكان كل ما يعلمه الجميع وكانت كارثة إسلامية لم يخسر فيها الإخوان فقط بل خسر فيها الإسلام ورزىء بها العالم الإسلامى . ولكنى أعتقد أيها السادة أن الله سبحانه وتعالى قد أراد بهذه الدعوة خيرا إذ ردها قسرا الى مرحلة الدعوة الأولى لتزداد هذه الدعوة نضجا وليزداد رجالها تربية وحنكه ومبادئها رسوخا وقوة وأخذ بنواصى العاملين الدعاة ليفكروا فى مستقبل هذه الدعوة ويرسموا خطتها ويحكموا وضعها وأسلوبها .
ليس خطب الدعوة الدينية والتجديد الإسلامى بهين أيها الإخوان الكرام فليست رسالتها ومهمتها قلب نظام فقط أو تغيير وضع سياسى بوضع سياسى آخر ونظام إقتصادى بنظام إقتصادى آخر ولا نشر الثقافة والعلم ومكافحة الأمية والجهل أو محاربة البطالة والتعطل أو معالجة عيوب اجتماعية أو خلقية الى غير ذلك مما يقوم به الدعاة والمصلحون فى أوربا وفى الشرق وإنما هى دعوة "الإسلام " التى تشمل العقيدة والأخلاق والأعمال والسياسة والعبادة والسلوك الفردى والإجتماعى وتتناول العقل والقلب والروح والجسم وتعتمد على تغير عميق فى القلب والنفسية والعقيدة والعقلية وتنبع من القلب قبل أن تنبع من القلم أو صحيفة كتاب أو منصه خطاب وتنفذ على جسم الداعى وحياته قبل أن يطالب بتنفيذها على المجتمع والأمة .
4-سيرة الأنبياء مع الدعوة إلى الله
هذه الدعوة كانت جديرة فى الحقيقة بالأنبياء ومواهبهم وقواهم ورسالتهم وإيمانهم وجهادهم وثباتهم وفقههم وحكمتهم وإخلاصهم ولكنها ليست خاصة بالأنبياء بل هى دعوة خلفائهم وأتباعهم كذلك ودعوة كل عصر ومصر وحاجة الإنسانية كلها والعصور كلها فلابد أن تجدد فى كل زمان وفى كل محيط وتكون على أ ساس دعوتهم مطابقة لسيرتهم مقتبسة من مشكاتهم فلنرجع الى هذا المصدر ولندرسه دراسة عميقة واسعة .
إذا تتبعنا أيها الإخوان سيرة الأنبياء عليهم السلام فى دعوتهم رأينا فيها جوانب كثيرة تمتاز بها سيرتهم وتقوم عليها دعوتهم وأريد أن أشارككم فى دراسة هذه السيرة وطبيعة هذه الدعوة فأعرض عن إذنكم بعض النقط المهمة التى تفرق بين سيرتهم ودعوتهم وبين سيرة القادة والمصلحين من عامة البشر منها :
1ـ الإلتجاء الى الله فى جميع مراحل الدعوة والجهاد بل فى جميع مراحل الحياة والإطراح على عتبة عبوديته إطراح الفقير الكسير والإرتماء فى أحضان رحمته إرتماء الطفل الصغيير فى احضان أمه والايمان القوى بأنه هو النافع الضار والناصر الخاذل وأن لا مانع لما أعطى ولا معطى لما منع ولا كاشف لضره ولا ممسك لرحمته ولا سهل إلا ما جعله سهلا وهو يجعل الحزن سهلا وينصر الضعيف على القوى والقليل على الكثير والضعيف مع نصرة قوى والقليل مع رحمته كثير هذا الإيمان كان يوحى إليهم بالإبتهال فى الدعاء وإطالة الوقوف ببابه وشدة الإلتزام بأعتابه والإلحاف فى المسألة ويلهم المعانى العجيبة والتعبيرات الرقيقة انظروا أيهاالإخوان الى قول سيد الأنبياء وسيد الدعاه الى الله الى يوم القيامة وهو يمثل خير تمثيل لإيمانه وشعوره بفقره وضعفه وافتقاره الى رحمة ا لله " اللهم إنك تسمع كلامى وترى مكانى وتعلم سرى وعلانيتى لا يخفى عليك شىء من أمرى وأنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المقر المعترف بذنبه أسألك مسألة المسكين وابتهل اليك ابتهال المذنب الذليل وأدعوك دعاء الخائف الضرير ودعاء من خضعت لك رقبته وفاضت لك عبرتهوذل لك جسمه ورغم لك أنفه اللهم لا تجعلنى بدعائك شقيا وكن لى رءوفا رحيما يا خير المسئولين ويا خير المعطين " واذكروا دعاءه صلى الله عليه وسلم فى الطائف " اللهم إليك أشكو ضعف قوتى وقلة حيلتى وهوانى على الناس يأرحم الراحمين الى من تكلنى الى عدو يتجهمنى أم الى قريب ملكته أمرى إن لم تكن ساخطا على فلا أبالى غير أن عافيتك أوسع لى أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات وصلح عليه امر الدنيا والآخرة من أن يحل بى غضبك أو ينزل على سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك "
واذكروا موقفه فى بدر قال ابن اسحاق :
" ثم عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف ورجع الى العريش فدخله ومعه فيه أبو بكر وليس معه غيره ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول فيما يقوله : " اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد " .
هذه كانت عدة الأنبياء عليهمالسلام وقوتهم ومفتاح دعوتهم فقد امتازت دعوتهم بتقديم الدعاء والاهتمام به والابتهال فيه وليس الدعاء إلا رمزا للإنابة الى الله والاعتماد عليه والاعتزاز به فامتازت دعوتهم وجهادهم فى سبيلها بطابعهما الروحى والإيمانى وقد روى أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع الى الصلاة وقال الله تعالى {واستعينوا بالصبر والصلاة}[البقرة:45] ولا شك أن مهمة الدعوة أعظم من أن يضطلع بها الإنسان بقوته الجسدية وعدته المادية وكفايته العلمية والعقلية لا يستقبل بها إلا بالقوة الروحية ونصر الله ومعونته وإن هذه الصخور العظيمة بل الأطواد الشامخة التى تقف فى سبيل الدعوة وتهجم على رؤوس الدعاة وتصطدم بجهودهم لا تذوب إلا بنصر الله الذى يستنزل بالدعاء والإلتجاء اليه .
2ـ امتازت دعوة الأنبياء وجهودهم بتجردها من التفكير فى المنافع المادية والثمرات العاجلة فكانوا لا يبتغون بدعوتهم وجهادهم إلا وجه الله وامتثال أوامره وتأدية رسالته تجردت عقولهم وأفكارهم من العمل للدنيا ونيل الجاه وكسب القوة لأسرتهم أو أتباعهم والحصول على الحكومة حتى لم يخطر ذلك ببال أصحابهم وأتباعهم وكانت هذه الحكومة التى قامت لهم فى وقتها والقوة التى حصلت لهم فى دورها لم تكن إلا جائزة من الله ووسيلة للوصول الى أهداف الدين وتنفيذ أحكامه وتغيير المجتمع وتوجيه الحياة كما قال الله تعالى : {الذين إن مكناهم فى ا لأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} [ الحج : 41] ولم تكن هذه الحكومة قط غاية من غاياتهم أو هدفا من أهدافهم أو حديثا من أحاديثهم أو حلما من أحلامهم .
" ثم عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف ورجع الى العريش فدخله ومعه فيه أبو بكر وليس معه غيره ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول فيما يقوله : " اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد " .
هذه كانت عدة الأنبياء عليهمالسلام وقوتهم ومفتاح دعوتهم فقد امتازت دعوتهم بتقديم الدعاء والاهتمام به والابتهال فيه وليس الدعاء إلا رمزا للإنابة الى الله والاعتماد عليه والاعتزاز به فامتازت دعوتهم وجهادهم فى سبيلها بطابعهما الروحى والإيمانى وقد روى أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع الى الصلاة وقال الله تعالى {واستعينوا بالصبر والصلاة}[البقرة:45] ولا شك أن مهمة الدعوة أعظم من أن يضطلع بها الإنسان بقوته الجسدية وعدته المادية وكفايته العلمية والعقلية لا يستقبل بها إلا بالقوة الروحية ونصر الله ومعونته وإن هذه الصخور العظيمة بل الأطواد الشامخة التى تقف فى سبيل الدعوة وتهجم على رؤوس الدعاة وتصطدم بجهودهم لا تذوب إلا بنصر الله الذى يستنزل بالدعاء والإلتجاء اليه .
2ـ امتازت دعوة الأنبياء وجهودهم بتجردها من التفكير فى المنافع المادية والثمرات العاجلة فكانوا لا يبتغون بدعوتهم وجهادهم إلا وجه الله وامتثال أوامره وتأدية رسالته تجردت عقولهم وأفكارهم من العمل للدنيا ونيل الجاه وكسب القوة لأسرتهم أو أتباعهم والحصول على الحكومة حتى لم يخطر ذلك ببال أصحابهم وأتباعهم وكانت هذه الحكومة التى قامت لهم فى وقتها والقوة التى حصلت لهم فى دورها لم تكن إلا جائزة من الله ووسيلة للوصول الى أهداف الدين وتنفيذ أحكامه وتغيير المجتمع وتوجيه الحياة كما قال الله تعالى : {الذين إن مكناهم فى ا لأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} [ الحج : 41] ولم تكن هذه الحكومة قط غاية من غاياتهم أو هدفا من أهدافهم أو حديثا من أحاديثهم أو حلما من أحلامهم .
إنما كانت نتيجة طبيعية للدعوة والجهاد كالثمرة التى هى نتيجة طبيعية لنمو الشجرة وقوة إثمارها وقد قال كاتب هذه السطور فى رسالته " بين الهداية والجباية " ما يحسن نقله هنا .
" بعث محمد صلى الله عليه وسلم فدعا الناس الى الأسلام فالتف حوله { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا هَؤُلاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}[الكهف: 13ـ15] وكان هؤلاء الفتيان هدف كل قسوة وظلم واضطهاد وبلاء وعذاب وقد قيل لهم من قبل { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [ العنكبوت 2،3 ] فصمدوا لكل ما وقع لهم وثبتوا كالجبال وقالوا : { هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله } [ الأحزاب : 22]
" بعث محمد صلى الله عليه وسلم فدعا الناس الى الأسلام فالتف حوله { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا هَؤُلاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}[الكهف: 13ـ15] وكان هؤلاء الفتيان هدف كل قسوة وظلم واضطهاد وبلاء وعذاب وقد قيل لهم من قبل { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [ العنكبوت 2،3 ] فصمدوا لكل ما وقع لهم وثبتوا كالجبال وقالوا : { هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله } [ الأحزاب : 22]
حتى أذن الله فى الهجرة ولم تزل الدعوة تشق طريقها وتؤتى أكلها حتى قضى الله أن يحكم رجالها فى العالم ويقيموا القسط ويخرجوا الناس من الظلمات الى النور ومن عبادة العباد الى عبادة الله وحده ومن ضيق الدنيا الى سعتها فقد عرف انهم إذا تولوا وسادوا
{أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} [ الحج :41].
وهكذا جاءت الدعوة بالحكومة كما تأتى الأمطار بالخصب والزرع وكما تأتى الأشجار بالفاكهة والثمر فلم تكن هذه الحكومة إلا ثمرة من ثمرات هذه الدعوة الإسلامية ولم تكن هذه العزة والقوة إلا نتيجة ذلك العذاب الذى تحملوه من قريش وغيرهم وذلك الهوان الذى لقوه فى مكة وغيرها .
وفرق كبير ـ أيها السادة ـ بين الغاية التى تقصد والنتيجة التى تظهر ويظهر هذا الفرق فى نفسية العامل والساعى فالذى يقصد الحكومة يتوانى ويقعد إذا لم ينلها أو انقطع أمله فيها ويشتغل بها عن الدعوة ويطغى إذا نالها وخطر على كل جماعة تتكون عقليتها بحب الحكومة والسعى لها أن تقعد عن الجهاد فى سبيل الدعوة أو تنحرف وتزيغ فى قصدها لأن أساليب الوصول الى الحكومة تخالف أساليب الدعوة . فيجب علينا أن ننقى عقولنا ونفوسنا ونجردها للدعوة وللدعوة فحسب والخدمة والتضحية والإيثار وإخراج الناس بإذن الله من الظلمات الى النور ومن الجاهلية الى الإسلامية ومن ضيق الدنيا الى سعتها ومن جور ا لأديان المحرفة والنظم الجائرة والمذاهب الغاشمة الى عدل الاسلام وظله ولا يكون دافعنا الى العمل والجهاد إلا امتثال أمر الله والفوز فى الآخرة وما أعد الله لعبادة من الأجر والثواب ثم الشفقة علىا لخلق والرحمة بالانسانية المعذبة والحرص على نجاة الإنسان فإذا كان ذلك لا يمكن فى مرحلة من مراحل الدعوة أو فى فترة من فترات التاريخ ـ بعد تغلغل مبادىء الدعوة فى نفوس الدعاة ورسوخ العقيدة فيهم ـ إلا بالحكومة سعينا لها لمصلحة الدعوة والدين كما نسعى الى الماء للوضوء ونجتهد لهذا السبب بنفس العقلية وبنفس السيرة وبنفس العفة والنزاهة والصدق والأمانة والخشوع والتجرد الذى نجتهد معه لواجبات الدين وأركانه والعبادات الأخرى فلا فرق للمؤمن بين الحكومة وبين العبادات الأخرى فلا فرق للمؤمن بين الحكومة وبين العبادا ت إذا حصل الإخلاص وصحت النية فكل فى رضا الله وكل فى سبيل الله وكل عبادة يتقرب بها العبد الى الله .
3ـ ومما امتازت به حياة الأنبياء عليهم السلام وسيرتهم النبوية المثابرة علىا لدعوة والصبر عليها فلا يتخطون هذه المرحلة التى هى الأساس بسرعة وعجلة ولا يطفرون منها طفرا الى مرحلة أخرى بل يقضون فيها سنين طوالا ولا يشتغلون بغيرها ولا يطمئنون الى أن المجتمع قد عقل دعوتهم واستساغها ولا الى الدعاة أنهم قد بلغوا رسالتهم وأدوا مهمتهم والى النفوس أنها قبلت هذه الدعوة وهضمتها هضما صحيحا وأحلتها منها محلا لائقا ومردت النفوس على اتباع الأحكام وانقاد لها جماحها ولانت لها قناتها لا يطمئنون الى كل هذا حتى يتحققوه ويختبروه مرة بعد مرة فلا يخدعون عن أنفسهم ولا تغرهم بهرجة الكلام فتكون نتيجة هذه التربية المتينة والدعوة الطويلة أنها تؤتى أكلها ناضجة شهية ولا تخدع الدعوة نتاجها فإذا قامت الحكومة قامت على أساس متين من الأخلاق وعلى أكتاف رجال أقوياء أقوياء فى عقيدتهم أقوياء فى سيرتهم أقوياء فى خلقهم أقوياء فى عبادتهم أقوياء فى سياستهم لا يندفعون مع التيار ولا تجرف بهم المدنية ولا يلعب بعقولهم الغنى بعد الفقر واليسر بعد العسر والقوة بعد الضعف ولا تميل بهم المحسوبيات والآرحام والصدقات ولا تستهويهم المطامع والمنافع هذا كان شأن الخلافة الراشدة وهذه كانت سيرة الخلفاء الراشدين وهنا أنقل مرة ثانية ما قلته فى رسالتى"بين الجباية والهداية ".
" تأسست دولة الاسلام وفتحت فارس وبلاد الروم والشام ونقلت الى عاصمة الإسلام ـ المدينة المنورة ـ كنوز كسرى وقيصر وانصبت عليها خيرات المملكتين العظيمتين وانهال على رجالها من أموال هاتين الدولتين وطرفها وزخارفها ما لم يدر قط بخلدهم وقد انقضى على إسلامهم ربع قرن وهم فى شدة وجهد من العيش وفى خشونة المطعم وخشونة الملبس لا يجدون من الطعام إلا ما يقيم صلبهم ولا من اللباس إلا ما يقيهم من البرد والحر فإذا بهم اليوم يتحكمون فى أموال الأباطرة والآكاسرة فإذا أراد الواحد منهم أن يلبس تاج كسرى وينام على بساط قيصر لفعل لقد كانت والله هذه محنة عظيمة تزول فيها الجبال الراسيات وتطير لها القلوب من جوانحها وتعمش العيون ولكنهم سرعان ما فطنوا أنهم ما وقفوا بين الفقر والغنى فحسب بل إنهم خيروا بين أن يتنازلوا عن دعوتهم وإمامتهم ومبادئهم وينفضوا منها يدهم فلا يطمعوا فيها أبدا وبين أن يحافظوا على روح هذه الدعوة النبوية وعلى سيرة رجالها اللائقة بخلفاء النبياء والمرسلين وحملة الدعوة المؤمنين المخلصين .
كان لهم أن يؤسسوا ملكا عربيا عظيما على أنقاض الدولة الرومية والفارسية وينعموا كما نعم ملوكها وأمراؤها من قبل فقد ورثوا امبراطوريتين : الفارسية والرومانية وجمعوا بين موارد دولتين فإذا كان كسرى يترفه بموارد فارس فقط وإذا كان هرقل يبذخ بموارد الروم فقط فهذا عمر بن الخطاب يمكنه أن يترفه بموارد الإمبراطوريتين ويبذخ بذخالم يبذخه أحدهما .
كان له ولأصحابه كل ذلك بكل سهولة ولكنهم سمعوا القرآن يقول : { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا فى الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين } [ القصص :83 ] وكأنهم يسمعون نبيهم صلى الله عليه وسلم يقول قبل وفاته : " لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخاف أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم " فهتفوا عن آخرهم قائلين : " اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة " .
وهكذا حافظوا على روح الدعوة الإسلامية وسيرة الأنبياء والمرسلين وعاشوا فى الحكومة كرجال الدعوة وفى الدنيا كرجال الآخرة وملكوا أنفسهم فى هذا التيار الجارف الذى سال قبلهم بالمدنيات والحكومات والشعوب والأمم وسال بالمبادىء والآخلاق والعلوم والحكم .
مازال الناس يعدون اقتحام المسلمين دجلة بخيلهم وجندهم ـ تحت قيادة سعد بن أبى وقاص ووصولهم الى الشط الثانى من غير أن يصابوا فى نفس أو مال أو متاع ـ حادثا غريبا من أغرب ما وقع فى التاريخ إن الحادث لغريب ولكن أشد منه غرابة وأدعى للعجب أن المسلمين فى عهد الخلافة الراشدة وعصر الفتوح الإسلامية الأولى خاضوا فى بحر مدنية الروم وفارس وهو هائج مائج وعبروه ولم يفقدوا شيئا من أخلاقهم ومبادئهم وعاداتهم ووصلوا الى الشط الثانى ولم تبتل ثيابهم ولم يزل الخلفاء الراشدون وأمراء الدولة الإسلامية من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم محتفظين بروحهم ونفسيتهم وزهدهم وبساطتهم فى المعيشة وتخشنهم فى أوج الفتوح الإسلامية.
4ـ ومن مزايا الأنبياء والدعاء الى الله التجرد للدعوة والتفرغ لها بالقلب والقالب والنفس والنفيس والوقت والقوة فمن شأنهم أنهم يركزون جهودهم ومواهبهم ويوفرون أوقاتهم وقواهم لهذه الدعوة ونشرها والجهاد فى سبيلها ويعطونها كلهم ولا يضنون عليها بشىء مما عندهم ولا يحتفظون بشىء ولا يؤثرون عليها شيئا لا وطنا ولا أهلا ولا عشيرة ولا هوى ولا مالا حتى تثمر جهودهم وقد لا تثمر فى الدنيا وقد تثمر بعد حياتهم فهذا هو النبى صلى الله عليه وسلم يخاطب بقوله تعالى :{ وإما نرينكك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون}[يونس46 ] فهذا إذا كان شأن الدعوة بعد ما أ عطاها الأنبياء كل ما عندهم فكيف بها إذا أعطيناها بعض ما عندنا وكانت الدعوة تملك عليهم عقولهم ومشاعرهم وتملك عليهم تفكيرهم وصحتهم فمازال القرآن يسلى النبى صلى الله عليه وسلم ويقول له : { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا } [ الكهف :6].
5 ـ ومن مزايا الأنبياء عليهم السلام ومن كان على طريقهم فى الدعوة الى الله أن هذه ا لدعوة الى الله والى الدار الآخرة تسرى فى حياتهم كما يسرى الماء فى عروق الشجر والكهرباء فى الأسلاك وتظهر فى أ خلاقهم وعبادتهم فترق قلوبهم وتخشع نفوسهم وتزداد رغبتهم فى العبادة ويشتد اهتمامهم بها وحرصهم عليها وإيفاؤهم لحقوقها فعن المغيرة بن شعبة رضى الله عنه قال قام النبى صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه فقيل له : قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال : أفلا أكون عبدا شكورا " (1) .
وعن عائشة رضى الله عنها قالت : قام النبى صلى الله عليه وسلم بآية من القرآن ليلة والآية { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم }
وانتقلت هذه اللذة بالعبادة والاهتمام بها الى الصحابة رضى ا لله عنهم فى أشد الأوقات شغلا وأقلها خاطرا حتى كان أعداؤهم يعرفون ذلك عنهم وقد وصفهم رجل من الروم بقوله : " هم فرسان بالنهار رهبان بالليل " ويقول قائل " لو حدثت جليسك حديثا ما فهمه عنك لما علا من اصواتهم بالقرآن والذكر " .
6 ـ ومن مزايا الأنبياء عليهم السلام ومن كان على قدمهم أنهم يأخذون بالعزيمة فى الدين ولا يأخذون بالرخصة ـ إلا بينا للحكم الشرعى وشكرا لنعمة الله ـ ورفعا للحرج عن الأمة ولا يعفون أنفسهم ولا يتساهلون فى العبادات لأن اتباع الناس للدين وعملهم به بمقدار تصلب هؤلاء السادة فى الدين وتمسكهم به فإذا اهتم هؤلاء بالنوافل اهتم الناس بالفرائض وإذا اكتفى القادة بالفرلاائض استرسل الناس الى تركها والاستهانة بحقها لذلك كان الصحابة رضى الله عنهم وقادة هذه ألأمة يشمرون عن ساق الجد فى العبادات والمحافظة على الجماعات والعمل بالسنن الدقيقة والاهتمام بالآداب ولا يكتفون بالأدنى ولا يقفون عند الفريضة وبذلك استطاعوا ان يورثوا الدين هذا الجيل موفورا غير منقوص وهو أمانة عند هذا الجيل فلينظر كيف يورثه الأجيال الآتية .
7 ـ ومما يمتاز به الأنبياء والمرسلون عن الحكماء والمؤلفين والعلماء المحققين أنهم يعنون بتربية النفوس والأشخاص الذين يضطلعون بأعباء الدعوة بعدهم وينفذون تعاليمهم ورسالاتهم علما وعملا ومعلوم أن دعوتهم العظمى لا تقوم إلا على أكتاف الأصحاء الأقوياء الحنفاء المخلصين فى إيمانهم والمخلصين فى تفكيرهم والمخلصين فى نياتهم الذين قد تنقت رءوسهم وصدورهم من ألواث الجاهلية والذين هضموا الاسلام هضما صحيحا وانقطعت كل صلة فى حياتهم عن الجاهلية بأوسع معانيها وخلقوا فىالآسلام خلقا جديدا .
ونرى ذلك واضحا فى حياة سيدنا موسى ـ عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ـ فلما كان بنو إسرائيل قد نشأوا فى حياة العبودية والذل والاضطهاد والسخرة الظالمة وماتت رجولتهم وإباؤهم ومردوا على الخنوع والاستكانة والخضوع للقوى الغالب وعلىا لجبن والحرص الشديد على الحياة والخوف الشديد من الموت وأسبابه حتى لما قال لهم نبيهم : { ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التى كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين
قالوا ياموسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون } ولم يشجعهم على التقدم والقتال قول موسى عليه السلام : { كتب الله لكم } مع أنه كان ضامنا لانتصارهم وأخيرا قالوا بكل صراحة ووقاحة : { ياموسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } [ المائدة : 24] فظهر أن نشأتهم الأولى تأبى عليهم أن يخوضوا فى معركة ويدخلوا فى امتحان ويعرضوا أنفسهم للخطر وقطع موسى من هذا الجيل الفاسد الرجاء وقال:{ رب إنى لا أملك إلا نفسى وأخى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } [المائدة :25] هنالك أمره الله بالاعتزال مع قومه ( لا عن قومه ) فى بيداء سيناء حيث الشظف وخشونة الحياة وهنالك ينقرض هذا الجيل الفاسد الذى شب على الجبن والضعف وشاب عليه وينشأ الآؤلاد والشباب الاسرائيلى الذين لا يزالون فى مقتبل العمر على التخشن والجلادة وتحمل شدائد الحياة ومكارهها وينشأ جيل جديد يولد فى هذه العزلة والبداوة على معانى الرجولة والفروسية وهكذا تتكون أمة جديدة تقوم بدعوة النبى وتطبيق تعاليمه ومبادئه وتجاهد فى سبيلها .
وذلك أيها السادة معنى بليغ من معانى الهجرة النبوية فقد استطاع سيد الأنبياء وسيد الدعاة الى الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ بانتقاله مع أصحابه من ضيق مكة الى سعة المدينة وحريتها أن يكمل تربية أصحابه وأن ينشىء الجيل الاسلامى الجديد الذى لم يلبث أن اضطلع بأعباء الدعوة المحمدية ومثل الاسلام تمثيلا كاملا .
كذلك الدعوة الاسلامية التى تكلفتم بها والجهاد الذى أخذتموه على عواتقكم يفرض عليكم ـ ايها السادة ـ إنشاء جيل جديد لـ لإسلامجديد فى قوة إيمانه جديد فى حماسته وثقته جديد فى أخلاقه جديد فى تفكيره وعقليته جديد فى كفايته العلمية واستعداده العقلى وإن نجاحكم فى هذا الانتاج البشرى مقياس نجاحكم فى مهمتكم ودعوتكم فكلما كان نجاكم كبيرا فى إيجاد هذا الجيل وتكوين هذا الشباب كان نجاحكم باهرا فى دعوتكم ورسالتكم ومعلوم عند حضراتكم أن إنشاء الجيل الجديد أو تقويم الجيل المعاصر ـ الذى لم يفقد صلاحيته ونموه ـ ليس بالأمر الهين إنها مهمة لتنوء بالعصبة أولى القوة إنها تحتاج الى تكريس الجهود وتركيز القوى على هذه الغاية والتفكير العميق الواسع والتعاون الشامل والتصميم الحكيم إنها تتطلب أساليب التربية الحكيمة العميقة الأثر وجهود عملية فى ميدان الدعوة والاصلاح إنها تتطلب حركة التأليف والانتاج الواسعة ومقدارا كبيرا من الابتكار إنها تتطلب وضع منهاج جديد على أساس جديد للدراسات ومثالا جديدا من المدارس والكليات والجامعات ومؤلفات ومنشورات جديدة فى شرح الدين ا لاسلامى وعرض الفكرة الاسلامية وتأليفات جديدة فى السيرة النبوية وتدوينا جديدا للتاريخ الاسلامى وسبكا جديدا للعلوم الاسلامية وتفسيرا جديدا للعلوم الكونية وتلقيحا علميا جديدا وطرازا جديدا للصحافة والادب والروايات والشعر إنكم ايها السادة أمام أنقاض عقلية وركام بشرى وخامات مهملة تبنون بها بيتا جديدا وتصنعون بها سفينة جديدة تمخر عباب الحوادث والموانع إنكم ستبدأون فى عمل جديد وجهاد جديد يستغرق منكم وقتا طويلا ويستنفد جهودا عظيمة وذلك وإن كان عملا شاقا طويلا متعبا مملا متشعبا ولكن لا بد من أنجاز هذا العمل ومن مواجهة هذه ا لحقيقة والتغلب على العقبات التى تعترض سبيلها .
هذه مزايا الدعوة النبوية أيها السادة ومزايا الدعوة التى تكون على قدم النبوة وواجباتها وبذلك تمتاز دعوتكم عن الحركات القومية والاصلاحات الاجتماعية والثورات السياسية والاقتصادية .
ومن هذه المنابع تستمد دعوتكم القوة والروح وتستحق من الله النصر وتجلب الرحمة فلنحافظ عليها محافظتنا على الشعائر والعقيدة ولنحرص عليها حرصنا على الحياة والقوة . عندكم أيها السادة ثروة ضخمة من الصدق والايمان والحب والاخلاص ليست عند الدول الكبيرة والامم العظيمة عند كم أمانة مقدسة جدا أمانة القلوب التى تجتمع على حبكم وتدين بولائكم وتثق بقيادتكم هذه الأمانة التى خلفها لكم الإمام الراحل فأحسنوا القيام عليها واخلفوه فيها .
إن نكبة الدعوة بفقد داعيها الآول ومؤسسها العظيم كانت ـ من غير شك ـ نكبة عظيمة وخسارة فادحة ولكن كل نكبة أيسر وكل خسارة أهون من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصيب بها المسلمون بما لم يصب به جماعة أو فرد لشدة تعلق قلوبهم برسولهم صلى الله عليه وسلم واجتمعت لهم يومئذ مصائب لم تجتمع قبل ولن تجتمع بعد فلننظر كيف تلقاها الصحابة رضى الله تعالى عنهم .
لقد أعد الله سبحانه وتعالى لهذه المرحلة القاسية والمحنة الشديدة الصحابة رضى الله تعالى عنهم من قبل سنين فلما طار فى الناس يوم أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل سقط فى أيديهم وفقد كثير منهم شعورهم وخذلتهم قواهم ولم يستطيعوا أن يتحملوا هذه الصدمة ثم تحقق أن الشائعة كانت غير صحيحة ورسوله الله صلى الله عليه وسلم حى فانتعشت قواهم ولكن الله تعالى قد أعدهم فى ذلك الوقت ليتلقوا نبأ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فى صبر وجلد وربطهم بالدعوة وذكر أن الداعى صلى الله عليه وسلم تجرى عليه سنة الله فى خلقه فيرحل عن هذا العالم كما رحل من قبله من المرسلين فقال : { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل الإإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين} [ آل عمرآن :144]
وكان ذلك فلما حدث برسول الله صلى الله عليه وسلم حادث الوفاة تماسك المسلمون وعلى رأسهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق فما وهنوا وما استكانوا ولم ينقلبوا على أعقابهم ولم يخذلوا الاسلام ولم يخذلوا الدعوة واجتمعت علىالاسلام محن وخطوب لم تجتمع من قبل ولن تجتمع من بعد " فقد ارتدت العرب إما عامة وإما خاصة فى كل قبيلة ونجم النفاق وارأبت اليهود والنصارى والمسلمون كالغنم فى الليلة المطيرة الشاتية لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم وقلتهم وكثرة عددهم ".
ولم يكن مسجد لله تعالى فى بسيط الأرض إلا ثلاثة مساجد مسجد مكة ومسجد المدينة ومسجد عبد القيس فى البحرين فى قرية جواثى وكثر المتنبئون ومنع الناس الزكاة وقصد المرتدون المدينة وسرح أبو بكر فى هذه الحال جيش أسامة الى الشام تنفيذا لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغبته وكلمة فى ذلك عمر وكبار الصحابة وأرادوا أن يمنعوه من ذلك فلم يمتنع وقال:" لو ظننت أن السباع تخطفنى لأنفذت بعث أسامة كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم يبق فى القرى غيرى لأنفذته ".
استحضروا أيها الإخوان هول الموقف وغربة الاسلام وضعف المسلمين فقد أشرفت الدعوة الاسلامية على أثر وفاة نبيها صلى اللهم عليه وسلم على ا لانقراض واجتمع للمسلمين حادثان حادث وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وحادث ارتداد أمتهم وقومهم ولكن ذلك بالعكس أثار فيهم روح المقاومة والجهاد وألهب غيرتهم وقال أبو بكر الصديق رضى الله تعالى عنه : " أينقص الدين وأنا حى " وأبى المسلمون أن يستسلموا لهذه الحوادث ويخذلوا الدعوة فلم يحافظوا على وضع الاسلام وتراثه فقط بل فتحوا فارس والروم والامبراطوريتين اللتين كانتا تحكمان العالم وأضافوهما الى ثروة الاسلام جزاهم الله عن نبيه ودعوته وعن المسلمين خير ما جزى خلفاء الأنبياء وقادة الدعوة الاسلامية الأمناء الأقوياء .
وفى الأخير تفضلوا بقبول تحية صادقة من محب مخلص تجمعه بكم وحدة العقيدة الاسلامية وجامعة الفكرة الدينية على بعد الدار ومن وراء البحار ويتمنى لكم ولكل داع مخلص ومجاهد صادق السداد والتوفيقوالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
وهكذا جاءت الدعوة بالحكومة كما تأتى الأمطار بالخصب والزرع وكما تأتى الأشجار بالفاكهة والثمر فلم تكن هذه الحكومة إلا ثمرة من ثمرات هذه الدعوة الإسلامية ولم تكن هذه العزة والقوة إلا نتيجة ذلك العذاب الذى تحملوه من قريش وغيرهم وذلك الهوان الذى لقوه فى مكة وغيرها .
وفرق كبير ـ أيها السادة ـ بين الغاية التى تقصد والنتيجة التى تظهر ويظهر هذا الفرق فى نفسية العامل والساعى فالذى يقصد الحكومة يتوانى ويقعد إذا لم ينلها أو انقطع أمله فيها ويشتغل بها عن الدعوة ويطغى إذا نالها وخطر على كل جماعة تتكون عقليتها بحب الحكومة والسعى لها أن تقعد عن الجهاد فى سبيل الدعوة أو تنحرف وتزيغ فى قصدها لأن أساليب الوصول الى الحكومة تخالف أساليب الدعوة . فيجب علينا أن ننقى عقولنا ونفوسنا ونجردها للدعوة وللدعوة فحسب والخدمة والتضحية والإيثار وإخراج الناس بإذن الله من الظلمات الى النور ومن الجاهلية الى الإسلامية ومن ضيق الدنيا الى سعتها ومن جور ا لأديان المحرفة والنظم الجائرة والمذاهب الغاشمة الى عدل الاسلام وظله ولا يكون دافعنا الى العمل والجهاد إلا امتثال أمر الله والفوز فى الآخرة وما أعد الله لعبادة من الأجر والثواب ثم الشفقة علىا لخلق والرحمة بالانسانية المعذبة والحرص على نجاة الإنسان فإذا كان ذلك لا يمكن فى مرحلة من مراحل الدعوة أو فى فترة من فترات التاريخ ـ بعد تغلغل مبادىء الدعوة فى نفوس الدعاة ورسوخ العقيدة فيهم ـ إلا بالحكومة سعينا لها لمصلحة الدعوة والدين كما نسعى الى الماء للوضوء ونجتهد لهذا السبب بنفس العقلية وبنفس السيرة وبنفس العفة والنزاهة والصدق والأمانة والخشوع والتجرد الذى نجتهد معه لواجبات الدين وأركانه والعبادات الأخرى فلا فرق للمؤمن بين الحكومة وبين العبادات الأخرى فلا فرق للمؤمن بين الحكومة وبين العبادا ت إذا حصل الإخلاص وصحت النية فكل فى رضا الله وكل فى سبيل الله وكل عبادة يتقرب بها العبد الى الله .
3ـ ومما امتازت به حياة الأنبياء عليهم السلام وسيرتهم النبوية المثابرة علىا لدعوة والصبر عليها فلا يتخطون هذه المرحلة التى هى الأساس بسرعة وعجلة ولا يطفرون منها طفرا الى مرحلة أخرى بل يقضون فيها سنين طوالا ولا يشتغلون بغيرها ولا يطمئنون الى أن المجتمع قد عقل دعوتهم واستساغها ولا الى الدعاة أنهم قد بلغوا رسالتهم وأدوا مهمتهم والى النفوس أنها قبلت هذه الدعوة وهضمتها هضما صحيحا وأحلتها منها محلا لائقا ومردت النفوس على اتباع الأحكام وانقاد لها جماحها ولانت لها قناتها لا يطمئنون الى كل هذا حتى يتحققوه ويختبروه مرة بعد مرة فلا يخدعون عن أنفسهم ولا تغرهم بهرجة الكلام فتكون نتيجة هذه التربية المتينة والدعوة الطويلة أنها تؤتى أكلها ناضجة شهية ولا تخدع الدعوة نتاجها فإذا قامت الحكومة قامت على أساس متين من الأخلاق وعلى أكتاف رجال أقوياء أقوياء فى عقيدتهم أقوياء فى سيرتهم أقوياء فى خلقهم أقوياء فى عبادتهم أقوياء فى سياستهم لا يندفعون مع التيار ولا تجرف بهم المدنية ولا يلعب بعقولهم الغنى بعد الفقر واليسر بعد العسر والقوة بعد الضعف ولا تميل بهم المحسوبيات والآرحام والصدقات ولا تستهويهم المطامع والمنافع هذا كان شأن الخلافة الراشدة وهذه كانت سيرة الخلفاء الراشدين وهنا أنقل مرة ثانية ما قلته فى رسالتى"بين الجباية والهداية ".
" تأسست دولة الاسلام وفتحت فارس وبلاد الروم والشام ونقلت الى عاصمة الإسلام ـ المدينة المنورة ـ كنوز كسرى وقيصر وانصبت عليها خيرات المملكتين العظيمتين وانهال على رجالها من أموال هاتين الدولتين وطرفها وزخارفها ما لم يدر قط بخلدهم وقد انقضى على إسلامهم ربع قرن وهم فى شدة وجهد من العيش وفى خشونة المطعم وخشونة الملبس لا يجدون من الطعام إلا ما يقيم صلبهم ولا من اللباس إلا ما يقيهم من البرد والحر فإذا بهم اليوم يتحكمون فى أموال الأباطرة والآكاسرة فإذا أراد الواحد منهم أن يلبس تاج كسرى وينام على بساط قيصر لفعل لقد كانت والله هذه محنة عظيمة تزول فيها الجبال الراسيات وتطير لها القلوب من جوانحها وتعمش العيون ولكنهم سرعان ما فطنوا أنهم ما وقفوا بين الفقر والغنى فحسب بل إنهم خيروا بين أن يتنازلوا عن دعوتهم وإمامتهم ومبادئهم وينفضوا منها يدهم فلا يطمعوا فيها أبدا وبين أن يحافظوا على روح هذه الدعوة النبوية وعلى سيرة رجالها اللائقة بخلفاء النبياء والمرسلين وحملة الدعوة المؤمنين المخلصين .
كان لهم أن يؤسسوا ملكا عربيا عظيما على أنقاض الدولة الرومية والفارسية وينعموا كما نعم ملوكها وأمراؤها من قبل فقد ورثوا امبراطوريتين : الفارسية والرومانية وجمعوا بين موارد دولتين فإذا كان كسرى يترفه بموارد فارس فقط وإذا كان هرقل يبذخ بموارد الروم فقط فهذا عمر بن الخطاب يمكنه أن يترفه بموارد الإمبراطوريتين ويبذخ بذخالم يبذخه أحدهما .
كان له ولأصحابه كل ذلك بكل سهولة ولكنهم سمعوا القرآن يقول : { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا فى الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين } [ القصص :83 ] وكأنهم يسمعون نبيهم صلى الله عليه وسلم يقول قبل وفاته : " لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخاف أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم " فهتفوا عن آخرهم قائلين : " اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة " .
وهكذا حافظوا على روح الدعوة الإسلامية وسيرة الأنبياء والمرسلين وعاشوا فى الحكومة كرجال الدعوة وفى الدنيا كرجال الآخرة وملكوا أنفسهم فى هذا التيار الجارف الذى سال قبلهم بالمدنيات والحكومات والشعوب والأمم وسال بالمبادىء والآخلاق والعلوم والحكم .
مازال الناس يعدون اقتحام المسلمين دجلة بخيلهم وجندهم ـ تحت قيادة سعد بن أبى وقاص ووصولهم الى الشط الثانى من غير أن يصابوا فى نفس أو مال أو متاع ـ حادثا غريبا من أغرب ما وقع فى التاريخ إن الحادث لغريب ولكن أشد منه غرابة وأدعى للعجب أن المسلمين فى عهد الخلافة الراشدة وعصر الفتوح الإسلامية الأولى خاضوا فى بحر مدنية الروم وفارس وهو هائج مائج وعبروه ولم يفقدوا شيئا من أخلاقهم ومبادئهم وعاداتهم ووصلوا الى الشط الثانى ولم تبتل ثيابهم ولم يزل الخلفاء الراشدون وأمراء الدولة الإسلامية من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم محتفظين بروحهم ونفسيتهم وزهدهم وبساطتهم فى المعيشة وتخشنهم فى أوج الفتوح الإسلامية.
4ـ ومن مزايا الأنبياء والدعاء الى الله التجرد للدعوة والتفرغ لها بالقلب والقالب والنفس والنفيس والوقت والقوة فمن شأنهم أنهم يركزون جهودهم ومواهبهم ويوفرون أوقاتهم وقواهم لهذه الدعوة ونشرها والجهاد فى سبيلها ويعطونها كلهم ولا يضنون عليها بشىء مما عندهم ولا يحتفظون بشىء ولا يؤثرون عليها شيئا لا وطنا ولا أهلا ولا عشيرة ولا هوى ولا مالا حتى تثمر جهودهم وقد لا تثمر فى الدنيا وقد تثمر بعد حياتهم فهذا هو النبى صلى الله عليه وسلم يخاطب بقوله تعالى :{ وإما نرينكك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون}[يونس46 ] فهذا إذا كان شأن الدعوة بعد ما أ عطاها الأنبياء كل ما عندهم فكيف بها إذا أعطيناها بعض ما عندنا وكانت الدعوة تملك عليهم عقولهم ومشاعرهم وتملك عليهم تفكيرهم وصحتهم فمازال القرآن يسلى النبى صلى الله عليه وسلم ويقول له : { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا } [ الكهف :6].
5 ـ ومن مزايا الأنبياء عليهم السلام ومن كان على طريقهم فى الدعوة الى الله أن هذه ا لدعوة الى الله والى الدار الآخرة تسرى فى حياتهم كما يسرى الماء فى عروق الشجر والكهرباء فى الأسلاك وتظهر فى أ خلاقهم وعبادتهم فترق قلوبهم وتخشع نفوسهم وتزداد رغبتهم فى العبادة ويشتد اهتمامهم بها وحرصهم عليها وإيفاؤهم لحقوقها فعن المغيرة بن شعبة رضى الله عنه قال قام النبى صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه فقيل له : قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال : أفلا أكون عبدا شكورا " (1) .
وعن عائشة رضى الله عنها قالت : قام النبى صلى الله عليه وسلم بآية من القرآن ليلة والآية { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم }
وانتقلت هذه اللذة بالعبادة والاهتمام بها الى الصحابة رضى ا لله عنهم فى أشد الأوقات شغلا وأقلها خاطرا حتى كان أعداؤهم يعرفون ذلك عنهم وقد وصفهم رجل من الروم بقوله : " هم فرسان بالنهار رهبان بالليل " ويقول قائل " لو حدثت جليسك حديثا ما فهمه عنك لما علا من اصواتهم بالقرآن والذكر " .
6 ـ ومن مزايا الأنبياء عليهم السلام ومن كان على قدمهم أنهم يأخذون بالعزيمة فى الدين ولا يأخذون بالرخصة ـ إلا بينا للحكم الشرعى وشكرا لنعمة الله ـ ورفعا للحرج عن الأمة ولا يعفون أنفسهم ولا يتساهلون فى العبادات لأن اتباع الناس للدين وعملهم به بمقدار تصلب هؤلاء السادة فى الدين وتمسكهم به فإذا اهتم هؤلاء بالنوافل اهتم الناس بالفرائض وإذا اكتفى القادة بالفرلاائض استرسل الناس الى تركها والاستهانة بحقها لذلك كان الصحابة رضى الله عنهم وقادة هذه ألأمة يشمرون عن ساق الجد فى العبادات والمحافظة على الجماعات والعمل بالسنن الدقيقة والاهتمام بالآداب ولا يكتفون بالأدنى ولا يقفون عند الفريضة وبذلك استطاعوا ان يورثوا الدين هذا الجيل موفورا غير منقوص وهو أمانة عند هذا الجيل فلينظر كيف يورثه الأجيال الآتية .
7 ـ ومما يمتاز به الأنبياء والمرسلون عن الحكماء والمؤلفين والعلماء المحققين أنهم يعنون بتربية النفوس والأشخاص الذين يضطلعون بأعباء الدعوة بعدهم وينفذون تعاليمهم ورسالاتهم علما وعملا ومعلوم أن دعوتهم العظمى لا تقوم إلا على أكتاف الأصحاء الأقوياء الحنفاء المخلصين فى إيمانهم والمخلصين فى تفكيرهم والمخلصين فى نياتهم الذين قد تنقت رءوسهم وصدورهم من ألواث الجاهلية والذين هضموا الاسلام هضما صحيحا وانقطعت كل صلة فى حياتهم عن الجاهلية بأوسع معانيها وخلقوا فىالآسلام خلقا جديدا .
ونرى ذلك واضحا فى حياة سيدنا موسى ـ عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ـ فلما كان بنو إسرائيل قد نشأوا فى حياة العبودية والذل والاضطهاد والسخرة الظالمة وماتت رجولتهم وإباؤهم ومردوا على الخنوع والاستكانة والخضوع للقوى الغالب وعلىا لجبن والحرص الشديد على الحياة والخوف الشديد من الموت وأسبابه حتى لما قال لهم نبيهم : { ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التى كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين
قالوا ياموسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون } ولم يشجعهم على التقدم والقتال قول موسى عليه السلام : { كتب الله لكم } مع أنه كان ضامنا لانتصارهم وأخيرا قالوا بكل صراحة ووقاحة : { ياموسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } [ المائدة : 24] فظهر أن نشأتهم الأولى تأبى عليهم أن يخوضوا فى معركة ويدخلوا فى امتحان ويعرضوا أنفسهم للخطر وقطع موسى من هذا الجيل الفاسد الرجاء وقال:{ رب إنى لا أملك إلا نفسى وأخى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } [المائدة :25] هنالك أمره الله بالاعتزال مع قومه ( لا عن قومه ) فى بيداء سيناء حيث الشظف وخشونة الحياة وهنالك ينقرض هذا الجيل الفاسد الذى شب على الجبن والضعف وشاب عليه وينشأ الآؤلاد والشباب الاسرائيلى الذين لا يزالون فى مقتبل العمر على التخشن والجلادة وتحمل شدائد الحياة ومكارهها وينشأ جيل جديد يولد فى هذه العزلة والبداوة على معانى الرجولة والفروسية وهكذا تتكون أمة جديدة تقوم بدعوة النبى وتطبيق تعاليمه ومبادئه وتجاهد فى سبيلها .
وذلك أيها السادة معنى بليغ من معانى الهجرة النبوية فقد استطاع سيد الأنبياء وسيد الدعاة الى الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ بانتقاله مع أصحابه من ضيق مكة الى سعة المدينة وحريتها أن يكمل تربية أصحابه وأن ينشىء الجيل الاسلامى الجديد الذى لم يلبث أن اضطلع بأعباء الدعوة المحمدية ومثل الاسلام تمثيلا كاملا .
كذلك الدعوة الاسلامية التى تكلفتم بها والجهاد الذى أخذتموه على عواتقكم يفرض عليكم ـ ايها السادة ـ إنشاء جيل جديد لـ لإسلامجديد فى قوة إيمانه جديد فى حماسته وثقته جديد فى أخلاقه جديد فى تفكيره وعقليته جديد فى كفايته العلمية واستعداده العقلى وإن نجاحكم فى هذا الانتاج البشرى مقياس نجاحكم فى مهمتكم ودعوتكم فكلما كان نجاكم كبيرا فى إيجاد هذا الجيل وتكوين هذا الشباب كان نجاحكم باهرا فى دعوتكم ورسالتكم ومعلوم عند حضراتكم أن إنشاء الجيل الجديد أو تقويم الجيل المعاصر ـ الذى لم يفقد صلاحيته ونموه ـ ليس بالأمر الهين إنها مهمة لتنوء بالعصبة أولى القوة إنها تحتاج الى تكريس الجهود وتركيز القوى على هذه الغاية والتفكير العميق الواسع والتعاون الشامل والتصميم الحكيم إنها تتطلب أساليب التربية الحكيمة العميقة الأثر وجهود عملية فى ميدان الدعوة والاصلاح إنها تتطلب حركة التأليف والانتاج الواسعة ومقدارا كبيرا من الابتكار إنها تتطلب وضع منهاج جديد على أساس جديد للدراسات ومثالا جديدا من المدارس والكليات والجامعات ومؤلفات ومنشورات جديدة فى شرح الدين ا لاسلامى وعرض الفكرة الاسلامية وتأليفات جديدة فى السيرة النبوية وتدوينا جديدا للتاريخ الاسلامى وسبكا جديدا للعلوم الاسلامية وتفسيرا جديدا للعلوم الكونية وتلقيحا علميا جديدا وطرازا جديدا للصحافة والادب والروايات والشعر إنكم ايها السادة أمام أنقاض عقلية وركام بشرى وخامات مهملة تبنون بها بيتا جديدا وتصنعون بها سفينة جديدة تمخر عباب الحوادث والموانع إنكم ستبدأون فى عمل جديد وجهاد جديد يستغرق منكم وقتا طويلا ويستنفد جهودا عظيمة وذلك وإن كان عملا شاقا طويلا متعبا مملا متشعبا ولكن لا بد من أنجاز هذا العمل ومن مواجهة هذه ا لحقيقة والتغلب على العقبات التى تعترض سبيلها .
هذه مزايا الدعوة النبوية أيها السادة ومزايا الدعوة التى تكون على قدم النبوة وواجباتها وبذلك تمتاز دعوتكم عن الحركات القومية والاصلاحات الاجتماعية والثورات السياسية والاقتصادية .
ومن هذه المنابع تستمد دعوتكم القوة والروح وتستحق من الله النصر وتجلب الرحمة فلنحافظ عليها محافظتنا على الشعائر والعقيدة ولنحرص عليها حرصنا على الحياة والقوة . عندكم أيها السادة ثروة ضخمة من الصدق والايمان والحب والاخلاص ليست عند الدول الكبيرة والامم العظيمة عند كم أمانة مقدسة جدا أمانة القلوب التى تجتمع على حبكم وتدين بولائكم وتثق بقيادتكم هذه الأمانة التى خلفها لكم الإمام الراحل فأحسنوا القيام عليها واخلفوه فيها .
إن نكبة الدعوة بفقد داعيها الآول ومؤسسها العظيم كانت ـ من غير شك ـ نكبة عظيمة وخسارة فادحة ولكن كل نكبة أيسر وكل خسارة أهون من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصيب بها المسلمون بما لم يصب به جماعة أو فرد لشدة تعلق قلوبهم برسولهم صلى الله عليه وسلم واجتمعت لهم يومئذ مصائب لم تجتمع قبل ولن تجتمع بعد فلننظر كيف تلقاها الصحابة رضى الله تعالى عنهم .
لقد أعد الله سبحانه وتعالى لهذه المرحلة القاسية والمحنة الشديدة الصحابة رضى الله تعالى عنهم من قبل سنين فلما طار فى الناس يوم أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل سقط فى أيديهم وفقد كثير منهم شعورهم وخذلتهم قواهم ولم يستطيعوا أن يتحملوا هذه الصدمة ثم تحقق أن الشائعة كانت غير صحيحة ورسوله الله صلى الله عليه وسلم حى فانتعشت قواهم ولكن الله تعالى قد أعدهم فى ذلك الوقت ليتلقوا نبأ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فى صبر وجلد وربطهم بالدعوة وذكر أن الداعى صلى الله عليه وسلم تجرى عليه سنة الله فى خلقه فيرحل عن هذا العالم كما رحل من قبله من المرسلين فقال : { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل الإإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين} [ آل عمرآن :144]
وكان ذلك فلما حدث برسول الله صلى الله عليه وسلم حادث الوفاة تماسك المسلمون وعلى رأسهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق فما وهنوا وما استكانوا ولم ينقلبوا على أعقابهم ولم يخذلوا الاسلام ولم يخذلوا الدعوة واجتمعت علىالاسلام محن وخطوب لم تجتمع من قبل ولن تجتمع من بعد " فقد ارتدت العرب إما عامة وإما خاصة فى كل قبيلة ونجم النفاق وارأبت اليهود والنصارى والمسلمون كالغنم فى الليلة المطيرة الشاتية لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم وقلتهم وكثرة عددهم ".
ولم يكن مسجد لله تعالى فى بسيط الأرض إلا ثلاثة مساجد مسجد مكة ومسجد المدينة ومسجد عبد القيس فى البحرين فى قرية جواثى وكثر المتنبئون ومنع الناس الزكاة وقصد المرتدون المدينة وسرح أبو بكر فى هذه الحال جيش أسامة الى الشام تنفيذا لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغبته وكلمة فى ذلك عمر وكبار الصحابة وأرادوا أن يمنعوه من ذلك فلم يمتنع وقال:" لو ظننت أن السباع تخطفنى لأنفذت بعث أسامة كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم يبق فى القرى غيرى لأنفذته ".
استحضروا أيها الإخوان هول الموقف وغربة الاسلام وضعف المسلمين فقد أشرفت الدعوة الاسلامية على أثر وفاة نبيها صلى اللهم عليه وسلم على ا لانقراض واجتمع للمسلمين حادثان حادث وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وحادث ارتداد أمتهم وقومهم ولكن ذلك بالعكس أثار فيهم روح المقاومة والجهاد وألهب غيرتهم وقال أبو بكر الصديق رضى الله تعالى عنه : " أينقص الدين وأنا حى " وأبى المسلمون أن يستسلموا لهذه الحوادث ويخذلوا الدعوة فلم يحافظوا على وضع الاسلام وتراثه فقط بل فتحوا فارس والروم والامبراطوريتين اللتين كانتا تحكمان العالم وأضافوهما الى ثروة الاسلام جزاهم الله عن نبيه ودعوته وعن المسلمين خير ما جزى خلفاء الأنبياء وقادة الدعوة الاسلامية الأمناء الأقوياء .
وفى الأخير تفضلوا بقبول تحية صادقة من محب مخلص تجمعه بكم وحدة العقيدة الاسلامية وجامعة الفكرة الدينية على بعد الدار ومن وراء البحار ويتمنى لكم ولكل داع مخلص ومجاهد صادق السداد والتوفيقوالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
( لكهنؤ ـ الهند ) ـ نزيل القاهرة 9/6/1370هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق