الأحد، 10 سبتمبر 2023

القتل على آهات الجماهير

القتل على آهات الجماهير

 سيلين ساري

عبر التاريخ الإنساني، كانت الرياضة بمنزلة ورقة التوت التي يستر بها كل ديكتاتور وطاغية؛ عورته وعورة حكمه. فليس عُري الجسد فقط هو ما يحتاج الإنسان لستره من العيون، فهناك عورات كثيرة تحتاج أن تستر.

ورقة التوت كانت السبيل الأول لستر عورة الجسد، عندما خالف آدم و زوجته تعاليم الله. وبتعدد المعاصي، تعددت أشكال ورقة التوت ومسمياتها. ولكن تظل المعصية لأوامر الله هي الطريق الوحيد للعُري.

ولأن الظلم من أشد المعاصي؛ لأنه يقهر روح الإنسان، تلك الروح التي نفخها فينا رب العزة، لذا فإن كل ظالم سقطت عنه ورقة التوت وصار يبحث عن غيرها ليختفي خلفها، فكانت الرياضة هي تلك الورقة التي وجد فيها الطغاة ضالتهم.

فقد أصبحت الرياضة ليست مجرد ورقة توت فقط، بل صارت أداة لاكتساب شرعيّة سياسية لكل ديكتاتور، وأيضا ميدانا فسيحا للحصول على الشعبيّة الشخصيّة للقائد السياسي، ويظهر ذلك جليّا في الدول الديكتاتورية.

برع الإِغريق في استخدام مفهوم الألعاب الرياضيّة لتحقيق مكاسب سياسية للنظام، ودعم مكانة الدولة، فاشترك حاكم أثينا في سبع سباقات للألعاب الأولمبية الإِغريقية، ليظهر أن هزيمته لم تحبط عزيمة الأثينيين من ناحية، وليزيد من شعبيتّه من ناحية أخرى.

أما أباطرة روما، فكانت لهم الريادة في تفريغ شحنة الغضب الشعبي تجاه سياستهم السياسية والعسكرية، التي أوصلت شعبهم إلى الجوع والفقر. فكانت المصارعة الرومانية القديمة هي وسيلة الترفيه البربرية، بكل ما تحويه من طقوس دموية متوحشة؛ تحلل ذبح البشر وتقديمهم قرابين في ساحات المسارح الرومانية، حيث كان الأباطرة يروجون لهذه العروض من أجل استغلالها في الدعاية السياسية، إلى جانب تأكيد بسط سيطرتهم على البشر والحيوانات معا. فكان البشر والحيوانات يقتلون على آهات استحسان الجماهير الجوعى؛ التي غُيب وعيها.

ويرى بعض المؤرخين أن المعارك والمنافسات الدامية التي كانت تدور في باحة المسرح الروماني؛ كانت بمنزلة صمام الأمان الذي يقوم بتنفيس ما يختلج في نفوس عامة الشعب والغوغاء من مشاعر مكبوتة. ولذلك، فإن الإثارة التي تصاحب مشاهد الذبح تخفف من إحساس الجماهير بالبؤس الذي يعانون منه في حياتهم اليومية، كما تخفف من مشاعر الكبت التي تنكد عليهم حياتهم. أمّا الأباطرة والطغاة، فكانوا يستغلون أي فرصة لتأكيد شرعية سلطاتهم، ولذلك كانوا يسارعون لتنظيم هذه العروض المكلفة باعتبارها تجسيدا رمزيا لقوتهم وطغيانهم.

وظل صمام الأمان هذا متوارثا ليومنا هذا. فإن كان مبنى الكولوسيوم بروما، الذي شهد على تلك البربرية، لم يبق منه سوى بعض أحجار أبى الدهر إلا أن تظل شاهدا على بربرية بني البشر، ففي تاريخنا المعاصر آلاف من الكولوسيوم.

ففي سنة 1978، كان هناك على أرض التانجو (الأرجنتين)، وعلى بعد كيلو مترات من ملعب أنتونيو ليبرتي، كولوسيوم جديد أقامه الجنرال الانقلابي خورخي فيديلا، المدعوم من أمريكا.. كولوسيوم تعرض بين جنباته أكثر من 30000 مواطن للقتل والتعذيب والاختفاء القسري، أكثرهم من الصحفيين والرياضيين والفنانين، وأيّ شخص يحمل فكرا معارضا للنظام العسكري. وكان مونديال 78 هو ورقة التوت التي أرادت بها أمريكا تجميل وجه رجلها في الأرجنتين، ولإلهاء الشعب والمجتمع الدولي عن أساليب القمع والوحشية التي ينتهجها.

لكن في الجهة الأخرى، كانت هناك حملة عالمية لمقاطعة البطولة احتجاجا على انتهاكات حقوق الإنسان، غير أنّ قطاعا من الصحفيين رفض المقاطعة، وقرر المشاركة والسفر لبلاد التانجو للتقرب من عائلات الضحايا ونقل معاناتهم للعالم.

وبهذا المونديال الرياضي، أخذ خورخي شرعية القتل على آهات استحسان عاشقي الساحرة المستديرة.

وتمر الأعوام، ويعيد التاريخ نفسه، ولكن هذه المرة على أرض مصر، وعلى ستاد برج العرب الذي يبعد كيلومترات عن سجن برج العرب سيئ السمعة، الذي يقبع داخله آلاف المعتقلين سياسيا لرفضهم انقلاب الجنرال السيسي؛ الذي دعمته أمريكا أيضا. هناك وقف مهووسو الكرة يصرخون استحسانا لفوز منتخب مصر ووصوله لكأس العالم، ليقتل على آهاتهم آلافا من بني وطنهم.

هكذا صارت الرياضة، وبتسلسل تاريخي، ميدانا للتصريف السياسي. ويقصد بالتصريف السياسي إخراج المشاعر السياسيّة الكامنة والمكبوتة لدى الجماهير، عن طريق الاهتمام بقضايا غير سياسية. وقد أكد بعض علماء النفس أن الألعاب الرياضيّة، وما يصاحبها من صراخ وهتاف، تصبح وسيلة ناجحة لعلاج التوتر والإِجهاد، ووسيلة ناجحة للقضاء على الاكتئاب، ومن ثم يجب تشجيعها كأداة للتنفيس عن النفس. ولذلك، لن يكون غريبا أن يكتب الأطباء قريبا في روشتات العلاج لمشاهدة كرة القدم قبل الأكل وبعده.

إن تفشي الظاهرة بهذا الشكل ما هو إلا نوع من التضليل، وذلك بإظهار أن الرياضة نشاط إيجابي محايد يهدف إلى بناء المجتمع، في حين تُظهر الممارسات المتكررة أن الألعاب الرياضيّة نشاط مسيس؛ يُستخدم كأداة لصرف أنظار الشعوب وإلهائها عن المشكلات الاجتماعية الملحّة.

فقد أصبحت الدول المتخلفة تُصَوِّر نجاحها الرياضي كانعكاس لقوة الدولة وحصافة سياستها وحكمتها، حتى أصبح المشاركون في الألعاب الرياضيّة أبطالا قوميين يسهمون في دعم المكانة السياسية الدوليّة للدولة.

وتستخدم الألعاب الرياضيّة بتلك الدول كوسيلة دعائية للنظام السياسي - كما يحدث في مصر الآن - على أن وصول مصر لكأس العالم من أحد إنجازات السيسي.

كما تسهم الألعاب الرياضيّة أحيانا في رفع الروح المعنويّة لشعوب الدول الصغرى والمتخلفة، حيث تستغل هذه الدول فوزها في المناسبات الرياضيّة لتظهر أنها دولة قوية قادرة على المنافسة، مما يعوّض النقص الذي تشعر به نتيجة إخفاقاتها السياسية والاقتصادية، فينشغل العوام بانتصار وهمي ينسيهم هزائمهم المريرة؛ من كبت وقهر سياسي ومجتمعي.

أفيون الشعوب

إن الاعتقاد السائد الذي غُرس في عقولنا غصبا بأن كرة القدم أداة للوحدة الوطنيّة، إنما غُرس ليستخدم بصرف أنظارِنَا وعواطفنَا عن قضايانا الملحة، وإلا صرنا بنظرهم خونة للوطن.

فدائما ما ارتبطت رياضة كرة القدم بعلاقة محرمة مع السياسة، فكلما أراد الساسة أن يمرروا قرارات مصيرية خطيرة تهدد مستقبل الأمم؛ اهتموا أكثر بالرياضة، وجعلوها الشغل الشاغل للشعوب.

يكفي أن نعرف أن أول مرة تقام فيها مسابقة الدوري المصري كانت سنة 1948، أي في السنة نفسها التي قام فيها الكيان الصهيوني على أرض فلسطين.

كما حاول مبارك استغلالها لتمرير التوريث لابنه، من خلال اهتمام الأخير بالكرة، وخاصة مباراة كرة القدم بين مصر والجزائر سنة 2009، التي جعلوا منها معركة يتزعهما الفاتح جمال مبارك.

فكرة القدم في العالم المتحضر ترف، ولكن لأننا "فقرا قوي"، فما نصيبنا نحن غير حزن مجاني أو فرح مصطنع نعود به إلى أسرتنا، بعد زوال نشوة الفرحة. فالأنظمة العسكرية حولت تلك الرياضة إلى دين وانتماء يقاس به مدى الوطنية. فنحن شعوب فقدت الأمل بأنظمتها ومثقفيها، بل فقدت الثقة بنفسها، لذا نبحث عن حلم كرة القدم الذي يغيبنا عن الظلم نحياه على الكرة الأرضية.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق