حكايتي (2) كائنٌ لا يتوقَّف
أسعد طه(1)
حكاية كلٍّ منَّا حكاية عادية جدًّا، إلى أن يقرِّر المرء بنفسه أن تكون غير ذلك.
ساذجون هؤلاء الذين يعتقدون أن الحكايات الجديرة بالسرد هي حكايات المشاهير والعظماء؛ ثمة أناس عاديون، بل ربما رعاة غنم، لكن حكاياتهم جديرة بالسرد.
لا تصدقني!
اقرأ واحكم بنفسك.
(2)
في قريةٍ صغيرة ببادية كُردُفَان بوسطِ السودان ولدت، فما إن بلغت السابعة من عمري، حتى ألحقني والداي -مثل أهل أبناء قريتي- بالكتَّاب، أفك الحرف، أكتب بإصبعي في الرمل، وبالقلم على اللوح، وأحفظ شيئًا من كتاب الله.
فلما كبرت قليلاً بت راعيًا للأغنام، وحافظت على دروسي في الكتَّاب، إلى أن بلغت مبلغ الرجال، فقررت السفر بعيدًا قليلاً عن مسقط رأسي؛ طلبًا للرزق.
تمر سنوات كثيرة، والحال على ما هو عليه، إلى أن قررت العودة إلى قريتي، وأتزوج قريبة لي، وكان ذلك قبل بلوغي الثلاثين بقليل.
وسارت الحياة بأيامها العادية، إلى أن مرض جدُّ أبنائي، فحزنت كثيرًا لذلك، فقد كنت أُكنُّ له الكثير من الحب، ولذلك قررت أن أتولى أمر علاجه مهما كلفني الأمر.
صحبته إلى “أم درمان”، وفي مستشفاها الضخم طال البقاء، ونفد ما لديَّ من مال، فقررت البحث عن عمل، أي عمل، حتى لو كان في أعمال البناء.
نصحوني بالتوجه نحو قهوة بعينها في السوق يقصدها الباحثون عن العمل من أهل الحرف.
ذهبت، وجلست طويلاً، غير أنه لم يقصدني أحد، ولم يطلبني أحد، ربما لأن لا أحد يعرفني، وربما لأن ملابسي لا توحي بحاجتي.
فضاق بي الحال جدًّا، إلى أن أتى يوم مالَ فيه عليَّ رجل وسألني عن اسمي، فلما أجبته قال لي: إنه يحتاجني لبعض الأعمال، ففرحت فرحًا لا يوصف.
(3)
بدأت العمل في منزل الرجل، ليخبرني بعد مرور عدة أيام، أنَّ بوسعي النوم في منزله إلى أن أُنهي مهمتي.
وهذا يعني أني نلت العمل والمأوى، إلى أن فوجئت يومًا وهو يبشرني بأن هناك وظائف عمالية متاحة، لكنها تحتاج الخضوع لاختبار بسيط، كان الرجل يجد حرجًا وهو يحدثني؛ مخافة أن يكون المطلوب صعبًا على هذا القروي راعي الغنم، ابتسمت وهو يخبرني أن كل المطلوب هو كتابة الاسم رباعيًّا.
استلمت وظيفتي الجديدة، حارسًا ليليًّا لسكن صغير للطلاب، لا يزيد عددهم عن عشرين، وكل ما كان عليَّ هو خدمتهم نهارًا، نظافة وطهيًا، وحراستهم ليلاً.
عاملتهم بإخلاص وتفان، وهم سرعان ما منحوني حبهم، كنت أتابع حواراتهم وجدالهم، بل أشاركهم -أحيانًا- في حل بعض مسائل الفقه واللغة.
والحقيقة… إنني كنت أكتشف نفسي بنفسي؛ فقد أدركت أن شيخ القرية علمني الكثير، وأن قسوة الغربة قد أخرجت من صدري شعرًا حارًّا.
هذه الغربة هي التي وثَّقت صلتي بالراديو، فساعات طوال أقضيها في الإنصات له.
وحدث أنَّ واحدًا من الطلاب اكتشف أنني أقرأ مذكراتهم الدراسية نهارًا، وأنني أكتب الشعر، تحمس لأمري كثيرًا، حتى إنه قرر أن يصلني بالإذاعة.
يغيب أيامًا ثم يعود ليبشرني بأن أشعاري قد قُبلت، وأن الإذاعة تكلِّفني بكتابة مسلسل إذاعي، أبطاله شعراءُ شعبيون.
(4)
تمر الأيام، ويذهب الطلاب في رحلة علمية أرافقهم فيها.
وفي أحد الأيام وبينما يتفقَّد أحد الأساتذة طلابه، يجدهم متحلقين حولي، يسألونني -أنا الرجل الخمسيني المسؤول عن العناية بهم- عن أبيات جرت على لسان أحد أبطالي في المسلسل الإذاعي الذي كتبته.
يندهش الأستاذ عندما يعلم أن الحارس الليلي شاعر، وأنه يجيد كتابة السيناريو بذات إجادته الطهي.
ينصحني بمتابعة الدروس العلمية في الجامع الكبير بأم درمان، وبالفعل التحقت بمعهدها العلمي.
لم يكن الأمر سهلاً، لكني كنت قد قررت المُضي في حياتي، وعدم الاستسلام لأي ظروف عارضة.
تمر الأيام، وأخضع لامتحان الإجازة بالمعهد العلمي، ثم يكون الخبر السعيد.
أنا البدوي، راعي الأغنام، عامل البناء، الطاهي، الحارس الليلي، أنجح وأصبح مؤهلاً لدخول جامعة أم درمان الإسلامية.
أصارحكم القول: كنت سعيدًا للغاية بالخبر، إلا أنني توترت قليلاً؛ فقد بلغت الأربع وخمسين عامًا، فهل أستطيع خوض رحلة كفاح جديدة في هذا العمر؟
(5)
أربع أعوام تمضي وأنا أزاوج بين العمل والدراسة، إلى أن أتخرج من الجامعة.
كان الأمر أشبه بحلم مستحيل يتحقق، غير أنه لم تكن هناك وظيفة شاغرة تناسب مؤهلي الجديد، فقررت الاستمرار في عملي كحارس لسكن الطلاب، إلى أن أجد ما يناسبني، بل قررت أن أواصل رحلتي العلمية لنيل درجة الماجستير، وفيما أنا أجتهد في الأمر يخبرونني أن ثمة وظيفة أصبحت متاحة لي في الجامعة.
أنال الماجستير بدرجة ممتاز، وأخوض معركة لنيل الدكتوراه، وأنالها بالفعل، ثم درجة الأستاذية.
المشكلة اللذيذة التي أعاني منها أنني لا أستطيع التوقف، فكرة الاكتفاء بما تحقق، وإهدار ما تبقَّى من عمري في راحة أو ما يشبه ذلك كانت فكرة مرفوضة تمامًا.
بل كنت أشعر بالامتنان لما حصلت عليه، وهذا الامتنان يستدعي أن أرد الجميل بجميل.
قررت أن أنثر علمي في كل مكان، في قاعات المحاضرات، في الحلقات العلمية بالمساجد، بل وحتى في منزلي الذي بات قبلة لطلبة العلم ولمحبي الشعر.
ولأنني كائنٌ لا يتوقَّف، فقد واصلت كتابة الشعر، رغم ما يحتاجه من مجهود، وصدر لي ديوانان، وكتاب اسميته: (مذكرات راعي)، وبالطبع قبل ذلك ثمانية مسلسلات إذاعية.
(6)
في العام ألفين واثني عشر، يشيعون جنازتي، طلاب ومريدون يعلنون فخرهم بهذا السوداني الملقب بـالبروفيسور (قريب محمد راجع)، راعي الأغنام سابقًا، الذي أصرَّ ألا تكون حكايته عادية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق