المحروسة في زمن العِبر!
سيلين ساري
زمان العِبر
آه يا زمان العِبر.. سوق الحلاوة جبر
بقينا أنتيكة.. دقي يا مزيكا
طيب يا صبر طيب
أغنية عبّر بها الفنان عبد المنعم مدبولي في فيلم "مولد يا دنيا" عن حال سائقي الحنطور الذين خلّفهم الزمن خلفه، دون أن يأبه لحالهم بعد تطور وسائل النقل.
لم يكن حينها يعلم مدبولي أن مرثيته تلك ستعبر عن الدولة كلها، وليس عن فئة لمهنة مندثرة؛ فقد أصاب مصر منذ انقلاب 1952 ما أصاب مهنة سائق الحنطور، فأصبحت في طريقها إلى الاندثار؛ ليس بسبب التقدم، بل بسبب سوء الإدارة والفساد والاحتلال المقنع.
نعم احتلال لم يسقط قلعة صلاح الدين، ولم يحرق القاهرة مرة أخرى، ولم يطلق صافرات الغارات، ومع ذلك، فإن هجوم هذا المحتل قد تم حقّا وتكلل بالنجاح، لقد مهد لاستيلاء التافهين على السلطة الذين تفننوا في جعل الرداءة كالوباء؛ تنقل فيروساتها في الأوساط والفئات كافة، بل جعلوا المجتمع يرى تلك الرداءة والانحطاط شيئا عاديا مستساغا، بل أيضا مطلوبا.
فإذا نظرنا إلى مصر قبل الحكم العسكري وبعده في مقارنة سطحية، سنجد هوة شاسعة بين ما كنا وما أصبحنا عليه، وذلك في نواحي الحياة كافة (اقتصادية واجتماعية وسياسية)؛ فحتى تصبح الرداءة أسلوب حياة، كان لا بد أن تسود التفاهة، وهي العامل المساعد لتغلغل الرداءة داخل خلايا المجتمع، فيضمحل ويتفكك.
نجح الحكم العسكري في تنصيب التفاهة كقدوة مفروضة على كل فئات المجتمع، مستخدما الإعلام في ذلك؛ فأصبحت التفاهة وصناعة الرداءة هي التجارة الأكثر رواجا، التي يقف خلفها جيش من المستثمرين والداعمين والمستفيدين، الذين سمموا مجتمعنا وحياتنا وجعلوا منها مسخا مشوها.
تأملوا جيدا؛ هل هذه هي القاهرة الخديوية التي منذ 100 عام فقط، وتحديدا 1925، حصلت على وسام أجمل وأنظف مدينة في حوض البحر المتوسط وأوروبا، متخطية باريس ولندن وجنيف وفيينا؟! لتصبح خلال 70 سنة من حكم العسكر، من أكثر عواصم العالم تلوثا!
تأمل وأصغ السمع؛ هل هذه هي القاهرة عاصمة الفن والأدب والعلم في الشرق الأوسط؟ لقد اجتاحتنا طفرة جينية خبيثة أظهرت وباء يستحق حقّا لقب مشاهير الغفلة، الذين بلغت شهرتهم عنان السماء الملبدة بغيوم الجهل والفقر، فهل الرحم الذي خرج منه مصطفى مشرفة وسميرة موسى، هو نفس الرحم الذي خرج منه عبد العاطي كفتة؟!
هل الرحم الذي أنجب يوسف إدريس، وتوفيق الحكيم، والعقاد، ويحيى حقي، ومحمود سامي البارودي، هو الرحم الذي لفظ إبراهيم عيسى والكردوسي؟!
هوليود الشرق التي لمع في سمائها ممثلون ومطربون أمثال أم كلثوم وعبد الحليم ونجاة؛ هي التي هوت كنيزك محترق مخلفا في حطامه حمو بيكا وكزبرة وحنجرة؟!
مصر التي منذ فجر التاريخ أثرت العالم بمنحوتات رائعة منذ عهد الفراعنة حتى منحوتات محمود مختار، هي نفسها مصر التي تمتلئ ميادينها بمسوخ منحوتة تشبه اللات والعزى وهُبل؟!
تلوث بصري فج يتحدى كل قيم الجمال والفن تتبناه الحكومة، وتصر على عرض هذا القبح إمعانا في تشويه ما تبقى لدى الناس من قيم جمالية. ليس هذا فحسب، بل تخطى الأمر في زمن العسكر تبني الأعمال القبيحة إلى سرقة أعمال الغير؛ فأصغر فنانات زمن العسكر غادة والي، سرقت لوحه للفنان الروسي خورخي كوراسوف، ورسمتها على جدران مترو الأنفاق على أنها إحدى إبداعاتها.
أما في الإعلام والصحافة فحدث ولا حرج، أصبح إعلاميو مصر أشبه بـ"خالتي فرنسا"، المرأة الشرشوحة، التي تقتات عن طريق فضح الناس وتلويث سمعتهم بالباطل مقابل المال.
لقد أصاب مهنة الإعلام ما أصاب كثيرا من المهن في مجتمعنا الذي تم تشويهه، فأصبح الإعلامي "شرشوح"، والسياسي "خلبوص" (وهو لقب كان يطلق على صبي العالمة قديما)، والطبيب والمهندس سائق توكتوك، والعسكري رئيس دولة.
اختلت كل المعايير بعد أن تمكن ضباط يوليو من السطو على حكم مصر، فدمروا الحياة السياسية بحلّهم جميع الأحزاب، وأصبحت مصر التي كانت تضم في أيام احتلالها وفي أيام الملك المتهم بالفساد أكثر من حزب (الوفد، الوطني، الأمة، والأحرار) وحيدة الحزب، وهو حزب الاتحاد الاشتراكي الحاكم، لتسقط مصر من وقتها في غياهب جب العبودية العسكرية، وتمت محاصرة الوعي الفكري والإبداعي فيها، وأصبحت القدوة هي البدلة العسكرية وحيدة الخلية التي ولا يُرى سواها.
ثم أتى عصر الانفتاح الساداتي لتدخل للساحة قدوة جديدة.. المقاولون الذين يحملون الكثير من المال، ولكنهم بعيدون جدا عن العِلم، يُدخلهم العسكر كبديل لباشوات الحقبة السابقة لانقلاب يوليو، أيضا كبديل للمتعلم المثقف الذي كان متمثلا في المعلم أو رجل الدين الأزهري، الذين جرى عليهم ما جرى لسائقي الحنطور بعد تدني حالتهم الاقتصادية أمام باشوات زمن العسكر؛ فأصبح المال وليس العلم هو الوسيلة للوصول للسلطة والشهرة، فدخلت مصر زمن المقاول الفنان، والمقاول السياسي، والمقاول رجل الأعمال.
وهكذا أصبح أباطرة زمن العسكر يتجولون في شوارع المحروسة بسياراتهم الفارهة، بعد أن تملكوا مفاصل الدولة ومؤسساتها؛ فهم يملكون المشافي التي يعمل فيها الأطباء والمشروعات التي يعمل فيها المهندسون، وينتجون الأفلام التي يعمل فيها الفنانون، ويزرعون ثقافة جديده داخل العقول، وهم أعضاء مجلس الشعب، أصبحوا هم القدوة رغم أنف المجتمع الذي لم يقدم لهم بديلا.
هكذا تمكنت الطغمة الحاكمة من نقل القدوة تدريجيا من فصول التعليم إلى أباطرة وملوك المخدرات، لم يتوقف الأمر على هذا الحال للأسف لقد نُقلنا قسرا من عصر الرداءة إلى عصر الانحطاط، الذي ارتفع فيه سهم الجاهل الجريء على سهم العالم المتواضع، ومن قدوة المقاول إلى قدوة البلطجي.
وأصبح الحاكم هو من يقود ويوجه ثقافة المجتمع ودينه وقيمه مع زمرة من الإعلاميين التافهين، للتطبيع بين الفساد والمجتمع، لدرجة أصبحت فيها الفضيلة خطيئة تستوجب العقاب.
تمكن السيد الجالس على كرسي الحكم من إقناع الناس بأن الفساد والرداءة هي مسؤوليتهم هم، وليست صنيعته المدبرة. أقنع العامة بأن ما وصل له حالهم من فقر وجهل، هو نتيجة للزيادة السكانية وليس سوء الإدارة والفساد.
إن ما يجري الآن، هو خطوه لفصل السياسة عن الشأن العام، بإلهاء الناس بمشكلات تافهة لتشتيتهم عن الخطر المحدق بالبلاد؛ نتيجة سياسات رعناء أوصلت البلاد إلى الهاوية، وأصبح الاحتلال الاقتصادي من دول أجنبية وشيكا جدا، بعد أن أُغرقت البلاد بالديون، وتم بيع معظم مؤسساتها وأصولها.
هكذا توارت مصر الجميلة وراء جبال من القبح.. وحقا سوق الحلاوة جبر..
وبعد أن كنّا نقود العالم.. أصبحنا أنتيكة.. دقي يا مزيكا (حَزيّني).
وطيب يا مصر طيب!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق