الكتمان والسكوت عن البيان ( الحلقة الأولى)
بسم الله الرحمن الرحيم
بقلم فضيلة الشيخ الصادق الغرياني
كما أن الله تعالى رفع درجات كُلِّ من أوتي علما وعمل به وعظم شأنه، جعل حِملهم ثقيلا، وعِبأهم جسيما، فالغُنم بالغرم، والخراج بالضمان، ومن تولى قارّها عليه أن يتولى حارّها، وكما قال القائل: على قدر أهل العزم تأتي العزائم.
وأكثر ما يؤرق كل من أوتي علما قليلا أو كثيرا أو أوتي عقلا ميز به الحق من الباطل في نصوص الكتاب والسنة أمران؛ الكتمان، والتباهي.
والتباهي أمره خفي لانراه، أما الكتمان فجلي، وهو السكوت عن البيان لمدافعة الباطل إذا لاح قرناه فلم يكسرا ويُقتَلعا.
وأدنى الكتمانِ المستوجِب لغضب الديان: السكوت عن بيان الحق عندما تدعو الحاجة إليه، كالسكوت عمن جلس هذه الأيام من المسؤولين في بلادنا مع العدو الصهيوني لوضع الخطوة الأولى على طريق التطبيع مع اليهود، فلا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسكت عنه، قال الله تعالى: (يأيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم)، وقال تعالى: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم).
فالمسألة تتعلق بالإيمان والعقيدة.
وأعلى الكتمان في القبح: التبرير لباطل الظالمين وولاة السوء، والاستدلال على سيء أعمالهم بالشرع، لأنه كتمان وزُور.
ومن خاف على نفسه من البيان – لا على الوظيفة – وسعه السكوت، فالخوف على النفس إكراه يبيح الأخذ بالرخصة، أما خوف العزلِ وفقدِ الوظيفة والمرتب فليس إكراها في الشرع، فلا يحل لبطانة الحاكم القريبين منه أن يسكتوا عن باطله ولا يبينوا له، خوفَ فقد الحظوة لديه، أو خوفَ إبعادهم من دوائر نفوذه، ولا يحل لرجل الأمن أن يسجن أحدا وهو يعلم براءته على خلاف القانون إذا أُمِر بذلك، ولا للسجان أن يعذب سجينه وإن خاف كلٌّ ممن ذُكر العزلَ أو فقدَ الوظيفة، بل على كل أحد منهم أن يُعفي نفسه من الوظيفة ولا يفعل ما يُغضب الله، فإنّ رِضَى الله خير له من رِضى غيره، وأكثر أجرا ومتاعا حتى لمن أراد متاع الدنيا!
ومن فعل مِن هؤلاء ما أُمر به من الظلم والعدوان كان إثمه أشد من إثم مَن أمره، والقصاص منه أولى، لأنه مباشر للمعصية، والآخر متسبب.
ومن ثبت على الحق وجهر به مع الخوف على النفس، وأخذ بالعزيمة، وقُتل، كان شهيدا، وهو أفضل وأعظم أجرا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله).
ونرى في أيامنا طوائف لا يبالون بالكتمان، منهم:
1 – من شُغلهم الشاغل – الذي هو أكبر همهم ومبلغ علمهم – الدندنة الدؤوب على طاعة ولي الأمر، مهما ارتكب من الموبقات، وانتهك من الحرمات، فلا يسمحون لأنفسهم في محاولة إصلاحه حتى بالاحتجاجات السلمية، أو المناصحة العلنية، ويرون ذلك خروجا على ولي الأمر، وابتداعا في الدين، فالجهاد بالبيان عندهم لا هو في العِير ولا في النفير، وليسوا منه في صدر ولا وِرد، ولا إقبال ولا إدبار، ولهم في ذلك عجائب، منها: أنه في أحد ليالي الرمضانات الماضية، عندما كان جيش الصهاينة يقتحمون المسجد الأقصى، ويهشّمون نوافذه، ويدوسون المصلين والمعتكفين في ليالي رمضان، ويركلونهم بالنعال، ويضربونهم بحديد البنادق، وكان المعتكفون يدافعونهم بما يقدرون، وكانت ليلة عصيبة، استشهد فيها من استشهد، وجُرح من جُرح، كانت هذه الطائفة التي تدندن حول طاعة ولي الأمر وتنسب نفسها للعلم كانت في ذات الوقت منكبّة على البحث لاستخراج الحجج الدامغة، على إثبات أن إخراج زكاة الفطر بالنقود باطلة!
وهكذا كلَّ عام، جهادٌ في غير عدوّ.
2 – طائفة همّهم التبرير للظالمين، وكلُّ فساد يصدر من ظَلَمة الحكام عند هذه الطائفة هو من القول الرشيد والرأي السديد، يلوون له أعناق النصوص، ويتمحلون له التأويلات الغريبة، يفعلون ذلك ليستدلوا على أن ما جاء عن الحاكم من الطامات، كالتطبيع مع العدو وموالاته وغير ذلك من الإحداث في الدين، وتشريع ما لم يأذن به الله، وملاحقة العلماء وإيداعهم السجون، ووضعهم على قوائم الإرهاب، استعداءً لأعداء الدين عليهم – هو على وفق الكتاب والسنة وما مضى عليه سلف الأمة!
قال الله تعالى: (مالكم كيف تحكمون أفلا تذكرون) والله المستعان.
وفي هذا جاء أن الحجاج بن يوسف سأل أنس بن مالك رضي الله عنه عن أشد عقوبة عاقب بها النبي صلى الله عليه وسلم أحدا من الناس، فذكر له أنس حديث العرنيين، ولما بلغ ذلك الحسن قال: وددت أنه لم يخبره، فإن هؤلاء الولاة يتخذون ذلك معذرة لهم لقتل الصالحين وتعذيبهم وإيداعهم السجون.
والتغليظ على الكتمان في نصوص الكتاب والسنة شديد مفزع، وهو كثير، نذكر منه ما يلي:
1 – قال الله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد مابيّنّاه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم).
ففي الآية توعُّدٌ على الكتمان باللعن والطرد من رحمة الله، واللعنُ من الله والملائكة والناس أجمعين، وذلك اللعن مستمر على كل أحد يعلم إلى أن يتوب ويبيّن.
2 – قال الله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك مايأكلون في بطونهم إلا النار ولايكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار)، هذا توعد آخر على الكتمان صريح بدخول النار: (ما يأكلون في بطونهم إلا النار)، وتوعدٌ بغضب الله وإعراضه عنهم، ولأن الكتمان والسكوت عن الحق في الغالب من أهل العلم لايكون مجانا بل بمقابل يُبذل لهم من الظالمين من الولاة وأهل النفوذ كحُظوة لديهم، وإغداق أموال، وإيصال هدايا ومزايا ظاهرة وخفية، وهو ما يشبه المعاوضة والمصانعة، لذلك خُتمت الآية بقوله: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار).
3 – قال الله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولاتكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون)، وهذه الآيات ونحوها في الوعيد على الكتمان، وإن كان سبب نزولها في أهل الكتاب وبخاصة أحبار اليهود، الذين كانوا يكتمون أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها عند أهل العلم كافة محمولة على العموم، تشملهم وتشمل هذه الأمة، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن كل ما ذَم الله عليه أهل الكتاب فالمسلمون محذرون من مثله، ويشهد لذلك قول أبي هريرة رضي الله عنه عندما قالوا (أكثر أبو هريرة) أي من الرواية قال: (لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم حديثا) وقرأ: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد مابيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون).
وقال قتادة في قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) قال: هذا ميثاق أخذه الله على من يعلمون أن يعلّموا، ثم قال: وإياكم والكتمان، فإنه هلكة.
4 – ومن السنة في التحذير من الكتمان نكتفي بحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في الموطأ قال عبادة: (بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالْحَقِّ، حَيْثُمَا كُنَّا، لا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ).
فهذه بيعة أخذها النبي صلى الله عليه وسلم على كل من آمن به، فالمسلمون جميعا مخاطبون بقوله: (على أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق