“دماء الآخرين”.. تتار القرم وفظائع التهجير
أول متحف معني بتراث مسلمي القرم وجنوب أوكرانيا
تقرير إعداد الإعلامى
مهندس محمد سليم
عضو مجلس الإدارة
يوضح المؤلف روري فينين أن مشاعر تتار القرم التي أثارها شعراء مثل تشيتشيبابين ساعدت على إطلاق العنان لقوى التغيير، وفي عام 1989 سمح الاتحاد السوفياتي أخيرًا للتتار بالعودة إلى موطنهم في شبه جزيرة القرم، وندّد الكرملين بترحيلهم باعتباره عملًا “بربريًّا” من قبل ستالين.
في ربيع عام 1944 أجلى الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين في ترحيل جماعي تتار القرم -وهم مجموعة عرقية تركية من السكان الأصليين لشبه الجزيرة الواقعة في جنوب أوكرانيا الحالية- من موطن أجدادهم في شبه جزيرة البحر الأسود نحو أوزبكستان السوفياتية وسيبيريا، ودول آسيا الوسطى التي كانت تحت الحكم السوفياتي آنذاك حيث توفي كثير منهم خلال التهجير بسبب المرض والجوع والمعاملة السيئة.
هذا الحدث الذي أودى بحياة عشرات الآلاف من الضحايا في نهاية المطاف كانت تفاصيله الخطرة محاطة بالسرّية بعد الحرب العالمية الثانية، لكن ما كسر الصمت في روسيا السوفياتية وأوكرانيا السوفياتية وجمهورية تركيا تداول أعمال أدبية خلّدت مأساة تشريدهم وأبقتها حاضرة في أذهان أجيال عديدة.
صدمت هذه النصوص الشعرية والنثرية ضمير القرّاء، وقد كتب بعضها وبقي سرا تحت الأرض، وفي كتابه “دماء الآخرين: فظاعة ستالين في القرم وشعراء التضامن” الصادر حديثا عن مطبعة جامعة “تورنتو” يقدم المؤلف روري فينين هذه الأعمال المكتوبة كدليل حي على قدرة الأدب على توسيع آفاقنا الأخلاقية.
في تسليط الضوء على هذه النصوص الرائعة ووضعها في سياقها بين التمثيلات الروسية والتركية والأوكرانية لشبه جزيرة القرم منذ عام 1783، يقدم فينين -الأستاذ المشارك في الدراسات الأوكرانية بجامعة “كامبردج”- تاريخًا ثقافيًّا مبتكرًا لمنطقة البحر الأسود، ويكشف كيف عزز “شعراء التضامن” التعاطف ودعم الشعب المضطهد المهجّر.
التهجير الكبير
في ليلة 18 مايو/أيار 1944 شرع ضباط المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية السوفياتية -التي تمثل نوعا من الشرطة السرية ضمن جهاز للقمع السياسي في عهد ستالين- على نحو مفاجئ في إجبار آلاف من تتار القرم على الخروج من منازلهم تحت تهديد السلاح، واقتادوهم إلى قطارات وعربات نقل الماشية المتجهة إلى آسيا الوسطى وجبال الأورال.
وذكر شهود عيان أن من اعتبروا غير لائقين للرحيل أو رفضوا التهجير تعرضوا لإطلاق النار فورا، ولقي آلاف مصرعهم أثناء الرحلة كما لقي آلاف آخرون حتفهم بسبب الجوع والمرض في “مخيمات الاستيطان الخاصة”.
برّر ستالين هذا التطهير العرقي باعتبار تتار القرم خونة عبر المبالغة الكبيرة في أعداد الذين تعاونوا مع المحتلين النازيين، وعلى الفور أُزيلت آثار تتار القرم من الخرائط والكتب، وسُلّمت منازل وممتلكات المهجرين إلى المستوطنين السلافيين الجدد الذين جنّدتهم الحكومة السوفياتية ليحلوا محلهم في شبه الجزيرة.
ساد الصمت إزاء هذه الفظائع طوال عقود، وكان معظم الناس لا يعرفون شيئًا عنها، وحتى إن سمع بها بعضهم فإن الحقيقة الرهيبة تقتصر على الهمسات المتبادلة خلسة بعيدا عن أعين الرقابة السوفياتية الصارمة.
كسر حاجز الصمت
يلقي كتاب فينين الضوء على القصائد السرية والنصوص الأخرى المكتوبة سواء بلغة تتار القرم الأصلية أو بالروسية والتركية والأوكرانية، التي كسرت الصمت وساعدت تدريجيا على إحداث التغيير.
يقول فينين “غالبًا ما نتحدث عن القوة الأخلاقية للأدب، لكننا لا نرى غالبًا كيف تعمل”، ويضيف “لكن هذا الكتاب يوضح بالتفصيل كيف قام الأدب بتثقيف الناس بشأن جريمة ستالينية غير معروفة إلى حد كبير، وأثار ردود فعل عاطفية وألهم العديد منهم للقيام بأشياء شجاعة لدعم شعب مضطهد على بعد آلاف الأميال”.
أحد الشخصيات المحورية في الكتاب هو الشاعر بوريس تشيتشيبابين، وهو من قدامى المحاربين في الجيش السوفياتي الأحمر وأحد الناجين من معسكرات الاعتقال السوفياتية في سيبيريا المعروفة باسم الجولاج، نشأ في شرق أوكرانيا، وتحدث اللغة الروسية، وعرف نفسه على أنه جزء من الثقافة الروسية، لكنه أحبّ أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، حسب العرض الذي نشرته جامعة كامبردج للكتاب.
وفي أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، بعد مغادرة الجولاج، زار تشيتشيبابين -المولود في خاركيف الأوكرانية- شبه جزيرة القرم لكنه وجدها خالية تماما من تتار القرم الذين عاشوا هناك من قبل، فصُدم الشاعر وكتب على إثر ذلك قصيدته “Krymskie progulki” (نزهات القرم)، وهي القصيدة التي ستنتشر في جميع أنحاء الاتحاد السوفياتي، حتى تصل إلى تتار القرم النازحين أنفسهم.
يقول فينين “تلا تتار القرم قصيدة تشيتشيبابين في اجتماعاتهم وبكوا لأنها غرست شعورًا بأن الآخرين يمكنهم رؤية ما حدث لهم.. كان هذا الاعتراف مهمًّا جدًّا لحركتهم.. وكانت حركتهم هي الأكثر تنظيمًا في تاريخ الاتحاد السوفياتي.. ما فعله تتار القرم فعله المنشقون الروس والأوكرانيون لاحقًا”.
تواجه قصيدة تشيتشيبابين قاسمًا مشتركًا في جميع الأدبيات التي تتعامل مع الفظائع، وهي الحاجة إلى معالجة الشعور بالذنب، فقد كان ستالين وجهازه القمعي مسؤولين مسؤولية مباشرة عن جريمة الترحيل عام 1944، لكن تشيتشيبابين وكتّابا آخرين عدّوا أنفسهم وجميع المجتمع السوفياتي مسؤولين مسؤولية غير مباشرة.
يقول فينين “لكن هذه المسؤولية ذات وجهين لدى هؤلاء الكتّاب، كان هذا يعني أن المواطنين السوفياتيين يتحملون أيضًا مسؤولية الدفاع عن حقوق التتار، وهذه المسؤولية يمكن أن تكون عامل قوة”.
ويوضح فينين أن المشاعر التي أثارها شعراء مثل تشيتشيبابين ساعدت على إطلاق العنان لقوى التغيير، وفي عام 1989 سمح الاتحاد السوفياتي أخيرًا للتتار بالعودة إلى شبه جزيرة القرم، وندّد الكرملين بترحيلهم باعتباره عملًا “بربريًّا” من قبل ستالين.
يقول فينين “لقد كان إنجازًا رائعًا أن الفن والأدب كانا جزءًا من ذلك”.
وفي مارس/آذار 2014 ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم المطلة على البحر الأسود إلى أراضيها، عقب استفتاء قاطعه تتار القرم الذين تعود جذورهم في المنطقة إلى قرون طويلة؛ إذ كانت شبه جزيرة القرم مركزا لخانية القرم في الحقبة من 1441 إلى 1783، وهي دولة عريقة كان لها ارتباطها الثقافي والسياسي بالإمبراطورية العثمانية.
جرائم روسيا التي لا ينساها لهم تتار القرم المسلمون
شحنوهم في عربات للماشية وقتلوا نصفهم على الحدود!
في عام 2014 حينما استولت روسيا على شبه جزيرة القرم، دبَّ الرعب في قلوب شعب التتار الذي يسكن شبه الجزيرة، فالروس يحملون ضغينة قديمة تجاه التتار، ضغينة تاريخية أجَّجتها الحروب وكتب قائد الاتحاد السوفييتي ستالين عنوانها الأكبر بمحاولة إبادتهم، عداوة ورثتها الآلة الإعلامية السوفييتية للشعب الروسي، وهكذا بدأ كابوس جديد لشعب التتار يحرك داخلهم ذكريات الماضي الأليم الذي لا يختلف في شيء عن بشاعة ما يقوم به الاحتلال الإسرائيلي في الأرض المقدسة.
وهنا لكي تستطيع أن تفهم مقدار الألم الذي يحمله شعب التتار من القرم وأوكرانيا والأناضول تجاه الدولة الروسية خلال الحرب الدائرة الآن، دعني آخذك في رحلة عبر هوية ومأساة هذا الشعب الذي ينتمي لشعوبنا الإسلامية، بالمناسبة!
من هم تتار القرم؟
يقال إنه خلال القرن الثالث عشر، وصل باتو خان الحفيد المباشر لجنكيز خان مع شعبه لشبه جزيرة القرم، وهناك قهر شعوب المنطقة ودولها الصغيرة وأعلن أن المنطقة أصبحت جزءاً استراتيجياً من إمبراطورية المغول، ومن هنا بدأت العلاقات التجارية والثقافية الممتدة بين مغول القرم وروس موسكو.
وفي القرن الخامس عشر أصبح مغول القرم وتترها مجرد بقايا لمجد قديم للإمبراطورية المغولية؛ لذا سرعان ما دخلوا تحت راية الإمبراطورية العثمانية مع الحفاظ على وضع من شبه الاستقلال تحت مسمى الخان.
حكمت خان القرم شبه الجزيرة حتى عام 1783، حيث انتصرت الإمبراطورة الروسية كاثرين العظيمة على الإمبراطورية العثمانية، مستولية بذلك على شبه الجزيرة لتصبح جزءاً من امتداد الإمبراطورية الروسية.
في ذلك الوقت، خشي التتار المسلمون على حياتهم من بطش روسيا المسيحية الأرتودكسية، فبدأت الهجرة الجماعية لتتار القرم إلى تركيا، واستمرت هذه الهجرات إلى أن انتهت حرب القرم عام 1856.
بعد عام 1917 وبعد سطوع نجم الثورة البلشفية واغتيال قياصرة روسيا كانت شبه الجزيرة المعقل الأخير للجيش الأبيض الذي قاتل الشيوعيين، وبسقوطها أمام المد الشيوعي أصبحت القرم جزءاً من الاتحاد السوفييتي، ومن هنا بدأ الكابوس الحقيقي للتتار المسلمين.
الكابوس الشيوعي
خلال حكم الرفيق ستالين للاتحاد السوفييتي وقبل بداية الحرب العالمية الثانية، بدأ التسويق داخل سلك الحزب الشيوعي لفكرة التخلص من العرقيات والجنسيات والأديان التي لن تستطيع الاندماج والانصهار داخل الشعب السوفييتي النموذجي، وبالتالي تم اعتبار العرق التتري والمغولي والدين الإسلامي عناصر مضادة للشيوعية ويجب التخلص منها.
وهكذا في يوم الثالث عشر من شهر إبريل عام 1944 صدر الأمر من قيادة الاتحاد السوفييتي بأن يتم تهجير الشعب التتري من شبه الجزيرة قسراً وبالقوة إلى مناطق أخرى في كازاخستان وأوزبكستان، وكانت التهمة المعلنة لذلك الشعب أنهم عاونوا ألمانيا النازية خلال فترة احتلالها للقرم.
وعلى حسب وصف بعض الناجين: “أعطونا إشعاراً بأن أمامنا 30 دقيقة فقط! لم نكن نعلم أين سنذهب أو هل سنرى وطننا مرة أخرى يوماً ما”.
بعد الإشعار تم اقتياد ما يقارب المئتي ألف من شعب التتار خارج منازلهم بقوة السلاح، الرجال والنساء والأطفال وكبار السن، تم تحميلهم جميعاً في عربات شحن للمواشي والحيوانات، ومات نصف هذا العدد في الطريق عبر سيبيريا ووسط آسيا ومات الكثير منهم أيضاً بعدها.
تم ترك هؤلاء الناس في تلك البلاد والأرض الغريبة التي لم يألفوها يوماً دون منزل أو مال أو طعام أو حتى ملابس، تم طردهم من وطنهم والتخلي عنهم في العراء عقاباً على هويتهم ودينهم الذي يعادي السرطان الشيوعي والطغيان الروسي.
ثم في يوم الرابع عشر من شهر يوليو من نفس العام، صدر قرار من قيادة الاتحاد السوفييتي باستبدال شعب التتار المنفي من شبه جزيرة القرم بواحد وخمسين ألف روسي، وهؤلاء الروس سوف يسكنون في منازل التتار المنفيين.
وبشكل غريب تتماثل هذه الاستراتيجية مع استراتيجية الاستيطان التي يتبعها الاحتلال الصهيوني مع الشعب الفلسطيني، حيث يرحلونهم من منازلهم التي امتلكوها امتداداً لأكبر أجدادهم كي تسكنها عائلات يهودية أخرى في محاولة بائسة لتغيير ديموغرافية الأرض.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق