مسافرٌ بلا جواز!
يوم طارت الطائرة، وألقى الفتى المسافر بآخر نظراته على البلاد من الأعلى، لم يكن يتخيّل أنّه سيستهلك ولو عُشر صلاحية جواز سفره، لم يكن حالماً، لكنه لم يكن عالماً بالغيب كذلك، لم يكن يعرف أنّ الأشهر الثلاثة التي اضطر إلى الاقتناع بها، ليخرج ثم يعود بعدها، حتى تصبح الدنيا أهدأ قليلاً، ستتحوّل بشكل عجيب فجأةً إلى سبع سنوات، هي ذاتها مدّة صلاحية جواز السفر المصريّ، حين يتعيّن عليك خوض معركة تجديده.
حين أخبر أحداً من أصحاب الـ199 جوازاً لدول العالم، عدا مصر، بمعاناتنا في مسألة استخراج الأوراق الثبوتية وجوازات السفر في الخارج، فإنهم يفتحون أفواههم على مصاريعها دهشةً مما أقول، حتى هؤلاء الذين فرّوا من قصف النظام لهم ببراميل متفجرة وقنابل فوسفورية وسلاح كيماوي، يستطيعون تمديد جوازات سفرهم في الخارج.
لا أحد في الدنيا، ولا في سابع أرض، ولا الظالمين في كراسيهم، ولا الشياطين في أصفادهم، يجرؤون على معاقبة خصومهم "السياسيين" أو "الإرهابيين" حتى، بمنعهم من استخراج وثائقهم الثبوتية، ولا منع حديثي الولادة من شهادات الميلاد، ومن يفعل ذلك في الدنيا إلا النظام المصري؟ هذا النظام الذي يعاقب آلاف المقيمين في تركيا بشكل جماعيّ، بحرمان حقوقٍ هي أدنى بكثير من الحقوق الإنسانية، ولا تنتمي حتى إلى هرم ماسلو، ولا إلى هرم خوفو، ولا إلى أصغر هرم يبنيه طفل مصريٌّ من رمال الشاطئ في رأس البر!
الفقير المعدم، والجائع المسكين، والنائم بالعراء، والظمآن بلا ماء، كلّ هؤلاء الذين لا يمتلكون القاعدة الأولية، في سفح هرم الاحتياجات الأساسية للإنسان، يمتلكون بطاقات هوية، ويستطيعون استخراج جوازات سفر، ولهم حق السفر وحرية التنقل، وإن مُنعوا فلا أحد يستطيع منعهم من استخراج ألف جواز وبطاقة سفر وشهادة ميلاد، حتى لو كانوا سيبلّلونها ويشربون مَيِّتها (ماءها).
لا أجد نفسي إلا كارهًا لجواز سفري، لا أريد من الدنيا سوى أيّة ورقة، من أيّ مكان، ولو كانت تأشيرة إلى أقذر بقعة في الأرض، حتى أحصل على ما يثبت أنّني إنسان
لكن ما يحدث الآن، ومنذ سنوات، نوعٌ جديد من العقاب، تعطيل لحياة الناس ومصالحهم، حتى ولو ابتعدوا عنك آلاف الأميال، حتى لو سجنتهم من قبل أو فرّوا من سجنك أو لا علاقة لهم بك، حتى لو قاطعوا البلاد نهائيّاً وإلى الأبد، لا يريدون منها إلا دفتراً أخضر يمكّنهم من تقنين أوضاعهم في البلاد التي يفرون إليها، ولا يطمعون إلا في تجديد الجوازات التي معهم، واستخراج أوراق ثبوتية لهم، لا أكثر، لكن، كيف ذلك وأنت مصري في دولةٍ ما بالخارج؟
لا أستطيع فهم ذلك المنطق، ولا أستوعب مقدار الشر في نفس إنسانٍ فكّر بهذا كحلٍّ لردع المهاجرين إلى خارج البلاد، ولا أجد نفسي إلا حانقاً على هويتي، كارهاً لجواز سفري، مخاصماً لجنسيتي، لا أريد من الدنيا سوى أيّة ورقة، من أيّ مكان، بأيّ ثمن، ولو كانت تأشيرة إلى أقذر بقعة في الأرض، حتى أحصل على ما يثبت أنّني إنسان؛ الاعتراف الرباني من الخالق، الذي سلبتني السلطات في مصر منه، وتعاملني كأنني حيوان!
حتى الحيوانات لها جوازات سفر وبطاقات هوية وتعريف، ولكننا هنا، بتنا في وضع حقيقي، نحسد به الحيوانات، ليس على أنها تملك جوازات سفر، بل لأنّها ليست محكومة بـ"حيوانات" يمنعونها من حرية التنقل وأوراق الهوية!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق