- حسن الدقي
سأل أحد الإخوة الكرام من أفغانستان، كيف يمكن أن تُدار أفغانستان في ظل التحدِّيات الجسام التي تمرُّ بها، وكيف يمكن لأفغانستان أن تتجاوز الوضع الخطير والحاسم الذي هي فيه الآن؟ وكيف تتعامل مع الأوضاع الداخلية والأوضاع الخارجية؟
أولا: لا بُد أن أقول بأن أهل مكة أدرى بشعابِها، وأن الرجال والشعب المُبارك الذي تمكَّن من تحرير أفغانستان، وطرد فلول أخطر دولة صليبية على الأرض من بلاده وهي أمريكا، قادر بإذن جبار السموات والأرض على استكمال أشواط التمكين السياسي والاقتصادي بعد النصر العسكري؛ ولاشك بأنّ هذا السؤال خطير ومهم في مادّته وموضوعه وتوقيته، فالموضوع خطير، وكذلك التوقيت، لأن الأمر يتعلق بمصير شعب مسلم من شعوب الأمّة المسلمة، وهو الشعب الأفغاني، الذي إن فتح الله عليه في السياسة والاقتصاد كما فتح عليه في الجهاد، فإنّ هذا الفتح سوف ينفع الأمّة كلها، بل سينفع الشعوب التي بجانبه؛ لأنّ أفغانستان يمكن أن تصبح حينئذ قوّة عسكرية، وقوّة سياسية، وقوة اقتصادية، تنتفع بها لشعوب المسلمة التي حول أفغانستان، فموقع أفغانستان موقع خطير جدًّا، وبذلك تتمكن أفغانستان من قيادة آسيا الوسطى كلها؛ والسؤال خطير أيضًا لأنه يتعلق بحُرُمات الأمّة، يعني بدينها ودمائها وأعراضها وثرواتها وأرضها، فلذا السؤال خطير ومهم جدًّا، وهو بلا شك يتعلق بشأن الحكومة وبشأن طالبان حفظهم الله، وزادهم تمكينًا والإمارة الإسلامية وبشعب الأفغاني عمومًا.
ثانيا: إذا جئنا للإجابة على هذا السؤال، وهي إجابة الناصح والمُستشار المشفق، فإنّ الإجابة لن تكون مجرَّد أفكارا منثورة، أو مقترحات من هنا وهناك، ولن تكون تفكيرا يُرقّع بعضه ببعض، بل إن الإجابة ينبغي أن ترتكز على حقيقة شرعيَّة في المقام الأول، فإن ما يصيب الشعب الأفغاني الآن، ما هو إلا نازلة من النوازل الكُبرى، مع العلم بأن الأمّة كلّها تخضع لمجموعة خطيرة من النّوازل الكبرى، سواء كُنّا نتحدث عن الشعب الإندونيسي أو الشعب المسلم في الهند، أو الشعوب العربية أو الترك أو غيرهم،فجميع شعوب الأمة المسلمة تخضع لذات النوازل الكُبرى وذلك منذ قرن أو يزيد، لكن الأفغان حدث عندهم تطوّر كبير جدًّا، وهو أنه قد أضيفت عليهم نازلة جديدة وهي وتحدٍّ في آنٍ واحد؛وهي نازلة النّصر والتمكين، فالنّصر قد تحقق بفضل المولى عز وجل، والتمكين لا تزال أمامه أشواط، فالتمكين هو أن يصل الشعب الأفغاني والمجاهدون إلى مستوى لا يُمكن لعدوّ المشرق أو عدوّ المغرب أن يُسقطهم، أو أن يغيّر الوضع السياسي في أفغانستان، فإن أفغانستان هي أول دولة تتحرّر من وصاية الدول الصليبية وسيطرتها منذ مائة عام، وذلك منذ إسقاط الخلافة العثمانية وإسقاط بقية السلاطين والأئمة الذين كانوا موجودين في ثنايا المجتمعات المسلمة؛مع العلم بأن ذلك التحوُّل في تاريخ الأمة المسلمة لم يحدث منذ مائة فقط، بل منذ أكثر من ثلاثمائة سنة، لأنّ الصليبية العالمية بقيادة بريطانيا وفرنسا، وقبلها هولندا ذهبت إلى الأطراف في محاولتها لإسقاط الأمة تحت سيطرتها ثم تحوّلت إلى المركز، فذهبت إلى إندونيسيا وإلى ماليزيا وعموم جنوب شرق آسيا، ثم جاؤوا إلى الهند، وسيطروا على الهند، وإفريقيا فلما سيطروا على الأطراف، انقضوا على القلب، وهذا القلب تمثّل في اسطنبول وتمثّل في بيت المقْدس، وفي القاهرة، وفي دمشق، وفي بغداد، هذه المناطق المركزية، أي منطقة المساجد الثلاثة، بيت الله الحرام والمسجد النبوي وبيت المقدس؛ فالأفغان إذا يخضعون لنازلة كُبرى، هي نازلة إدارة النّصر والتمكين، فبعد أن نصرهم الله عز وجل، هل يتمكَّنوا من استكمال هذا النصر بالتمكين؟ والتمكين له أربع مسارات أساسية: مسار عسكري وأمني، وهذا قد حصل بحمد الله، ومسار سياسي، ومسار اقتصادي، ومسار اجتماعي، أي علاقة الحكومة بالمجتمع الأفغاني، ومكوّنات المجتمع الأفغاني، فهي أربع مسارات من التمكين، فالمفترض أن يكون في هذه المسارات الأربعة برامج واضحة، ماذا سيفعل الأفغان في العسكر والأمن؟ وماذا سيفعلون في السياسة والعلاقات الدولية؟ وماذا سيفعلون في الاقتصاد؟ وماذا سيفعلون مع المجتمع الأفغان؟ كيف سيعيدون بناء هذا البلد أو هذه المنطقة وهذا القطعة الغالية من بلاد المسلمين؟
ثالثا: فإذا كانت الإجابة على هذا السؤال هي مسألة شرعية في المقام الأوّل، ثم مسألة خِبرة واستشارة في المقام الثاني، يعني أنّ العلماء الذين يجيبون بحاجة أن يكون الخبراء في جميع المجالات إلى جانبهم، فكيف يُبحث هذا الأمرُ ومن أين يُبدأ به؟ الأصل هو أنّ هذه النازلة إنما ينبغي بحثها كما أمر الله عز وجل:
(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا)
النساء:83،
والشاهد قوله تعالى: “ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم”، ففي تفسير الطبري، عن قتادة يقول: إلى علمائهم، لَعَلِمَه الذين يستنبطونه منهم، لَعَلِمه الذين يفحصون عنه ويهمّهم ذلك. انتهى
فالإجابة إذن إنما هي مسألة يُجاب عليها في ضوء أصول الفقه وفقه النوازل والعلم الشرعي، فهذه نازلة واسعة تنظر فيها ويجيب عنها فئتان، فأما الفئة الأولى فهم علماء الشرع، ثم تبعا لهم يأتي الخبراء في جميع الشؤون السياسية والإستراتيجية والاقتصادية وغيرها؛ وبما أنهلا يوجد في الأمة مجتهد مطلق في هذه المرحلة، وهو الذي امتلك ناصية علوم الشرع كلها، وكانت لديه القدرة على أن يؤصّل وينظر في النوازل الكبرى منفردًا، فينبغي الذهاب إلى الحلول الأخرى، ومنها المجتهد الجزئي، أو مجتهد المذهب، في المذاهب: الحنفي والمالكي، والشافعي والحنبلي، وعلى فضل وبركة هذا الحل، لكن ينبغي ألا يُكتفى به، لأنّ المجتهد الجزئي ومجتهد المذهب سيبقى فردا فاجتهاده بحاجة للتدعيم والقبول من الأمة، وخير من يؤدي هذه المهمة هو الاجتهاد الجماعي؛ خاصة وأن الأمة قد غابت عن فقه السياسة الشرعية في إدارة التمكين فترة طويلة، فهناك فراغ في تجديد الفقه، وفي النظر إلى النوازل الكُبرى، ولا ينبغي أن يقتصر النظر على العلماء الأفغان -على فضلهم- وإنّما ينبغي أن يشاركهم العلماء من الأمّة المسلمة من شتى مواقع الأرض بحسب ما يتيسّر؛ ويشترط لذلك مكث هؤلاء العلماء في الساحة الأفغانية إن أمكن، لا أن يأتوا ليومين ثم يذهبوا، فيأتون ويستقرّون وتُهيأ لهم ظروف الاستقرار ومكاتب البحث والاجتماع، وأن يعكفوا على بلورة الرؤية السياسية والاقتصادية والاجتماعية لمشروع التمكين الأفغاني، ويشاركهم في ذلك الخُبراء لأن أحد أسس منهج أصول الفقه وفقه النّوازل، هو تصوير النّازلة، أي أنّ النّازلة ينبغي أن يُعرف كل ما فيها من التفاصيل، حتى يتسنّى للعلماء الشرعيين النظر فيها،واستخراج العِلل التي فيها، وربطها بأحكامها، إلى غير ذلك.
أما الخُبراء في الاقتصاد وفي الاجتماع وفي السياسة وغير ذلك، فكلما كانوا علماء موالين لله ولرسوله والمؤمنين، كلما كان نفعهم أوضح، أما الخبراء من العلمانيين والشيوعيين السابقين وما أشبه، فهم خطر على الأمّة.
رابعا: ومن الخطوط العريضة والمكملة لما سبق، أن من أهم المسائل الكُلِّيَّة والمطلوبة في هذه المرحلة من التمكين، هي مسألة بلورة وتحديد النّظام السياسي، الذي سيُحَكمُ به الشعب الأفغاني؟ فالأمة المسلمة أمام ثلاث خيارات في النّظام السياسي الذي ستأخذ به، فإمّا أن يذهب الأفغان إلى إحياء نظام المُلك العاضّ، والذي أطلق عليه فقهاء عصر المُلك العضوض «إمامة المُتغلِّب»، مثل دولة بني أمية وبني عباس والأكراد والمماليك وانتهاء بالعثمانيين؛ وهو المُلك الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأطلق عليه صفة «العضوضية»، أو الملك العاض، لأنّه حَرَم الأمة من أحد أهم الأصول التي تقوم عليها الإمامة في الإسلام، وهو سلطان الأمّة، وحقها في قيام أهل الحلّ والعقد وجميع الناس من ورائهم، باختيار وتوليَة من يعتقدون بأنه الأفضل للقيام بمهمة إدارة شأن الأمة السياسي؛ فإن أصحاب الملك العضوض حَوَّلوا الحكم إلى وراثة، فلم يتمكنوا من استثمار أعظم ما في أصول النظام السياسي الشرعي، فسقطوا في الهرقلية والكسروية؛ صحيح أنهم أبقوا على الجهاد وأبقوا على مرجعية الشريعة وأبقوا على الأخوة الإسلامية الجامعة في الأمة، الأمر الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالخير الذي فيه دَخنٌ؛ لكن ليس هذا هو الحكم الشرعي المطلوب، والمأمورة به الأمة به شرعًا، بل الذي أمرنا به النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عَضُّوا عليها بالنواجذ).
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بأن المُلك العضوض سوف تليه مُلكا جَبريَّة؛ وهي هذه الفترة التي مرّت على الأمّة منذ أن سقطت تحت سيطرة الصليبية والشيوعية، فقاموا بتولية عملائهم كحكَّام للمسلمين، فالخيار الثاني أن نذهب إلى المُلك الجبري، حتى ترضى عنّا اليهود والنّصارى، في دولة جمهورية أو مَلَكيَّة أو عسكرية، لكن حتما ستكون خاضعة للأنظمة الصليبية، أو النظام الشرقي في الصين أو في روسيا، وحاشا الأفغان وحاشا أمة الإسلام أن تستمر في هذا الطريق.
والخيار الثالث: هو النّظام السياسي الراشدي، وهو في الحقيقة ليس بخيار، بل واجب شرعي، كما أمر الله عز وجل المؤمنين بقوله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) الآية، فهو واجب وبشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخبَرُه،بأن المُلك الجَبري ستليه خلافة على منهاج نبوة؛ أي أن تُحيي الأمة المسلمة أصول الحكم السياسي الراشدي في الإسلام؛ وهو ما يقتضي مجموعة من الأمور، التي فعلها النّبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده، فإنّه صلى الله عليه وسلم أقام دولة الإسلام على عقد ودستور، وعلى مرحلتين، فأما المرحلة الأولى فهو ما حدث بينه وبين الأنصار رضي الله عنهم في بيعة العقبة الثانية، فحدّد للصحابة واجبهم والعقد الذي بينه وبينهم، في إقامة دولة الإسلام، وحدد الأنصار مطلبهم، فقال المتحدث عنهم، أبو الهيثم بنُ التيِّهان، فقال: يا رسولَ الله، إنَّ بيننا وبيْن الرِّجال حبالاً، وإنَّا قاطِعوها -يعني: اليهود- فهل عسيْتَ إنْ نحن فعَلْنا ذلك ثم أظهرَك الله أن تَرجِع إلى قومِك وتدَعَنا؟ فتبسَّم النبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- ثم قال: (بل الدَّمَ الدَّم، والهَدْمَ الهَدْم، إنَّا منكم وأنتُم منِّي، أُحارِبُ مَن حاربتُم، وأُسالم من سالمتُم) فعندما سأل الأنصار حول المدى الزمني لهذا العقد،حدَّدَ لهم النبي صلى الله عليه وسلم معالم العقد السياسي بشكلٍ واضح لا لبس فيه، وبايعوا النّبي صلى الله عليه وسلم على هذا، ثم جاءت المرحلة الثانية، وهو إقدامه صلى الله عليه وسلم على ترسيم صحيفة المدينة، الأمر الذي استكمل تحديد الأبعاد الدستورية في الدولة الجديدة، فهي سُنَّة من سُنَن الرُّشد.
وهنا ينبغي أن نفرق بين دستور النظام السياسي الراشدي ودستور النظام الديمقراطي،فالفرق بينها كبير وشاسع، كالفرق بين أصول النظام السياسي الرَّاشدي وبين فلسفة وأهواء اليهود والنصارى، التي أمر الله عز وجل نبيَّه أن يَحْذَرَها، بقوله سبحانه: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) الآية، فالعمل بدستور النظام الديمقراطي، إنما هو عمل بفلسفة اليهود والنّصارى،ولن يوصلنا إلى شيء، بل سيرجعنا إلى أحضانهم مُجدّدًا، وإلى سيطرتهم، وإلى أن نكون عبيدًا تحتهم، فهذه مُهمَّة “الديموقراطية” التي يرفعون لواءها في بلاد المسلمين؛ فالواجب أن نحيي سُنَن الرُّشد التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، وأوصى باتباعها، أي باتباع الخلفاء الذين سيعملون بها؛ ونلاحظ في قوله صلى الله عليه وسلم: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين)فإن السُّنَّة المقصودة في الحديث ليست مُطلَق السُّنَّة، وإنما هي السُّنَن المُتعلِّقة بالخلافة، أي بتصرُّفات الخُلفاء وأعمالهم التي فعلوها في الخلافة،وتصريف شؤون الأمة، وهي مرحلتين مرحلة أبي بكر وعمر،ثم مرحلة عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، وقد تتبع العلماء أصول الحكم في الإسلام، لكن أهم من كتب في وقتنا هذا هو الدكتور حاكم المطيري،ولديه كتب مهمة وجديرة بأن تستحضر ويُستفاد منها في إحياء سُنَن الرُّشد.
ومن أصول النظام السياسي الرَّاشدي التي ينبغي أن يحييها الأفغان في دولتهم الجديدة، حتى يتمَّ لهم التمكين، تفعيل سُنَّة أهل الحلّ والعقد على مستوى الأمة الأفغانية، في إقامة النظام السياسي، وذلك وفق شروط أهل الحل والعقد المعروفة في الشرع؛ وقد حاولت في كتاب مشروع تمكين الأمة المسلمة، أن أطرح مشروعا تطبيقيا كاملا حول أهل الحل والعقد، لعل الله عز وجل أن ينفع به المسلمين؛ وأهل الحل والعقد يتقدَّمهم العلماء الشرعيون، ثم المجاهدون أهل الشوكة، ثم الخبراء والعلماء المتخصصون في مختلف الشؤون، ثم قيادات القبائل، والذين لهم كلمة في مجتمعاتهم، أولئك وأمثالهم يلتحقون بأهل الحلّ والعقد؛ وحتى ينتظم شأن المجتمع الأفغاني كله في النظام السياسي الرَّاشدي، فإن أهل الحل والعقد الذين يمثلونهم ينبغي أن يكونوا على ثلاث مستويات،المستوى الأول المركزي، هو مستوى أهل الحل والعقد الذي يمثل كافة الأفغان، أي على مستوى الدولة، ثم يأتي المستوى الثاني وهو مستوى الإقليم الكبير، ثم يأتي المستوى الثالث، وهو مستوى المحافظة الصغيرة، وبغض النظر عن المُسمَّيات في تقسيم الولايات في أفغانستان، فأهل الحل والعقد تنتظمهم دوائر ثلاث، من المستوى الصغير إلى مستوى الإقليم الذي يتكوَّن من عدة محافظات، ثم مستوى الدولة ككل.
وبعد أن يكتمل نظام وتأسيس أهل الحل والعقد وشأنهم، الذي ينبغي أن يكون شأنا دستوريا وليس شأن متروكا للأمير وما يقرره؛ ومن ذلك تقرير طبيعة السُّلطة التي يتمتَّعون بها، وشكل العلاقة التي تحكم أهل الحل والعقد برأس النظام السياسي، أي الإمارة ومؤسساتها، وأهم ما في وضوح علاقتهم برأس السَّلطة هو دورهم في محاسبة السُّلطة التنفيذية، وتطبيق مبدأ الشورى المُلزمة وليستْ المُعلِمة، في القضايا الاجتهادية أو المصالح المُرسلة، لأنّ الشورى المُعلمة هي التي عمل بها أصحاب المُلك العضوض، فاستحقوا بذلك لقب «العضوضية»، لأن انفرادهم بالسُّلطة والثروة دون محاسبة، دعهم لا يلعبون بالثروة وحدها، وإنما لعب بعضهم بالمصالح العُليا للأمة وفرَّطوا فيها، ولم تستطع الأمّة أن تحاسبهم حسابًا جيّدًا، لأنّ المعمول به هي الشورى المُعلمة، بينما حقيقة النظام السياسي الراشدي أنه لا يعمل إلا في ظل الشورى المُلزمة، وفي ظل مُحاسبة رأس النظام مهما بلغت مكانته، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني) إلى أن قال: (أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم).الأمر الذي يجعل لأغلبية علماء المسلمين وأهل الحل والعقد إن ذهبوا باتجاه معين، أن يُلزموا الأمير بأن يتبع هذا المسار؛ وبدون تطبيق هذا المبدأ فإن الأمير سيعمل بما يشاء، ويوزّع الثروة كيفما يشاء، ويورِّث السُّلطة لمن بعده من داخل النظام أو الأسرة، ولا يمكن أن يُحاسب أيَّ مسئول حسابا حقيقيا دون محاسبة رأس النظام، والنص عليه في الدستور؛ ومن هنا ينبغي أن يبدأ الأمر بدستور، وإن هذه النفرة الشديدة التي يبديها بعض العلماء من مصطلح “دستور”، لأنهم يَظنُّون أن الدستور لا يكون إلا في ظل النظام الديموقراطي، وأن النظام السياسي في الإسلام لا دستور فيه؛ فيؤدي بهم ذلك إلى نبذ سُنَّة من سُنَنِه صلى الله عليه وسلم في إدارة شأن الأمة السياسي، ثم ينتقلون من السيطرة الكاملة على السُّلطة دون محاسبة، إلى الطغيان وتوريث المُلك حتما.
والدستور هو الذي ينظِّم شأن الأمة السياسي، ويعيد وضعها على توازن في الحقوق والواجبات، لجميع شرائح المجتمع، وقد أثبت واقع الأمة المسلمة بل وجميع البشر بأن الدستور ضرورة للمجتمعات البشرية في تحديد مبادئ دولتهم، ورسم حدود السُّلطات وتوزيعها وتوازنها، فينبغي أن يوضّح الدستور المسائل الكُبرى في طريقة الحكم، وكيفية تداول السلطة، وكيف يأتي الرئيس أو الأمير، وكيف يأتي الوزراء، وكيف تأتي بعد ذلك بقية مؤسسات الدولة، وكيف تتوازن السُّلطات الأساسية فيما بينها، وهي السُّلطة التنفيذية، والسُّلطة القضائية والسُّلطة التشريعية أو الرقابية، وقد حقق الدكتور حاكم المطيري في كتابه (تحرير الإنسان وتجريد الطغيان) مسألة استقلال وتوازن السُّلُطات في النظام السياسي الرَّاشدي، فوجد أنّ أبا بكر وعمر رضي الله عنهما مَيَّزا تلك السُّلطات الثلاث، وحققا من خلال سُنَنِهما في الخلافة، التوازن بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، وهذه الأخيرة تمثَّلت في أهل الشورى من الصحابة حول أبي بكر وعمر رضي الله عنهم جميعا، فهذا التوازن بينتلك الكُتل الثلاث ينبغي أن يكون واضحًا في الدستور، وبالتالي يستقر الأداء السياسي بين فئات الشعب الأفغاني، ويعرف النّاس ما لهم وما عليهم، أمّا إذا بقي الأمر خاصا وقاصرا على ثلة ومجموعة من العلماء والأمراء، فإنّ المعادلة السياسية توشك أن تختلّ،ويوشك الأعداء أن يوظفوا هذا الخلل باتجاه إبقاء أفغانستان في حالة من عدم الاستقرار السياسي.
وينبغي أن يتمتع أهل الحل والعقد صلاحيات في إدارة محافظاتهم وتنميتها اقتصاديًا، والنّظر في إشكالياتها؛ لأنّه كلما تركزت الصلاحيات في الحكومة المركزية، كلما فسد الحال في أي دولة من الدول، وصعُبَ على الإدارة المركزية متابعة وتحقيق مصالح المناطق، مهما أبدت القيادة المركزية من اهتمام ومن إعلانات وخطط، فإنها لا تستطيع أن تنفذها من خلال المركزية ودون تفويض الصلاحيات، بل تبقى مجرد أحلام.
ولا بدّ أن يُعطى النّاس صلاحيات مفتوحة وكبيرة في المراكز، في إدارة شؤونهم وزراعتهم واقتصادهم، وإدارة الثروة وإلى غير ذلك من المسائل، ثم لا بدّ أيضًا من العناية بمراكز البحوث المتقدمة، ويُفضّل أن يكون أكثر من مركز حتى يتنافسوا لخدمة الشعب الأفغاني، بحيث يتخصص كل مركز في شأن أو في أكثر، كأن يتولى أحد المراكز الشأن السياسي، ويتولى آخر الشأن الاجتماعي، وثالث يتولى الشأن الاقتصادي، ورابع يتولى الشأن الأمني والعسكري، وهذه تتكامل المراكز البحثية فيما بينها، وتتعمق بحوثها ودراساتها ويصبح فيها متخصصون، وترتبط بها جامعات وكليات محسوبة عليها، وتقدم من خلالها رسائل ماجستير ودكتوراه وبحوث متخصصة؛ فبهذا تُدار الدّول، وهي لا تُدار بوزارة الدفاع ووزارة الدّاخلية فقط، فإن الهياكل الحكومية تبقى فارغة، إذا لم يتم إسنادها بأصحاب العقول وأصحاب الخبرة.
ومن أهم واجبات مراكز البحوث وضع الخطة الإستراتيجية الشاملة في الأمة الأفغانية، تحدد الغايات الكُبرى خلال أربعين سنة أو خمسين سنة قادمة،وتحدد أخطر وأهم الأزمات التي ينبغي التركيز عليها، فهناك أدوار خطيرة وكبيرة في إدارة الوضع في أفغانستان، في التجارة الداخلية، وفي العلاقات الخارجية، وفي الثروة بكل أنواعها، التعدين والثروة الحيوانية والطاقة وحلولها، ومن ضمنها الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والأنهار، والنهضة الاقتصادية عمومًا وتجاوز الأزمات تجاوزا حقيقيا، بحيث يسعى الأفغان لاختراق المعادلة الاقتصادية والتنموية التي تحاول الدول المعادية أن تضعهم فيها، وأخطر هذه المعادلات هي المعادلات الاقتصادية والتنموية، فلابد من اختراق هذه المعادلات، فأفغانستان فيها من الثروات وفيها من الطاقات البشرية ما يُتيح فعْل ذلك الاختراق.
فمن النماذج العملية التي يمكن من خلالها اختراق أزمة الطاقة، أو التخفيف منها في واقع الشعب الأفغاني، أن تبادر الحكومة الأفغانية إلى إعداد طواقم من الشباب في هذا المجال من التخصص النظري والتطبيقي، وإنشاء المختبرات المتخصصة في الطاقة الشمسية، وإرسال الشباب إلى بلدان العالم لتحصيل هذا العلم وتطبيقاته المختلفة، فمنهم من يذهب إلى كوريا الجنوبية كمثال أو الصين، ويسجلون في كلياتها وجامعاتها، ويذهبون إلى أسواقها وفحص منتجاتها، فإذا رجعوا بدأوا في التجريب والتطبيق العملي حتى لو أخطأوا، فلا يضيرهم أن يجرّبوا مائة مرّة ويفشلوا، فالتجربة مائة وواحد ستنجح بإذن الله عزوجل، وكذلك في المسائل الإلكترونية الدقيقة، والطائرات المسيّرة إلى غير ذلك.
كما يتوجب على الحكومة الأفغانية النظر في اختراق الوضع الاقتصادي، وإخراج الأمّة من الجوع والحاجة، كما فعل سيدنا يوسف عليه السلام عندما قال: (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)، فما هي الخزائن التي عناها سيدنا يوسف عليه السلام؟ لم تكن خزائن ذهب، وإنما خزائن القمح، ولذا: (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ) الآية، فإدارة الإنتاج الزراعي هي المسألة الأهم، سواء كان المنتج قمحا أو أرزا، وبقية المنتوجات الغذائية والزراعية المهمة في أفغانستان،فلا بد من تسريع وتنظيم عمليات الإنتاج الزراعي،وإعادة تنظيم العاملين في هذا القطاع، فالناس ينقصهم التنظيم؛ولو أبقينا الفلاحين في قرى أفغانستان بنفس طرائقهم فلن ينتجوا للأمة الإنتاج الذي تحتاجه، فإن الإنتاج العالمي الآن يسمى (الإنتاج الضخمMass Production)، وهذا لا يتأتى إلا بأن يتم تنظيم الطاقات البشرية العاملة في هذا المجال، فإذا دارت عمليات الإنتاج الزراعي الضخم وشبعت الأمّة، وخرجت من دائرة الجوع ودائرة العِوَز والحاجة، حينئذ سوف يتحرَّك الشعب إلى مناطق أخرى من التنمية والنّهضة الاقتصادية بإذن الله.
فهذه إجابتي للأخ الكريم الأفغاني السائل، فإن وفقت فيها فهو من الله عز وجل وتوفيقه، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق