الرقص على مسرح التخرج!
محمد إلهامي
أتذكر في حدود عام 2000 كتب د. عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- يحذر من أغاني "روبي"، لأنها تعتمد أسلوبا يُطَبِّع التعري والفاحشة مع أنماط المجتمع كلها، وهذا من شأنه أن يشيع الفاحشة ويجعلها نمطا طبيعيا ومحتملا في كل مشهد.
يعني ببساطة: الراقصة التي ترقص في كباريه هي تعبر عن درجة من الإباحية والانحلال والفسوق والفجور، ولكن كونها تفعل هذا في المكان الطبيعي للفجور والفسوق، هو ما يجعل بقية الأماكن تحتفظ بتقاليد وخصائص الاحترام والأخلاق.
فالإنسان نفسه ستشتعل غريزته ويتهيأ لممارسة الفجور والانحلال حين يدخل الكباريه، سيرى في كل امرأة داخل الكباريه فرصة للفسوق والإغراء. لكنه -هو نفسه- إذا خرج من الكباريه فلن يتعامل مع المرأة التي في الشارع أو المواصلات أو النقابة إلا باعتبارها امرأة محترمة، ولن يفكر فيها كفرصة للفجور والفسوق إلا في احتمالات ضيقة للغاية.
فإذا خرجت الراقصة -بثياب الرقص- ومارست هذا في الميادين العامة، أو في المواصلات، أو في الأندية، أو في النقابات.. فإنها بهذا تُطَبِّع صورة الراقصة في المجال العام، تجعل الرقص نفسه سلوكا غير مستنكر ولا مستهجن.. وبالتالي، فإنها بفعلها هذا ستكون قد جعلت كل امرأة في كل مكان فرصة محتملة للفسق بها.. فكل امرأة في أي مكان يمكن التفكير فيها باعتبارها فرصة.
لا أدري هل استطعت تبسيط الفكرة أم لا.
لئن كان المسيري يُعَلِّق على نمط معين من أغاني الفيديو كليب التي انتشرت مطلع هذا القرن، فالفكرة ذاتها قديمة وبدأت قبل المسيري.. فالمُدَرِّسة التي ترتدي الثياب القصيرة وهي تدرس للشباب في المدرسة الثانوية قد أثارت هذه الغريزة في مجال المدرسة الذي كان محفوفا دائما بالقيمة العليا للمدرس، وبالعلاقة الأبوية الأخلاقية بين الطالب والمعلم.
حدث هذا بقوة في الخمسينات والستينات، وقت هيمنة الشيوعية على مصر، وإذا بالمرأة التي أُخرجت من بيتها إلى التعليم في بداية القرن بدعوى التعلم والتطور وتربية الأبناء، قد صارت إلى أن تكون موضع شهوة وهي تدرسهم، حيث يفترض أنها ستعلمهم وتربيهم..
وبهذا خرجت الفاحشة من مواطنها لتخترق مواطن العفة والحياء والآداب العتيقة.
ويقال مثل هذا في المغنية التي كان يؤتى بها لإمتاع الرجال في الحانات..
لقد جاءت أنظمة حاكمة احتكرت وسائل الإعلام، فأخرجت هذه المغنية لتضعها على المسرح وتنقل غناءها -ذي الألفاظ المترعة بالحب والحرمان- عبر الأثير والتلفاز، ثم تجعلها قدوة ونجمة من نجوم المجتمع!!
ويقال هذا في الممثل والطبّال وسائر المهن التي كان يُنظر إليها باحتقار.. فارتفعوا بفعل النظم الحاكمة التي تنشر ثقافتها ليكونوا قدوات، تنمو ثرواتهم المالية، فينمو وضعهم الاجتماعي، فيتطلع الناس إليهم.
وبعد المسيري تفجر الوضع بأبشع ما يكون..
لقد عملت صناعة الإباحية على تطبيع الفاحشة في كل شيء، في كل شيء حرفيا.. الآن، في ذهن كل شاب أن كل امرأة يمكن أن تكون فرصة..
لقد صنعت الإباحية شلالا من الأفلام التي تصور الفاحشة في كل مكان وفي كل موقف:
في المدرسة، في العيادة، في المكتب، في المصنع، في المصعد، في الطائرة، في القطار، في الحافلة، في السيارة، حتى في الكنيسة!!..
وعملت صناعة الإباحية على تلويث الجميع: الصغير والكبير، الشاب والعجوز، المتعرية والمنتقبة، الطبيب والممرضة، المدير والعاملة، عامل الديليفري وربة المنزل، حتى القسيس والشيخ والأب والأم والأخ والأخت!!..
وبهذا لم يعد ثمة مكان ولا زمان ولا موقف يتوقف فيه الذهن عن الخيال الفاحش، فكل مكان، وكل امرأة، وكل موقف، وكل علاقة.. يمكن بالقليل -أو بالكثير- من المحاولة أن تفضي إلى الفاحشة!
لقد تم بنجاح تطبيع الذهن مع الفاحشة، فصار يتوقعها -وربما يشتهيها- في كل مكان وفي كل موقف!!
ومع ذلك فقد بقي بعض الأمل..
إن هذه المواقع الإباحية بقيت بعيدة عن بعض أناس يخافون الله ويقاومون أنفسهم، أو حتى بعيدة عن أناس لم تصل إليهم التقنية الحديثة ولم يتعودوا استعمالها!
هؤلاء الذين أفلتوا من مخلب الإباحية انتشبت فيهم مخالب مواقع التواصل الاجتماعي التي تدرجت بل تدهورت نحو الإباحية..
هذه الوسيلة الشيطانية التي تسمى "عداد المتابعين" جعلت كل من يطلب التقدير ويشعر بخدش في ثقته بنفسه يهرع ليفعل ما يجعله يكتسب هذا التقدير ويستعيد هذه الثقة بالنفس.. وفي عالمنا التعيس هذا الذي جعل المرأة سلعة، وأدخلها في منافسة مع كل نساء العالم التي تنهمر صورهن من كل إعلان في الطريق وعلى الهاتف المحمول.. في عالمنا التعيس هذا الذي أقنع المرأة أن تحررها كامن في تعريها.. وقعت المرأة في المنافسة المحمومة الشرسة الجبارة.. فكان أسهل ما عليها أن تتعرى وتتدلل وتبذل من نفسها ما تشعر معه أنها جميلة مرغوبة!!
وكان هذا هو الفخّ.. إن المنافسة المحمومة ذاتها قد اشتعلت عبر "عداد المتابعين" و"عداد المعجبين" و"أعداد التعليقات"..
ثم زادت هذه المواقع من وسائلها الشيطانية، فأضافت إلى "عداد المتابعين والمعجبين والتعليقات".. أرباحا مالية.. لقد صار يمكن الآن أن تكسب فوق الثقة بالنفس وتعليقات الإعجاب أموالا أيضا!
وهنا انهارت فعليا حواجز أخلاقية كثيرة.. لقد صار الرجل يُصَوِّر امرأته -بأقصى ما تسمح له حدوده الأخلاقية والاجتماعية- في مواقف، يريد بذلك أن يستجلب بها المال من عداد المشاهدات والمعجبين.. ودخل هؤلاء جميعا في المنافسة.
في واقع الأمر، فهذه المنافسة تتسبب تدريجيا في كسر المزيد من الحواجز الأخلاقية، وفي النزول المتدهور في المستوى الأخلاقي والاجتماعي العام.. فتحت ضغط شهوة المال وشهوة الإعجاب تتفلت النفوس من حواجز الأخلاق.. ومع كثرة المتفلتين يصير المنكر معروفا!
لقد استخرجت مواقع التواصل أفكار البشر الإبداعية تحت مداعبة شهوتهم في الشهرة والمال وحب المدح، وصارت الفاحشة ومقدماتها حاضرة في كل لحظة، في كل مكان، في كل موقف..
لقد صار النهي عن المنكر بحاجة إلى "استشهاديين" حقيقيين، أولئك الذين لا ينكسرون تحت ضغط التيار الهادر المنتشر، يحافظون على حدود الأخلاق التي صار يراها الناس خيالا عتيقا وقديما!
ويجب أن أقول أيضا: إن هذه الأنظمة الحاكمة هي جزء من نشر الفاحشة والفجور، بل هي تعمل له وتدأب في ذلك.. ولو أن عندهم بقية من دين أو من شرف لحاربوا الفاحشة كما يحاربون من يسمونهم "الإرهابيين"!! ولكان الحال غير الحال!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق