الدرة
(( إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ، إِنْ سَاحَ طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ ))
الامام الشافعي
الاثنين، 2 يونيو 2014
الأساطير المؤسِّسة للنظام المصري الجديد
الأساطير المؤسِّسة للنظام المصري الجديد
فهمي هويدي
لا نستطيع أن نتقدم نحو المستقبل الذى ننشده ما لم نتخلص من بعض الأساطير التي نسجناها حول النظام المصري الجديد.
(1)
أمهد بثلاث ملاحظات أزعم أنها تساعدنا في استيعاب ما أدعو إليه، هي:
- العرب جميعا ونحن منهم من هواة تضخيم الذات. وهو ما عبر عنه الشعراء منذ الجاهلية. حتى إن عمرو بن كلثوم -أحدهم- قال في بيت شهير له:
"إذا بلغ الفطام لنا صبى** تخر له الجبابر ساجدينا"
هكذا بقدرة قادر. وقد سار على دربه كثيرون، منهم أبو فراس الحمداني في العصر العباسي الذى قال:
ونحن أناس لا توسط بيننا
لنا الصدر دون العالمين أو القبر
أعز بنى الدنيا وأعلى ذوي العلا
وأكرم من فوق التراب ولا فخر
ولو أوردت ما ذكره في ذلك المقام المتنبي وأبو تمام والبحتري وابن الرومي لاحتجت إلى أضعاف المساحة المتاحة.
- إن حالة النفخ في الذات التي تنطلق من التمني وليس من الواقع لها تأصيلها الأكاديمي، فعلماء النفس يتحدثون عن حالة الذين يعيشون في الوهم، ويصفون من ينفصل عن واقعه ويحاول العيش فيما يتمناه بأنه ضحية ما يسمونه بالتفكير الآمل، ويعتبرون من يصر على التعلق بالوهم ويرفض ملامسة الواقع بأنه ضحية التضليل الآمل. والاثنان يجسدان درجات متفاوتة من محاولات الانفصال عن الواقع.
حين يقال إن أكثر من 90٪ من المصريين أيدوا المشير السيسي، فإن ذلك لا يعد خطأ علميا وسياسيا فحسب، ولكنه يعني تجاهل كل الشقوق والتمايزات والجراح التي يحفل بها الواقع المصري
- إن باحثي العلوم السياسية يفرقون بين التصويت في الانتخابات واستطلاعات الرأي العام. ولا يعترفون بنتائج الانتخابات ضمن وسائل استطلاع الرأي، لأن التصويت في الانتخابات تتعدد أسبابه.
إذ كما أن البعض يصوت تأييدا لمرشح ما واقتناعا به، فإن آخرين قد يصوتون لصالح طرف احتجاجا على طرف آخر (الحكومة مثلا) وقد يصوتون ليس اقتناعا بمن صوتوا له ولكن لإسقاط مرشح آخر. وقد يكون التصويت له أسبابه العائلية أو الجهوية، كما قد يكون الدافع إليه هو الخوف من الغرامة مثلا. ناهيك عن أن أعدادا غير قليلة يصوتون لشخص ليس اقتناعا به، وإنما استجابة لنداء وضغوط الحكومة، أملا في أن يساعدهم ذلك على توفير احتياجاتهم أو تحسين أوضاعهم التي تتحكم فيها السلطة. إلى غير ذلك من الدوافع التي لا علاقة لها بتأييد شخص المرشح أو قبوله. وذلك كله مختلف عن استطلاع الرأي الذى يتوجه إلى كل واحد في العينة ويسأله عن حقيقة موقفه إزاء الأشخاص والظواهر المختلفة.
(2)
ما سبق يساعدنا على أن نشير إلى الثغرات التي تخللت قراءتنا لنتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة في مصر (26 و27 و28 مايو). ذلك أن بعضنا تعامل مع النتائج بحسبانها قياسات للرأي العام. ومن ثم استخدمها في القفز فوق الواقع وتجاهل تضاريسه. وتلك مسألة خطرة للغاية.
فحين يقال إن أكثر من 90٪ من المصريين أيدوا المشير السيسي، فإن ذلك لا يعد خطأ علميا وسياسيا فحسب، ولكنه يعنى تجاهل كل الشقوق والتمايزات والجراح التي يحفل بها الواقع المصري. ناهيك عن أنه سَوَّغ للبعض أن يقولوا إن معارضة السيسي في هذه الحالة تعد عملا غير وطني. بكلام آخر فإنه حين يبنى التحليل المعتمد على أن النتائج عبرت عن الاكتساح والاصطفاف والإجماع، فإننا نصبح بصدد حالة من الإنكار تبعث على القلق الشديد.
إزاء ذلك فلعلى لا أبالغ إذا قلت إننا بصدد اصطناع فكرة الزعيم الذى يتعلق به أمل الأمة، والمخلِّص القادم من رحمها ليعيد إليها الرفاه بعد الفقر والعدل بعد الجور، ويخرجها من ظلمة الإحباط واليأس إلى نور المستقبل المشرق. وإذا صح هذا التحليل فإنه ينبغي أن يخيفنا لسبب جوهري هو أن تلك مقدمات تمهد للحاكم المستبد والفرعون الجديد.
ليس كل من جلس على مقعد الرئاسة زعيما حيث الزعامة يصنعها إنجاز الرئيس وليس منصبه. ومن الخطورة بمكان أن يعلق الأمل على فرد وأن يعد مخلصا لمجرد أنه حظي بالتأييد في لحظة تاريخية معينة. فذلك يظلمه بقدر ما أنه يظلم المجتمع إذ يهمشه ويلغيه.
وفى الظروف التي تعيشها مصر بملايينها التسعين فإن حملها أثقل بكثير من طاقة أي فرد مهما بلغت قدرته، ولن يحملها حقا سوى مؤسسات قوية تتحرك في بيئة حرة وفى ضوء إستراتيجية نهضوية واضحة المعالم.
لو أننا تخلينا عن أسطورة المخلِّص الذى وصفه أحدهم بأنه رسول بعثه الله لينقذ مصر، واعترفنا بأن نجاحه كان نسبيا ولم يتحقق باكتساح أو ضربة قاضية لكان ذلك أصدق وأعدل. ليس فقط لأنها الحقيقة التي ينكرها ضحايا "التضليل الآمل" ولكن أيضا لأن ذلك يؤكد له أن ثمة قطاعا في المجتمع ليس مستعدا لأن يوقع له على بياض، وإنما له شروطه التي يجب أن تستوفى وتحفظاته التي يجب أن تراعى.
فى الظروف التي تعيشها مصر بملايينها التسعين، فإن حملها أثقل بكثير من طاقة أي فرد مهما بلغت قدرته، ولن يحملها حقا سوى مؤسسات قوية تتحرك في بيئة حرة وفى ضوء إستراتيجية نهضوية واضحة
لقد انتخبت الأغلبية "الرئيس" ولكن البيروقراطية المصرية وشبكة المصالح التي تحالفت معها مؤقتا ضغطت بقوة واستخدمت أساليب الترغيب والترهيب المعروفة، لكى تحول انتخاب الأغلبية الى اكتساح، ولكى تصنع من الرئيس زعيما ومخلصا. ولا اعتراض على إطلاق مثل تلك الأوصاف بطبيعة الحال شريطة أن تكون ثمرة الإنجاز وليست ألقابا محررة سلفا في شهادة الميلاد.
(3)
في 21 مايو/أيار الماضي أعلن مركز "بيو" الأميركي للدراسات نتائج استطلاع للرأي أجراه في مصر تضمن مجموعة من النتائج المهمة الجديرة بالملاحظة والانتباه.
وربما لأهمية وحساسية تلك النتائج فإن الصحف المصرية تجاهلتها باستثناء جريدة "الشروق". التي أبرزتها على صفحتها الأولى في 24/5. إذ نشرت أغلب وليس كل نتائجه. ولا تفسير لتجاهل الإعلام المصري للنتائج سوى أنها جاءت على خلاف ما تروج له الأساطير الرائجة أو التفكير والتضليل الآمل.
أبرز تلك النتائج جاءت على النحو التالي:
ـ مؤيدو المشير عبد الفتاح السيسي من بين العينة المختارة نسبتهم 54٪ و45٪ يعارضونه. وهذه المعلومة لم ينشرها الخبر الذى نشرته جريدة "الشروق" على صفحتها الأولى.
ـ 54٪ من المصريين يتطلعون إلى إقامة حكومة مستقرة (لاحظ أنها ذات النسبة التي أيدت المشير السيسي) في حين أن 44٪ يريدونها حكومة ديمقراطية.
ـ 72٪ من المصريين غير راضين عن الاتجاه الذى تسير فيه البلاد. وهو نفس مستوى عدم الرضا الذى عبر عنه المصريون قبل ثورة 25 يناير 2011.
ـ 39٪ فقط من المصريين ينظرون إلى المستقبل بتفاؤل، في حين عبر 34٪ عن تشاؤمهم.
ـ 54٪ أيدوا تحرك الجيش لعزل الدكتور محمد مرسى في 3 يوليو/تموز الماضي، بينما عارضه 43٪، إلا أن النظرة الإيجابية للرئيس السابق تراجعت من 53٪ قبل عزله إلى 42٪ في الوقت الراهن.
ـ في العام الأخير انخفضت شعبية الإخوان من 63٪ إلى 38% فقط، وهو ما يعد تراجعا بنسبة 25٪. (وهى النتيجة التي عدها المركز مفاجأة ومخالفة للانطباع السائد في مصر).
التراجعات ليست مقصورة على مؤيدي الإخوان وحدهم، ولكن تأييد العسكر انخفض من 73٪ في العام الماضي الى 56٪ في العام الحالي بنسبة تراجع 17٪. وسمعة القضاء المصري تراجعت أيضا بذات النسبة.
ـ ثمة تراجع أيضا في نسبة التأييد الشعبي للديمقراطية. حيث يذكر الاستقصاء أن نسبة المصريين الذين يؤمنون بالديمقراطية كأفضل شكل للحكومة أصبحت الآن 59٪، في حين كانت 66٪ في العام الماضي و71٪ في العام 2011.
وعلق المركز على ذلك بقوله إنه رغم أن الأغلبية تقول إنه من المهم الحياة في بلد يتمتع بأساسيات الديمقراطية، فإن التأييد الشعبي في مصر للمقومات الأساسية للنظام الديمقراطي مثل حرية التعبير وحرية الصحافة والانتخابات التنافسية النزيهة تراجعت بدرجة ملحوظة في العام الحالي.
(4)
إذا كانت الأساطير الرائجة في الإعلام المصري ترضي غرائز الفخر والتباهي عندنا وتمثل تحليقا في فضاء الأمنيات، فإن نتائج الاستطلاع الذى نحن بصدده تمثل ارتطاما قويا بواقع الحال على الأرض المصرية.
هي ليست قرآنا بطبيعة الحال، ولكنها قابلة للنقض والرد، وللأسف فإن البيئة السياسية في مصر لا توفر مناخا لإجراء استطلاع يتعارض مع الرياح السائدة.
لكنى أتمنى أن نفكر في الأمر مليا قبل أن نسارع إلى الإنكار وإطلاق الألسنة الحداد التي تتهم المركز والعاملين فيه بالتواطؤ والاختراق والتمويل التركي والقطري. إلى غير ذلك مما اعتدنا أن نرمي به كل من خالفنا أو لم يعجبنا.
النتائج التي أشار إليها الاستطلاع بخصوص شعبية المشير السيسي تستوقفنا. ويفاجئنا ما تعلق منها بالإخوان، مما يدعونا إلى التفكير بشكل جاد في جدوى وصواب دعوة البعض لشطبهم من الحياة السياسية وإخراجهم من التاريخ
للأسف فإن المناخ السياسي السائد لا يحتمل حتى مناقشة النتائج التي توصل إليها مركز "بيو" للدراسات الذى يتمتع بسمعة عالمية متميزة في كفاءته وصدقيته. وهى المناقشة التي تضعنا على بدايات ملامسة الأرض والتعامل مع الواقع كما هو، وليس كما نتمناه أو نصطنعه ونتخيله. الأمر الذى يتيح لنا أن نفكر بشكل جاد في أسباب عدم رضا الناس وتراجع ثقتهم في بعض مؤسسات الدولة المهمة، وكيفية المصالحة بين المجتمع والسلطة.
من بين الشواهد الدالة على أهمية النقطة الأخيرة ما ذكره الدكتور ماجد عثمان مدير مركز بصيرة لاستطلاع الرأي (مستقل) على شاشة التلفزيون السبت الماضي 31/5 من أن ثمة مشكلات مسكوتا عنها في صعيد مصر جعلت إقبال أهله على التصويت في الانتخابات الأخيرة أقل منه عما كانت عليه في العام 2012.
ودلل على ذلك بأن النسبة آنذاك كانت في محافظات الفيوم 51٪ والوادي الجديد 45٪ والجيزة 55٪ لكنها انخفضت في 2014 حيث أصبحت 30٪ فقط في الأولى و27٪ في الثانية و42٪ في الثالثة. وهو ما حدث أيضا في محافظات أخرى بالصعيد.
إن النتائج التي أشار إليها الاستطلاع بخصوص شعبية المشير السيسي تستوقفنا. ويفاجئنا ما تعلق منها بالإخوان، الأمر الذى يدعونا إلى التفكير بشكل جاد في جدوى وصواب دعوة البعض إلى شطبهم من الحياة السياسية وإخراجهم من التاريخ.
لكن ما يتعلق بأوضاع المجتمع المصري ورؤيته لمؤسسات الدولة وللحرية والديمقراطية يستحق مناقشة أطول وتحليلا أعمق. ذلك أن كثيرين يشغلهم هاجس السلطة والإخوان، ويتجاهلون أن بين الطرفين كتلة جماهيرية هائلة ليست طرفا في الصراع وليست مصطفة إلى جانب السلطة أو الإخوان. والبطل الحقيقي هو من يستعلى فوق صراعات ومرارات الأجنحة. ويعمل من أجل توفير العيش الكريم لهؤلاء الأخيرين، الذين ما قامت الثورة إلا لأجلهم.
إن إثارة الحماس ودغدغة المشاعر قد تكون لازمة لرفع معنويات الناس، ولكن الوقوف على الأرض وتلمس حقائق الواقع ألزم لاسترضائهم والفوز بثقتهم. ووحده الإنجاز على الأرض كفيل بذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق