المقاومة.. والمسالمة (3)
حركة المقاومة والعمل السري
لا يعرف التاريخ الإسلامي فترة اكتنفتها السرية، ولفها الغموض، كالفترة التي عاشتها الأمة وشعوبها في ظل الحملة الصليبية المعاصرة على العالم الإسلامي منذ حملة نابليون على مصر حتى اليوم!
فما زال كثير من أحداثها أسرارا طوتها صدور الرجال، حتى انقضت بهم الآجال، لا يكاد يوقف منها إلا على بعض فلتات ألسنتهم، ونفثات أقلامهم، وظل كثير من عمل قادة كلا المذهبين سواء المقاومة والمسالمة عملا سريا، وسعيا خفيا، كما سيظهر جليا فيما يلي:
حركات المقاومة الشعبية ودور علماء آل البيت:
في الوقت الذي قضت فيه بريطانيا شرقا على مقاومة الشهيد أحمد عرفان الحسني في الهند سنة ١٨٣١م، وانحاز من بقي من حركته إلى أفغانستان -حيث سيخرج منها جمال الدين الحسيني الأفغاني وستكون موطنا للمقاومة والجهاد حتى اليوم- بدأت حركة الجهاد والمقاومة للاستعمار الفرنسي في المغرب سنة ١٨٣٢م بقيادة الأمير عبد القادر الحسني الجزائري، وأسس دولة في الجزائر دامت نحو خمسة عشر عاما.
وقد كانت كلا الحركتين الجهاديتين في المشرق والمغرب شعبيتين، لم تقم بهما الدول أو الملوك في تلك البلدان والأقاليم آنذاك، بل كان قائداهما -الشهيد أحمد عرفان، والأمير عبد القادر- شيخين مجاهدين عالمين من آل البيت الشريف، وكلاهما أسس دولة إسلامية في إقليمه، وكلاهما حسني علوي هاشمي، كما سيكون أبرز دعاة المسالمة أيضا من آل البيت ومن قريش لتتحقق النبوءة النبوية كما في الحديث الصحيح: (الناس تبع لقريش في الخير والشر)!
فقد تصدى أحمد خان الحسيني في الهند برعاية بريطانيا لمذهب المقاومة فكريا، كما تصدى سلطان المغرب عبد الرحمن بن هشام الحسني -بضغط فرنسي- لحركة الأمير عبد القادر سياسيا وعسكريا، وشارك في حصار الأمير وقواته، حتى استسلم لفرنسا سنة ١٨٤٧م!
وقد حج الشهيد السيد أحمد عرفان سنة ١٨٢٦م، ثم قاد بعد حجه حركة الجهاد، وحج الأمير السيد عبد القادر سنة ١٨٢٨م مع أبيه، وبعد الحج نهض بالجهاد، وسيحج السيد جمال الدين بعدهما بربع قرن وذلك سنة ١٢٧٣هـ/١٨٥٧م، وسيواجه المحتل البريطاني في أفغانستان، وسيُهزم مع الأمير محمد أعظم، ويخرج من وطنه حاجا مهاجرا، وسيبدأ بتأسيس أول حركة سياسية لجهاد المحتل ومقاومته لا في إقليم واحد بل في العالم الإسلامي كله!
وقد أخذت روسيا القيصرية هي أيضا تكمل زحفها على البلدان الإسلامية في وسط آسيا وتحتلها بلدا بلدا، حيث استشهد الملا غازي سنة ١٨٣٢م، وقاد الجهاد بعده في القفقاز الإمام شامل الداغستاني سنة ١٨٣٤م، وأقام دولة إسلامية، وما زال يقاوم الجيوش الروسية حتى استسلم سنة ١٨٥٩م، وبقي أسيرا في موسكو، ثم سمح له بالحج فغادر إلى إسطنبول سنة ١٨٦٩م، فاستقبله السلطان عبدالعزيز استقبالا حافلا وأكرمه، وأرسله في وساطة لحل الخلاف مع الخديوي إسماعيل، ونجح في وساطته، ووصل الحجاز وحج سنة١٨٧٠م، وتوفي ودفن في المدينة سنة ١٨٧١م.
فأطبقت الحملات الصليبية البرتستانتية والكاثوليكية والأرثوذكسية على العالم الإسلامي في آن واحد غربا وشرقا وشمالا، وكثر المهاجرون من كل بلد إلى الحجاز، فصار الحج ملتقى علماء الأمة ومصلحيها، وملفى مهاجريها ومجاهديها، وفيه كان يجري تدارس أحوال الأمة، وما تتعرض له من هجوم الحملات الصليبية الأوربية على بلدانها، وكيف لها أن توقف زحف هذه الحملات، وتدفع هذا العدوان، وما السبيل للخروج من هذا المحنة، والنهوض من هذا السقوط، كما عبر عن ذلك الكواكبي في كتابه «أم القرى»، فإن محاوراته إن كانت من وحي الخيال، فقد كان تعبيرا حقيقيا عما كانت عليه الحال!
ظهور مذهب المسالمة وشيوعه:
وكانت حركات الجهاد والمقاومة في هذه الفترة تمثل الرد الطبيعي تجاه الغزو الأجنبي، وامتدادا لحركة الجهاد الإسلامي -بشقيه جهاد الفتح والدفع- الذي لم يتوقف طوال تاريخ الأمة منذ الهجرة النبوية وتأسيس الدولة الإسلامية، بينما لم تكن حركة المسالمة كذلك، فلم تعرفها الأمة إلا في ظل المحتل البريطاني الفرنسي، وإن كانت قد عرفت مسالمة العدو في حال الاستضعاف من باب الضرورة والرخصة والأحكام الاستثنائية في فترات كثيرة من تاريخها عند تعرضها لغزو أجنبي وخضوعها له، إلا أنه لم يتحول لمذهب فكري فقهي بحيث تصبح المسالمة للمحتل في أرض الإسلام أصلا ومقاومته استثناء وفق فهم جديد للإسلام يجعل غايته حماية حقوق المواطنة للمسلمين في أرضهم تحت حكم الجاهلية وسلطان العدو الكافر!
لقد أدت الهزيمة العسكرية المتكررة لحركات الجهاد ولمذهب المقاومة في المشرق والمغرب إلى ظهور مذهب المسالمة وتمدده ليؤسس رؤية دينية جديدة لم يعرفها الإسلام من قبل، تعيد تفسير الدين نفسه تحت وطأة الواقع لتوفق بين وعد الله للأمة بالنصر وظهور العدو عليها، ولتصل إلى نتيجة دينية فقهية فكرية أشد خطورة من الهزيمة العسكرية نفسها؛ وهي أن الإسلام دين مسالمة ورحمة ودعوة إنسانية، ولم يأت لإقامة دولة فضلا عن الجهاد والدفاع عنها، أو من أجل إقامتها، والعيش بدلا منه في ظل أي دولة ما دامت تدع المسلمين يعبدون الله كما يجري في المستعمرات البريطانية والفرنسية!
لقد ولد مذهب المسالمة سياسيا وفكريا في ظل الهزيمة، وترعرع في حجر الاحتلال وأحضانه، ولم يُؤت أكثر دعاته -سواء الزعماء أو العلماء- من سوء النية، أو خبث الطوية، أو الخيانة للأمة ودينها، بقدر ما أوتي أكثرهم من العجز، وضعف الهمة، وعدم إعداد العدة، وفقد الثقة بوعد الله، فكان الأمراء أسرى الخوف على عروشهم، ولو بالتخلي للمحتل عن سلطانهم، وعن سيادة الأمة واستقلالها معهم، وكان العلماء أسرى رؤاهم الفردية في تشخيص الخلل، واستبانة المخرج من هذا التيه، والسبيل لمواجهة هذا الاستعمار، وكانت سرعة الانهيار، وشدة الانبهار، كفيلين بتمهيد الطريق أمام تمدد هذا المذهب سياسيا وفكريا وفقهيا، وكان الاستعمار أقدر من كلا الفريقين المقاوم والمسالم على توظيف كل ذلك لصالحه، وصناعة رجاله وجماعاته، هذا في الوقت الذي كان كثير من دعاة المسالمة يراهنون أيضا على الزمن لصالحهم في نهضة الأمة وتحررها.
الدعوة إلى الجامعة الإسلامية ومشروع النهضة:
لقد أدركت حركة المقاومة للاحتلال البريطاني والفرنسي والروسي بعد الهزيمة في الهند وأفغانستان والجزائر والقوقاز بأن الوحدة الإسلامية والنهضة الحضارية شرط لمواجهة الاستعمار الأوربي وحملاته الصليبية، وأن سبب سقوط البلدان الإسلامية في الهند وشمال أفريقيا ووسط آسيا أمام زحفه هو تخلفها في العلوم والصناعات، وتشرذمها، وتفرقها، وضعفها وعدم نصرة شعوبها بعضهم بعضا، فاستطاعت بريطانيا وفرنسا وروسيا بدء الحملات الصليبية في آن واحد واحتلال بلدان المسلمين بلدا إثر بلد، كما فعل الأسبان في الأندلس، ولا سبيل للتحرر إلا بالنهضة العلمية، وإلا بالوحدة والجامعة الإسلامية، وبالخلافة التي هي أصل من أصول دينهم، والالتفاف حولها، كما كانت الأمة في كل عصورها، خاصة إذا تعرضت لخطر الاجتياح الخارجي، ولهذا وجدت دعوة «الجامعة الإسلامية» صدى كبيرا في العالم الإسلامي خاصة في الهند -وتأسست فيها لاحقا حركة الخلافة- هذه الدعوة التي كان أبرز رعاتها سياسيا السلطان عبدالحميد العثماني، وأبرز دعاتها فكريا جمال الدين الأفغاني، وسيبدآن بالتعاون لتحقيق مشروع الجامعة والنهضة الإسلامية، فكان البدء به في مصر أولوية، فقد كانت أشد حاجة إليه، وهي تواجه خطر الزحف البريطاني الفرنسي، قبل أن تسقط كما سقطت الهند!
وكما رفض المسالمون جهاد بريطانيا ومقاومة احتلالها في الهند؛ وقفوا كذلك في وجه مشروع الجامعة الإسلامية، والخلافة الواحدة، لصالح دولة وطنية علمانية في الهند، كما دعا إليه السير أحمد خان، ثم لدولة وطنية للمسلمين في باكستان، بذريعة أن المسلمين أمة واحدة دينيا، لا سياسيا، وهو كل ما تريده بريطانيا والحملة الصليبية من المسلمين لتكريس تشرذمهم وضعفهم!
وقد سعى السلطان العثماني عبد العزيز لقطع الطريق على أطماع بريطانيا في مصر، فأرسل الإمام شامل إلى مصر سنة ١٩٨٧٠م لدعوة الخديوي إسماعيل للتعاون مع إسطنبول، وسيخلفه مباشرة في سفارة سرية سنة ١٨٧١م جمال الدين الأفغاني!
لقد كان الزعماء والعلماء المخلصون يتفاهمون اضطرارا مع المحتل البريطاني والفرنسي والروسي، وكان السبب في ذلك انحلال دولهم وفقدها الاستقلال في ظل الاحتلال، مما اضطر الزعماء والعلماء إلى الاتصال بالمحتل مباشرة إذ لم تعد السلطة الشرعية في بلدانهم موجودة فعليا للقيام بمسئولياتها، وإن كانت موجودة صورة، كما كان حال ملوك الهند وخديوي مصر، وصار المباشر لصلاحياتهم والذي يدير شئون بلدانهم باسمهم هو المحتل نفسه بواسطة رجاله ومستشاريه، ثم لاحقا بواسطة الحكومات الوطنية الوظيفية التي ما يزال المحتل الغربي -الأوربي الأمريكي الروسي- يحكم العالم الإسلامي بها!
وكما ظل كثير من عمل قادة المقاومة سرا في تلك الفترة؛ كذلك قاومه كثير من الزعماء والعلماء المخلصين سرا أيضا، حتى لا تكاد تستبان اليوم حقائق الأحداث التي شاركوا فيها لشدة ما أحاطوا به أنفسهم وحركاتهم من الحذر والحيطة سواء في الظهور، أو الكتابة، والاكتفاء باللقاءات السرية، والمشافهة، وعدم تدوين شيء من أخبارهم كما هو حال مؤسسي جمعية «العروة الوثقى»!
جمعية «العروة الوثقى» وسريتها:
لقد كانت جمعية «العروة الوثقى» أول حركة فكرية سياسية مقاومة للمحتل الأجنبي، وما زالت حقيقة أمرها سرا من أسرار التاريخ حتى اليوم!
فلا يكاد يعرف عنها شيء البتة! فأين تأسست؟ ومتى؟ ومن رئيسها؟ وما علاقتها بالسلطان عبدالحميد؟ وما أعمالها غير تأسيس مجلة «العروة الوثقى» التي كلفت به الجمعية جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده لجمع الأمة على الخلافة العثمانية؟ وكيف كانت تعقد اجتماعاتها، وتتخذ قراراتها؟ وكيف حافظ مؤسسوها على سريتها؟ وممن استفادوا فكرة التنظيم وهذا الأسلوب غير المعهود؟ ومتى انتهى عملها وكيف؟
كل ذلك وغيره من أسرار التاريخ!
ولولا ما نشره عنها محمد رشيد رضا -سنة ١٣٥٠هـ/ ١٩٣١م بعد نحو ثلاثين سنة من وفاة مؤسسيها في مجلة المنار وفي كتابه «تاريخ الإمام»- عن نظامها الأساسي ولائحتها الداخلية، وأهدافها، وما ذكره عن بعض أعضائها كالأمير عبد القادر الجزائري، وشكيب أرسلان، لما عرف عن وجودها أصلا!
هذا مع اعتذار رشيد رضا في تاريخه عن عدم نشر كل ما كتبه الإمام محمد عبده وبالأخص: (ما كان خاصا بالسياسة، ومسألة مصر والسودان، وتهييج العالم الإسلامي والهند على الدولة الإنجليزية.. لأن الحرية في مصر لا تتسع لنشرها)[1].
وقد ذكر الشيخ رشيد بأن هذا ما اتفق عليه مع سعد زغلول وأصحاب الإمام محمد عبده بعد وفاته سنة ١٩٠٥م، حين زودوه بما عندهم لكتابة تاريخه، وجعلوا المندوب عنهم أحمد فتحي زغلول حيث يقول: (وكان كل ما قدمه [أحمد فتحي] لي من المساعدة نسخ مقالات الأستاذ الإمام الإصلاحية من جريدة الوقائع المصرية الرسمية، إذ كان يقتني مجموعتها. وكان أول ما شاورته فيه مقالات جريدة «العروة الوثقى» وكانت كلها منسوخة عندي. فأما ما كان منها خاصا بالسياسة، ومسألة مصر والسودان، وتهييج العالم الإسلامي والهند على الدولة الإنكليزية فقد وافقته على تركه، وعدم نشر شيء منه في منشآته لأن الحرية في مصر لاتسع لنشرها. وقد كانت “العروة الوثقى” ممنوعة من مصر والسودان والهند لأجلها. وقد نشرت أهمها في هذا الجزء. وأعطاني حموده بك بعض المواد ومن أهمها ما كتبه الأستاذ من تاريخ الثورة العرابية.. وأما المقالات الإصلاحية فقد اتفقنا على نشر أكثرها، وترك ما تعده إنجلترا تحريضا عليها..)[2].
لقد كان الميثاق الغليظ، والعهد الوثيق، الذي أخذه المؤسسون على أنفسهم وعلى كل من يبايعهم بعدم البوح بأي شيء يخص الجمعية لغير أعضائها هو السبب الرئيس في عدم معرفة خبرها!
وقد جاء في بنودها السرية فيما يجب على الأعضاء: (مذاكرة المجتمعين عند الالتئام المعتاد [الاجتماع الدوري] في أمور التذكير بآيات الله، والنظر في حالة الإسلام عند بدئه، وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه فقط، والبحث في السبب الذي امتدت به سطوة الإسلام حتى صال على جميع الأديان في زمن قصير، وكيف انقلب الحال وآل إلى ما نراه؟
ومدارسة أحكام الجهاد، وحقوق المسلم، وما هو مكلف به في معاملة غيره، وما يفرض عليه إذا زحف الأعداء لخضد شوكة الإسلام ..)[3].
وجاء في صيغة القسم الذي يقسمه العضو: (أقسم بالله العالم بالكلي والجزئي، والجلي والخفي، القائم على كل نفس بما كسبت، الآخذ لكل جارحة بما اجترحت، لأحكمن كتاب الله تعالى في أعمالي، وأخلاقي، بلا تأويل، ولا تضليل، ولأجيبن داعيه فيما دعا إليه، ولا أتقاعد عن تلبيته في أمر، ولا في نهي، ولأدعون لنصرته، ولأقومن بها ما دمت حيا، لا أفضل على الفوز بها مالا ولا ولدا.
أقسم بالله مالك روحي، ومالي، القابض على ناصيتي، المصرف لإحساسي ووجداني، الناصر لمن نصره، الخاذل لمن خذله، لأبذلن ما في وسعي لإحياء الأخوة الإسلامية، ولأنزلنها منزلة الأبوة والبنوة الصحيحتين، ولأعرفنها كذلك لكل من ارتبط برابطة «العروة الوثقى» وانتظم في عقد من عقودها، ولأراعينها في غيرهم من المسلمين، إلا أن يصدر عن أحد ما يضر بشوكة الإسلام، فإني أبذل جهدي في إبطال عمله المضر بالدين، وآخذ على نفسي في أثره مثل ما أخذ عليها في المدافعة عن شخصي.
أقسم بهيبة الله وجبروته الأعلى أن لا أقدم إلا ما قدمه الدين، ولا أؤخر إلا ما أخره الدين، ولا أسعى قدماً واحدة أتوهم فيها ضرراً يعود على الدين جزئياً كان أو كليا، وأن لا أخالف أهل العقد الذين ارتبطت معهم بهذا في شيء يتفق رأي أكثرهم عليه، وعلي عهد الله وميثاقه أن أطلب الوسائل لتقوية الإسلام والمسلمين عقلا وقدرة بكل وجه أعرفه..)[4].
وصيغة هذا القسم دليل ظاهر على أن الأمر الذي تصدى له المؤسسون أمر عظيم جد عظيم!
وقد قال عنها رشيد: (جمعية العروة الوثقى السياسية السرية: كان الأستاذ [محمد عبده] في تلك الأثناء في سورية [بعد نفيه إثر هزيمة ثورة عرابي ١٨٨٢م] ولا أدري ما دار بينهما من المكاتبة، بعد وصول السيد [جمال الدين] إلى لندن [بعد نفيه من الهند]! ولا تاريخ سفره إليه بالضبط، وأما «جمعية العروة الوثقى» فهي جمعية سياسية سرية قد بينا مقصدها في مقدمة العدد الأول من الجريدة، ولكن لم يطلع أحد على قانون الجمعية الأساسي، ولا على اليمين الذي كان يقسمه الأعضاء، إلا خواص رجال الجمعية وكلهم من خواص المسلمين!
أعلم أن الجريدة كانت ترسل إلى كبار العلماء والأمراء والزعماء في جميع الأقطار الإسلامية، وقد كان من أعضائها الأمير عبد القادر الجزائري، ومن اختاره من أنجاله ورجاله، وقد وجدت بعض أعدادها في محفوظات والدي، ووجدتها كلها عند أستاذنا الشيخ حسين الجسر في طرابلس، وإنني أذكر هنا ما لم ينشر من تعاليمها ويمينها، ولم يذكر لي الأستاذ الإمام [محمد عبده] رحمه الله تعالى شيئا عن القانون الأساسي لها، وقد فاتني أن أسأله عنه، وأظن أنه لم يكن مكتوبا لئلا يقع في يد غير أهله! وإنما كان الغرض البعيد منها إعادة الحكم الإسلامي، و[إعادة] هداية الدين إلى ما كان عليه من الطهارة والعدل والكمال في العصر الأول: بتأسيس حكومة إسلامية على قاعدة الخلافة الراشدة في الدين، وما تقتضيه حالة العصر لمجد الإسلام في أمور الدنيا، ويتبع هذا إنقاذ المسلمين وغيرهم من الشرقيين من الاستعمار المذل لهم.
وأما الغرض القريب فهو إنقاذ مصر والسودان من الاحتلال وكانت الجمعية مؤلفة من عقود، وهذا ما كتبه نائب الرئيس، وهو الأستاذ الإمام نفسه من الأصول العملية الداخلية للعقد الرابع ونص اليمين الذي كان يحلفه كل من انتظم في عقد من عقودها)[5].
لقد أرادت جمعية العروة الوثقى من إصدار هذه المجلة باسمها أن تكون حلقة الوصل بينها وبين أعضائها لإطلاعهم على توجه الجمعية في كل شئون الأمة، وقد كان من أعضائها الأمير عبد القادر الجزائري الذي نفاه المحتل الفرنسي إلى دمشق، فكانت الجمعية هي التنظيم السري الذي يضم في عضويته كل قادة المقاومة للاحتلال في العالم الإسلامي بما فيه بلدان شمال أفريقيا التي احتلتها فرنسا!
وهو ما تجنبت ذكره مجلة «العروة الوثقى» التي صدرت في باريس سنة ١٨٨٤م في أوائل أعدادها، فلم تذكر إلا الهند ومصر، ولم تذكر الجزائر تجنبا لمنع الصحيفة، ليتبين لاحقا أن الأمير عبد القادر الجزائري وأنجاله ورجاله من أعضائها!
وتؤكد الأدلة كلها أن السلطان عبد الحميد وراء تأسيس جمعية «العروة الوثقى»، ودعم مجلتها في باريس، لمواجهة بريطانيا، فقد كانت صوت الدعوة إلى مشروعه «الجامعة الإسلامية»، وهو مشروع جمال الدين أيضا، وكانت قضيتها الرئيسة هي الدعوة إلى الانضواء تحت لواء الخلافة، كما صرح به الإمام محمد عبده في مقدمة كتاب جمال الدين «الرد على الدهريين»، حيث يقول عن جمال: (ولما كلفته جمعية «العروة الوثقى» إنشاء جريدة تدعو المسلمين إلى الوحدة تحت لواء الخلافة الإسلامية أيدها الله، سألني أن أقوم على تحريرها فأجبت، ونشر من الجريدة ثمانية عشر عدداً، وقد أخذت من قلوب الشرقيين عموما والمسلمين خصوصاً ما لم يأخذه قبلها وعظ واعظ، ولا تنبيه منبه، وذلك لخلوص النية)[6].
وقد كان الخليفة آنذاك السلطان عبد الحميد، والذي لا يكاد يخلو مقال من مقالات “العروة الوثقى” من الدعوة إلى الالتفاف عليه، أو على الخلافة العثمانية، مع ما عرف عن جمال من رفض الاستبداد السياسي والدعوة إلى المشروطية!
وقد ظلت جمعية سرية لا يعرف عنها إلا النزر القليل، لما كانت عليه الاستخبارات البريطانية من رصد دقيق لكل نشاط قد يقوض نفوذها، ولما عرف عن السلطان حذره الشديد من اطلاع الأعداء على خططه، واعتماده على المخاطبات الشفهية، حتى نجح في حشد كثير من العلماء لهذا المشروع بهذا الأسلوب عبر إرسال الرسل بالرسائل الشفهية، ولهذا حاصرت بريطانيا المجلة، ومنعت من دخولها الهند ومصر، عاقبت كل من توجد عنده بالسجن والغرامة كما جاء في العروة الوثقى[7]!
وقد توطدت علاقة جمال الدين بالسلطان عبد الحميد، حتى أنه حين استرضاه قبّله وقال له: (لا يفرق بيني وبينك إلا القضاء المحتوم)[8]!
وذلك بعد أن وُشي به عند السلطان عبد الحميد، بأنه قد أفشى سره لصحيفة التايمز البريطانية، وأنه يحقر السلطان في مجلسه، وأنه يخبئ أسلحة في بيته، فأمر السلطان بتفتيش بيته، فلم يجدوا شيئا، فعلم السلطان براءته، فسخط جمال مما جرى وذهب للسفارة البريطانية للحصول على تأشيرة سفر ليغادر إسطنبول، فاستحضره السلطان وأرضاه!
وقد أراد السلطان أن يرسله إلى أوربا في أمر سياسي، وكان يقول له: (أحب أن أجعل وطنك الأستانة)، وأراد أن يزوجه ليقيم عنده لشدة حرصه على وجوده قربه، وكان يجله، ويثني على خدمته الإسلام.[9]
وكان جمال نفسه معجبا بالسلطان عبد الحميد، مدة طويلة، وسعى لجمع علماء الأمة على طاعته، والاجتماع على خلافته، حتى كاتب مجتهدي الفرس فأرسلوا كتبهم بالموافقة! وكان ذلك كما قال رشيد رضا: (ابتداء في دعوته المسلمين كافة للاعتصام بعروة الخلافة، والقيام بتدبير سياسي عظيم، عرقله الشيخ أبو الهدى عليه وأقنع السلطان بوجوب الانصراف عنه)[10]!
فما هو التدبير السياسي العظيم الذي لم يفصح عنه رشيد رضا أو لم يعرفه؟ وما الأمر السياسي الذي أراد أن يكلف به السلطان جمال الدين وإرساله به إلى أوربا!
إن لم يكن ذلك هو تأسيس جمعية «العروة الوثقى» السرية، ومجلتها في باريس فما هو؟
وقد عرّفت مجلة «العروة الوثقى» بنفسها في أول عدد نشر لها في مارس ١٨٨٤م بقلم محررها الشيخ محمد عبده، ورئيسها جمال الدين، فجاء فيه: (إن الرزايا الأخيرة التي حلت بأهم مواقع الشرق جددت الروابط، وقاربت بين الأقطار المتباعدة بحدودها، المتصلة بجامعة الاعتقاد بين ساكنيها، فأيقظت أفكار العقلاء، وحولت أنظارهم لما سيكون من عاقبة أمرهم، مع ملاحظة الملل التي أدت بهم إلى ما هم فيه، فتقاربوا في النظر، وتواصلوا في طلب الحق، وعمدوا إلى معالجة الحق وعلل الضعف، راجين أن يسترجعوا بعض ما فقدوا من القوة، ومؤملين أن تمهد لهم الحوادث سبيلا حسنا يسلكونه لوقاية الدين والشرف، وإن في الحاضر منها لنهزة تغتنم، وإليها بسطوا أكفهم، ولا يخالونها تفوتهم! ولئن فاتت عليهم فكم في الغيب من مثلها، والى الله عاقبة الأمور.
تألفت عصبات خير من أولئك العقلاء لهذا المقصد الجليل في عدة أقطار، خصوصا البلاد الهندية والمصرية، وطفقوا يتحسسون أسباب النجاح من كل وجه، ويوحدون كلمة الحق في كل صقع، لا ينون في السعي، ولا يقصرون في الجهد، ولو أفضى بهم ذلك إلى أقصى ما يشفق منه حي على حياته. ولما كانت بدايتهم تستدعي مساعدة من يضارعهم في مثل حالهم؛ رأوا أن يعقدوا الروابط الأكيدة مع الذين يتململون من مصابهم، ويحبون العدالة العامة، ويحامون عنها من أهالي أوروبا.
اقرأ أيضًا
د. حاكم المطيري يكتب: المسالمة والمقاومة (2)
وكتبوا على أنفسهم النظر في أمر السلطة العامة الإسلامية [الخلافة]، وفروض القائم بها [الخليفة]، وبما أن مكة المكرمة مبعث الدين، ومناط اليقين، وفيها موسم الحجيج العام في كل عام يجتمع إليه الشرقي والغربي ويتآخى في مواقفها الطاهرة الجليل والحقير، والغني والفقير، كانت أفضل مدينة تتوارد إليها أفكارهم، ثم تنبث إلى سائر الجهات، والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل.
ولما كان نيل الغاية على وجه أبعد من الخطر، وأقرب إلى الظفر، يستدعي أن يكون للداعي في كل قلب سليم نفثة حق، ودعوة صدق، طلبوا عدة طرق لنشر أفكارهم بين من خفي عنه شأنهم من إخوانهم، واختاروا أن يكون لهم في هذه الأيام جريدة بأشرف لسان عندهم، وهو اللسان العربي، وأن تكون في مدينة حرة كمدينة پاريس، ليتمكنوا بواسطتها من بث آرائهم، وتوصيل أصواتهم إلى الأقطار القاصية، تنبيها للغافل، وتذكيرا للذاهل، فرغبوا إلى السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني أن ينشئ تلك الجريدة، بحيث تتبع مشربهم، وتذهب مذهبهم، فلبى رغبتهم، بل نادى حقا واجبا عليه لدينه ووطنه، وكلف الشيخ محمد عبده أن يكون رئيس تحريرها، فكان ما حمل الأول على الإجابة، حمل الثاني على الامتثال، وعلى الله الاتكال في جميع الأحوال)[11].
لقد كانت بريطانيا هي الخطر الأول الذي تأسست «جمعية العروة الوثقى» لمقاومته، فإذا هزمت؛ هزمت الحملة الصليبية كلها، وهي التي حذر منها السلطان عبد الحميد، وحذر من مؤامراتها لإسقاط الخلافة، وتقاسم أقاليم العالم الإسلامي، ودعا إلى الوحدة والجامعة الإسلامية للحيلولة دون نجاحها في سعيها، فقال: (يجب تقوية روابطنا ببقية المسلمين في كل مكان، فلا أمل في المستقبل إلا بهذه الوحدة. سيأتي اليوم الذي يتحد فيه كل المؤمنين وينهضون فيه نهضة واحدة، ويقومون قومة رجل واحد وفيه يحطمون رقبة الكفار)[12].
وكانت بريطانيا تسعى لجعل مصر تحت حمايتها، ولتفصل ما بينها وبين الخلافة من عرى الوحدة برعاية المشروع الوطني والقومي، كما فعلت في الهند، وقد كان السلطان عبد الحميد يدرك مخططاتها وخطورتها، فقال: (الإنجليز قد أفسدوا عقول المصريين، لأن البعض أصبح يقدم القومية على الدين، ويظن أنه يمكن مزج حضارة مصر بالحضارة الأوروبية، وإنجلترا تهدف من نشر الفكر القومي في البلاد الإسلامية إلى هز عرشي، وأن الفكر القومي قد تقدم تقدماً ملموساً في مصر. والمثقفون المصريون أصبحوا من حيث لا يشعرون ألعوبة في يد الإنجليز)[13].
وكان هدف جمال الدين الأفغاني الأول والأوحد كما أوجزه جرجي زيدان هو: (توحيد كلمة الإسلام، وجمع شتات المسلمين، في دولة إسلامية واحدة، تحت ظل الخلافة العظمى، وقد بذل في هذا السعي جهده، وانقطع عن العالم من أجله، فلم يتخذ زوجة ولا التمس كسبا)[14].
فهدف جمال الدين هو نفسه هدف السلطان عبد الحميد!
الذي قال عنه محمد عبده: (أما مقصده السياسي الذي قد وجه [جمال] إليه أفكاره، وأخذ على نفسه السعي إليه مدة حياته، وكل ما أصابه من البلاء أصابه في سبيله؛ فهو إنهاض الدولة الإسلامية من ضعفها وتنبيهها للقيام على شؤونها، حتى تلحق الأمة بالأمم العزيزة، والدولة بالدول القوية، فيعود للإسلام شأنه، وللدين الحنيفي مجده، ويدخل في هذا تنكيس دولة بريطانيا في الأقطار المشرقية، وتقليص ظلها عن رؤوس الطوائف الإسلامية وله في عداوة الإنكليز شؤون يطول بيانها)[15].
تأسيس جمعية العروة الوثقى ومجلتها:
لقد كانت جمعية «العروة الوثقى» هي الوسيلة التنفيذية لتحقيق فكرة «الجامعة الإسلامية»، التي تضم كل شعوب العالم الإسلامي حول «الخلافة العثمانية»، وتحرير الأمة من الاستعمار الغربي، وهو هدف السلطان عبد الحميد، وحلم السيد جمال الدين الأفغاني، الذي ولد سنة ١٢٥٤هـ / ١٨٣٨م، في ولاية كونر بأفغانستان في مدينة «أسعد آباد» من أسرة حسينية مشهورة من بيت إمارة فيها، كما جاء في ترجمة تلميذه محمد عبده له[16]، وكذا أثبته تلميذه الأمير شكيب أرسلان في ترجمته وهو ما أكده له سفراء حكومة أفغانستان، وقد التقى بنفسه بأفراد من أسرته في ولاية كنر، قبل أن تروج لاحقا نسبته لإيران والشيعة لصرف الناس عنه في القاهرة وإسطنبول، وتسويق كتبه لدى الإيرانيين لمواجهة ظلم الشاه كما سيأتي بيانه.
وقد طلب العلوم الشرعية والعربية والعقلية والطبيعية في أفغانستان، وفي سن الثامنة عشرة سافر للهند ولبث سنة في دراسة العلوم الحديثة، ثم حج سنة ١٢٧٣هـ ثم صار في خدمة أمير أفغانستان دوست محمد خان، وشارك في حملة فتح هراة، ثم بعد وفاة الأمير واختلاف أبنائه على الحكم، انحاز جمال إلى الأمير محمد أعظم فصار وزيره ومستشاره ومدبر أمره، واشتهر جمال الدين بالذكاء وحسن السياسة، حتى انتزع محمد أعظم السلطة من أخيه شير علي المدعوم من بريطانيا بهدف السيطرة على أفغانستان، التي كان الجيش البريطاني قد تعرض فيها لهزيمة ساحقة سنة ١٨٤٢م، ثم استطاعت تحقيق أهدافها بدعم علي شير الذي استعادة السلطة من أخيه محمد أعظم، ففر الأمير أعظم إلى إيران سنة ١٢٨٥هـ/ ١٨٦٩م وبقي جمال في كابل، محمي الجناب بعشيرته ومكانته العلمية، ثم خشي الدسائس عليه فاستأذن للحج، فاشتُرط عليه ألا يمر بإيران حتى لا يلتقي بمحمد أعظم، فسافر عبر طريق الهند، فاستقبله علماؤها وزعماؤها، ولم تسمح له حكومة الهند البريطانية بالبقاء أكثر من شهر تحت الرقابة، وركب السفينة إلى السويس وأقام بمصر أربعين يوما، ثم توجه إلى الأستانة (إسطنبول)، وطلب اللقاء بالصدر الأعظم محمد أمين عالي باشا -الذي بدأت في عهده التنظيمات والإصلاحات لتطوير الدولة وتحقيق النهضة- فاستقبله أحسن استقبال وأكرمه لما اشتهر من أمره في أفغانستان، ولما ظهر له من علمه وأدبه وذكائه، إذ كان الصدر نفسه عالما لغويا كبيرا، فعُين جمال عضوا في مجلس المعارف العثماني، فاقترح عليهم تعميم المعارف، حيث رأى كيف أسس الإنجليز المدارس في الهند، وكيف بدأت تَنشأ المصانع والشركات والجمعيات وتنهض البلاد، وقد أدت بعض اقتراحاته إلى ازورار شيخ الإسلام حسن فهمي أفندي وأتباعه عنه، حتى بهتوه بأنه يقول بأن النبوة صنعة، بعد محاضرته في دار الفنون (العلوم) وذلك في رمضان سنة ١٢٨٧هـ التي ألقاها برغبة من ناظر المعارف تحسين أفندي مدير دار الفنون، وبحضور وزير المعارف صفوت باشا، وناظر المعارف منيف باشا الذي اطلع على نص المحاضرة قبل إلقائها، وكانت عن الصناعات وحاجة الإنسان المعيشية والمجتمع المادية إليها، كحاجة الروح إلى الحكمة، التي إما أن تكون وحيا إلهيا سماويا وهي النبوة وهذه اصطفاء والأنبياء معصومون، أو اكتسابا وهي الفلسفة وآراء الحكماء التي هي اجتهاد يصيب ويخطئ، فاتهمه شيخ الإسلام بأنه يرى النبوة صنعة، لأنه ذكرها في محاضرة عن الصناعات!
فثارت فتنة زادتها الجرائد اشتعالا، فنفى جمال التهمة عن نفسه، وطلب رفع القضية للمحكمة، ومحاكمة شيخ الإسلام على قذفه بالباطل، وعلم الصدر الأعظم بالأمر فاقترح على جمال أن يغادر حتى تهدأ الأمور ثم يعود!
هذا ما ذكر عنه في أول زيارة له للأستانة، إلا أن ما لم يذكر هو السبب الآخر وهو المهمة التي انتدب لها، ونذر نفسه لتحقيقها، وهو الحيلولة دون سقوط مصر تحت الاحتلال البريطاني، كما سقطت الهند، وهي المهمة التي كما يبدو استعان به على تحقيقها الصدر الأعظم الذي توفي سنة ١٨٧١م، أو السلطان عبدالعزيز نفسه الذي قتل سنة ١٢٩٣هـ/١٨٧٦م، ثم وجد بعد ذلك من السلطان عبدالحميد كل دعم لنجاحه فيها، وستفتح له بمجرد وصوله أبواب مصر آنذاك وهي ولاية عثمانية ليبعث فيها نهضة فكرية وسياسية ويؤسس حزبا يواجه فيه نفوذ بريطانيا وفرنسا، ويتفاوض معهما، ويسعى لخلع الخديوي إسماعيل، ويأتي بابنه توفيق ليقوم بالإصلاح المنشود، وما كان ذلك كله ليتحقق لولا حماية السلطان ورعايته، الذي كان ساخطا على إسماعيل لتفريطه بسيادة مصر وإثقالها بالديون حتى تدخلت بريطانيا وفرنسا في شئونها بذريعة استعادة ديونهما!
فغادر جمال إلى مصر فوصلها في محرم سنة ١٢٨٨/ إبريل ١٨٧١م، وعلم به وزيرها الأول رياض باشا فأكرمه وأجرى له راتبا ألف قرش شهريا، للاستفادة من علومه ومعارفه في تحقيق النهضة، ولإنجاحه في مهمته، فاشتهر أمره، وأقبل عليه أهل العلم والفضل والطلبة من كل حدب وصوب، ينهلون من علومه، ويتعلمون منه، فكان ذلك بداية النهضة العلمية والسياسية في مصر، بإجماع علماء عصره المصلحين، والمؤرخين للفكر الإسلامي المعاصرين، فقد أصبح أصحابه وطلابه بعد ذلك هم قادة الرأي، وأرباب القلم، ودعاة التجديد، وحداة الحرية، وقادة الثورة والمقاومة، فكان كما قال عنه رشيد رضا: (إمام النهضة العلمية والقلمية والدينية في مصر وغيرها، كما كان إمام النهضة الاجتماعية والسياسية)[17].
وكما قال عنه المفكر الجزائري مالك بن نبي: (في هدأة الليل، وفي سبات الأمة الإسلامية العميق؛ انبعث من بلاد الأفغان صوت ينادي بفجر جديد، صوت ينادي: حي على الفلاح، فكان رجعه في كل مكان، إنه صوت جمال الدين الأفغاني، موقظ هذه الأمة إلى نهضة جديدة، ويوم جديد)[18].
وقال أمير البيان شكيب أرسلان عن أثر دعوة جمال الدين في النهضة في مصر: (وقد اتفق أرباب النظر في هذا العصر، على أن قدوم السيد جمال الدين الأفغاني إلى مصر كان مبدأ الحركة الفكرية، التي بدأت في البلاد العربية وسائر الشرق الأدنى، ولم تزل تنمو إلى الآن، رامية إلى تحقق الشرق بالمعارف التي ساد بها الغرب، ورفع سيطرة هذا عن ذاك، وإعادة الشرق سيرته الأولى من الرقي..)[19].
وقال عنها المحدث أحمد شاكر: (ثم جاءت النهضة العلمية الإسلامية الحاضرة، وقد نفَخَ في رُوحها رجالٌ كانوا نبراسَ عصرهم، وفي مقدمتهم: جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا، ووضَعَ أصولها عمليًّا، وأرْسى قواعدها، ووثَّقَ بنيانها: والدي محمد شاكر، رضي الله عنهم جميعًا. فاستيقظت العقولُ، وثارت النفوس على التقليد، ونبغ في العلماء من يذْهبُ إلى وجوب الاجتهاد، وقد يكون اجتهادًا مبتسرًا، وقد يكون اجتهادًا فيه خطأٌ كثير، ولكنه خيرٌ من الجمود، وأجْدَى إن شاء الله على الأمة والدين)[20].
وكان جمال الدين يؤمن بأن النهضة لن تتحقق في العالم الإسلامي إلا بالإسلام كما كان في أول أمره، قبل ظهور البدع، لا بالتقليد للغرب، وأن التمدن بالمحاكاة تخلف لا ينتج حضارة ولا مدنية ولا تطورا، كما قال رشيد عنه: (كان يرى أن المسلمين ما صاروا أمة ذات مدنية ودول عزيزة إلا بحسن فهمهم لدينهم، وحسن عملهم به، وما ضعفوا واستكانوا بعد ذلك إلا بسوء فهمهم لدينهم وانحرافهم عن صراطه، وابتداعهم فيه، وأنهم لا يرتقون ولا يعتزون إلا بحسن فهمهم له، ونهوضهم به، واستقامتهم عليه، وهذا الرأي معروف عنه.
وقد كتب إلي الشيخ عبد القادر المغربي من الأستانة سنة ١٣١٠هـ/ ١٨٩٣م أنه زاره مرتين أو ثلاثا وأنه كان مما دار بينه وبينه ما يأتي بالنص الذي كتبه المغربي يومئذ:
قال السيد: إن بطرس برج وفينا كباريس في حسن الانتظام والزخرف، وأن فينا أكبر من الأستانة [أسطنبول]!
فقلت: الأستانة منذ ثلاثين سنة لم تكن هكذا، بل كانت متأخرة من عدة وجوه، فهي لا تزال تتدرج في مدارج المدنية لا سيما باهتمام أفندينا ولي النعم [السلطان عبد الحميد] وهذا يدل على أن المسلمين عن قريب يبلغون من التمدن والترقي ما بلغت إليه أهالي البلاد الغربية.
فقال [جمال]: إذا لم يبن تقدمنا وتمدننا على قواعد ديننا وقرآننا فلا خير لنا فيه، ولا يمكن أن نتخلص من ربقة الانحطاط والتأخر.
قلت: إذا نظرنا إلى حالتنا منذ ثلاثين سنة وقابلناها بما نحن عليه الآن ترى بوناً عظيما.
فقال: ما تراه الآن من حالتنا المستحسنة ظاهرا هو عين التقهقر والانحطاط؛ لأننا في تمدننا هذا مقلدين للأمم الأوربية، وبسبب ذلك يخشى علينا بعد زمن غير طويل أن نخنع للذل والسلطة الأجنبية، أو تتبدل صبغة الدين الإسلامي الذي من شأنه رفع راية السلطة والتغلب إلى صبغة خمول وذل بعض الشعوب القديمة)[21].
جمال الدين وتهمة الانضمام للماسونية في مصر:
وفي هذه الأثناء التي كان جمال الدين مشغولا فيها ببعث جيل جديد في مصر، فرّغ كل وقته وجهده لتعليمه والنهوض به، مدة تسع سنوات؛ وجد بأن نخبة المجتمع المصري أعضاء في المحفل الماسوني الذي كان يمارس نشاطه قانونيا، وكانت المهمة التي تصدى لها جمال تقتضي معرفة كل ما يجري في مصر، وكيف استطاع الغرب اختراق العالم الإسلامي بمحافله وجمعياته، فانضم إليه، فقال رشيد رضا: (كان السيد جمال الدين قد أخذ على نفسه العهود والمواثيق أن يعمل عملاً عظيمًا ينهض بدولة إسلامية نهوضًا يعيد للإسلام مجده، وكان مضطلعًا بذلك)[22]!
وهي المهمة التي جاء أصلا من إسطنبول لمصر من أجلها، وهنا يربط رشيد بين هذه المهمة وبين دخوله للمحفل الماسوني في القاهرة، إلا أنه يفسره تفسيرا ضعيفا قاصرا لا يتصور من فيلسوف سياسي دبر شئون أفغانستان للأمير محمد أعظم! فقال رشيد: (إلا أنه كان مستعجلاً يريد أن يعمل هذا العمل العظيم ويرى أثر نجاحه وثمرة غراسه في حياته؛ لذلك جاءه من طريق الحكومة والسلطة، وتوسل إليه بالعلم، فاتخذ له في مصر تلاميذ بدأ يقرأ لهم كتب أصول الدين والفلسفة حتى إذا ما وثق بهم مزج لهم السياسة بالعلم، وخاف استبداد إسماعيل باشا أن يحول بينهم وبين ما يشتهون، فانتظم مع مريديه في سمط الجمعية الماسونية، وكان باتحادهم رئيس محفل مرّن فيه تلامذته على الخطابة والبحث في حياة الأمم وموتها، ونهوض الدول وسقوطها، وقد دخل في هذا المحفل شريف باشا، وبطرس باشا غالي، وكثيرون من الكبراء والأذكياء).
وإنما دخله جمال ليتصل مباشرة بالنخبة الحاكمة في مصر، التي صنعها الاستعمار الغربي على عينه في محافله، التي كانت تعمل بصفة رسمية قانونية، وينظم لها وزراء الدولة وأمراؤها وكبار رجالها، ولا يمكن لجمال أن ينجح في المهمة التي انتدب لها إلا باختراق هذه النخبة وهذه الجمعية التي ترفع شعار الحرية والإخاء والمساواة، ولم يكن أمرها قد ظهر على حقيقته آنذاك!
ثم قال رشيد: (وكان توفيق باشا ولي عهد الخديوية مشايعًا للسيد [جمال الدين] ومحفله، ومكان صاحب الترجمة [محمد عبده] من السيد مكانه المعلوم، فكان دخوله في الماسونية متممًا لتربيته وتعليمه، وصلة بينه وبين توفيق باشا وكثير من رجال مصر وسببًا لبحثه في أحوال الحكومة المصرية، ووقوفه على نقائصها ومساويها وتوجهه إلى السعي في إصلاحها وممهدًا له الطريق للعمل الذي قام به قبل الثورة وبعدها [ثورة أحمد عرابي ١٨٨٢ ضد نفوذ الإنجليز والخديوي]).
وما ذكره رشيد هنا هو التفسير المعقول لدخول جمال وأصحابه للمحفل الماسوني، للاتصال برجال الدولة والنخبة الحاكمة، ومعرفة كيف تدار الأمور؛ لأن مهمة الإعداد للتغيير السياسي الذي جاء جمال من أجله تقتضي ذلك، وهو الوزير السياسي الذي جرب إدارة شئون الحكم في أفغانستان، وأدرك كيف استطاعت بريطانيا أن تحتل البلدان الإسلامية عبر اختراق النخب الحاكمة، والتأثير عليها، حتى احتلتها، دون حروب!
قال رشيد: (إن الأستاذ الإمام [محمد عبده] -رحمه الله تعالى- ترك الماسونية من زمن طويل، وقد أكثر أبناؤها من دعوته إلى محافلها بعد رجوعه من النفي إلى مصر فلم يجب، وأهدوا إليه وسامًا فلم يقبله.
وقد سألته عن حقيقتها مرة [يعني الماسونية]؟
فقال بأن عملها في البلاد التي وجدت فيها للعمل قد انتهى، وهو مقاومة سلطة الملوك والباباوات الذين كانوا يحاربون العلم والحرية، وهو عمل عظيم كان ركنًا من أركان ارتقاء أوربا، وإنما يحافظون عليها الآن كما يحافظون على الآثار القديمة، ويرونها جمعية أدبية تفيد التعارف بين الناس.
وأخبرني بأن دخوله مع السيد [جمال] فيها كان لغرض سياسي اجتماعي وأنه قد تركها من سنين، ولن يعود إليها، وأنها ابتذلت في مصر ابتذالاً لم يكن من قبل)!
ولم يفصح له محمد عبده هنا عن هذا الغرض، أو أفصح له ولم يرغب رشيد بإفشاء سره، وهو الذي استظهره رشيد قبل هذا، وذلك أنهم دخلوها لغرض سياسي، وهو معرفة كل ما تتحدث به النخبة الغربية الحاكمة عن أوضاع مصر، وعلاقتها بالخارج خاصة بريطانيا وفرنسا، ولهذا وبمجرد أن وصل الأمر إلى ما يتعارض مع غرضهم الذي دعاهم للدخول وهو تعزيز نفوذ الخلافة العثمانية في مصر، وتقويض نفوذ بريطانيا وفرنسا خرجوا منها، وأخذوا يحرضون الولاة العثمانيين على المحافل الماسونية!
قال رشيد: (وأخبرني [محمد عبده] أنه أرشد مرة أحد ولاة بيروت إلى إبطال محفل ماسوني علم أنه يكيد للدولة العلية [العثمانية] بإيعاز بعض الدول الأوربية، فهاب ذلك الوالي وظن أنه فوق قدرته، ولكن الفقيد [محمد عبده] -رحمه الله تعالى- هداه السبيل إلى ذلك وشد من عزيمته ففعل، بل كان مبدأ انسحابه مع السيد جمال الدين من الماسونية عندما جاء إلى مصر رئيس الشرق الأعظم الإنكليزي، وهو يومئذ ولي العهد للدولة الإنكليزية فاجتمعت المحافل الماسونية حفاوة به، وذكر أحد رؤسائها ولي العهد بهذا اللقب، فاعترض السيد جمال الدين، وقال: إنه لا يسمح بأن يحتفل بأحد على أنه ولي العهد لدولة من الدول لا سيما الدولة الإنكليزية التي من وصفها كيت وكيت، وليس لها فضل على الجمعية … إلخ ما قاله.
ولا أذكر منه إلا مثل هذا الإجمال، فرد عليه بعض رؤساء المحافل، وبعد مناقشة انسحب من الماسونية هو وخواص مريديه.
ولما رأى بعض علماء الأزهر بعد ذلك ترقي الأستاذ الإمام ونفوذه في الحكومة توهموا أن ذلك بمساعدة الجمعية له، فدخل كثيرون منهم فيها، ومنهم من دخل بدعوة بعض أصحابه من أهلها، ولم يدخل أحد منهم لأجل عمل يفيد الأمة والبلاد إلا جماعة السيد جمال الدين)[23].
فدخول جمال الدين وأصحابه للمحفل كان هدفه خدمة الأمة والدولة، إلا أن رشيد رضا لم يدرك طبيعة المهمة التي أرادوا بها خدمة الدولة والأمة!
وقال أيضا: (ولما هاجر السيد جمال الدين حكيم الشرق وموقظه إلى هذه البلاد؛ رأى من استبداد إسماعيل باشا الخديوي الأسبق ما يزيد على ما كان في أوربا من الاستبداد، ورأى أن الجمعية الماسونية تجر هذه البلاد إلى أوربا بخيوط سياسية خفية؛ ولكنها متينة قوية، فهي كالخيوط التي يربط بها المشعوذ التماثيل التي يلعب بها وراء الستار فيحسب الصبيان أنها هي التي تلعب بنفسها، وكذلك كانت مصر ألعوبة في أيدي الأوربيين!
فأراد السيد رحمه الله أن يربي فيها رجالا يعرفون كيف يحفظون بلادهم وأنفسهم، فوجه همته إلى استخدام الماسونية في تعليم تلامذته ما لا يمكن التصريح به إلا في جمعية سرية، فدخل في الماسونية ودخل معه تلامذته النابغون، فجعل بهم قوة للمصريين، وصار رئيس محفلهم، ولكنه كان غاليا في مضادة الإنكليز لما كان من زحفهم على بلاده، ولما كان يعتقد من طمعهم في مصر، وقد صرح به كتابة، فقاوموه حتى اضطروه إلى ترك الماسونية مع كبار حزبه، ولم يكن للماسونية عمل في مصر إلا في تلك المدة، ثم إن الماسونية صارت في مصر آلة لبعض زعمائها في جلب المنافع، ثم كثر فيها الغوغاء، حتى قل احترامها وانطلقت الألسنة بالطعن فيها)[24].
وما ذكره السيد رشيد هنا غير مفهوم، فقد كان جمال يعلم تلاميذه ويربيهم ويدرسهم في بيته تسع سنين، ولم يكن في حاجة لأخذهم للمحفل، وإنما دخلها للمهمة التي انتدب نفسه لها، وهو الاتصال بالنخبة الحاكمة، وكشف الوسيلة التي تغلغل النفوذ الأوربي من خلالها للتحكم في مصر عبر جمعياته ومنظماتها!
ومن أسلوب هذه الجمعيات السرية في العمل استفاد جمال الدين الخبرة في تأسيس “جمعية العروة الوثقى”، وسيفعل في أوربا كما تفعل هذه الجمعيات في العالم الإسلامي من الاتصال بالنخبة الحاكمة ورجال الفكر والإعلام واستمالتهم لدعم قضايا المسلمين!
وقد ظلت المحافل الماسونية في مصر التي تضم النخبة الحاكمة بمن فيهم كبار الدولة من النصارى واليهود يناوئون جمال الدين وأتباعه كما جرى لهم بعد ذلك مع الشيخ محمد عبده واعتراضهم على تفسيره في الجامع الأزهر وحديثه عن اليهود في القرآن، فشنوا عليه حملة شعواء في الصحف، ورفعوا الأمر إلى الخديوي، كما ذكره الشيخ رشيد: (ولجأوا إلى جمعيتهم الماسونية، وكتبوا بقلم الطيش والعجلة احتجاجا باسم الماسونية على مفتي الديار المصرية الذي يفسر القرآن العزيز في الأزهر باسم الله الرحمن الرحيم! وطلبوا إيقافه عند حده.
وأرسلوا نسخا من احتجاجهم إلى أمير البلاد وإلى اللورد كرومر، وإلى رئيس النظار، وإلى جميع الجرائد اليومية فلم يحفل أحد باحتجاج هذا المحفل إلا رئيس الماسونية العام في هذه الديار إدريس بك راغب، فإنه كتب محتجا على الاحتجاج مبينا للمحفل أنه خالف قانون الجمعية.. فما كان إلا زيادة في إجلاله وتعظيمه، وحضر رئيس ذلك المحفل الماسوني من الإسكندرية مخصوصا لزيارة المفتي في الأزهر، والاعتذار له، ثم كتب هذا الرئيس رسالة نشرها في الجرائد المشهورة في ذلك أثنى فيها بما أثنى، وزاره في الأزهر أيضا الرئيس الأعظم للمحافل الإفريقية إدريس بك راغب، وكتب بعض أدباء اليهود في الجرائد يبين خطأ الاحتجاج، ونشره وأثنى على المفتي بما أثنى، وكتبت الجرائد المعتبرة مقالات في ذلك بأقلام كتابها وأقلام غيرهم من الفضلاء، سفهوا فيها منشور الاحتجاج والجريدة التي نشرته وفي مقدمة هذه الجرائد المؤيد والأهرام والمقطم..)[25].
هذا ولم يزل أمر جمال في مصر كما قال محمد عبده عنه: (في ارتفاع، والقلوب عليه في اجتماع، إلى أن تولى الخديوي توفيق، وكان السيد من المؤيدين لمقاصده، الناشرين لمحامده)[26]، ظنا منه أنه سيفي بوعوده لشعبه بالإصلاح حين كان وليا للعهد، حتى سعى في الوشاية به القنصل البريطاني لدى الخديوي توفيق بما هو برئ منه، فأُخرج من مصر مخفورا سنة ١٢٩٧هـ/ ١٨٧٩م، ونفي إلى الهند، ليظل تحت الرقابة البريطانية، حيث توقعت بريطانيا حدوث اقتراب الثورة، وهو ما حدث فعلا، وكان جمال الدين قد أسس في مصر الحزب الوطني، الذي تفاوض مع البريطانيين والفرنسين بصفته ممثلا للشعب المصري قبل ثورة عرابي، لمنع إخضاع مصر للحماية البريطانية الفرنسية بذريعة استعادة ديونهما من مصر التي استدانها الخديوي إسماعيل، وأدى إلى التدخل البريطاني الفرنسي بشئونها، وهو ما أفضى إلى خلع إسماعيل وتولية ابنه توفيق، فاستبشر به الإصلاحيون، فسارعت بريطانيا لنفيه من مصر!
ثم حدثت ثورة عرابي، فكانت ذريعة لبريطانيا للتدخل، ورضي توفيق بتدخلها للقضاء على الثورة، التي لم تكن تريد إلا الإصلاح السياسي وتحقيق العدل لا إسقاط الخديوي، فاختار الخديوي الاستعانة بالعدو وفقد سيادته وشرفه على أن يرضي شعبه بالعدل والإصلاح!
موقف محمد عبده من ثورة عرابي:
وقد قامت بريطانيا بعد هزيمة جيش أحمد عرابي باعتقال كل من شارك في الثورة ومحاكمته، فحكم على بعضهم بالسجن، وبعضهم بالنفي ومنهم عرابي، ومحمود سامي البارودي، والشيخ محمد عبده، الذي لم يكن مؤيدا أصلا لثورة الجيش، حتى تدخلت بريطانيا فانحاز لها دفاعا عن مصر وسيادتها، وكان أول من دعا إلى الحرية السياسية مع شيخه جمال الدين قبل الثورة في مصر، حيث يقول: (وهناك أمر آخر كنت من دعاته والناس جميعا في عمى عنه، وبعد عن تعقله، ولكنه هو الركن الذي تقوم عليه حياتهم الاجتماعية، وما أصابهم الوهن والضعف والذل إلا بخلو مجتمعهم منه، وذلك هو التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب، وما الشعب من حق العدالة على الحكومة.
نعم كنت فيمن دعا الأمة المصرية إلى معرفة حقها على حاكمها، وهي -هذه الأمة- لم يخطر لها هذا الخاطر على بال! دعوناها إلى الاعتقاد بأن الحاكم وإن وجبت طاعته هو من البشر الذين يخطئون، وتغلهم شهواتهم، وأنه لا يرده عن خطأ، ولا يقف طغيان شهوته إلا نصح الأمة له بالقول وبالفعل. جهرنا بهذا القول والاستبداد في عنفوانه، والظلم قابض على صولجانه، ويد الظالم من حديد، والناس كلهم عبيد له أي عبيد!
نعم إني في كل ذلك لم أكن الإمام المتبع، ولا الرئيس المطاع، غير إني كنت روح الدعوة، وهي لا تزال بي في كثير مما ذكرت قائمة، ولا أبرح أدعو إلى عقيدتي في الدين، وأطالب إتمام الإصلاح في اللغة، وقد قارب.
أما أمر الحكومة والمحكوم فتركته للقدر يقدره، وليد الله بعد ذلك تديره، لأنني قد عرفت أنه ثمرة تجنيها الأمم من غراس تغرسه، وتقوم على تنميته السنين الطوال، فهذا الغراس هو الذي ينبغي أن يعنى به الآن والله المستعان. أصبت نجاحا في كثير مما عنيت به، وأخفقت في كثير مما وجهت عزيمتي إليه، ولكل ذلك أسباب بعضها مما غرز في طبعي، وشيء منها مما احتف حولي..)[27].
وقد ذكر سبب اعتراضه على ثورة عرابي بأنها ثورة عسكرية لن تأتي للشعب بالحرية، حيث يقول في تاريخه عن الثورة: (بعد أن استوثق عرابي لنفسه من سلطان باشا، وأيقن بما وعده أن أهالي البلاد وأرباب الكلمة فيها سيكونون معه، وبذلك يتحول عمله من عصيان غير مشروع إلى طاعة للأمة غير ممنوعة! فقد تخيل أن يضع نفسه ومن معه من الضباط موضع الآلة المنفذة لرغبة الأمة، كأن الأمة هي التي استعملتهم، فالثورة ثورة الأمة لا ثورة الجند! وكل ما تأتي به الأمة في سبيل حريتها وتقويم ما أعوج من حكومتها لا يصادف منكراً ولا يستوجب عقابا!
هذا هو الحجاب الممزق الذي كان يسدله على أعين الناظرين إليه، والحجة الساقطة التي يقيمها للناقدين عليه، وبعد أن استحكم هذا الخيال من نفسه أخذ يترقب الفرصة لجمع رجاله لإلزام رياض باشا بتقديم استعفائه، وكان يصل ليله بنهاره في التفكير والتدبير والمشاورة مع إخوانه)![28]
وقد التحق الشيخ محمد عبده من منفاه ببيروت بالأفغاني، بعد أن أخرجته بريطانيا من الهند فذهب إلى لندن، ثم فرنسا، وأسسا «مجلة العروة الوثقى» بباريس بتكليف من «جمعية العروة الوثقى»، وكانت القضية الرئيسة التحريض على بريطانيا والدعوة إلى الثورة عليها وتحرير مصر، والوقوف مع ثورة السودان.
وكما أدى قضاء بريطانيا على حركة الجهاد والمقاومة -بقيادة الشهيد السيد أحمد عرفان سنة ١٨٣١م، ثم على ثورة المسلمين في الهند ١٨٧٥م وسقوط أكبر دولة إسلامية في المشرق- وأفضى ذلك لظهور حركة المسالمة بقيادة السيد السير أحمد خان الذي أسس برعاية بريطانية جامعة عليكرة وخرّج جيلا جديدا مثقفا يؤمن بالعمل السلمي ونبذ العنف، وبعيدا عن السياسة، كما يرغب المحتل البريطاني، ثم اشتغل بالسياسة لاحقا حين أرادت بريطانيا تقسيم الهند، على أسس دينية للتحكم فيها أكثر وأكثر وفق سياسة (فرق تسد) ليصبحوا أبرز دعاة التقسيم وقادة الوطن الجديد (باكستان)؛ كذلك أدى قضاء بريطانيا على ثورة عرابي في مصر سنة ١٨٨٢م، ثم القضاء على حركة السيد محمد أحمد المهدي في السودان إلى ظهور حركة المسالمة التي ما تزال تشكل وعي النخبة الإسلامية في العالم العربي الذي ما زال يخضع للنفوذ البريطاني الفرنسي ثم الأمريكي الروسي حتى اليوم!
ولا يمكن معرفة واقع العالم العربي اليوم ورسوخ ظاهرة القابلية للاستعمار الأجنبي، إلا بمعرفة كيف تأسست دوله وجماعاته في ظل الحملة الصليبية والنفوذ الغربي، وكيف يتحكم الاحتلال في الفضاء السياسي والثقافي فيها على نحو لا يعرف له نظير في تاريخ الأمم الأخرى اليوم!
وهو ما عبرت عنه «العروة الوثقى» في مقالاتها وهي تستحث الشعوب العربية على الثورة حتى انطفأت شعلتها، وأدرك محمد عبده أن القضية عصية، وما زال للحديث –بإذن الله- بقية!
[1] مقدمة تاريخ الإمام لرشيد رضا ص ٣
[2] تاريخ الإمام ١/ ٣
[3] تاريخ الإمام ١/ ٢٨٤
[4] تاريخ الإمام ١/ ١٨٧
[5] تاريخ الإمام ١/ ٢٨٣
[6] مقدمة «الرد على الدهريين» لمحمد عبده ص ١٣ ط ٣ سنة ١٩٠٢م
[7] العروة الوثقى ص ٣٤٥ تحت عنوان «العروة والوثقى: مصادرتها في مصر والهند»
[8] تاريخ الإمام ١/ ٧٢
[9] تاريخ الإمام ١/ ٧٢
[10] تاريخ الإمام ١/ ٢٨٣
[11] تاريخ الإمام لرشيد رضا ١/ ٢٩٥
[12] مذكرات السلطان عبد الحميد ص ٢٤
[13] مذكرات السلطان ص ٢٣
[14] مشاهير الشرق لجرجي زيدان ٢/ ٦٥ وانظر تاريخ الإمام ص ٧٣
[15] مقدمة كتاب «الرد على الدهريين» ص ١٤
[16] مقدمة كتاب «الرد على الدهريين» ص ١٤
[17] تاريخ الإمام ١/ ١٠٢
[18] شروط النهضة ص ٢٢
[19] ترجمة جمال لشكيب أرسلان في حاشية حاضر العالم الإسلامي ١/ ٢٠٥
[20] الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين ص ٦ – ٧
[21] تاريخ الإمام ١/ ٨٢
[22] تاريخ الإمام ص ١٠١ – ١٠٢
[23] مجلة المنار ٨/ ٤٠١
[24] مجلة المنار ٦/ ١٩٦
[25] مجلة المنار ٦/ ١٩٦
[26] مقدمة الرد على الدهريين ص ١٣
[27] تاريخ الإمام ١/ ١٢
[28] تاريخ الإمام ١/ ٢١٨
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق