هل يخشى الجنرال الثورة؟.. لماذا التحذير منها؟!
أعمى من لا يرى من الغربال!
فمن الغربال يمكن لنا أن نرى أن هناك ما يقلق الجنرال على مستقبل وجوده على رأس السلطة، رغم أن خصومه كفّوا عن الفعل منذ عام 2015، عندما تم فض اعتصام المطرية بقرار من قيادة التنظيم، التي صارت بالصفة والوجود تمثل "الباب العالي"، صاحب السيادة في ظل الدولة العثمانية التي كانت تهيمن على مصر!
خلال السنوات الماضية شهدت مصر عدداً محدوداً من التظاهرات من القوى المدنية بسبب تيران وصنافير، انتهت إلى اعتقال عدد من المشاركين فيها، ثم مظاهرات محدودة بدعوة من محمد علي، بجانب فشل ذريع لدعوات أخرى كان آخرها الدعوة إلى 11/11، حيث لم يخرج نفر للشارع، وتحولت الدعوة إلى أضحوكة للقوم وإعلامهم، وإذ اعتبرتُ فزع السلطة مفتعلاً، والمبالغة في التعامل معها هو للترويج لحالة الفشل هذه، فقد أدهشني أن أستمع من قريب من دوائرهم أنهم كانوا في فزع حقيقي!
لا بأس، فقد فشلت الدعوة، ووظف النظام الحاكم هذا الفشل في إثبات أن الأوضاع مستقرة، وأن المعارضة ماتت، وأن الشعب كشف المعارضين ولم يعد -لهذا- يؤوب معهم!
عدم اليقين في الاستقرار:
والحال كذلك فإن الأصل أن يشعر أهل الحكم بالاطمئنان التام، لكن الحقيقة تقول غير ذلك، فما نسمعه من دوائر محيطة، ونقلاً عن دوائر مستفيدة، يقول إن الأمور ليست كذلك، بشكل ذكرني بنغمة "الانقلاب يترنح"، فهم يتوقعون أن نهاية الحكم قاب قوسين أو أدنى!
ويمكن اعتبار هذه مبالغات، من أناس يخشون سقوط نظامهم بالثورة، الأمر الذي يجعلهم عرضة للانتقام أو المحاكمات، لكن أن يصل عدم اليقين في الاستقرار إلى رأس هذه السلطة، فهذا هو اللافت للانتباه!
إن حديث "أولي الأمر منهم" عن الزيادة السكانية قد يكون ملائماً تماماً لعنوان المؤتمر الذي عُقد في القاهرة، فهو مؤتمر دولي للسكان، لكن أن يتم الدخول من موضوعه مبرراً للتحذير من إعادة إنتاج ما جرى في كانون الثاني/ يناير 2011، والتذكير مجدداً بخسارة مصر من جراء الثورة أكثر من 400 مليار دولار، فهذا يدفعنا للسؤال هل يرى القوم ما لا نراه؟!
إن المشاهد المتأمل لما بين السطور، بعد تجاوز المناكفة السياسية، سيقف على أن ما قيل ليس لغواً، وإن درجت المعارضة على اعتباره كذلك، وإن كانت المشكلة فيما يتم تصديره على أنه سبب الثورة على مبارك، أقصد الأزمة الاقتصادية من خلال القول: لأن الدولة لم تستطع تلبية مطالب الناس، لأن قدرتها لا تمكنها من ذلك. ومن هنا قرر أن أصعب ما تواجهه الدولة أن يكون المتاح أقل من المطلوب!
القراءة الصحيحة أن ثورة يناير لم تكن لأسباب اقتصادية، ولهذا فهي ثورة نخبة؛ وحتى الذين شاركوا فيها من عامة الشعب لم تكن دوافعهم اقتصادية، وإن كانت شريحة كبيرة من الشعب قد بدأت تتأذى من الفشل الاقتصادي لا سيما في السنوات العشر الأخيرة من حكم مبارك، إلا أن هذه الشريحة جاءت تحتفل بتنحي مبارك، لكنها لم تكن حاضرة قبل ذلك!
وأزعم أن زوجات حراس العقارات اللاتي خرجن يقدمن لنا الخل والبصل للتغلب على آثار القنابل المسيلة للدموع في يوم كثر واتره وقل ناصره، لم يفعلن هذا لدوافع اقتصادية!
فوضع مبارك في الحكم لثلاثين عاماً كان مستفزاً لشريحة كبيرة من المصريين، والذي زاد وغطى هو الحديث عن توريث الحكم، وأساء الثلاثي الحاكم؛ جمال مبارك، وأحمد عز، وحبيب العادلي، تقدير الأمور، عندما أغلقوا المجال العام عنوة، وأفقدوا الناس الأمل في التغيير السلمي، بما ارتكبوه من جرائم في انتخابات 2010!
وانسداد الأفق السياسي كان سبباً في الثورة عليه، وكان عليه أن يغادر قبل ست سنوات على الأقل، وربما لا تعرف الأجيال الجديدة أن مبارك ظل لعام 2000 يحوز على رضا شريحة معقولة من المصريين، لا سيما كبار السن، وكان يمكن للمرء أن يتعرض لمشكلات كبيرة إن ذكر مبارك بسوء في حافلة عامة قبل هذا التاريخ، من الناس وليس من الأجهزة الأمنية مثلاً، وإن بدأ فتورهم لشخصه في السنوات العشر الأخيرة من حكمه. وذات يوم وكنا في 2003، مع بداية أزمة اقتصادية، سمعت مسناً يلعنه في الشارع لارتفاع الأسعار، فقلت يبدو أنها هانت.
ربما كان الرفض لدى شريحة لا بأس بها بسبب أداء الحزب الوطني، وكانت النغمة السائدة أن من حوله هم السيئون لكنه حاكم جيد، وأنه ليس مطلعاً على ما يفعلونه، وكانت هناك مطالب حتى على مستوى أهل السياسة أن يترك رئاسة الحزب الوطني، لكنه كان يعتبر هذه الدعوة كميناً، لأن وجهة نظره التي نقلها لي أبو الفضل الجيزاوي (عضو البرلمان وأحد الضباط الأحرار)، أنه يستخدم الحزب في المحافظات في الحشد الجماهيري عندما يكون المطلوب موقفاً بعينه، كأن يحشدوا له الجماهير تلبية لدعوته للاستفتاء على حل البرلمان ونحو ذلك، فمن يقدر على ذلك إذا ترك رئاسة الحزب لكي يكون رئيساً لكل المصريين كما تريد الأحزاب؟!
عمرو أديب والقادم أسوأ:
المهم، فتصور أن ثورة يناير كانت بسبب أن المتاح أقل من المطلوب، وأن إمكانيات الدولة كانت متواضعة، ليس في محله، لكن الجنرال يدرك أنه إذا قامت ثورة في البلاد فستكون لأسباب اقتصادية هذه المرة، نظراً لعجز الأغلبية عن توفير الحد الأدنى من متطلبات البقاء على قيد الحياة، والقادم أسوأ!
ولا نضرب الودع عندما نقول إن القادم أسوأ، فهناك يقين لدى دوائر الحكم أن الحال الآن سيكون رفاهية بما يعيشه المصريون من ضنك وغلاء أسعار، وبعد أن أوصلها الجنرال لهذا الحد ذهب يقول إنه مفتوح على كل اقتراح يحل أزمة الدولار، وسوف يعمل بهذه الاقتراحات، فقد تواضع كثيراً فلم يعد يتحدث عن أن الله أعطاه البركة، وأنه كسيدنا سليمان عليه السلام، وأنه يعرف ما لا نعرف، وأنه ظل نصف قرن يدرس ماهية الدولة!
إنه يدخل الانتخابات بدون القدرة على إطلاق الوعود التي أطلقها من قبل؛ انتظروا عامين، انتظروا العام القادم، انتظروا ستة شهور (كمان)، فليس قادراً حتى على أن يطلق وعداً من هذا القبيل، وفي جلسته الأخيرة ربط بين الزيادة السكانية والأزمة الاقتصادية، وظهر غاضباً لعدم استجابة المصريين لهذه الدعوة التي أطلقتها الدولة!
ذكرني في هذا الأمر بذات سهرة رمضانية بالهيئة المصرية للكتاب، وكانت مناظرة بين الدكتور محمد عمارة والدكتور فرج فودة حول تنظيم النسل، وكان الأخير يتبنى الدعوة لتنظيمه أو تحديده، وبعد المناظرة وأمام القاعة بدأت مذيعة بالتلفزيون المصري حواراً مع المتحدثين كل على حدة!
سألت المذيعة صديقي الدكتور فرج فودة إن كان له أبناء فأجاب: أربعة، فسألته ولماذا لم ينظم هو نسله، ولأول مرة أشاهده متلعثماً وهو حاضر البديهة متوقد الذهن، وإن أخفى تلعثمه بابتسامته الخجلى، وأجابها: لقد كان هذا زمان. ولم تسأله المذيعة لقد كانت الدعوة لتنظيم النسل من زمان أيضاً!
السيسي الذي أدهشه عدم التزام المصريين بدعوة الدولة، يمكنه أن يجيب على سؤال: لماذا يتمرد المصريون على دعوة أطلقتها الدولة؟ لأن لديه أربعة أبناء، ودعوة الدولة لتنظيم النسل، بدأت قبل زواجه بسنوات طويلة وعلى لسان الرئيس الخالد، واستمرت بعده، وقد تزوج في عهد السادات الذي كان يواصل المسيرة لتنظيم النسل، نظراً لتواضع إمكانيات الدولة، ولا أعرف إن كان الملك فؤاد ونجله قد دعيا إلى ذلك أم أنه أمر ارتبط بالحكم العسكري؟!
لا أظن أن المصريين يتمردون على دعوة الدولة كما تمرد الجنرال، غير أن الدولة نفسها هي التي تغير مفهومها عن تنظيم النسل، ففي فترة قالت بالاكتفاء بثلاثة أبناء، وبعد فترة قالت: اثنان، وبعض الدعوات تقول بواحد وكفى!
الثورة فيها سم قاتل:
ومهما يكن، فعملية إرجاع ثورة يناير إلى زيادة النسل هو ربط تعسفي، لكن الجنرال يريد أن يدفع عن نفسه الفشل، فإذا استقر في وجدان الناس أنه فاشل، فإن الثورة فيها سم قاتل، لقد خسرت مصر بسببها 400 مليار دولار، أي أن الأوضاع ستنتقل من سيئ إلى أسوأ، وبالتالي عليهم الرضا بالمكتوب، وباعتباره هو المكتوب على الجبين!
واستدعاء ثورة يناير الآن يؤكد أنه يرى من البعد شجراً يمشي، لهذا فالجوقة من الإعلاميين عزفوا نفس اللحن، وذكروا المصريين بالإخوان، وهو استدعاء قسري آخر، مع أن الإخوان يضعون أيديهم في الماء البارد، وتوقفوا عن أي فعل، ومنذ ثماني سنوات وهم في حالة استسلام كامل لمصيرهم!
الاستدعاء القسري للإخوان قد لا يكون المقصود به العامة بشكل عام، ولكن هو تخويف لدوائره والذين يستفيدون من حكمه، بأن البديل له لن يكون سوى الإخوان، الذين سيعودون للانتقام!
هو قلق وهم قلقون، وكل يعبر عن قلقه حسب رؤيته، وعلى مدى اليومين السابقين عبر عمرو أديب عن قلقه وقلق دوائر في الحكم، ومحذرا من القادم لأنه -حسب رأيه- هو الأسوأ، ولا بديل عن انتخابات رئاسية تعددية نزيهة!
لم نعد نحن هذا الجائع الذي يحلم بسوق الخبز، فقد سلمنا راية الأحلام لفريق من مؤيديه أو الذين كانوا من مؤيديه ويخشون الآن من هذا القادم، حد تصورهم أن الانتخابات القادمة ستكون نزيهة، وستتم الاستجابة للضمانات المطلوبة، بما فيها الحضور الدولي، لكن لن يعلن هذا حتى لا يغامر أقوياء بخوضها، والترتيبات ستكون بعد غلق باب الترشيح، فلما سمعت هذا الرأي قلت إن القوم يتسيّرون.. أي يذكرون سيرتنا زمن الانقلاب يترنح!
وكما أني لم أردد الانقلاب يترنح، فلا يمكنني تصديق هذه التصورات، بل لا أسلم بتخمين أن ثورة قد تخرج مرة ثانية في الأمد المنظور.
وددت لو يمكنني أن أبث الطمأنينة في قلب الجنرال.. لكنه أبداً لا يطمئن!
twitter.com/selimazouz1
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق