بيني وبينك.. ماذا ظَلّ؟
ماذا ظلّ من أسًى حتّى يُجرّبه أهل غَزّة وما جرّبوه؟ ماذا ظلّ من نكبةٍ لم يعيشوها؟ ماذا ظلّ من كأسٍ مُرّةٍ لم يشربوها؟ ماذا ظلّ من وجعٍ لم يكونوا عنوانًا له؟ وماذا ظلّ من لوعةٍ لم يَكْتَوُوا بنارها؟
المُستشفيات الّتي حماها القانون الدّولي من أنْ تُمَسّ قُصِفَتْ، واعتُقلِ كادرها الطّبّيّ، وأُسِرَ مديروها، ونُكِّل بالمرضى والجرحى فيها. وهُدِّمتْ، ورُدِّمتْ، ثُمّ أُحرقتْ، فأكلتْ منها النّيران ما أكلتْ.
الجُثَث الّتي لم يجدْ عامّة النّاس وقتًا ليدفنوها، أو لم يبقَ من أحدٍ ليدفنها، نُهِشَتْ من قِبَل الكلابِ الضّالّة، ولم تحظَ بعدُ بِمَنْ يُصلّي عليها، ولا مَنْ يعثر على مترَين من القِماشِ لِيُكَفِّنها.
الخِيامُ الّتي لا تُؤوي مِنْ حَرّ ولا من بردٍ، ولا تقي لا من صَحوٍ ولا مَطَرٍ، ولا تكون ملجَأً ولا منجًى قُصِفَتْ وأُحرِقتْ بِمَنْ فيها، وارتفعتْ أيدٍ من لهب، وأشرعةٌ من شُواظ تستغيثُ دون جدوى.
الأطفال الرُّضَع -أولئك الّذين مرّ على ولادة بعضهم أشهرٌ بل أيّامٌ- نخرَ البردُ عِظامهم، وحَزّ رِئاتِهم، وأخمدَ أنفاسهم، فماتوا في الصّقيع، وذَوَوْا في الزّمهرير، وما سُمِعَتْ لهم نأمة.
الأواني الّتي كانتْ تُمَدّ بأيدٍ مرتجفةٍ، وعيونٍ دامعة، وأفئدةٍ مثقوبة إلى قدور الإطعام، من أجل لُقمةٍ أو اثنتَين، لم تجدْ من بعدُ لا هاته اللّقمةَ، ولا تلك القُدُور، خوتْ من كلّ ما يسدّ رمقَ الجوع قبلَ الموت، وشحَّ في الرُّوح كلّ شيءٍ فمالتْ ذُبالتُها إلى أنْ تنطفِئ مع جملة ما انطفأ من كلّ شيءٍ في هذه المدينة الجريحة الذّبيحة.
العيونُ الّتي كانتْ ترى النّور غَرِقتْ في الظّلام، الأرجل الّتي كانتْ تمشي إلى البحثِ عن قدرٍ عاجَلَها القدرُ بقصفٍ أو بِلُغمٍ أو برصاصةٍ قنَاصٍ فبُتِرَت. الأمل الّذي كان يبدو تارةً ويخفى أخرى من قبلُ لم يعدْ يبدو، لقدج هاجرَ هذه المرّة وهَجَر. اليأسُ عَمّ، والحُزن طَمّ، والبُؤسُ غَطّى الشّوارع، والأسى ملأ المحاجر، والخوفُ رَجَّفَ الأنفاس، والهلعُ ارتسمَ على عيونِ الّذين وُلِدوا في المأساة، أو نشؤوا فيها ومعها، وما دَرَوا لِماذا يحدث كلّ هذا؟!
لكمُ الله أيّها المفؤودون؛ إنّ كلّ خوفٍ لا بُدّ له من طمأنينة، وإنّ كُلَّ أَلَمٍ لا بُدّ له من أمل، وإنّه لا بُدّ للّيل أنْ ينجلي وإنْ طال، ولا بُدّ للفجر أنْ يولَد وإنْ امتدّتْ شهورُ تَخَلُّقِه في رَحِم المعاناة.
هِيَ أيّام لا كالأيّام، مرّتْ كأنَّ سنينَ القحط والجدب كلّها تجلَّتْ فيها، وإنّ أهل غزّة لموعودون بالفرج، وإنّنا لنأمل أنْ تكونَ الصّفقةُ قريبة، وتمسحُ ولو قليلاً على الجراح الطّويلة القديمة، وتُوقِفُ النّزيف، وتُفرِّجُ عن المَكرُوبين، وتليقُ ولو بجزءٍ قليلٍ من التّضحيات الجِسام العِظام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق