حكومة سواد الليل برئاسة البرادعي
مرة أخرى، يضطرني الدكتور محمد البرادعي للعودة إلى الوقائع التاريخية الموثقة، استجلاء لحقيقة، لا ينطق بها، كاملةً، بل يحكي ما يراه نافعاً ومفيداً في ترميم برواز صورة، فخم وأنيق، هشّمته الأحداث، فتناثر، في اتجاهات عدة.
يجزم الدكتور محمد البرادعي، في حواره السبت الماضي مع تلفزيون العربي، بأنه لم يوافق على تشكيل حكومة، للإنقاذ الوطني، أعلنتها القوى الثورية من ميدان التحرير، منتصف ليلة من ليالي الدم التي أحياها المجلس العسكري، في مجزرة "محمد محمود" في الأسبوع الأخير من نوفمبر/ تشرين ثاني 2011.
يقول البرادعي"أنا تقديري في ذلك الوقت أن نزولي وإعلان وزارة من ميدان التحرير قد يؤدي هذا إلى عملية اقتتال".
ويبرّر بذلك رفضه تولي رئاسة حكومة، بديلاً عن كمال الجنزوري الذي أرادت السلطة العسكرية فرضه على الثورة والثوار. ويزيد البرادعي بأنه رفض، وسيرفض لو عاد به، وبنا الزمان، مرة أخرى، للحظة الدم والعنف في ميدان التحرير.
هل صحيح أن البرادعي رفض أن يكون على رأس حكومة، يفرضها ميدان الثورة؟!
هذا السؤال أطرحه على كل من: الكاتب علاء الأسواني والمنسق العام السابق للجمعية الوطنية للتغيير عبد الجليل مصطفى، والسياسي المخضرم الدكتور محمد غنيم، والكاتبة أهداف سويف، وقاضي تيار الاستقلال المعروف المستشار زكريا عبد العزيز، ونائب رئيس حكومة ما بعد الانقلاب، الدكتور حسام عيسى.
هذه الأسماء، بالإضافة إلى كاتب هذه السطور، أنفقت نحو ست ساعات من المفاوضات والمباحثات، والاتصالات الهاتفية، مع الدكتور البرادعي، والدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، والمهندس أبو العلا ماضي، والسيد حمدين صباحي، انتهت بالتوصل إلى إعلان تشكيل هيئة لتمثيل الثورة المصرية، في القاهرة والمحافظات، وإعلان حكومة إنقاذ وطني، يرأسها البرادعي، ومعه نائبان هما: حسام عيسى وأبو العلا ماضي.
والذي حدث أنه، في ظل حالة الغليان والغضب التي اجتاحت جمهور الثورة، عقب مذبحة "محمد محمود" الأولى، وإمعان المجلس العسكري في إهانة الثورة وشهدائها بالإصرار على فرض كمال الجنزوري، صاحب الأربعين عاماً من العمل في نظامي أنور السادات وحسني مبارك، تجمع آلاف الغاضبين حول الأسماء المذكورة أعلاه، ورفضوا الانصراف قبل الإعلان عن حكومةٍ من رحم الثورة، يتم فرضها فرضاً على العسكر.
ووسط هذه المشاعر الملتهبة، دارت المفاوضات والاتصالات، وكان التصوّر الأولي أن تكون حكومة برئاسة البرادعي ومعه أبو الفتوح وصباحي، نائبين، إلا أن الأخيرين اعتذرا، وفضلا الوجود في هيئة لتمثيل الثورة، من مختلف الأطياف، فجرى التواصل مع أبو العلا ماضي وحسام عيسى، فوافقا، بعد أن أبلغا بموافقة البرادعي المبدئية.
وبعد بلورة هذا التصور، انتقل أصحاب هذه المبادرة إلى منصة ميدان التحرير، بصعوبة شديدة، نظراً إلى الحشود الهائلة، وأمسك علاء الأسواني بالميكروفون، وقرأ ما توصلنا إليه، وبثته أكثر من قناة فضائية، على الهواء مباشرة، الإعلان عن حكومة ثورة برئاسة البرادعي، بعد موافقة الأخير عليها.
كانت المنصة تهتز وفوقها كل من الأسواني وعبد الجليل مصطفى وزكريا عبد العزيز ومحمد غنيم وأهداف سويف، وكاتب هذه السطور، والواقعة كلها محفوظة على "يوتيوب"، لمن أراد الرجوع إليها، حيث يعلن علاء الأسواني الأسماء، واحداً تلو الآخر، ومؤكّداً أن هذا التشكيل لم يعلن إلا بعد الحصول على موافقات الأسماء المشمولة فيه، وأولها الدكتور البرادعي.
كان ذلك في الدقائق الأولى من صباح السبت 26 نوفمبر/ تشرين ثاني 2011، وكان المنتظر أن يأتي البرادعي إلى الميدان، بعد أن يطلع النهار، لتفعيل ما تم الإعلان عنه، خصوصاً أن الطرح لاقى استحساناً من مختلف الأطراف، وإنْ بدرجاتٍ متفاوتة، غير أن البرادعي فاجأ الجميع بالذهاب إلى المشير، بدلاً من أن يأتي إلى التحرير، أقول ذهب إلى المشير، ولا أريد القول إنه تم استدعاؤه للقاء المجلس العسكري، فلبى الاستدعاء، فيما ترك الميدان ينتظر الذي لا يأتي.
هذا ما جرى، وعايشته بشكل شخصي وينطق به الفيديو المرفق بهذا المقال ، ولا أظن أن كل الواقفين على منصة التحرير، وحولها، كانوا غائبين عن الوعي وهم يعلنون حكومة ثورة.
ما حدث في المسافة من سواد الليل، حتى طلوع نهار ذلك اليوم، يعلمه البرادعي، والعسكر، كنا نتمنى أن يقصّه علينا المتحدث.