الخبرة التاريخية وحل عقدة حلايب
مثلث حلايب وشلاتين بمثابة مؤشر للعلاقة بين مصر والسودان، والجدل حوله ترجمة لحالة التوتر بين الحكومتين.
عامر عبد المنعم
فعندما تكون العلاقات جيدة يتوقف الحديث عن هذه المنطقة التي جعلها الاستعمار البريطاني كلغم قابل للتفجير، ويتصاعد التراشق السياسي والإعلامي كلما ساءت العلاقات السياسية بين نظامي الحكم في البلدين.
الغريب أن النزاع المشتعل يتعامل مع هذا المثلث الصغير وكأنه مكتشف حديثا، ويستند الجدل إلى خطوط التقسيم التي وضعها الإنجليز في الاتفاقية الثنائية عام 1899 والمرسوم الذي صدر في 1902، ويتجاهل الطرفان التاريخ الذي امتد لقرون طويلة في إدارة هذه المنطقة، التي كان لها دور كبير في التاريخ الإسلامي والعالمي.
الخبرة التاريخية تنهي هذا الصراع المفتعل، وتقدم حلا لهذه المعضلة؛ فهذا المثلث كان به ميناء "عيذاب" أكبر ميناء تجاري وملاحي عرفته مصر، ولم تكن الزاوية الجنوبية الشرقية لمصر مجرد منطقة صحراوية معزولة تقيم فيها قبائل بدوية بعيدا عن العمران، وإنما كان لها دور حضاري واقتصادي وديني لفترات طويلة.
ميناء عيذاب
ظل ميناء عيذاب أهم ميناء مصري في عهد الفاطميين والأيوبيين والمماليك، فكانت حركة الملاحة إلى الحجاز تتم من خلاله، وكانت مصر من خلال هذا الميناء ممر التجارة العالمية من الشرق إلى الغرب من خلال حركة السفن التجارية التي تنقل التوابل والبضائع من آسيا إلى ساحل البحر الأحمر في عيذاب ثم تحملها القوافل إلى مدينة قوص ومنها إلى الفسطاط عبر نهر النيل ثم إلى الإسكندرية ومنها إلى الدول الأوربية.
كانت عيذاب طريق الحج للمصريين والأفارقة والمغاربة، حيث يتجه الحجاج إلى مكة عبر البحر الأحمر خاصة بعد قطع الطريق البري شمال شرق مصر بسبب مملكة القدس الصليبية التي هددت طريق العقبة.
كان الحجاج يسافرون بالمراكب من الفسطاط ويسيرون في النيل حتى مدينة قوص أو أسوان ثم ينتقلون عبر الصحراء بالجمال حتى عيذاب، ومن هناك يستقلون السفن حتى ميناء جدة، وتمتلئ كتب التاريخ الإسلامي بالمعلومات عن عيذاب وأهميتها في المراحل التاريخية المختلفة لحكام الدولة المصرية، فكتب عنها المقريزي وبن تغري بردي والسخاوي وبن العماد وبن خلدون وغيرهم.
من الكتب المهمة التي وصفت عيذاب والطريق إليها من قوص وأسوان كتب الرحالة الفارسي ناصر خسرو الذي زار مصر في العصر الفاطمي، والرحالة بن جبير الذي سجل رحلته للبلاد المصرية في العصر الأيوبي ووصف عيذاب بأنها "أحفل مراسي الدنيا"، والرحالة بن بطوطة الذي جاء في العصر المملوكي ولم يكمل رحلته وعاد من عيذاب بسبب الاضطرابات وتخريب السفن التي قامت بها قبائل "البجة" التي تقيم بالمنطقة.
موقع عيذاب
ومن العجائب أن عيذاب التي كانت حاضرة البحر لمدة تزيد عن 450 عاما اندثرت في نهاية عصر المماليك، ولم يبق منها إلا الأطلال، ولا توجد دراسات أثرية حديثة عن موقعها، وهذا التجاهل لا نعرف له سببا رغم أهمية المكان تاريخيا وفي الوقت الحاضر لاستعادة الذاكرة بشأن مثلث حلايب.
لقد اهتم الإنجليز في بداية القرن العشرين بإجراء دراسات عن ساحل البحر الأحمر، ومن هذه الجهود دراسة للباحث الأثري موري G. Murray الذي أجرى مسحا لمنطقة حلايب وجبل علبة أسفر عن العثور على آثار المسجد الجامع وصهاريج المياه وقطع من العملات النحاسية من عهد الظاهر بيبرس، واكتشف مقبرة ضخمة تضم أعدادا كبيرة من المدافن، ووضع خارطة لعيذاب وحدد موقعها على خط عرض 22 درجة و19 دقيقة و47 ثانية. ونشر موري دراسته عام 1926 في جيوغرافيك جورنال (تفاصيل أخرى في كتاب البحر الأحمر في التاريخ الإسلامي للسيد عبد العزيز سالم).
وبالرجوع إلى القاموس الجغرافي لمحمد رمزي وهو أهم مرجع عن البلاد المصرية يقول إن "عيذاب تقع على خط عرض 22 درجة و20 ثانية وأنها من أملاك الدولة المصرية بالقرب من الحد الفاصل بين مصر والسودان، وتقع في اتجاهها من جهة الغرب على النيل بلدة أبو سمبل، وأما من جهة الشرق فتقابلها رابغ على ساحل الحجاز". وهذا يعني أن عيذاب تقع تقريبا فوق الخط 22 أي في أقصى جنوب مثلث حلايب.
قبائل البجة
خصوصية مثلث حلايب تأتي من أنه منطقة قبلية مغلقة، حيث إن سكانه ينتمون إلى العبابدة والبشارية وهما من بطون البجة الممتدة على ساحل البحر الأحمر في مصر والسودان، تبدأ من القصير شمالا وحتى حدود إثيوبيا وإريتريا جنوبا، وتسيطر على شرق السودان.
تاريخيا كانت البجة قبائل وثنية تتسم بالشراسة والتمرد ويصعب احتواؤها، ورفضت اعتناق المسيحية، وتأخرت في اعتناق الإسلام، بعد سنوات من الفتح الإسلامي لمصر، وبدأ تحولها مع وصول القبائل العربية، خاصة قبيلة ربيعة، فاشتدت شوكتهم وتزوجوا من البجة، فقويت البجة بمن صاهرها من ربيعة وقويت ربيعة بالبجة على من ناوأها، ومع الوقت اعتزت البجة بالانتماء العربي.
ونظرا لكثرة الذهب والزمرد في شرق أسوان، في وادي العلاقي وجبل علبة وحتى البحر الأحمر كانت أراضي البجة هدفا لأعمال التنقيب منذ أيام الفراعنة، ولصعوبة التغلب عليهم عقد الفراعنة معهم اتفاقيات للمهادنة وعدم الاعتداء، وفي بردية فرعونية ترجع إلى الدولة المتوسطة جاء في خطاب أرسله الملك إلى ولي عهده عن البجة "لا تعادهم ولا تحاربهم لأنهم يضربون ضربتهم ويهربون في الجبل وحربهم غير مجدية لأنهم لا يملكون غير أرواحهم"، وسار الروم على نهج الفراعنة.
ولعبت قبائل البجة بعد الإسلام دورا مهما في الممالك الإسلامية التي تأسست في السودان، وكانوا من أشد أعوان الثورة المهدية ضد الانجليز، وخاض زعيم البجة عثمان دقنة ( شارك في ثورة عرابي) معارك ضد الجيش الانجليزي وحقق انتصارات مهمة.
وفي العصر الإسلامي زاد الاعتماد على البجة مع الاهتمام بالجنوب الشرقي لمصر بسبب الذهب وأيضا بسبب حركة التجارة والملاحة، ونجح حكام مصر في احتواء البجة وتوظيف القبيلة لخدمة الدولة المصرية.
السلطة المصرية والسيادة
نظرا لأهمية هذه المنطقة في العصر الإسلامي تعامل حكام مصر معها بطريقة مرنة تراعي طبيعتها المرتبطة بالقبلية، فكانت السيادة للحكم المصري بتعيين والٍ يمثل السلطان له السلطة العليا على المنطقة، وتعيين ناظر لجباية الرسوم والمكوس، وتعيين قاض من قوص ونواحيها، وله عدة اختصاصات بجانب تنفيذ القانون وفض المنازعات، مع وجود سلطان للبجة يشارك في الإدارة وتنظيم الحركة بالميناء وخدمة القوافل وحفظ الأمن.
من علامات السيادة قيام الفاطميين بتخصيص أسطول من السفن لحراسة الميناء من أي أخطار ولمطاردة القراصنة، وسار الأيوبيون على نفس النهج إلى أن تعرضت عيذاب لاعتداء عندما قرر الصليبيون توجيه ضربة للاقتصاد المصري، حيث جهز البرنس أرناط قائد الإمارة الصليبية في الكرك بفلسطين عام 578 هـ أسطولا من السفن وحمله على الجمال، وأنزله في خليج العقبة وتوجه به إلى عيذاب، فخربها وأحرق السفن وقتل الحجاج واستولى على البضائع.
ونزل الصليبيون على البر وهاجموا القوافل في طريق قوص، ثم عادوا إلى البحر واتجهوا إلى المدينة يريدون نبش قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فأرسل العادل شقيق صلاح الدين خلفهم أسطولا من السفن المصرية بزعامة المغربي حسام الدين لؤلؤ فأدركهم بالقرب من جدة فهزمهم وعاد بالأسرى إلى القاهرة واستعرضوا بهم في الشوارع، وكانت هذه الواقعة سببا في إصرار صلاح الدين الأيوبي على الانتقام والإعداد لمعركة حطين بعدها بخمس سنوات وقطع بنفسه رأس أرناط.
وحرص الأيوبيون على جعل البحر الأحمر بحيرة إسلامية مغلقة، ونفس الأمر فعله بعدهم سلاطين المماليك، خاصة في العصر المملوكي الأول فقضوا على الإمارات الصليبية، وتوسعوا في السيطرة على سواحل البحر الأحمر، وعملوا على استمرار تأمين وحماية الملاحة والتجارة عبر عيذاب والقصير، وبسط سيادتهم السياسية والاقتصادية.
وفي عهد المماليك قام داوود ملك النوبة بالسودان عام 671 هـ بتخريب عيذاب وأسوان ردا على سيطرة المماليك على ميناء سواكن، فجرد الظاهر بيبرس حملة عسكرية قضت على مملكة النوبة وأنهت وجودها، ولكن في أواخر عهد المماليك ومع تزايد الاضطرابات والتمرد في الصعيد نقلت السلطات المصرية حركة التجارة والملاحة من عيذاب والقصير إلى الطور وجدة حيث تمكن المماليك من السيطرة على جانبي البحر الأحمر.
ومع توقف حركة الحج والتجارة تراجعت أهمية عيذاب، وتراجع الازدهار الذي عاشه صعيد مصر، وتلاشى أمر قوص منذ ذلك الوقت، لكن الغريب أن عيذاب تم هدمها ولم يتبق منها إلا خرائب، ولم ينقل لنا المؤرخون تفاصيل دقيقة عن سبب تخريبها غير ما انفرد بها الحسن الوزان المعروف بجان ليون الإفريقي برواية لم ينقلها غيره وهي أن السلطان المملوكي الأشرف برسباي في دولة المماليك الثانية 830 هـ هو الذي خربها انتقاما من البجة الذين تمردوا عليه.
الحقائق التاريخية بشأن مثلث حلايب تؤكد أن السيادة لمصر والإدارة بالمشاركة مع القبائل الساكنة بالمنطقة، ومراعاة للواقع القبلي وتماسك صلة الأرحام الذي لا يمكن فصله بالحدود السياسية، ولذلك فإن أفضل حل لهذا الملف هو تجميده وتحويل المنطقة إلى منطقة تكامل وليس تنازع يستفيد منها البلدان.
المصالح العليا للشعبين تفرض على الحكومتين تجميد الخلافات، ووقف التصعيد، ومنع حملات الهجوم الإعلامي والتصريحات التي تؤجج الصراع، فالأجواء الدولية المعادية تفرض على السودانيين قبل المصريين التصدي لدعاوى فصل مثلث حلايب عن مصر، لأنها مرتبطة بالمؤامرة الصهيونية لتقسيم السودان، وتقوية التمرد لفصل الشرق.
من الحكمة تحقيق وحدة وادي النيل وإلغاء الحدود التي وضعها الاستعمار بين مصر والسودان، وليس فقط في حلايب وشلاتين، فالشعبان المصري والسوداني تربطهما أواصر العقيدة واللغة والمصاهرة والمصير المشترك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق