الفتنة الكبرى (3)
للأستاذ محمود محمد شاكر
كان من البيّن - كما رأيت قبلُ - أن يهود الحجاز قد شبوا في الجاهلية نار العداوة بين بني أم واحدة وأب واحد، يسكنون بلدة واحدة، وهم الأوس والخزرج، فتمادت الحرب بين الأخوين أحقاباً من زمن الجاهلية حتى كادوا يتفانون في يوم (بُعاث) الذي كان قبل هجرة نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بست سنين. وكان الذي كان بين هذين الأخوين أمراً جللاً شديداً على بعض عقلاء الأوس والخزرج، إذ صاروا إلى ما وصفهم به أصحاب بيعة العقبة الأولى من الأنصار إذ قالوا لنبي الله: (إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بيننا)، ويهود يومئذ، (قد عَزُّوهم ببلادهم) أي غلبوهم عليها واستأثروا بها، كما قال رجال من الصحابة وكما قال أكثر رواة التاريخ القديم. وكان بعض اليهود يحالف الأوس، وبعضهم يحالف الخزرج، ولكنهم كانوا يداً واحدة إذا جد الجد، فيخرجون من معارك هذين الأخوين لا يصيبهم شر كثير أو قليل، بل كانوا يقولون لهم: (إن نبياً مبعوث الآن قد أظل بزمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإِرَم) وشغلت الحرب والعداوة هذين الحيين، فانصرفوا عن الزراعة واستولت عليها يهود، وشغلتهم عن التجارة فاستبدت بها يهود، وشغلتهم عن حماية أرضهم فعاثت فيها يهود. وأخذت يهود تبني في المدينة وما جاورها آطاماً وحصوناً كثيرة متفرقة، وتجمع في هذه الحصون ما استطاعت من السلاح والحلقة وعدة الحرب، وهي شئ كثير جداً كما ظهر ذلك بعد فتح هذه الحصون والآطام على يد رسول الله وأصحابه من المهاجرين والأنصار. ولم يكن ذلك من فعلهم في المدينة وما جاورها وحسب، بل كان مثله أيضاً في جنوب الجزيرة، في اليمن وتلك البقعة من نجران وصنعاء إلى ناحية البحرين، كانوا يقيمون الحصون والآطام ويجمعون فيها السلاح فيكثرون الجمع، وينشئون لأنفسهم مدناً أو شبه مدن في هذه النواحي كلها، هي لهم خالصة لا يساكنهم فيها أحد.
نعم، ينشئون المدن والحصون والآطام ويجمعون السلاح، ويحالفون من جاورهم من الأعراب والبدو، ويوقعون بين حلفائهم العداوة والشر، في المدينة وفي غير المدينة من جزيرة العرب. فماذا كانت تريد يهود بإعداد كل هذه العدة من البناء والسلاح وإيقاد البغضاء، وصرف وجوه الناس عن أسباب الحياة إلى معترك الحرب؟ كانت تريد في المدينة مثلاً أن تسقط البلاد في أيديهم خالصة لهم، بعد أن يتفانى الأوس والخزرج في حروبهم التي يؤرّثونها بينهم، كما رأيت ذلك من فعلهم يوم رأى شأس بن قيس اليهودي ما رأى من صلاح ذات البين بين الأوس والخزرج بالإسلام، فيرسل إليهم فتى من يهود يناشدهم ما تقاولوا من الشعر في حروبهم، فتكاد الحرب تقع بين الأوس المسلمين والخزرج المسلمين، لولا أن أدركهم رسول الله فردّهم إلى عقولهم وأطفأ كيد اليهودي شأس بن قيس. ومن قارن بين فعل يهود قديماً وفعلهم حديثاً في فلسطين، ومن إقامتهم الحصون والآطام والمدن في المدينة وغيرها من الجزيرة، وما فعلوا من إنشاء المدن والحصون والمستعمرات حديثاً في فلسطين، عرف أن هذه شيمة يهود منذ قديم، وهذا هو أسلوبهم قديماً وحديثاً حذوك النعل بالنعل. وإذن فقد كانت تريد يهود أن تنشئ دولة في المدينة شمالاً وفي اليمن جنوباً كما تريد اليوم أن تنشئ دولة لليهود في فلسطين، وفي غير فلسطين أيضاً.
هكذا كان أمرهم في الجاهلية، ثم يرسل الله رسوله ويهاجر إلى المدينة فلا يكاد يفعل حتى يمتلئ تاريخ الإسلام منذ ذلك اليوم بأخبار اليهود وفتنتهم وتأريثهم العداوة بين العرب المشركين والعرب المؤمنين، وبسعايتهم في تأليب الأحزاب على رسول الله، وبغدرهم ونكثهم ودسائسهم، لم يكفوا ساعة عن التماس غرة المؤمنين والمؤمنات، وعن ابتغاء الوقيعة بين المؤمنين أنفسهم. ويمتلئ تاريخ الإسلام منذ ذلك اليوم أيضاً بأخبار المنافقين، وقد أجاد الله لنا صفتهم في كتابه، وبين لنا أحسن البيان صلتهم باليهود وإيواء اليهود لهم، ويكثر ما نزل من الآيات في شأن اليهود والمنافقين جميعاً، مقرون ذكرهما معاً. وتكون أول سورة نزلت من القرآن في المدينة هي السورة التي تذكر فيها (البقرة)، يقول الطبري في تفسيره ج1 ص84 بإسناده عن ابن عباس: (إن صدر سورة البقرة إلى المئة منها نزل في رجال سماهم بأعيانهم وأنسابهم من أحبار يهود ومن المنافقين من الأوس والخزرج، كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم). ثم ماذا؟ ثم تكون آخر سورة نزلت بالمدينة، أو آخر سورة نزلت من القرآن، هي سورة (براءة) أو سورة (التوبة)، تلك السورة التي فضحت اليهود والمنافقين وهتكت عن سرائرهم، وكشفت عما كانوا يبيتون من القول ومن الكيد، والتي يقول الله فيها: (يحذر المنافقين تنزّل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم، قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون)، والتي سماها بعضهم (الفاضحة) و (المخزية) و (المنكلة) و (المشردة) و (المدمدمة) دلالة على ما جلبت على اليهود والمنافقين من الفضيحة والخزي والتنكيل والتشريد والدمدمة. ثم تكون هي السورة التي يذكر فيها (الأعراب) الذين حول المدينة من حلفاء يهود، ست مرات.
تنزل أول سورة من القرآن، فإذا هي في اليهود والمنافقين، وتنزل آخر سورة من القرآن فإذا هي في اليهود والمنافقين ومن حول المدينة من الأعراب حلفاء يهود، وينزل ما بينهما من القرآن في عشر سنوات متواليات يصف ما كان من أمر هؤلاء، وينذرهم، ويكشف عن دسائسهم وكيدهم، فإذا بك ترى تاريخ الإسلام في هذه الحقبة - منذ هاجر رسول الله إلى أن توفاه الله - حافلاً بالغدر والكيد والتأليب ونكث العهود ونقض المواثيق. ويكون أول ذلك أن تسلم طائفة من أحبار يهود سماهم أصحاب السير والتاريخ، يسلمون نفاقاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (كما فعل كعب الأحبار وعبد الله بن سبأ وغيرهما في عهد عمر وعثمان)، فكانوا يحضرون المسجد فيستمعون أحاديث المسلمين ويسخرون منهم ويستهزئون بدينهم، ويحدثنا ابن هشام عنهم فيقول: (فاجتمع يوماً في المسجد ناس منهم، فرآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدثون بينهم خافضي أصواتهم، قد لصق بعضهم ببعض، فأمر بهم رسول الله فأخرجوا من المسجد إخراجاً عنيفاً)، فهل تجد أوضح ولا أبين من هذا في صفة المتآمرين حين يجلسون يتخافتون بينهم أمراً يكيدون به ويبيّتونه؟ ويظل هذا حال المنافقين وحال اليهود معاً إلى أن يدعو الله إليه رسوله: يأوي المنافقون إلى أشياخ من اليهود يتآمرون يوماً بعد يوم عشر سنوات متواليات، ويكون على رأس هؤلاء المتآمرين رجال كأمثال رفاعة بن زيد بن التابوت اليهودي الذي أظهر الإسلام وأبطن النفاق، فيسميه المسلمون (كهف المنافقين)، لأنهم كانوا يخلون إليه، ويتآمرون فيه بليل، ويستودعون ظلام هذا الكهف السميع البصير سرَّ تآمرهم وخفي كيدهم. ورسول الله في خلال ذلك كله يجاهدهم ويرجو هدايتهم، ويظل يفعل ذلك ثماني سنوات غير قانط ولا يائس، يصلي على من مات من المنافقين ويستغفر لهم، فإذا طال ذلك أنزل عليه ربه في سورة (براءة) آخر سورة نزلت، أشد آية في القرآن خاطب الله بها عبده ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم، ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الظالمين) ثم ينهاه أشد النهي فيقول: (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره، إنهم كفروا بالله وبرسوله وماتوا وهم فاسقون). كلمات قاطعة وأوامر حاسمة كحد السيف!!
عشر سنوات والقرآن ينزل على رسول الله في المنافقين واليهود مقرون ذكرهما معاً!! عشر سنوات تقرأ تاريخها في كتب السيرة فلا تمضي صفحة واحدة إلا وفيها ذكر لليهود والمنافقين معاً، عشر سنوات واليهود والمنافقون معاً يؤلبون على رسول الله القبائل ويفتنون المسلمين، ويدبرون الكيد للمؤمنين والمؤمنات ولرسول الله، حتى كان ما كان من اليهودية التي دست له ولأصحابه السم في الشاة فينبأ صلى الله عليه وسلم بما فعلت، فيلفظ بضعة اللحم من فمه صلى الله عليه وسلم.
ثم ماذا؟ ثم يحدثنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحدثنا منهم أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه فيقول: (كان آخر ما تكلم به صلى الله عليه وسلم أن قال: (أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب). آخر كلمة ينطق بها صلى الله عليه وسلم عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة! آخر كلمة تجري على لسانه وهو يلبي دعوة ربه إلى الرفيق الأعلى! ويروي الرواة هذه الكلمة ويأتي علماؤنا أحسن الله جزاءهم فيقفون عند هذا الحديث ينظرون ما سرّ هذا الأمر الحازم القاطع؟ إنهم لا يهتدون إلى سر، ولا يقفون على خبر، إلا أن يقولوا جميعاً كما قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه الأموال ص99: (وإنما نُراه قال ذلك صلى الله عليه وسلم لنكث كان الأمر، أو لأمر أحدثوه بعد الصلح) رويدكم أيها العلماء! إنه تأويل متهافت، ولا تجعلوا الظن أصلاً في التأويل. لقد كان أولى بكم أن تسألوا أنفسكم: أي نكث ذلك الذي كان من يهود الحجاز ومن أهل نجران؟ وكيف ذهب خبره فلم يرو لنا؟ وأي أمر ذلك الذي أحدثوه بعد الصلح؟ وكيف غاب عنا خبره؟ ولكن غفر الله لكم وجزاكم خيراً إذ لم تقطعوا برأي تدلسونه على الناس كما يفعل أدعياء العلم وكذبة العلماء في عصرنا هذا، بل قلتم جميعاً كما قال أبو عبيد القاسم بن سلام: (إنما نراه) (بضم النون) أي إنما نظنه ظناً. ولكن ما قيمة الظن في أمر كهذا الأمر؟ وكيف تريدون أن تفسروا حديثاً بظن من الظنون لم تأت به رواية، ولم يعرف له خبر يؤيده من حوادث التاريخ؟
كلا أيها العلماء! إنها آخر كلمة تكلم بها رسول الله وهو معرض عن الدنيا مقبل على الآخرة، آخر كلمة ينطق بها لسان نبي الله الذي لا ينطق عن الهوى. كلا فالأمر أعظم وأجل وأخطر مما تظنون. إنها كلمة من كلمات النبوة! إنها تنبيه من الله على لسان نبيه إلى أحداث ستكون، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً. لقد كشف الغطاء وتتجلى لرسول الله غيب ما سيكون، فرآه وهو على فراش الموت كما رآه المؤمنون عياناً من بعد: فتنة ماحقة في الحجاز وما جاورها، وفي نجران وما أطاف بها. نار مشعلة فيما حول المدينة من الحجاز، وأخرى مستعرة فيما حول نجران من اليمن. إنه يقولها صلى الله عليه وسلم لا لشيء كان بل لشيء سيكون، يراه هو ولا يراه أصحابه رضي الله عنهم.
ولقد نزل الموت برسول الله صلى الله عليه وسلم كأشد ما ينزل حتى دعا بقدح من ماء، يدخل يده فيه ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول: (اللهم أعني على سكرات الموت. الله أعني على كرب الموت. ادن مني يا جبريل! ادن مني يا جبريل! ادن مني يا جبريل!) وعنده صلى الله عليه وسلم خميصة (ثوب من خز) يأخذها فيلقيها على وجهه، حتى إذا اغتمّ بها وضاق ألقاها عن وجهه وهو يقول (لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ويقول أيضاً: (لئن بقيت لا أدع بجزيرة العرب دينين، وتكون آخر كلمة يتكلم بها وهو في مثل ما ترى من كرب الموت: (أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب): أي أدركوا النار قبل أن تشتعل، أنقذوا العرب من فتن لا تبقي ولا تذر! أحذروا يهود الحجاز، وأحذروا أهل نجران خذوا عليهم طريق الفتنة وأخرجوهم قبل أن يخرجوكم ويسفكوا دماءكم أيتها العصابة القليلة المؤمنة! ويقبض الله إليه نبيه قبل أن يقول لهم في هذا الأمر قولاً لا يضلون بعده، وتبقى هذه الكلمة بغير تفسير حتى يقول العلماء في سرها ما قالوا رجماً بالغيب.
ثم ماذا؟ ثم لا تكاد تتم بيعة أبي بكر حتى تنفجر الردة في أماكن بعينها من جزيرة العرب، فتقول عائشة بنت أبي بكر الصديق أم المؤمنين قولاً يروى لنا، لم يلق إليه أحد بالاً إلى يوم الناس هذا: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل بأب ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها! اشرأب النفاق بالمدينة وارتدت العرب وصار أصحاب محمد كأنهم معزى مطيرة، في حُش، في ليلة مطيرة، بأرض مسبعة. فو الله، ما اختلفوا في واحدة إلا طار أبي بحظها وغنائها عن الإسلام). ويحدثنا أيضاً عروة بن الزبير العوام: (وقد ارتدت العرب إما عامة، وإما خاصة في كل قبيلة، ونجم النفاق، واشرأبت اليهود والنصارى، والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية، لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم، وقلتهم وكثرة عدوهم).
وخليق بي وبك، أن نقف قليلاً عند هذا. نقف حيث وقف بنا أمر رسول الله أن: (أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب)، نقف حيث وقفت بنا آخر كلمات تكلم بها صلى الله عليه وسلم، وحيث وقف بنا قوله وهو في كرب الموت (لئن بقيت لا أدع جزيرة العرب دينين)، وحيث وقف بنا قول أم المؤمنين عائشة: (اشرأب النفاق بالمدينة وارتدت العرب)، وحيث وقف بنا حديث عروة (ارتدت العرب. . . ونجم النفاق، واشرأبت اليهود والنصارى). ثم نأخذ جميعاً نقرأ تاريخ حروب الردة في كتب القدماء من المؤرخين، وماذا قالوا في أسبابها، ونقرأ تاريخها أيضاً في كتب المحدثين من المؤلفين والمؤرخين، ونقرأ أيضاً كتب المستشرقين الذين يجلّهم الدكتور طه ويرفع بذكرهم رفعاً شديداً فماذا نجد؟ نجد غموضاً شديداً كأننا نسير في ليلة مظلمة في بطن واد عميق، عن يمينه جبل شامخ وعن يساره جبل شامخ قد أطبقا عليه جميعاً. وإذا الردة في كتب القدماء أخبار مجموعة كما اتفق لهم أن يجمعوها، لم ينظر أحد في أسبابها، ولا في الحوافز التي أغرت العرب بها، ولا في أمر المرتدين وصفتهم وعلاقة بعضهم ببعض، ولا في وجه الشبه الذي يجمع بينهم قبل أن يرتدوا. وإذا الردة في كتب المحدثين أخبار أيضاً حاول أصحابها أن يرتبوها ما استطاعوا، فلما نظروا في أسبابها، وفي حوافزها، وفي صفة أهلها وفي علاقة بعضهم ببعض، وفي وجه الشبه الجامع بينهم قبل أن يرتدوا - إذا بهم يخلطون خلطاً شديداً كأنهم يبحثون عن ذرة في بحر من الوحل. وإذا المستشرقون يملئون كتبهم كعادتهم بالجهل الذي يضرب بعضه في وجوه بعض.
نعم، نقرأ تاريخ الردة في كل هذه الكتب جميعاً، فإذا هي خالية جميعاً من ذكر اليهود ومن ذكر المنافقين إلا كلمة شاردة ككلمة عائشة وكلمة عروة بن الزبير بن العوام تعرض في كتب القدماء، وإذا المحدثون من المستشرقين الخائضين فيما ليسوا له بأهل، لا يكادون يذكرون اليهود والمنافقين في حرب الردة، وإذا هذا عجب من أعجب أمرهم، فهم أشد ولعاً بالبحث عن الأسباب واستقصائها ونبشها، من أن تخفى عليهم هذه الحقيقة البينة التي بين أيديهم، حقيقة اليهود والمنافقين وما كان لهم من خطر في تاريخ الإسلام منذ هاجر رسول الله إلى أن قبضه الله إليه!! وإذا بك ترى المؤلفين من رجالنا قد ضلوا إلى حيث أضلهم أساتذتهم من المستشرقين، فغفلوا عن تعليل الردة كيف كانت؟ وكيف بدأت؟ ومن بدأ بها؟ وكيف تم أمرها؟ ولم يسأل واحد منهم نفسه. أليس من العجيب الذي لا يقضى منه عجب أن يقضي نبي الله عشر سنوات منذ هاجر إلى المدينة حتى قبضه الله إليه، فلا يمضي يوم واحد لا يلقى فيه أشد البلاء من كيد يهود، ومن كيد أشياعهم وصنائعهم من المنافقين، ثم يظل رسول الله هذه السنوات العشر وهو يقاتل اليهود ويقاتل مكايدهم في الأوس والخزرج، وفي القبائل، وفي الأعراب حول المدينة، ثم يظل رسول الله يتلقى الوحي من ربه هذه السنوات العشر، فإذا أول سورة تنزل عليه وهي البقرة، أكثرها في ذكر اليهود والمنافقين وبيان حالهم وصلة بعضهم ببعض وأتمارهم جميعاً بالمؤمنين الذين اتبعوا ما أنزل الله على رسوله. وإذا آخر سورة تنزل عليه صلى الله عليه وسلم وهي براءة كلها في صفة اليهود والمنافقين، وفي الكشف عن أقوالهم ودسائسهم وكذبهم وخداعهم حتى فضحتهم ونبأتهم بما تخفي صدورهم من الكيد والغيظ والنفاق، ثم يكون آخر ما يتكلم به صلى الله عليه وسلم وهو في كرب الموت: (لئن بقيت لا أدع في جزيرة العرب دينين)، وأمره لصحابته: (أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب)، ثم يقبض الله إليه رسوله ويبايَع أبو بكر، وما هي إلا أيام قلائل حتى تشعل نيران الردة في أماكن بعينها من جزيرة العرب شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً - أليس من العجيب الذي لا يقضى منه عجب أن لا نجد بعد هذا كله شيئاً في كتب القدماء أو المحدثين - أو المستشرقين إن شئت - ذكراً لليهود والمنافقين في أمر الردة؟ أهكذا ينتهي فجأة من تاريخ العرب ذكر اليهود والمنافقين بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أيجوز في العقول أن تظل يهود وأشياعها من المنافقين تكيد للإسلام ولرسول الله وللمؤمنين والمؤمنات عشر سنوات كاملة متتابعة يوماً بعد يوم، فإذا لحق رسول الله بالرفيق الأعلى (في سنة 11 من الهجرة) نزعوا أيديهم من كل كيد، وبرئوا من كل حدث كان بعد ذلك في تاريخ الإسلام - برئوا من الردة (في سنة 11 من الهجرة)، وبرئوا من مقتل عمر (في سنة 23)، وبرئوا من الفتك بعثمان بن عفان رضي الله عنه (في سنة 35).
ولكن كيف غاب عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى قوله: (أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أعل نجران من جزيرة العرب)؟ وكيف غفل قدماء علمائنا عن معنى هذا الحديث وفيم قيل؟ وكيف ذهل المؤرخون القدماء عن أن يربطوا بين تاريخ الردة وبين تاريخ اليهود والنافقين؟ وأخيراً كيف كانت الردة في الإسلام؟ وما آثارها التي تخلفت عنها؟
هذا حديث أحدثك به إن أنسأ الله في أجلي حتى ألقاك في مكاني من هذه الصفحات.
محمود محمد شاكر
تاريخ النشر 01 - 03 - 1948
للأستاذ محمود محمد شاكر
كان من البيّن - كما رأيت قبلُ - أن يهود الحجاز قد شبوا في الجاهلية نار العداوة بين بني أم واحدة وأب واحد، يسكنون بلدة واحدة، وهم الأوس والخزرج، فتمادت الحرب بين الأخوين أحقاباً من زمن الجاهلية حتى كادوا يتفانون في يوم (بُعاث) الذي كان قبل هجرة نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بست سنين. وكان الذي كان بين هذين الأخوين أمراً جللاً شديداً على بعض عقلاء الأوس والخزرج، إذ صاروا إلى ما وصفهم به أصحاب بيعة العقبة الأولى من الأنصار إذ قالوا لنبي الله: (إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بيننا)، ويهود يومئذ، (قد عَزُّوهم ببلادهم) أي غلبوهم عليها واستأثروا بها، كما قال رجال من الصحابة وكما قال أكثر رواة التاريخ القديم. وكان بعض اليهود يحالف الأوس، وبعضهم يحالف الخزرج، ولكنهم كانوا يداً واحدة إذا جد الجد، فيخرجون من معارك هذين الأخوين لا يصيبهم شر كثير أو قليل، بل كانوا يقولون لهم: (إن نبياً مبعوث الآن قد أظل بزمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإِرَم) وشغلت الحرب والعداوة هذين الحيين، فانصرفوا عن الزراعة واستولت عليها يهود، وشغلتهم عن التجارة فاستبدت بها يهود، وشغلتهم عن حماية أرضهم فعاثت فيها يهود. وأخذت يهود تبني في المدينة وما جاورها آطاماً وحصوناً كثيرة متفرقة، وتجمع في هذه الحصون ما استطاعت من السلاح والحلقة وعدة الحرب، وهي شئ كثير جداً كما ظهر ذلك بعد فتح هذه الحصون والآطام على يد رسول الله وأصحابه من المهاجرين والأنصار. ولم يكن ذلك من فعلهم في المدينة وما جاورها وحسب، بل كان مثله أيضاً في جنوب الجزيرة، في اليمن وتلك البقعة من نجران وصنعاء إلى ناحية البحرين، كانوا يقيمون الحصون والآطام ويجمعون فيها السلاح فيكثرون الجمع، وينشئون لأنفسهم مدناً أو شبه مدن في هذه النواحي كلها، هي لهم خالصة لا يساكنهم فيها أحد.
نعم، ينشئون المدن والحصون والآطام ويجمعون السلاح، ويحالفون من جاورهم من الأعراب والبدو، ويوقعون بين حلفائهم العداوة والشر، في المدينة وفي غير المدينة من جزيرة العرب. فماذا كانت تريد يهود بإعداد كل هذه العدة من البناء والسلاح وإيقاد البغضاء، وصرف وجوه الناس عن أسباب الحياة إلى معترك الحرب؟ كانت تريد في المدينة مثلاً أن تسقط البلاد في أيديهم خالصة لهم، بعد أن يتفانى الأوس والخزرج في حروبهم التي يؤرّثونها بينهم، كما رأيت ذلك من فعلهم يوم رأى شأس بن قيس اليهودي ما رأى من صلاح ذات البين بين الأوس والخزرج بالإسلام، فيرسل إليهم فتى من يهود يناشدهم ما تقاولوا من الشعر في حروبهم، فتكاد الحرب تقع بين الأوس المسلمين والخزرج المسلمين، لولا أن أدركهم رسول الله فردّهم إلى عقولهم وأطفأ كيد اليهودي شأس بن قيس. ومن قارن بين فعل يهود قديماً وفعلهم حديثاً في فلسطين، ومن إقامتهم الحصون والآطام والمدن في المدينة وغيرها من الجزيرة، وما فعلوا من إنشاء المدن والحصون والمستعمرات حديثاً في فلسطين، عرف أن هذه شيمة يهود منذ قديم، وهذا هو أسلوبهم قديماً وحديثاً حذوك النعل بالنعل. وإذن فقد كانت تريد يهود أن تنشئ دولة في المدينة شمالاً وفي اليمن جنوباً كما تريد اليوم أن تنشئ دولة لليهود في فلسطين، وفي غير فلسطين أيضاً.
هكذا كان أمرهم في الجاهلية، ثم يرسل الله رسوله ويهاجر إلى المدينة فلا يكاد يفعل حتى يمتلئ تاريخ الإسلام منذ ذلك اليوم بأخبار اليهود وفتنتهم وتأريثهم العداوة بين العرب المشركين والعرب المؤمنين، وبسعايتهم في تأليب الأحزاب على رسول الله، وبغدرهم ونكثهم ودسائسهم، لم يكفوا ساعة عن التماس غرة المؤمنين والمؤمنات، وعن ابتغاء الوقيعة بين المؤمنين أنفسهم. ويمتلئ تاريخ الإسلام منذ ذلك اليوم أيضاً بأخبار المنافقين، وقد أجاد الله لنا صفتهم في كتابه، وبين لنا أحسن البيان صلتهم باليهود وإيواء اليهود لهم، ويكثر ما نزل من الآيات في شأن اليهود والمنافقين جميعاً، مقرون ذكرهما معاً. وتكون أول سورة نزلت من القرآن في المدينة هي السورة التي تذكر فيها (البقرة)، يقول الطبري في تفسيره ج1 ص84 بإسناده عن ابن عباس: (إن صدر سورة البقرة إلى المئة منها نزل في رجال سماهم بأعيانهم وأنسابهم من أحبار يهود ومن المنافقين من الأوس والخزرج، كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم). ثم ماذا؟ ثم تكون آخر سورة نزلت بالمدينة، أو آخر سورة نزلت من القرآن، هي سورة (براءة) أو سورة (التوبة)، تلك السورة التي فضحت اليهود والمنافقين وهتكت عن سرائرهم، وكشفت عما كانوا يبيتون من القول ومن الكيد، والتي يقول الله فيها: (يحذر المنافقين تنزّل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم، قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون)، والتي سماها بعضهم (الفاضحة) و (المخزية) و (المنكلة) و (المشردة) و (المدمدمة) دلالة على ما جلبت على اليهود والمنافقين من الفضيحة والخزي والتنكيل والتشريد والدمدمة. ثم تكون هي السورة التي يذكر فيها (الأعراب) الذين حول المدينة من حلفاء يهود، ست مرات.
تنزل أول سورة من القرآن، فإذا هي في اليهود والمنافقين، وتنزل آخر سورة من القرآن فإذا هي في اليهود والمنافقين ومن حول المدينة من الأعراب حلفاء يهود، وينزل ما بينهما من القرآن في عشر سنوات متواليات يصف ما كان من أمر هؤلاء، وينذرهم، ويكشف عن دسائسهم وكيدهم، فإذا بك ترى تاريخ الإسلام في هذه الحقبة - منذ هاجر رسول الله إلى أن توفاه الله - حافلاً بالغدر والكيد والتأليب ونكث العهود ونقض المواثيق. ويكون أول ذلك أن تسلم طائفة من أحبار يهود سماهم أصحاب السير والتاريخ، يسلمون نفاقاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (كما فعل كعب الأحبار وعبد الله بن سبأ وغيرهما في عهد عمر وعثمان)، فكانوا يحضرون المسجد فيستمعون أحاديث المسلمين ويسخرون منهم ويستهزئون بدينهم، ويحدثنا ابن هشام عنهم فيقول: (فاجتمع يوماً في المسجد ناس منهم، فرآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدثون بينهم خافضي أصواتهم، قد لصق بعضهم ببعض، فأمر بهم رسول الله فأخرجوا من المسجد إخراجاً عنيفاً)، فهل تجد أوضح ولا أبين من هذا في صفة المتآمرين حين يجلسون يتخافتون بينهم أمراً يكيدون به ويبيّتونه؟ ويظل هذا حال المنافقين وحال اليهود معاً إلى أن يدعو الله إليه رسوله: يأوي المنافقون إلى أشياخ من اليهود يتآمرون يوماً بعد يوم عشر سنوات متواليات، ويكون على رأس هؤلاء المتآمرين رجال كأمثال رفاعة بن زيد بن التابوت اليهودي الذي أظهر الإسلام وأبطن النفاق، فيسميه المسلمون (كهف المنافقين)، لأنهم كانوا يخلون إليه، ويتآمرون فيه بليل، ويستودعون ظلام هذا الكهف السميع البصير سرَّ تآمرهم وخفي كيدهم. ورسول الله في خلال ذلك كله يجاهدهم ويرجو هدايتهم، ويظل يفعل ذلك ثماني سنوات غير قانط ولا يائس، يصلي على من مات من المنافقين ويستغفر لهم، فإذا طال ذلك أنزل عليه ربه في سورة (براءة) آخر سورة نزلت، أشد آية في القرآن خاطب الله بها عبده ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم، ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الظالمين) ثم ينهاه أشد النهي فيقول: (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره، إنهم كفروا بالله وبرسوله وماتوا وهم فاسقون). كلمات قاطعة وأوامر حاسمة كحد السيف!!
عشر سنوات والقرآن ينزل على رسول الله في المنافقين واليهود مقرون ذكرهما معاً!! عشر سنوات تقرأ تاريخها في كتب السيرة فلا تمضي صفحة واحدة إلا وفيها ذكر لليهود والمنافقين معاً، عشر سنوات واليهود والمنافقون معاً يؤلبون على رسول الله القبائل ويفتنون المسلمين، ويدبرون الكيد للمؤمنين والمؤمنات ولرسول الله، حتى كان ما كان من اليهودية التي دست له ولأصحابه السم في الشاة فينبأ صلى الله عليه وسلم بما فعلت، فيلفظ بضعة اللحم من فمه صلى الله عليه وسلم.
ثم ماذا؟ ثم يحدثنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحدثنا منهم أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه فيقول: (كان آخر ما تكلم به صلى الله عليه وسلم أن قال: (أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب). آخر كلمة ينطق بها صلى الله عليه وسلم عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة! آخر كلمة تجري على لسانه وهو يلبي دعوة ربه إلى الرفيق الأعلى! ويروي الرواة هذه الكلمة ويأتي علماؤنا أحسن الله جزاءهم فيقفون عند هذا الحديث ينظرون ما سرّ هذا الأمر الحازم القاطع؟ إنهم لا يهتدون إلى سر، ولا يقفون على خبر، إلا أن يقولوا جميعاً كما قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه الأموال ص99: (وإنما نُراه قال ذلك صلى الله عليه وسلم لنكث كان الأمر، أو لأمر أحدثوه بعد الصلح) رويدكم أيها العلماء! إنه تأويل متهافت، ولا تجعلوا الظن أصلاً في التأويل. لقد كان أولى بكم أن تسألوا أنفسكم: أي نكث ذلك الذي كان من يهود الحجاز ومن أهل نجران؟ وكيف ذهب خبره فلم يرو لنا؟ وأي أمر ذلك الذي أحدثوه بعد الصلح؟ وكيف غاب عنا خبره؟ ولكن غفر الله لكم وجزاكم خيراً إذ لم تقطعوا برأي تدلسونه على الناس كما يفعل أدعياء العلم وكذبة العلماء في عصرنا هذا، بل قلتم جميعاً كما قال أبو عبيد القاسم بن سلام: (إنما نراه) (بضم النون) أي إنما نظنه ظناً. ولكن ما قيمة الظن في أمر كهذا الأمر؟ وكيف تريدون أن تفسروا حديثاً بظن من الظنون لم تأت به رواية، ولم يعرف له خبر يؤيده من حوادث التاريخ؟
كلا أيها العلماء! إنها آخر كلمة تكلم بها رسول الله وهو معرض عن الدنيا مقبل على الآخرة، آخر كلمة ينطق بها لسان نبي الله الذي لا ينطق عن الهوى. كلا فالأمر أعظم وأجل وأخطر مما تظنون. إنها كلمة من كلمات النبوة! إنها تنبيه من الله على لسان نبيه إلى أحداث ستكون، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً. لقد كشف الغطاء وتتجلى لرسول الله غيب ما سيكون، فرآه وهو على فراش الموت كما رآه المؤمنون عياناً من بعد: فتنة ماحقة في الحجاز وما جاورها، وفي نجران وما أطاف بها. نار مشعلة فيما حول المدينة من الحجاز، وأخرى مستعرة فيما حول نجران من اليمن. إنه يقولها صلى الله عليه وسلم لا لشيء كان بل لشيء سيكون، يراه هو ولا يراه أصحابه رضي الله عنهم.
ولقد نزل الموت برسول الله صلى الله عليه وسلم كأشد ما ينزل حتى دعا بقدح من ماء، يدخل يده فيه ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول: (اللهم أعني على سكرات الموت. الله أعني على كرب الموت. ادن مني يا جبريل! ادن مني يا جبريل! ادن مني يا جبريل!) وعنده صلى الله عليه وسلم خميصة (ثوب من خز) يأخذها فيلقيها على وجهه، حتى إذا اغتمّ بها وضاق ألقاها عن وجهه وهو يقول (لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ويقول أيضاً: (لئن بقيت لا أدع بجزيرة العرب دينين، وتكون آخر كلمة يتكلم بها وهو في مثل ما ترى من كرب الموت: (أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب): أي أدركوا النار قبل أن تشتعل، أنقذوا العرب من فتن لا تبقي ولا تذر! أحذروا يهود الحجاز، وأحذروا أهل نجران خذوا عليهم طريق الفتنة وأخرجوهم قبل أن يخرجوكم ويسفكوا دماءكم أيتها العصابة القليلة المؤمنة! ويقبض الله إليه نبيه قبل أن يقول لهم في هذا الأمر قولاً لا يضلون بعده، وتبقى هذه الكلمة بغير تفسير حتى يقول العلماء في سرها ما قالوا رجماً بالغيب.
ثم ماذا؟ ثم لا تكاد تتم بيعة أبي بكر حتى تنفجر الردة في أماكن بعينها من جزيرة العرب، فتقول عائشة بنت أبي بكر الصديق أم المؤمنين قولاً يروى لنا، لم يلق إليه أحد بالاً إلى يوم الناس هذا: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل بأب ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها! اشرأب النفاق بالمدينة وارتدت العرب وصار أصحاب محمد كأنهم معزى مطيرة، في حُش، في ليلة مطيرة، بأرض مسبعة. فو الله، ما اختلفوا في واحدة إلا طار أبي بحظها وغنائها عن الإسلام). ويحدثنا أيضاً عروة بن الزبير العوام: (وقد ارتدت العرب إما عامة، وإما خاصة في كل قبيلة، ونجم النفاق، واشرأبت اليهود والنصارى، والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية، لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم، وقلتهم وكثرة عدوهم).
وخليق بي وبك، أن نقف قليلاً عند هذا. نقف حيث وقف بنا أمر رسول الله أن: (أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب)، نقف حيث وقفت بنا آخر كلمات تكلم بها صلى الله عليه وسلم، وحيث وقف بنا قوله وهو في كرب الموت (لئن بقيت لا أدع جزيرة العرب دينين)، وحيث وقف بنا قول أم المؤمنين عائشة: (اشرأب النفاق بالمدينة وارتدت العرب)، وحيث وقف بنا حديث عروة (ارتدت العرب. . . ونجم النفاق، واشرأبت اليهود والنصارى). ثم نأخذ جميعاً نقرأ تاريخ حروب الردة في كتب القدماء من المؤرخين، وماذا قالوا في أسبابها، ونقرأ تاريخها أيضاً في كتب المحدثين من المؤلفين والمؤرخين، ونقرأ أيضاً كتب المستشرقين الذين يجلّهم الدكتور طه ويرفع بذكرهم رفعاً شديداً فماذا نجد؟ نجد غموضاً شديداً كأننا نسير في ليلة مظلمة في بطن واد عميق، عن يمينه جبل شامخ وعن يساره جبل شامخ قد أطبقا عليه جميعاً. وإذا الردة في كتب القدماء أخبار مجموعة كما اتفق لهم أن يجمعوها، لم ينظر أحد في أسبابها، ولا في الحوافز التي أغرت العرب بها، ولا في أمر المرتدين وصفتهم وعلاقة بعضهم ببعض، ولا في وجه الشبه الذي يجمع بينهم قبل أن يرتدوا. وإذا الردة في كتب المحدثين أخبار أيضاً حاول أصحابها أن يرتبوها ما استطاعوا، فلما نظروا في أسبابها، وفي حوافزها، وفي صفة أهلها وفي علاقة بعضهم ببعض، وفي وجه الشبه الجامع بينهم قبل أن يرتدوا - إذا بهم يخلطون خلطاً شديداً كأنهم يبحثون عن ذرة في بحر من الوحل. وإذا المستشرقون يملئون كتبهم كعادتهم بالجهل الذي يضرب بعضه في وجوه بعض.
نعم، نقرأ تاريخ الردة في كل هذه الكتب جميعاً، فإذا هي خالية جميعاً من ذكر اليهود ومن ذكر المنافقين إلا كلمة شاردة ككلمة عائشة وكلمة عروة بن الزبير بن العوام تعرض في كتب القدماء، وإذا المحدثون من المستشرقين الخائضين فيما ليسوا له بأهل، لا يكادون يذكرون اليهود والمنافقين في حرب الردة، وإذا هذا عجب من أعجب أمرهم، فهم أشد ولعاً بالبحث عن الأسباب واستقصائها ونبشها، من أن تخفى عليهم هذه الحقيقة البينة التي بين أيديهم، حقيقة اليهود والمنافقين وما كان لهم من خطر في تاريخ الإسلام منذ هاجر رسول الله إلى أن قبضه الله إليه!! وإذا بك ترى المؤلفين من رجالنا قد ضلوا إلى حيث أضلهم أساتذتهم من المستشرقين، فغفلوا عن تعليل الردة كيف كانت؟ وكيف بدأت؟ ومن بدأ بها؟ وكيف تم أمرها؟ ولم يسأل واحد منهم نفسه. أليس من العجيب الذي لا يقضى منه عجب أن يقضي نبي الله عشر سنوات منذ هاجر إلى المدينة حتى قبضه الله إليه، فلا يمضي يوم واحد لا يلقى فيه أشد البلاء من كيد يهود، ومن كيد أشياعهم وصنائعهم من المنافقين، ثم يظل رسول الله هذه السنوات العشر وهو يقاتل اليهود ويقاتل مكايدهم في الأوس والخزرج، وفي القبائل، وفي الأعراب حول المدينة، ثم يظل رسول الله يتلقى الوحي من ربه هذه السنوات العشر، فإذا أول سورة تنزل عليه وهي البقرة، أكثرها في ذكر اليهود والمنافقين وبيان حالهم وصلة بعضهم ببعض وأتمارهم جميعاً بالمؤمنين الذين اتبعوا ما أنزل الله على رسوله. وإذا آخر سورة تنزل عليه صلى الله عليه وسلم وهي براءة كلها في صفة اليهود والمنافقين، وفي الكشف عن أقوالهم ودسائسهم وكذبهم وخداعهم حتى فضحتهم ونبأتهم بما تخفي صدورهم من الكيد والغيظ والنفاق، ثم يكون آخر ما يتكلم به صلى الله عليه وسلم وهو في كرب الموت: (لئن بقيت لا أدع في جزيرة العرب دينين)، وأمره لصحابته: (أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب)، ثم يقبض الله إليه رسوله ويبايَع أبو بكر، وما هي إلا أيام قلائل حتى تشعل نيران الردة في أماكن بعينها من جزيرة العرب شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً - أليس من العجيب الذي لا يقضى منه عجب أن لا نجد بعد هذا كله شيئاً في كتب القدماء أو المحدثين - أو المستشرقين إن شئت - ذكراً لليهود والمنافقين في أمر الردة؟ أهكذا ينتهي فجأة من تاريخ العرب ذكر اليهود والمنافقين بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أيجوز في العقول أن تظل يهود وأشياعها من المنافقين تكيد للإسلام ولرسول الله وللمؤمنين والمؤمنات عشر سنوات كاملة متتابعة يوماً بعد يوم، فإذا لحق رسول الله بالرفيق الأعلى (في سنة 11 من الهجرة) نزعوا أيديهم من كل كيد، وبرئوا من كل حدث كان بعد ذلك في تاريخ الإسلام - برئوا من الردة (في سنة 11 من الهجرة)، وبرئوا من مقتل عمر (في سنة 23)، وبرئوا من الفتك بعثمان بن عفان رضي الله عنه (في سنة 35).
ولكن كيف غاب عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى قوله: (أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أعل نجران من جزيرة العرب)؟ وكيف غفل قدماء علمائنا عن معنى هذا الحديث وفيم قيل؟ وكيف ذهل المؤرخون القدماء عن أن يربطوا بين تاريخ الردة وبين تاريخ اليهود والنافقين؟ وأخيراً كيف كانت الردة في الإسلام؟ وما آثارها التي تخلفت عنها؟
هذا حديث أحدثك به إن أنسأ الله في أجلي حتى ألقاك في مكاني من هذه الصفحات.
محمود محمد شاكر
تاريخ النشر 01 - 03 - 1948
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق