"غوانتنامو قصَتي".. أولى محطات الاعتقال الأمريكي
سامي الحاج
مدير مركز الجزيرة للحقوق والحريات، ومعتقل سابق بسجن غوانتنامو.
مين إنت؟
كانت تلك عبارة سمعتها عند الحادية عشرة والنصف تماماً من أحد الجنود الأمريكيين. كان يتكلم العربية بلهجة مصرية، وكنا معصوبي الأعين، فكان يتوقف عند كل واحد منا، ويقول: قم! من أنت؟
فلما وصل إليَّ قلت له: أنا سامي محيي الدين محمد الحاج، صحفي سوداني"...
قال: لا تتكلم كثيراً. وشدني إليه، ثم قال: لا تحاول أن تفعل أي شيء وإلا فستتعرض للضرب.
قلت: إن معي حقيبة، قال: لا تتكلم كثيراً. وأخذني وحقيبتي واقتادني خطوات حتى اجتزنا بوابة، وهناك استقبلنا ضوء قوي جداً مسلط من نقطة معينة، يصاحبه هدير محركات الطائرة الجاهزة للإقلاع. أحاط بي الجنود الأمريكيون المدججون بالسلاح، وأشهروه في وجهي، وهم يحيطون بي في شكل دائرة، وأنا في نصف هذه الدائرة، وتقدم إليَّ جندي وقام بتفتيشي.
كنت ما أزال أحتفظ بالراديو في ملابسي، وعندما وضع الجندي يده عليه، ولاحظ جسماً غريباً، تجمد مكانه ولم يتحرك. كان زميله الذي يتحدث العربية بلهجة مصرية يقول له بالإنجليزية: ماذا وجدت؟ وهو صامت لا يتحرك، لعله حسب المذياع قنبلة!
بعد هُنيهَة، استدرك وقفز إلى الوراء، فقال له زميله: ماذا هناك؟ فقال: في جيبه شيء صلب.
نهرني المتحدث باللهجة المصرية، وأمرني بالانبطاح أرضا، ففعلت. ثم جاء وقال لي: ما الذي في جيبك؟ فقلت له: هذا راديو.
كلم الجندي الأمريكي زميله، وأبلغه أن الجسم الصلب عبارة عن جهاز راديو، ومع ذلك بقي متردداً، فتقدم عسكري آخر قام بتمزيق الملابس التي كنت أرتديها، وأدخل يده في جيبي وأخرج الراديو، ثم أخرجوا الساعة وحافظة النقود والجواز والتذكرة والنظارة والخاتم والحذاء، ووضعوا كل ذلك في كيس، كما وضعوا حقيبتي أيضاً في كيس، ثم غيروا القيد من حديد إلى بلاستيك، ووضعوه على اليدين فقط، وحرروا رجلي، ووضعوا كيساً أسود على رأسي، واقتادني جنديان إلى الطائرة.
كانت طائرة شحن، وتم تقييدنا على أرضيتها بسلاسل، وأخبرونا أنه في حالة أي حركة أو أي فعل فسيرد علينا بعنف، بل وبإطلاق الرصاص. لبثنا في الطائرة فترة كنا نشعر خلالها بدخول أناس آخرين. وبعد ساعة أو ساعة ونصف ساعة تقريباً أقلعت الطائرة من كويتا، وبعد ساعة أو أقل من الطيران، حطت في أحد المطارات، وأخذت وقتاً ما بين ساعة إلى ساعتين، ثم أقلعت مسافة ساعة ونصف الساعة إلى أن هبطت في مطار باغرام، وهو أولى محطات الاعتقال الأمريكي.
بلغتُ من شدة الألم أني صرخت فأمروني بالانبطاح فانبطحت على وجهي، وظللت أصرخ من الألم، ومما زاد في أذيّتي أنهم بادلوني بالصراخ، وضربوني، وهددوني بالقتل إن تحركت |
هناك في باغرام، وفي الساعات الأولى من صباح يوم الثلاثاء الثامن من يناير عام 2002م.. دخل الجنود ليفكوا القيود عن كل واحد منا، وهم يصرخون في وجهه بالإنجليزية: لماذا أتيت لتقاتلنا؟
كان أغلب الموجودين لا يتحدثون اللغة الإنجليزية، فكانوا يضربونهم ويشتمونهم. أذكر ونحن داخل الطائرة كان بجواري معتقل يناشدهم أن يسمحوا له باستخدام الحمام، فكان كلما تكلم يأتي إليه جندي ويضربه، وحدثني فيما بعد أنهم أتوا بحبل وربطوا به فمه كما يُوضع اللجام على فم الدابة حتى لا يتحرك لسانه بالكلام. وشعرت ببلل حولي، ثم ما لبثت أن أدركت أنه بول أحد المعتقلين الذين يطالبون بالذهاب للحمام، ولم يسمح لهم بذلك.
عندما وصلنا كانوا يقتادوننا واحداً تلو الآخر، وكنت أسمع صياحاً وضرباً. وجاء دوري فاقتادوني. ونظراً لأن الرحلة استغرقت ثلاث ساعات إلى أربع ساعات تقريباً، كنا خلالها مربوطين إلى أرضية الطائرة، تخشبت أرجلنا من الجلسة الطويلة، فكان الجنود يحاولون تحريكنا، وكنت أتمايل يميناً ويساراً ولا أستطيع الوقوف على رجليَّ. كانوا يدفعونني ويجرونني من الطائرة جراً وهم يصيحون: لماذا جئت لقتالنا؟ وأرد: لست مقاتلاً، أنا صحفي، فيردون بحقد وعنجهية: لا تكذب، من أين قدمت؟ فأواصل نفي مقولتهم وأقول: إني قادم من السودان، لست مقاتلاً، أنا صحفي. وعند وصولي إلى البوابة وأنا معصوب العينين، دفعوني لأتقدم، فظننت أني أقف على شفير هاوية، فقفزت فسقطت على رجلي اليمنى التي التوت وتمزق رباطها الصليبي الذي يتحكم في حركة الركبة، وهي العلة التي لا أزال أعانيها حتى اليوم. وقد بلغتُ من شدة الألم أني صرخت في تلك الحالة. ثم أمروني بالانبطاح فانبطحت على وجهي، وظللت أصرخ من الألم، ومما زاد في أذيّتي أنهم بادلوني بالصراخ، وضربوني، وهددوني بالقتل إن تحركت.
كنت أسمع نباح الكلاب قريباً مني، كما كنت أسمع صراخ وعذابات باقي المعتقلين. كادت أطرافي تتجمد، وكنت أرتجف من شدة البرد. كانوا يصرخون: لماذا لا تتحرك؟ ويضربونني على ظهري، وبعد قليل أوقفوني على رجليَّ، وشدوا في يدي اليمنى حبلاً ثم شدوه في اليسرى.
أوقفونا جميعاً في طابور، وأوصلوا حبال قيد اليدين بين الجميع، ووقف أمامنا جندي يسحبنا بحبل واحد والبقية على الجانبين، وكانت الكلاب تنبح من حولنا، في مشهد مرعب! والبرد يكاد يوقف القلوب. وكانت عيناي معصوبتين، وتعتصرني آلام من تمزق رباط الركبة لدرجة لا يعلم مداها إلا الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق