أحمد بن راشد بن سعيّد
حدّث سهم بن كنانة، قال:
اعتراني ذات يوم السأم، وشعرت بأنواع الألم، وجفا عينيّ الكرى، وعادت صحّتي القهقرى، فراودتني الرغبة في الخروج، والاستئناس بين المروج، ودُللتُ على قرية تُسمّى «سراج»، شعارها «لدينا كلّ ما تحتاج»، وقد زعموا أنّها تُحسّن المزاج، بل تُغني عن العلاج، ويشعر فيها المهموم بالانفراج، فذهبت إليها وفي حلقي غصّة، ولعينيّ من دمعها ألف قصّة، حتى إذا أشرفتُ على حديقة فيها عامّة، يجتمع فيها الخاصّة والعامّة، وكان ذلك وقت الصّباح، شعرت بشيء من الارتياح، ورأيت قوماً في وسط الحديقة، يخطب فيهم رجل على السليقة، فسمعته يقول: اسمعوا نصحي يا قوم! لا تكثروا على أنفسكم اللوم، ليحلّ كلّ منكم رباطه، ولينطلق في الحياة ببساطة، فليس الفرح أذى يستحق الإماطة، ابتسموا في وجوه الإخوان، وعُدّوا ذلك قربةً للرحمن، ولا تنسوا تمرين الجسد، فهو يداوي حتى الحسد، وانشروا بينكم لغة الحُب، فهي والله متعة القلب، وروّحوا عن أنفسكم باللهو، ولا تكثروا في الحياة من قول: لو!
قال سهم بن كنانة: فسُرِّيَ عني، وأحسست بقرب الخطيب مني، بل شعرت كأنه المتنبي وأنا ابن جنّي، ولمحتُ بجواري حمامة، كأنها هي الأخرى تتأمّل كلامه، فرمقتُها بإعجاب، وتمتمت: سبحان الوهّاب، إنها تطير وتقع، بين الأجواء والبقع، تستمتع بالحريّة، بين رقص وأغنيّة، وتنام ملء عينيها، والرزق بين يديها، وبينا أنا في تلك الحال، سابح في عالم الخيال، إذ هتف الخطيب: تذكّروا نعمة النوم، لا سيّما في هذا اليوم، الذي خصّصه العالم له، فيا لحلاوته المذهله، وهل يحصل للمرء اغتباط، ويشعر بطعم النشاط، إذا لم يستسلم لذلك السلطان، استسلام السفين للقبطان، هل أنا محقٌ أم غلطان؟ فصاح القوم: صدقت..صدقت!
قال سهم بن كنانة: ولم أكن أعلم من قبل أنّ للنّوم يوما، وقلت في نفسي: إنه يستحق الاحتفال دوما، فالمحروم من حُرم ضمّته، والشقيّ من لم يذق لذّته، ولا بدّ من استكشاف أسراره، والاستجابة لعزف أوتاره، حتى لا نُصاب بالأرق وأضراره. قال الخطيب: حدّثوني بصراحة، هل ينكر أحدكم حاجته إلى الراحة، كم مرةً أرهقني المسير، حتى شعرت أنّي كسير، فلمّا أويتُ إلى السرير، وأسرني كما أسرت عيون الجميلات جرير، ولّى التعب في البيد، وشعرتُ كأني وُلدتُ من جديد، اسألوني ياقوم عن فضله، ألا تطربكم عبارة «وأنت من أهله»؟ والله إنّه لأطيب من العبير، ولا ينبّئك مثل خبير، ثم شرع يستشهد بأشعار، ويروي طرفاً من آثار، فكان مما قال:
ناموا ولا تستيقظوا ما فاز إلا النّوّمُ
أمّا السياسة فاتركوا أبداً وإلّا تندموا
من شاء منكم أن يعيشَ اليوم وهو مُكرّمُ
فليُمسِ لا سمعُ ولا بصرٌ لديه ولا فمُ
لا يستحقّ كرامةً إلا الأصمُّ الأبكمُ
وعجبتُ من هذه القوافي، وكنت أعلم أنّها للرصافي، وتذكّرت أشعاراً أخرى في النوم، كقول أبي ماضي عن ضياع فلسطين:
قال سهم بن كنانة:
سهرْنا له فكأنّ السيوفَ تحزّ بأكبادنا ههُنا
وكيف يزورُ الكرى أعيناً ترى حولها للرّدى أعينا
ثمّ استشهد الخطيب بهذه الأبيات للجواهري:
نامي جياع الشعب نامي
حرستْكِ آلهةُ الطعامِ
نامي فإن لم تشبعي
من يقظة فمن المنامِ
نامي على زبَد الوعود
يُزفّ في عسل الكلامِ
وتذكّرت قول الأبيوردي عندما استولى الفرنجة على بيت المقدس عام 492 للهجرة:
وختم الرجل خطبته بالقول: أطلق العنان للمناخير، وأعط الفرصة للشخير، وإذا خطر ببالك رأي سياسي، فاصرفه وقل: يسلم لي رأسي.
قال سهم بن كنانة: وزاد عجبي من الخطيب، ولم يكن صوته عليّ بالغريب، فقمت لأكشف عن خبره، حتى صرتُ في مرمى بصره، فلما تأمّلت سُحنته، وتفحّصت جبهته، علمتُ أنّه أبو نصر العزاز، وكان محتالاً يتنقّل بين نجد والحجاز، فسلّمت عليه ببرود، وعدتُ إلى قريتي وأنا مكدود، ولم يزر النوم عيني، بل اتسعت المسافة بينه وبيني، وطفقت أردّد:
وكيف تنامُ العين ملءَ جفونها
على هفواتٍ أيقظتْ كلّ نائمِ
وإخوانُكم بالشام يُضحي مقيلهم
ظهور المذاكي أو بطون القشاعم
قال سهم بن كنانة: وزاد عجبي من الخطيب، ولم يكن صوته عليّ بالغريب، فقمت لأكشف عن خبره، حتى صرتُ في مرمى بصره، فلما تأمّلت سُحنته، وتفحّصت جبهته، علمتُ أنّه أبو نصر العزاز، وكان محتالاً يتنقّل بين نجد والحجاز، فسلّمت عليه ببرود، وعدتُ إلى قريتي وأنا مكدود، ولم يزر النوم عيني، بل اتسعت المسافة بينه وبيني، وطفقت أردّد:
وأصبحت عينيَ بعد الكرى
تقول للتسهيد لا ترحلِ!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق