الثلاثاء، 17 سبتمبر 2019

سلمان العُودة: عامان في القفص

سلمان العُودة: عامان في القفص
أبو إسحاق الدويري
كاتب وباحث موريتاني
  17سبتمبر 2019 


في قرية موريتانية صغيرة، ذات إشعاع علمي كبير، قريبة من بحر الظلمات، ولا تبعد كثيرًا عن نهر صنهاجه، يؤمها مئات طلاب العلوم الشرعية واللغوية من كل جهات موريتانيا، ويقصدها عدد محترم من آفاق العالم الإسلامي، ولا سيما جيران شنقيط المصاقبين لها من جهاتها الأربع.
كان أولئك القادمون يبتغون قبسًا من نور العلم، ويبحثون عن شروح وافية لمتون في مختلف الفنون، ويسعون لتكوين ملكات علمية وأدبية، ويطاردون ساعات من صفاء  البادية، وهناك في تلك القرية الوادعة سمعوا صوته، ألفوا نبرته، أسرهم خطابه، أقنعنهم طرحه، اقتنعوا بتأصيله، أطربهم إنشاده للأشعار، كان نافذتهم على العالم شرقه وغربه، وكان شوقهم للقائه أو رؤية صورته لا يوصف.
الشيخ سلمان العودة
 إنه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العُودة –فك الله أسره- الذي لقوه في تلك القرية الفاضلة، التي وجدوا في غرفة من بيوت “محظرتها” كيسًا بلاستيكيًا مليء بأشرطة دعوية، على كل شريط كتب اسم محاضر، وكان لكل واحد من أولئك المهتمين محاضره الذي يحبه ويؤثره على غيره.
 لكن الشيخ سلمان العودة كان محل اتفاق الجميع، لأنه -كما اتفقوا- يخاطب العقول، ويهزّ القلوب، ويعالج إشكالات الأرض بنور وحي السماء، كانت كلماته حديث روح للأرواح يسري، ومنذ ذلك التاريخ بداية الألفين الميلادية وقبلها بعقود في الثمانينات، والشيخ العودة ملء سمع وبصر العالم الإسلامي بعلمه وحكمته ووعيه وتوفيق الله له.
قبل زمن قريب كنت أكتب جزءًا من بحث عن “مسالك الثقافات والعلوم” وطرق انتقالها بين الأمم والبلدان والعصور، ودور هجرة العلماء والقوافل والمراكز الحضارية في ذلك، وفي المقارنة بين حركة الثقافة والعلوم في الزمن الأول والعصر الحديث تذكرت أمر تلك الأشرطة التي وصلت أقاصي الغرب الإسلامي على تخوم الحدود الفاصلة بين العرب والقارة السمراء، وكان أغلبها سجل في مدينة بُريدة أكبر مدن إقليم القصيم بنجد التي كان مشايخ العلم في شنقيط يطربون لأشعار شعرائها العشاق، وينقبضون عند ذكر دعوتها ودعاتها ومصلحيها لأنها “قرن الشيطان”، والشيطان يحمد في الشعر ويذم في سواه.
كفاني مؤونة البحث عن الطرق التي أخذت تلك الأشرطة “النجدية” حتى وصوله ذلك المكان الهادئ القصي، مداخلة قدمها السياسي والبرلماني الأستاذ محمد غلام ولد الحاج الشيخ بين يدي الشيخ العودة حين زار موريتانيا شهر مارس 2008.
 يقول الأستاذ محمد غلام في معرض حديثه عن تأثير العودة في الأجيال  الإسلامية المعاصرة من خلال “الشريط الإسلامي”، أنه أي الأستاذ ابن الحاج الشيخ وبعض أصدقائه الموريتانيين المقيمين في الخليج كانوا يتولون “تكثير أشرطة العودة” وإرسالها إلى نواكشوط ومن هنالك تنتشر في مختلف المدن الموريتانية وما وراء موريتانيا.
 وتركك في الدنيا دويًّا
آمن الشيخ العُودة أن “الحياة كلمة” فاستطاع بقوتها وصدقها أن “يترك في الدنيا دويًّا”، فقصة هذا المصلح الديني الخطير، ورحلته من فضاء الله وبيوته إلى السجن، و”من السجن إلى التنوير”، ثم عودته من جديد إلى المدرسة اليوسفية في “زمن التنوير السلماني” حيث قضى حتى الآن عامين من عمره المعطاء مع مئات من إخوانه المصلحين والمثقفين والأكاديميين الشجعان من نبلاء الجزيرة العربية، أمر يغري الباحثين بالتتبع والاستنتاج، كما يدعو الصحافة للكتابة، والأدباء للإبداع والمؤرخين للتوقف والتدوين.
اعتقل العودة أول مرة لخمسة أعوام من 1994 – 1999
 لا يمكن للمهتمين بتأثير علماء الإسلام في المجال العام، وقدرتهم على صياغة وعي الشعوب، وتحريك الملايين لحشر “الطغاة” في “حجز الزاوية”، وإجاباتهم التجديدية عن واقع الناس و”أسئلة الثورة”، وسعيهم بشجاعة ووعي للفصل بين ثوابت الدين، والعادات الاجتماعية في عدة أمور صنفت قرونا طويلة ضمن الممنوع المجتمعي المقدس أن يهملوا الحديث عن الشيخ العُودة.
تنبه المهتمون بالوعي الإسلامي الحديث في السعودية والخليج باكرًا لقيمة سلمان العودة، فصار فصلًا لا يمكن تجاوزه في أي متن من متون تاريخ السعودية في العقود الأخيرة، فكتبت عنه دراسات، ودونت عنه قصص، وحبرت مقالات، ومن أهم الدراسات الأكاديمية التي كتبت عنه رسالة الماجستير التي كتبها الإعلامي السابق والسفير السعودي اللاحق تركي الدخيل بعنوان “سلمان العودة من السجن إلى التنوير” نشرت 2011.
ففي بحث تركي الدخيل الأكاديمي الذي حاول انتهاج الموضوعية حسب الإمكان، تلاقيك ألقاب تتزاحم على العودة “الداعية الأشهر في الخليج والأكثر تأثيرًا وجماهيرية”1، و”المايسترو الذي يسيّر المشروع الصحوي، (والذي) كان يوجه الجموع بسحر صوته، وفصاحته،  وارتجاله لمحاضراته، واطلاعه على تفاصيل ما يجري للمسلمين قبل عصر الثورة المعلوماتية”2.
يذهب الأستاذ عبد العزيز الخضر في كتابه الضخم عن تاريخ السعودية إلى أبعد من ذلك فيقول :”إن القول إنه أهم دعاة الصحوة ونجم تلك المرحلة لا يعبر عن الدور الحقيقي لهذه الشخصية الدينية، فالشيخ أحدث نقلة جوهرية في بنية الوعي الديني المحلي في سنوات معدودة يلمسه المتابع للفوارق بين ما قبل، وما بعد تلك المرحلة الفاصلة”3.
يضيف الخضر أن للصحوة في السعودية خصائص عامة عند أغلب دعاتها، “لكن للشيخ خصائص أخرى إضافية تزامنت مع ظروف محلية صنعت هذه القدرة التأثيرية المفاجئة، لقد أحدث تغييرًا في تركيبة وصورة شيخ الدين السعودي، ونقله إلى مستوى آخر، يجمع بين دور التربوي والواعظ والداعية والمفتي والمثقف والمحلل السياسي”4
وقد لاحظ عدد من باحثي الغرب أهمية دور الشيخ العودة عموما في “زمن الصحوة” السعودي كما عنون الفرنسي ستيفان لاكروا أطروحته، وفي ملاحظة للمؤرخة الألمانية أوليركه فرايتاغ مديرة مركز الشرق الحديث في جامعة برلين الحرة تقول: “إن سلمان العودة أصبح الشخص الذي يمثل الصوت العقلاني الحديث في السعودية، وهناك كثير من المؤشرات تؤيد ذلك، فهو يتبنى موقف الاعتدال والتوافق، وينتقد الوضع الراهن للمجتمع السعودي، المتمثل في التمسك بالعادات والتقاليد، والانتقاص من حق المرأة والنظرة الدونية لها، ويطالب يمنح الشريحة النسائية الحقوق التي يعطيها إياها الدين الإسلامي”5.  
انقلاب شمولي لكنه عفوي
إن أقرب وصف في مخيلتي للشيخ العودة بعد متابعة أغلب محطات حياته وتأثيره، وما كتَبَ وأَلَّف وألقى، هو أنه “المصلح الذي لا  يُسدّ عليه باب”؛ فحين كانت وسيلة التواصل الأكثر انتشارًا وتأثيرًا هي الأشرطة كان العودة “نجم الكاسيت السني في عصره”6، ففي الثمانينات حين بدأ اسمه يظهر “من خلال المحاضرات  المتتالية، ودرسه الأسبوعي كل أحد في الجامع الكبير ببريدة، حيث ستتجاوز تسجيلاته المئات خلال سنوات محدودة، فإنه كان يقدم خطابًا نوعيًا وتغييرًا جوهريًا من دون أن يشعر بحجم الانقلاب الذي أحدثه في حينها في جوانب عدة”7.
وعن أسلوبه التجديدي والإبداعي في محاضراته يقول الخضر “قدم الشيخ منهجًا جديدًا، حيث يشعر المستمع بأنه أمام خطاب منظم ومرتب ترتيبًا جيدًا منذ البداية وحتى نهاية المحاضرة، بمحاورها ومعلوماتها، وحشد الأدلة الدينية والعقلية في تقديم رأيه، بل وحتى ذكر تاريخ إلقاء المحاضرة، كان يشير إليه في بداية كل درس ومحاضرة، ما يدل على عقلية منظمة، وهو بهذا المنهج فرض احترامًا جديدًا ومختلفًا للكاسيت كقناة تثقيفية عامة مهمة داخل المجتمع”8
فالعُودة حسب السفير السعودي في أبو ظبي “يخوض في الموضوعات كلها، التي يعالجها الإسلام السياسي والتي لم يعالجها، بل والتي عالجها أصحاب البرامج الفضائية التقليدية والجديدة والتي لم يعالجوها، مؤسسًا لتجديد فقهي في سائر الموضوعات المطروحة على الساحة، بداياته فقهية لكن نهاياته فكرية فلسفية ثقافية حضارية”9.
كان العودة يطرق كل المسائل والموضوعات المطروحة بأسلوب يمزج بين مختلف العلوم والفنون والأفكار والفلسفات، فهو كما قال الدخيل عالج “أعقد الموضوعات بأحدث المناهج. وفق خلفية ثقافية عميقة، وتجربة طويلة وقاسية”10، فمع تلك المعالجات وأثرها في حياة الناس والتدين والوعي والمدافعة بين قيم الحق والحرية والعدل والجمال مع نقائضها.

سنتوقف في الجزء الثاني من هذا المقال بعد مرور عامين على تغييب العُودة في قفص يواجه الموت بسبب دعاء لألفة الأشقاء.. وغدا تطير العصافير.


1-الدخيل، تركي: سلمان العودة من السجن إلى التنوير. ص 62.
2-الدخيل تركي: المرجع السابق ص 68.
3-الخضر عبد العزيز، السعودية سيرة دولة ومجتمع، ص 186.
4-المرجع السابق نفسه. ص 186.
5-الدخيل تركي: المرجع السابق ص 18.
6-المرجع السابق ص 79.
7-الخضر عبد العزيز، السعودية سيرة دولة ومجتمع، ص 187-188.
8-المرجع السابق. ص 188.
9-الدخيل تركي: المرجع السابق ص 18.
10-المرجع السابق. ص 17.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق