الأربعاء، 25 سبتمبر 2019

الفصل الأخير من مسرحية السيسي: بعد مرور ستة أعوام تبقى مصر عصية على القهر

الفصل الأخير من مسرحية السيسي: بعد مرور ستة أعوام تبقى مصر عصية على القهر
ديفيد هيرست


أعاد الطاغية المصري توليد نفس الظروف التي بسببها انطلقت الموجة الأولى من الربيع العربي في عام 2011.

لو أراد طاغية مصر عبد الفتاح السيسي اختيار مهنة أخيرة يحترفها، فمن المؤكد أنها ستكون التمثيل على خشبة المسرح. 

فقد كان هو الذي تحدث باسم المخابرات الحربية بصوت حنون ليطمئن الليبراليين والإسلاميين المحتشدين في ميدان التحرير في يناير 2011 بأن الجيش يقف إلى جانبهم. 

ومع الرئيس الراحل محمد مرسي، لعب السيسي دور ضابط الجيش الملتزم دينياً. 


السيسي، المنقذ؟
بأيد مرتعشة وأعصاب الممثل المسرحي البارع، جلس السيسي ينتظر في الغرفة الجانبية من القصر الرئاسي بينما كان رئيساه في الجيش – محمد حسين طنطاوي وسامي عنان – يستمعان إلى قرار إقالتهما من منصبيهما، الأول كرئيس للجيش والثاني كرئيس لهيئة الأركان.  

وفي حضرة الرئيس الذي كان يخطط للانقلاب عليه، لعب دور الخادم المطيع والصامت داخل اجتماعات الحكومة. كل ذلك بينما كان ينتظر ضخ السعوديين والإماراتيين لمبلغ العشرين مليار دولار التي مولوا بها انقلابه العسكري. 

وعندما تضرعت إليه الجماهير لكي يخلصها من حكم الإخوان المسلمين، أصبح السيسي في يونيو/ حزيران من عام 2013 "البطل المخلص". لم يكن ذلك الضابط النزيه يرغب في السلطة لنفسه، ولكنه لم يجد بداً من إعلان نفسه "مرشح الضرورة" لمنصب الرئيس في الانتخابات الرئاسية.  

ولم يكن خلع البزة العسكرية وارتداء البدلة المدنية سوى تبديل آخر للزي. 

وبينما كان رئيساً، مثل السيسي أدواراً ثلاثة أخرى على الأقل: دور الفيلسوف الذي لا يتخذ قراراً دون استلهام التوجيه الإلهي أولاً، ودور باني المشاريع العظيمة مثل توسيع قناة السويس وإنشاء المدن الجديدة، ودور الفرعون الذي أخبر شعبه بأن عليهم أن يتحملوا الفقر.


ديل بوي 
انتهى تمثيل السيسي لأدواره المختلفة عندما ظهر على خشبة المسرح ممثل آخر من داخل نفس المنظومة، وشهد شاهد من أهله. 

على مدى ثلاثة أسابيع، قام هذا الشاهد من أهله، والذي تحول إلى واش به، بتحطيم صورة السيسي، وذلك عبر سلسلة من التسجيلات المصورة التي يظل يبثها من منفاه الاختياري في إسبانيا، والتي أخذت بالألباب من المصريين وسمرتهم. 

وهذا الشاهد من أهله هو محمد علي، الذي أقر بنفسه أنه ليس بطلاً، وإنما مقاول فاسد، وواحد من عشرة مقاولين فقط كان الجيش المصري يستخدمهم في تنفيذ مشاريعه الإنشائية. أكد محمد علي أنه إنما غادر مصر مصطحباً معه عائلته وثروته لأن الجيش لم يعد يسدد له ما يستحق له من أتعاب. بمعنى آخر، لم يكن محمد علي يوماً واحداً من النشطاء المدافعين عن حقوق الإنسان. 

ولم يكن محمد علي لا إسلامياً ولا يسارياً ولا أكاديمياً. ولم يكن يتحدث عن الشريعة. بل إن ما يستهوي بطل مصر الشعبي ويشغل باله لا يتجاوز السيارات السريعة والتمثيل وإنتاج الأفلام وتطوير المشاريع العقارية. 

يكاد محمد علي يكون النسخة المصرية من شخصية "ديل بوي"، البائع المتجول المتذاكي في المسلسل التلفزيوني الكوميدي البريطاني "أونلي فولز أند هرسيز"، مع فارق أن السيارة التي يقودها محمد علي فيراري زرقاء بدلاً من العربة الصفراء التي تجري على ثلاثة عجلات ويقودها ديل بوي البريطاني.

يهيأ إليك وأنت تنصت إلى ما يقول أنك تسمع سائق توتك توك يخاطب زميلاً له في المهنة، فهو حينما يتحدث إنما يتحدث بلغة الشارع، ولهذا ينصت الشارع له، وتلك هي المشكلة التي يواجهها السيسي. 

فالسيسي فيما يرويه محمد علي عنه للمصريين "رجل فاشل" ومصدر "عار"، و "قزم"، يستخدم مساحيق التجميل، ومسكون برفع بنطاله إلى أعلى. والسيسي رجل مخادع يلقي المحاضرات على مسامع الناس ليعظهم بالتقشف وشد الأحزمة بينما يبني القصور لزوجته انتصار. 

ويمضي محمد علي ليقول: "ودعوني أقول لكم ما هي القصور بالضبط التي تم بناؤها لهم." في القائمة التي يسردها محمد علي: منزل فاره في الحلمية بتكلفة ستة ملايين دولار، ومقر إقامة رئاسي في الإسكندرية بتكلفة خمسة عشر مليون دولار، وقصر في العاصمة الإدارية الجديدة وآخر في مدينة العلمين الجديدة إلى الغرب من الإسكندرية. 

الفقر والقصور
تكهرب الناس في مصر بما سمعوه من محمد علي عن قصور السيسي، وهم الذين يعيشون في حالة من الفقر المدقع أو يكادون ينزلقون فيه. وبحسب تقرير صدر عن البنك الدولي في شهر إبريل/ نيسان، فإن ستين بالمائة من الشعب المصري إما دون خط الفقر أو عرضة لأن ينزلقوا نحوه. 

بمعنى آخر، يعيش ما يقرب من نصف السكان في مصر الآن تحت خط الفقر أو قريباً منه، علماً بأن خط الفقر كان قد حدد عمداً عند مستوى مرتفع نسبياً لمصر مقارنة بغيرها من البلدان. أما الأرقام الرسمية المصرية فتشير إلى أن نسبة من يعيشون دون خط الفقر من المصريين ارتفعت من 25.2 بالمائة في عام 2011 إلى 32.5 بالمائة حالياً.  

وفعلاً، لقد انخفضت المداخيل الحقيقية لمعظم المصريين، هذا في الوقت الذي تستمر فيه مصر في مراكمة الديون الخارجية بينما تخضع لبرنامج التقشف الذي يفرضه عليها صندوق النقد الدولي. كان دين مصر الخارجي في فترة رئاسة مرسي 43 مليار دولار وأصبح الآن 106 مليارات دولار. يستخدم ما نسبته سبعون بالمائة من الضرائب في سداد هذه الديون. أما الديون الداخلية فقد وصلت إلى ما يقرب من خمسة تريليونات جنيه مصري أي ما يعادل 306 مليارات دولار. 

وبهذا المعدل يسير الاقتصاد المصري نحو الإفلاس. 

يذكر كل مصري بشكل واضح تلك المحاضرات التي كان السيسي يلقيها على مسامعهم ويحثهم فيها على الحاجة لشد الأحزمة. فعندما أجبر صندوق النقد الدولي الدولة في مصر على خفض الدعم على السلع الأساسية، كان رد السيسي: "أعرف أن الشعب المصري بإمكانه أن يتحمل أكثر من ذلك... علينا أن نفعل ذلك. ويتوجب عليكم أن تدفعوا، لا مفر من أن تدفعوا." هذا ما قاله السيسي في خطاب له بعد مرور ما لا يزيد على العام من تسلمه لمنصب الرئاسة. 

"وهنا أقول إن عليكم أن تدفعوا، يعني عليكم أن تدفعوا. عليكم الانتباه، هل تعلمون ماذا يعني أن يكون صندوق ما تحت إشرافي؟ هل تعلمون ماذا يعني حينما أقول إن هذا الصندوق تحت إشرافي؟ يعني أنكم إذا تمكنتم من الحصول على جنيه واحد فحينها بإمكانكم أن تتكلموا."

"أحدثكم بكل جدية. أنتم لا تعرفونني، اسألوا الجيش عني. اسألوا الجيش ما الذي كنت أفعله بفضل الله تعالى عندما كنت هناك. اسألوا المقاولين الذين عملوا معي حينما كنت أخدم في الجيش، وما الذي كنت أعمله ...."

لم يكن مستغرباً إذن أن ينصت الجميع عندما يتصدر شاهد من أهله، هو المقاول محمد علي، للرد على ذلك قائلاً: 

"الآن تقول إننا فقراء جداً، وإننا نتضور جوعاً. هل تجوع أنت؟ إنك تنفق المليارات التي تهدر على الأرض. رجالك يهدرون الملايين. أنا لا أذيع بذلك سراً. أنتم عصابة من اللصوص."

جاء رد السيسي ليؤكد صحة كل ما كان يقوله المقاول محمد علي للمصريين. والأسوأ من ذلك أنه بدا كما لو كان يعترف بأن المعلومات التي أدلى بها محمد علي بدأت تؤثر على الرتب الدنيا داخل الجيش.

قال السيسي: "من حقكم أن تعلموا. أخبروا جميع الأمهات المسنات اللواتي يؤمن بي ويدعين لي، أود أن أخبرهن: إن ابنكم شريف ومخلص ونزيه."

ومضى يقول: "نعم، بنيت قصوراً، وسوف أستمر في فعل ذلك. فأنا أقيم دولة جديدة، لا شيء مسجلا باسمي، وإنما أبني كل ذلك من أجل مصر."

لقد أنجزت فيديوهات محمد علي المنشورة على اليوتيوب في ثلاثة أسابيع تحطيماً لصورة السيسي أكثر بكثير مما فعله الإخوان والليبراليون واليساريون، والذين يتعرضون للسحق كقوى سياسية داخل مصر، خلال ستة أعوام من الاحتجاج السياسي. 

إلا أنه يذكر للمعارضة أنها لم تتقوض، بل استمرت في نضالها متكبدة الغالي والنفيس. من العار أن الشعب المصري لم يستمع لها. 


ولكن ها هو يستمع الآن. 

الأمر مختلف هذه المرة


نجح السيسي من قبل في مواجهة العواصف، وتخلص من عدد من الجنرالات السابقين الذين سولت لهم أنفسهم منافسته على العرش: محمود حجازي، رئيس هيئة الأركان الذي أقيل، ومحمد شفيق، الذي أخزي، وسامي عنان، الذي يقبع في السجن. 

يتواجد السيسي حالياً في نيويورك حيث يتزود بالوقود بما يكيله له دونالد ترامب من مديح. فرداً على التقارير التي تتحدث عن القلاقل في مصر، قال ترامب: "مصر لديها قائد عظيم، يتمتع باحترام كبير. فقد جلب النظام والاستقرار للبلاد، حيث إنه قبل مجيئة كان لا يوجد الكثير من النظام، بل كانت هناك حالة من الفوضى، ولذلك فلست قلقاً بشأن ذلك على الإطلاق."

يظن السيسي أن بإمكانه أن يتجاوز هذه الأزمة أيضاً كما حدث في السابق. ولقد تم اعتقال المئات من المتظاهرين منذ الجمعة الماضي. 

إذن، لماذا هذه المرة مختلفة؟


ها هي مصر تتوحد تارة أخرى بسبب طاغية..

أولاً، يوجد أمام السيسي خياران، خيار سيئ وخيار أسوأ منه. أما الخيار السيئ فيتمثل في أن يتجاهل الاحتجاجات وأن يأمل في أنها ستخمد وتتلاشى. إلا أن نظرة واحدة للتأمل في من يقوم بأعمال التظاهر والاحتجاج تكفي لبث الذعر في نفسه. فهؤلاء هم مصريون عاديون، أغلبهم رجال فوق سن الأربعين، لا توجد لديهم انتماءات سياسية ولا زعامات تقودهم، كل ما يجمعهم هو الغضب. وهؤلاء هم نفس الناس الذين أيدوه ضد الإخوان المسلمين في عام 2013. 

يعرف السيسي ذلك، رغم أنه عندما سئل في نيويورك بدا غارقاً في الوهم بأن الإسلام السياسي "يسعى للوصول إلى السلطة في بلادنا." 
حسناً، من هو هذا الإسلام السياسي، فقد سحق الإخوان المسلمين، كما زعم من قبل، أوليس كذلك؟
وأما الخيار الثاني فهو أن يبادر إلى قمع الحراك، ولكن هذا بالنسبة للسيسي لا يعدو كونه شركاً مميتاً. لقد كانت المظاهرة الأولى التي انطلقت في ميدان التحرير في يناير 2011 أصغر من تلك المظاهرات التي انطلقت في القاهرة وفي السويس وفي الإسكندرية يوم الجمعة الماضي. 
كان المتظاهرون في الحراك الأول يطالبون بالإصلاح ولم يهتفوا مطالبين بإسقاط حسني مبارك. 
أما يوم الجمعة الماضي، فقد مزق المتظاهرون صور السيسي، وهتفوا منذ اليوم الأول لهذه الثورة الجديدة: "قولها ما تخفشي، السيسي لازم يمشي". 

تغذية الربيع العربي بالوقود

كل ما أفلح السيسي في إنجازه خلال ذلك الوقت هو إعادة توليد نفس الظروف التي أشعلت الربيع العربي في عام 2011، بل إن الظروف التي يعيشها المصريون اليوم أسوأ بكثير.

والسبب الثاني في أن هذه المرة مختلفة عن سابقتها هو أن "المعارضة" اليوم يمثلها كل المصريين، بما في ذلك المصريون العاديون، والرتب الدنيا المتضررة داخل الجيش، ورجال الأعمال من عهد مبارك. يشكل هؤلاء معاً ائتلافاً عريضاً من القوى، وبذلك تتوحد مصر تارة أخرى بسبب طاغية. 

والسبب الثالث
أنه على النقيض مما كان عليه الوضع في عام 2013، لم يبق لدى البنوك التي مولته – أي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة – من النقد ما تقدمه لمصر. فاليوم كل منهما لديها مشاكلها وتدخلاتها الدولية التي تحولت إلى مآزق – وخاصة في اليمن وفي ليبيا. 

كانت هناك لحظة معبرة عندما زار السيسي بغداد في وقت مبكر من هذا العام. فبحسب ما صرحت به مصادر مطلعة من داخل المنظومة العراقية، فاجأ السيسي العراقيين باللغة التي استخدمها في الحديث عن حليفه السعودي ولي العهد محمد بن سلمان. يبدو أن السيسي لم يتمكن من التوقف عن الشتم لأن محمد بن سلمان لم يعد يدفع له. 

لكم اختلف الحال الآن عما كان عليه عندما تفاخر السيسي في حديثه مع مدير مكتبه عباس كامل بأن دول الخليج "لديهم مال مثل الرز". 

لم يعد الأمر كذلك، وها هي الثورة المضادة تفقد زخمها. 


وأما السبب الرابع فهو أن الاحتجاجات الشعبية تعود لتطفو على السطح كجزء من الحراك المطالب بالتغيير في سائر أرجاء المنطقة. فقد رأينا هذا الحراك يطيح بالطغاة في السودان والجزائر، وكلاهما تعلما الدروس من الانقلابات الفاشلة في الماضي وتمكنا حتى هذه اللحظة من إجراء التحول دون تسليم ثمرات الثورة للجيش. وهذا له بالتأكيد تأثيره على الأحداث في مصر. 

بعد ستة أعوام من الشتاء، ها هو الربيع العربي يعود من جديد. إنه يتحرك ببطء، ولكن في ظني أنه هذه المرة لا قبل لأحد بوقفه. هل يسدل الستار على السيسي؟ قد يكون هذا فعلاً المشهد الأخير في مسرحيته. 

(عن موقع ميدل إيست أي البريطاني، ترجمة خاصة لـ"عربي21")

لقراءة المقال الأصلي اضغط هنا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق