الأحد، 3 نوفمبر 2024

قلق الكمال المعرفي.. الغزالي معترفاً

 قلق الكمال المعرفي.. الغزالي معترفاً 

الدكتور محمد العوضي

داعية ومفكر إسلامي



“الدوار الميتافيزيقي” عبارة صكها المفكر وحاكم البوسنة الأسبق، المناضل علي عزت بيجوفيتش، في كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب” لبيان تفرد الإنسان عن بقية الأحياء، من حيث إنه الكائن الوحيد الذي شغلته الأسئلة الوجودية الكبرى حول أصل الحياة، والغاية منها، وعلة الوجود، وإلى أين المسير؟ وماذا عن المصير؟ وما هي الذات؟. 
وهذه التساؤلات لم تميز الإنسان عن بقية الأحياء المشاركة له في الجنس والوجود بالدرجة فحسب، وإنما بالماهية أيضا.

وإذا كان عامة الناس يتعاطون مع هذه  التساؤلات بعفوية فطرية، فإن الفلاسفة والمفكرين يُجهِدون عقولهم معها طويلا، لكني أختار أنموذجا للعقل النخبوي الذي تجاوز “الدوار الميتافيزيقي” إلى ما أسميته بـ “قلق الكمال المعرفي” وتلك سمة إضافية على تفرد الإنسان بمعرفة أسئلة البدايات، لكونها من أهم صفات الباحث الجاد والحساس، الذي يحترم القضايا العلمية ويستنفر عقله وأدواته المعرفية لتحريرها والتحقق من نتائجها، ويحترم جمهور المتلقين المستهدفين من موضوعات دراساته، سواء كانوا نخبا أو أقرانا أو مخالفين أو حتى خصوما. وقبل ذلك هو قلق يشير إلى احترام الباحث لذاته وتقديره لها، وربما يتجاوز جانب الاحترام والتقدير للنفس إلى دخوله في تحدٍّ معها.

ولا يمكن لأي مطلع على تراث الإمام أبي حامد الغزالي، إلا ويلحظ أن رحلته العلمية خير مثال على حالة “قلق الكمال المعرفي”، التي لازمت مسيرته الفكرية وتحولاتها، فأنتجت مصنفات فريدة في حقول معرفية متنوعة، ومناهج بحث مبتكرة لم يقتصر أثرها في الحضارة الإسلامية التي ينتمي إليها، وإنما سرى تأثير نظرياته العقلية وتحليلاته النفسية وطرائقه التربوية وتجاربه الشخصية إلى الحضارات الإنسانية، ابتداء من القرن الخامس الهجري الذي نشأ فيه إلى عصرنا هذا.
ولعل كتاب “المنقذ من الضلال”  للإمام الغزالي شهادة مهمة  لبيان هاجس “القلق المعرفي”، المفقود في زماننا الذي تنامت فيه معدلات ثقافة الاستسهال والعجلة لدى جمهور عريض ممن وسموا أنفسهم بالباحثين أو المفكرين، بعدما أتاحت وسائل التواصل الحديثة المجال للجميع لإبداء الرأي مكتوبا ومنطوقا، فازدادت جرأتهم في إصدار الأحكام القطعية، أثناء تطرقهم إلى قضايا فكرية قديمة أو مستجدة شائكة ومعقدة وعميقة، تحتاج جهدا عقليا مضنيا وأزمنة مديدة، ليخلص منها الباحث المختص أو المهتم إلى نتائج يطمئن إليها العقل، بينما القوم يمرون على مصادرها العلمية “خطفاً كحسو الطائر” – حسب تعبير الناقد الكبير محمود شاكر في كتابه “رسالة في الطريق إلى ثقافتنا”- من دون أن يمتلكوا أدوات البحث الكافية لسبر أغوارها، ولا الوقت اللازم لهضم مفاهيمها وإشكالاتها.
المقصود من دراسة وعرض هذا النوع من القلق عند الإمام الغزالي في هذه المقالة، تقديم نقد ضمني لتلك الكتابات العجلى والأحكام السريعة لموضوعات وازنة، وتوجيه دعوة لرفع مستوى الهمة من أجل حماية الحقائق من العبث وتوقير العلم والمعلوم والعلماء، وتنبيه الباحثين من الإزراء على أنفسهم بهذه المغامرات الثقافية من حيث يريدون الارتقاء بها.
ولعل وصفي للكتابات الهزيلة الفاقدة للشروط المعتبرة بالاستسهال والعجلة يُعد نقدا فيه تلطف بالعبارة، وهو ذات الداء الذي أفرد له الأستاذ المحقق حمد الجاسر، في ثمانينيات القرن الماضي، سلسلة مقالات صريحة في “مجلة العرب” تحت عنوان “الدكاترة والعبث بالتراث” مسلطا الضوء على جوانب من التقصير المخل، في زمن لم يصل فيه الاستهتار بالمعرفة عشر معشار ما وصل إليه اليوم!.

معلوم أن الاعترافات الحرة لأصحاب التجارب الفكرية هي أكثر دقة وأشد وضوحا من استنتاجاتنا الظنية لمحتوى نصوصهم المجردة في مصنفاتهم

لماذا المنقذ من الضلال؟!
وتأتي أهمية اختيار كتاب “المنقذ من الضلال” للتدليل على موضوع البحث، من كونه سيرة علمية ذاتية دوَّنها الغزالي في أواخر أيامه، وسرد فيها ملامح قلقه المعرفي بحثا عن الحقيقة، ممتحنا لأجلها وسائل المعرفة المؤدية إليها من تقليد ومحسوس ومعقول، ثم أخضع أفكار المذاهب ومناهجها والمدارس الكبرى التي كانت سائدة في حقبته التاريخية (علم الكلام، الفلسفة، الباطنية، التصوف) إلى النقد والتمحيص.
ومعلوم أن الاعترافات الحرة لأصحاب التجارب الفكرية هي أكثر دقة وأشد وضوحا من استنتاجاتنا الظنية لمحتوى نصوصهم المجردة في مصنفاتهم، ولعل من قرأ المنقذ للغزالي يشعر بنفثاته المفعمة بحرارة في رواية تجربته، وصدق مكاشفته مع ذاته، وإخلاصه في إفادة الشريحة المستهدفة.
وقد كشف لنا الغزالي جانبا مهما من شخصيته الثقافية، وهو شغفه العلمي بمعرفة حقائق المفاهيم والمذاهب منذ شبابه، “وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلتي”؛ والشغف المبكر من مؤشرات طلب الكمال المعرفي.

 قال الغزالي: (فعلمت أن رد المذهب قبل فهمه والاطلاع على كنهه رمي في عماية)

خمسة نصوص جلية
يمكن أن نشخص حالة قلق الغزالي في مجاهداته للقبض على الحقيقة المنشودة من خلال التوقف مع خمسة نصوص.
1ـ النص الأول: 
قال الغزالي: “وعلمت يقينا أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم، من لا يقف على منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعلمهم في أصل ذلك، ثم يزيد عليه ويجاوز درجته”.
هذا النص بمثابة قاعدة البحث العامة في منهجه، وقد أورده في معرض مناقشته للفلسفة، وأتبعه بإلقاء اللائمة على علماء عصره المشتغلين بالمعقولات متهما إياهم بالتقصير البين في هضمها، كما تبدى في ردودهم الهزيلة التي شنعهم عليها.
2- النص الثاني: 
قال الغزالي: “فعلمت أن رد المذهب قبل فهمه والاطلاع على كنهه رمي في عماية”
هذا النص الجميل أتى متمما، وفي ذات الفصل والسياق، وكأنه نتيجة للنص الأول. لذا نجده قبل أن يفرد للرد عليهم في كتابه الخالد “تهافت الفلاسفة”، طبق القاعدة على نفسه؛ فمهد له بكتاب مستقل عنونه بـ “مقاصد الفلاسفة”، ليوحي للجميع بأهليته لمجادلتهم، وأن “رميه” لم يكن في “عماية” .
3ـ النص الثالث: 
قال الغزالي: “حتى كان إفحام هؤلاء أيسر عندي من شربة ماء لكثرة خوضي في علومهم وطرقهم، أعني طرق الصوفية والفلاسفة والتعليمية والمتوسمين من العلماء”.
وقد ورد هذا النص في الفصل الأخير من كتاب “المنقذ من الضلال”، لكونه ثمرة لتأكيداته المتكررة في أهمية درس فكر المخالفين والخصوم منذ صفحات الكتاب الأولى، وهي رسالة للمتلقين برسوخه العلمي لتعزيز ثقتهم في أحكامه.
4ـ النص الرابع: 
قال الغزالي: “وحَكىٰ أنهم يضحكون على تصانيف المصنفين في الرد عليهم، بأنهم لم يفهموا بعد حجتهم. ثم ذكر تلك الحجة وحكاها عنهم”.
هذا الخبر ذكره الإمام الغزالي في فصل الباطنية أو (التعليمية) كما يسميهم. لكن السؤال: من هذا الذي حكى للغزالي سخرية الباطنيين وضحكهم من سوء فهم خصومهم الناقدين لمذهبهم؟. بيَّن أنه أحد أصدقائه من الباطنيين التائبين والمترددين عليه!.
فأنت تجد أن الإمام لم يكتفِ بقراءته المكثفة لكتب ومصنفات من رد عليهم، وإنما يستعين بالمعلومات الحية والجديدة والتفصيلية عنهم من مصدرٍ عاش الفكرة وتمثَّلها، أي عن دراية لا رواية، ليزداد بهم بصيرة كي يذب عن نفسه نقيصة التقصير المعرفي لدى معجبيه، ومن جهة أخرى كي لا يلصق به خصومه تهمة السذاجة وقلة الفهم، فقال: “فلم أرضَ لنفسي أن يُظن بي الغفلة عن أصل حجتهم، فلذلك أوردتها، ولا أن يُظن بي أني -وإن سمعتها- لم أفهمها، فلذلك قررتها”.
نص واضح يكشف لنا حذر الغزالي وقلقه من ترصد خصومه لتقريراته مع درجة عالية من المسؤولية واحترام الذات. وفعلا، من يقرأ كتابه “فضائح الباطنية” يلاحظ صدق ما قرره الغزالي في “المنقذ”، فقد شرح في مقدمة كتابه الفضائح جوانب القصور في كتابات من سبقه في نقدهم، وكعادته في الابتكار والتجديد ذكر منهجيته المختلفة في  نقضه لمذهبهم.
وقد لفت نظري نباهة كاتب نص المسلسل التاريخي التركي “نهضة السلاجقة”، حيث ظهر فيه الغزالي وهو جالس على بركة ماء في المدرسة النظامية -نسبة للوزير السلجوقي نظام الملك- متصفحا كتب العلماء الذين ردوا على الباطنية، وهو ينظر لها بعدم الرضا ويقطع أوراقها قبل أن يرميها في البركة، لقناعته أنها ضعيفة لا تفي بالمطلوب!.
ويختم الغزالي بذكر هدفه من هذه الجهود المضنية المشوبة بقلق كبير في مراجعاته النقدية لعقائد الباطنيين الزائغين، فيقول: “والمقصود، أني قررت شبهتهم إلى أقصى الإمكان ثم أظهرت فسادها بغاية البرهان”.
5- النص الخامس: قال الغزالي: “والمقصود من الحكايات أن يعمل كمال الجد في الطلب، حتى ينتهي إلى طلب ما لا يُطلب. فإن الأوليات ليست مطلوبة، فإنها حاضرة، والحاضر إذا طلب فُقِدَ واختفى؛ ومن طلب ما لا يُطلب، فلا يتهم بالتقصير في طلب ما يطلب”.
ختمت بهذا النص رغم وروده في أول فصول الكتاب، لأنه الاعتراف المباشر للغزالي الذي يلخص ويجمع ما سبق من نصوص في موضوع مقالنا “قلق الكمال المعرفي” فهو يضع القارىء في الصورة لما كابده من النظر العقلي والهم النفسي لدرجة أنه “طلب ما لا يطلب ” كما قال، ومقصوده أنه بعد محاكمته للمحسوسات والعقليات امتحن “الأوليات” التي لا تحتاج إلى بحث، لأنها معلومة بالضرورة ومركوزة في نفوس سائر الخلق بالفطرة، كاستحالة اجتماع النقيضين وأن الثلاثة أقل من العشرة. لذا فإنه دبج عبارة أشبه ما تكون بشهادة براءة ذمة عقلية عن التقصير في البحث فقال: “فمن طلب ما لا يطلب، فلا يُتهم بالتقصير في طلب ما يُطلب”.
ولعل هذا التكوين العقلي النفسي مع الذكاء المتوقد والتصالح مع الذات والهمة العالية ودرجة القلق العالية، ذلك كله جعل من الإمام الغزالي بحق “أعجوبة الزمان”، كما وصفه المؤرخ الذهبي في “سير أعلام النبلاء”.
وقد غلب على ظني أن عباس محمود العقاد، بثقافته الموسوعية وعقله النقدي ومسيرته الفكرية الثرية، وفي زمن سيادة الاتجاهات التنويرية والحداثية عند مفكري جيله، كان سيتأثر بمعاصريه من النقاد والأدباء والمفكرين، وسيجنح إلى اختيار ابن رشد مثالا من حضارته العربية الإسلامية ليفاخر به حضارات العالم، كما تحيز أقرانه لذلك، وإذا بي أراه يقرر في كتابه “التفكير فريضة إسلامية” وفي ذكرياته “أنا” قناعة غاية في الانصاف، يصدم بها -كعادته- التيار الفكري الغالب، حيث قال: “الغزالي الفيلسوف الذي يصارع الفلاسفة، والفقيه الذي يؤدب الفقهاء، والمتصوف الذي يكشف عن عالم الخفاء، كما يكشف عن عالم الشهادة”؛ ومن كانت هذه قناعته فلا يُستغرب منه، وهو المعروف بصراحته في الإعلان عن رأيه الحاسم، قوله: “ليس في المشرق والمغرب من هو أرجح فكرا وأصفى عقلا وأقوى دماغا من هذا الإمام الجليل”.

خاض جمع من الباحثين في تحليل وتشخيص ما أصاب الغزالي، وهو بحث جدير بالاهتمام، حتى ألفيت الكاتب القدير عمر فروخ في كتابه “تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون” قد جزم بنوع المرض الذي أصاب الغزالي

الغزالي من القلق إلى المرض!
بقيت مسألة ضرورية ملازمة ومتممة لحالة قلق الكمال المعرفي عند الغزالي، ألا وهي ما أصابه من مرض جراء إعماله المركَّز للشك النقدي، لاسيما بعدما اشتغل في محاكمة “الأوليات” العقلية التي يستدل بها لا عليها، ما أحدث في نفسه أزمة لم يستنكف من تدوينها وعرضها لقُرَّائه بكل شفافية، فقال: “فأعضل هذا الداء، ودام قريبا من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال، لا بحكم النطق والمقال، حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال”.
وقد خاض جمع من الباحثين في تحليل وتشخيص ما أصاب الغزالي، وهو بحث جدير بالاهتمام، حتى ألفيت الكاتب القدير عمر فروخ في كتابه “تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون” قد جزم بنوع المرض الذي أصاب الغزالي، فقال: “نقطع بأن الغزالي كان مصابا بالكنط أو الغنظ، وهو مرض نفسي في الأكثر يظهر على ذوي الاتجاه الديني المتطرف”، ثم وصف هذا الداء بأنه “الهم اللازم، أو هو أن يشرف الإنسان على الموت من الكرب ثم يفلت منه”، وكتب ثلاث صفحات ناقش فيها دلالة المفردة “الغنظ” و “الكنظ” في قواميس اللغة وما قاله بعض أطباء الأعصاب في زمنه، وما ورد في مصنفات الأقدمين ككتاب “عيون الأنباء في طبقات الأطباء”؛ لكني أعتقد أن ما جزم به عمر فروخ يحتاج إلى مراجعات عديدة من مختصين، لاسيما أنه كتب انطباعاته هذه في تشخيص مرض الغزالي في بداية سبعينيات القرن الماضى، حسب تاريخ الطبعات القديمة لكتابه الذي ننقل منه رأيه، أي قبل أكثر من نصف قرن؛ ومن فضول القول التأكيد على أن التطور الهائل في العلوم الإنسانية مقترنا بتفرعها وتداخلها نسخ الكثير مما مضى، وأضاف ما لا يحصى من الجديد؛ وأعتقد أن الباب مازال مواربا للمزيد من دراسة هذا الجانب للحالة التي أصابت الغزالي، على أن يتناولها من يجمع بين الدراية الكافية في علوم النفس وعلم الأعصاب -حتى لو كان العمل مشتركا بين أكثر من باحث- شريطة أن يقفوا في دراستهم مع تجربتيه، تجربته العقلية في نشاطه الشكِّي العنيف تجاه عالم الأفكار الذي أربكه ذهنيا، وتجربته الروحية القاسية في مكابدته لتجريد النية وتخليصها من العلائق والأغيار في طريقه إلى الحق سبحانه، والتي أدخلته في خلوته مع نفسه عشر سنين وأدت إلى تحقيق عزلته الاجتماعية. وأتمنى من استشاري الطب النفسي د. عادل الزايد، صاحب رواية “تشخيصات نفسية عبر آلة الزمن”، التي شخص فيها مرض ابن عربي والحلاج، أن يكرمنا بنشر بحثه عن مرض الإمام الغزالي لنطَّلع على ما انتهى إليه من نتائج.

الواقع يشهد يقينا بصدق نصح النبي ﷺ فحيثما حل الإتقان في العمل حصل الإنجاز اللافت والمتفرد لأنه قيمة مطلقة.

إلى رفاق الدرب
ورغم كل هذا الجهد المضني الذي بذله الإمام الغزالي في التعلم والتعليم، وإثرائه المعرفي النوعي، ومراجعاته الشاملة لمسيرته العلمية على صعيد المحتوى والمقاصد، وهو من هو في سلم طبقات العلماء… رغم ذلك كله، لم يسلم من الاستدراكات العديدة والنقد المتوالي من القدماء والمحدثين!. فخبرني بربك كيف بنا اليوم مع كثير من رفاق الدرب وحملة همّ الدعوة المتصدرين، من أكاديميين وغيرهم، في مواجهة جحافل الشرك المعاصر بكل ما أوتي من قوة وشراسة وتمكين، وهم لا يتحملون مسؤولية عِظَم الرسالة التي يحملونها، غافلين عن توجيه المصطفى عليه الصلاة والسلام: “إنَّ اللهَ يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَهُ”.
والواقع يشهد يقينا بصدق نصح النبي ﷺ فحيثما حل الإتقان في العمل حصل الإنجاز اللافت والمتفرد لأنه قيمة مطلقة.
وكم رأينا من علماء بذلوا أعمارهم في سبيل إتقان معارف ثقافية من دون قصد رسالي، كالفيلسوف الوجودي العربي عبد الرحمن بدوي، صاحب اللغات العديدة والإنتاج الغزير، وقد بسط سيرته في مجلدين؛ أو المفكر الاجتماعي عبد الوهاب المسيري فيما دوَّنه في ذكرياته تحت عنوان “الذئاب الثلاثة”، ويقصد بذلك الثروة والشهرة والمعلومات، وكان الذئب الثالث (المعلومات) هو الأخص بالنسبة له؛ أو مصطفى زيور، رئيس عيادة الأمراض النفسية بكلية الطب بجامعة باريس، عضو المجمع الدولي للتحليل النفسي.. والشواهد لأولئك المتقنين لعلوم غير شرعية نذروا أنفسهم لتعلمها والإفادة منها أكثر من أن تُحصى.
فكيف بأهل التقى والصلاح والهمِّ الدعوي، ممن ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا من خاصة الخلق، ثم لا يبذلون جهدهم وأوقاتهم في إتقان المطلوب منهم نصرة للدين وردّا لشبهات المبطلين، وكأن بوصلتهم وأهدافهم خلاف ما أوصى به الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بقوله: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين} [سورة فصلت: 33]
إن القضية أعظم من مسألة إبراء ذمة!. فهي في حقيقتها إنجاز مهمة، لا تليق إلا بمن هم على خطى الأنبياء سائرون. 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق