عبد المطّلب.. حديث عن السّيادة والتّحالفات المؤثّرة في السّيرة
النبويّة
مختص بقضايا الفكر الإسلامي ومشكلات الشباب
في طريقه من مكّة المكرّمة إلى الشّام مرّ هاشم بيثرب فأقام فيها عند عمرو بن زيد من بني النّجار، وكان سيّد قومه فأعجبته ابنته سلمى فخطبها فوافق والدها ولكنه اشترط على هاشم أن تقيم ابنته عنده في يثرب، فتزوجها وأقام عندها فترة من الزمن وحملت منه، وانطلق في تجارته إلى الشّام فوصل إلى غزّة من أرض فلسطين ليوافيه الأجل فيها.
وفي سنة 497م وضعت سلمى مولودها وكان في رأسه شيبة ــ شعرة بيضاء ــ فأسمته شيبة لذلك وتفاؤلًا ببلوغه سنّ الحنكة والفهم والرّأي، وقد كانت العرب تسمّي أبناءها بهذه الأسماء مثل “شيبة” و”هرم” و”كبير” تفاؤلًا بطول عمرها وبلوغها الحكمة في الرأي، وتربّى شيبة في حجر أمه وكنف أخواله من بني النجّار في يثرب معزّزًا مكرّمًا.
على الجانب الآخر في مكّة المكّرمة آلت السقاية والرّفادة بعد وفاة هاشم إلى أخيه المُطّلب بن عبد مناف الذي لقّبته قريش “الفيّاض” لسخائه وجوده وكرمه، وكان إلى جانب ذلك سياسيًا محنكًا فهو الذي عقد الحلف بين قريش والنّجاشي ملك الحبشة.
ولمّا بلغ ابن أخيه شيبة سبع سنين شعرَ المطّلب بضرورة أن يأتي بابن أخيه ليعيش في مكّة بين أعمامه، وممّا جعله يتعجّل ولا يتردّد في ذلك أنّ رجلًا من قريش أخبره أنّه كان في يثرب فرأى صبيًا يناضل الصبيان ــ أي يسابقهم في الرّمي ــ وسمعه يقول كلّما خسق ــ أي أصابت رميته ــ أنا ابن هاشم، ابن سيد البطحاء، فقال لعمه المطلب: إنّي مررت بدور بني قَيْلة ــ وقَيلة هي أمّ الأوس والخزرج ــ فرأيت غلامًا يعتزي إلى أخيك، وما ينبغي ترك مثله في الغربة.
انطلق المُطّلب إلى يثرب فلمّا رأى ابن أخيه شيبة فاضت عيناه وارتجل منشدًا:
عرفت شيبة والنّجّار قد جعلت
أبناءها حوله بالنَّبل تنتضلُ
عرفت أجلاده فينا وشيمته
ففاض مني عليه وإبلٌ هطلُ
وأردفه على راحلته فامتنع حتى تأذن له أمّه، فسألها المطلب أن ترسله معه، فامتنعت ورفضت، فقال لها: إنّما يمضى إلى ملك أبيه وإلى حرم الله؛ فأذنت له، فقدم به مكّة وهو يركب خلفه على بعيره، فقال الناس: هذا عبد المطلب، فقال: ويحكم، إنما هو ابن أخي هاشم، غير أنّ هذا الاسم “عبد المطلب” غلب عليه وصار يعرف وينادى بعه، فأقام عبد المطلب عند عمّه في خير مقام وأعزّ حال حتى ترعرع، ثم إن المطلب مات في إحدى أسفاره إلى اليمن، وآلت الولاية إلى عبد المطلب، وكان بها جديرًا، إذ سار في قومه سيرة آبائه من إكرامهم وخدمتهم، فبلغ في قومه شرفًا لم يبلغه أحد من آبائه، ونال محبّة منهم لم تكن لغيره من أسلافه.
غيرَ أنّ عدوانًا مؤلمًا تعرّض له عبد المطلب من عمّه نوفل، وكما يقول طرفة بن العبد:
وَظُلمُ ذَوي القُربى أَشَدُّ مَضاضَةً
عَلى المَرءِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ
هذا العدوان جعل المشهد ينتقل إلى مرحلة جديدة من التحالفات والتعاقدات السياسيّة والاجتماعيّة التي كانت مؤثرة في حركة السيرة النبويّة فيما بعد، فقد وثب نوفل على أركاح ــ ساحات وعقارات ــ لابن أخيه عبد المطلب وغصبها منه؛ فاستنجد عبد المطّلب برجال من قريش يطلب منهم النصرة على عمه، فقالوا: لا ندخل بينك وبين عمك، فما كان منه إلّا أن أرسل يستنجد بأخواله من بني النجار فكتب لهم أبياتًا يطلب فيها منهم الغوث والنّصرة، وكانت أبياتًا تفيض رقّةً وحزنًا وانكسارًا، ومنها قوله:
يا طول ليلي لأحزاني وأشغالي
هل من رسولٍ الى النّجار أخوالي
قد كنت فيكم ولا أخشى ظلامة ذي
ظلمٍ عزيزًا منيعًا ناعمَ البالِ
حتى ارتحلت إلى قومي وأزعجني
عن ذاك مطلب عمي بترحالِ
فغاب مطّلب في قعر مظلمةٍ
وقام نوفل كي يعدو على مالي
فاستنفروا وامنعوا ضيم ابن أختكم
لا تخذلوه وما أنتم بخُذّالِ
قلمّا بلغ نداء الاستغاثة وأبيات الاستنجاد يثرب انطلق خاله أبو سعد بن عدي في ثمانين راكبًا، حتى نزل بالأبطح من مكة، فتلقاه عبد المطلب، فقال: المنزلَ يا خال، فقال: لا والله حتى ألقى نوفلًا، ثم أقبل فوقف على نوفل، وهو جالس في الحجر مع مشايخ قريش، فلما رآهم نوفل بن عبد مناف، قال لهم: أنعموا صباحا! فقالوا له: لا نعم صباحك أيها الرّجل! فسلّ أبو سعد سيفه وقال: ورب البيت، لئن لم تردّ على ابن أختي أركاحه لأمكنّن منك هذا السيف، فقال: أفعل بالحب لكم والكرامة، فردّ عليه الأركاح وأنصفه؛ فأشهدوا عليه مشايخ قريش، ثم نزل أبو سعد على ابن أخته عبد المطلب، فأقام عنده ثلاثًا، ثم اعتمر ورجع إلى المدينة.
كان شعور عبد المطلب بالاستضعاف من عمّه وعدم أمنه دافعًا له لعقد تحالفات يملك بها القوة والمنعة ممن يفكر في ظلمه مرّة أخرى، لا سيما أنّ نوفل عقد حلفًا مع بني عبد شمس بن عبد مناف على أهله من بني هاشم، وهنا استثمرت قبيلة خزاعة الموقف وقالوا لبني النجار: والله ما رأينا بهذا الوادي أحسن وجهًا، ولا أتمّ خلقًا، ولا أعظم حلمًا، ولا أبعد من كلّ موبقة ومذنبة تفسد الرجال من عبد المطلب، ولقد نصره أخواله من الخزرج، ولقد ولدناه كما ولدتموه، فنحن أحق بنصره ـ وذلك أن أمّ عبد مناف منهم ـ فاستقبل عبد المطلب هذه المبادرة الخزاعيّة ببالغ التّرحاب ودخل معهم دار الندوة ــ التي تمثل مقر العمل السياسي القرشي يومها ــ وتم توثيق وكتابة عقد التحالف بين خزاعة وبني هاشم الذين يمثّلهم سيّدهم عبد المُطلب.
حدبُ بني النجار على ابن اختهم عبد المطلب وحرقتهم عليه وإنجاده وإكرامه منهم كان سببًا في توثيق العلاقة بعد ذلك بين رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأخواله من بني النجّار، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم هجرته يحبّ أن ينزل عليهم فحقق الله تعالى له رغبة قلبه فأناخت ناقته المأمورة أمام بيت أبي أيوب الأنصاريّ وهو من أخواله بني النجّار.
كما أنّ هذا التحالف بين عبد المطلب وبني خزاعة استمرّ فيما بعد ذلك بين النبيّ صلى الله عليه وسلّم وخزاعة، ويوم صلح الحديبية اختارت خزاعة أن تكون في حلف النبيّ صلى الله عليه وسلّم بناء على هذا الحلف القديم، وهذا الحلف هو الذي كان سببًا في فتح مكّة عندما غدرت بنو بكر ــ حلفاء قريش ــ واعتدت على خزاعة فجاء عمرو بن سالم الخزاعيّ مستنصرًا مذكّرًا بحلف خزاعة مع النبيّ صلى الله عليه وسلّم وحلف آبائه مع عبد المطلب إذ قال مستنجدًا:
يا ربِّ إنِّي نَاشدٌ مُحمَّدًا
حِلْفَ أَبِينا وَأَبِيهِ الْأَتلَدَا
قدْ كنتُمْ وُلْدًا وَكُنَّا وَالدًا
ثُمَّتَ أَسلَمنَا فلَمْ نَنزِعْ يَدَا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نصرتَ يا عمرو بن سالم. ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان من السماء، فقال: إنّ هذه السّحابة لتستهلّ بنصر بني كعب، وكان الفتح الأعظم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق