غزوات الرسول ﷺ وسرايا القدس (2/1)
عاش رسول الله ﷺ في المدينة بعد الهجرة عشر سنوات، لحق بعدها بالرفيق الأعلى، وهو في الثالثة والستين من عمره المبارك، وهذه السنوات العشر كانت ذروة الكفاح الدامي، لأن الجهاد ذروة سنام الإسلام. وشهدت تلك الفترة كل المعارك الحربية التي خاضها رسول الله ﷺ، أو عقد لواءها لقائد من أصحابه، وهو عين الفرق بين الغزوة والسرية، فالغزوة هي ما خرج فيها النبي ﷺ بنفسه، وقاد فيها المسلمين، حدث فيها قتال أو لم يحدث، ولذا يقال غزوة الحديبية، والسرية هي التي لم يشهدها رسول الله ﷺ وأرسل فيها أصحابه، ولا يُستثنى من ذلك إلا غزوة مؤتة لأن رسول الله ﷺ كان يشهد أحداثها بالوحي، ويخبر أصحابه عن وقائعها وهم في المدينة، وكذلك لعظيم قدرها وكبير أثرها، وللمواقف الكبيرة التي تفردت بها.
واختُلف في عدد غزوات النبي ﷺ، وأصح ما ورد في ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي إسحاقَ قال: “كنتُ إلى جنبِ زيدِ بنِ أرقمَ، فقيلَ لهُ: كمْ غزا النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مِنْ غزوةٍ؟
قالَ: تِسعَ عشرَةَ
قيلَ: كمْ غزوتَ أنتَ معهُ؟
قالَ: سَبعَ عشرَةَ
قلتُ: فأيُّهُمْ كانتْ أوَّلَ؟
قالَ: العُسَيرَةُ أو العُشَيرُ”. فذكرتُ لِقتادَةَ فقالَ: العُشَيرُ.
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): “ومراده: الغزوات التي خرج النبي صلى الله عليه وسلم فيها بنفسه، سواء قاتل أم لم يقاتل.
لكن روى أبو يعلى من طريق أبي الزبير عن جابر: أن عدد الغزوات إحدى وعشرون، وإسناده صحيح، وأصله في صحيح مسلم.
فعلى هذا: فات زيد بن أرقم ذكر ثنتين منها، ولعلهما الأبواء وبواط، وكأن ذلك خفي عليه لصغره.
أما عدد السرايا التي خرجت في حياته صلى الله عليه وسلم، فذكر الحافظ ابن حجر في الفتح أنها قاربت السبعين.
الجانب الجهادي
والحاصل أن مجموع غزوات النبي ﷺ وسراياه تقارب المئة أو تفوقها، وأما الغزوات التي قاتل فيها بنفسه فهي تسع غزوات، وهذا يأخذنا إلى أمور عدة، منها أن رسول الله ﷺ بعد أن تجاوز الخمسين من عمره، وفي عشر سنوات من حياته، خاض مئة معركة حربية بين قيادة مباشرة أو تجهيزها واستخلاف أحد أصحابه عليها، وفي العام الثامن الهجري فقط خرج إلى فتح مكة، ثم غزوة حنين، وخرج أصحابه إلى غزوة مؤتة، وذات السلاسل بقيادة عمرو بن العاص.
وهذا الجانب الجهادي المتصل الذي يقوده النبي ﷺ بنفسه، وقد تجاوز الستين كما في غزوة تبوك (9 هجرية)، وهي آخر غزواته ﷺ، يحتاج إلى مزيد بحث وتدبر، لاستخلاص الدروس والعبر.
كثير ممن يحبون رسول الله ﷺ، ويقرأون عن شجاعته وغزواته الحربية، يتمنون لو كانوا معه وفي خدمة ركابه، ويأخذ بألبابهم وصف الشاعر له:
كأنَّهُ وهوَ فردٌ مِن مهابتِهِ …. في عسكرٍ حينَ تلقاهُ وفي حشَمِ
فيرجعون، ولسان حالهم يقول:
يا ليتني كنتُ فردًا مِن صحابتِهِ ….أو خادمًا عندَهُ من جُملةِ الخدَمِ
ما خرج رسول الله ﷺ إلا لهداية الناس، وتبليغ دعوة الحق إلى الخلق، وإزالة ما يعترض هذا الطريق بسيف العدل، وأشرع باب الدعوة والجهاد لمن بعده ﷺ
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف: 108)
وكان من فضل الله على أهل هذا الزمان، أن شهدوا طوفان الأقصى، هذه السرية المقدسية المباركة التي انطلقت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، بوصفها بداية لمشروع تحرير الأقصى وتحرير الأسرى، وقدّمت للجميع فرصة نادرة للمشاركة في باب عظيم، هو تحرير المقدسات واستنقاذ أنفس الأسرى والمجاهدين من سجون المغتصبين والمحتلين، إذ انبرت كتائب الإيمان في غزة لهذه المهمة نيابة عن الأمة، وقبلت بعد طول حصار وانتظار أن تكون طليعة التحرير وفي الصف الأول لملاقاة جيش الاحتلال، ومَن وراءه من الجيوش الغازية، والدول الاستعمارية الكبرى وأذنابها، التي استخدمت عصابة الصهاينة قفازًا أسود، تدير به عملياتها القذرة، وهو ما سطره مبكرًا الكاتب الموسوعي الدكتور جمال حمدان بقوله:
“إسرائيل في جوهرها ما هي إلا شركة سرية مساهمة بين الاستعمار العالمي والصهيونية العالمية، وكانت بهذا صورة مُقنَّعة من الاستعمار الجماعي، وما هي إلا قاعدة عسكرية كاملة أمامية للمعسكر الغربي، لا تتجزأ عن نظامه الاستراتيجي العدواني الذي أقامه حول العالم”.
وإلى هذه اللحظة، وبعد مرور عام كامل من بطش جيش الاحتلال بأهل غزة، وارتكاب إبادة جماعية علنية، ما زال أهلها على مبادئهم، وما زالت كتائبها تستنزف العدو وتوجه إليه ضرباتها الموجعة، لا سيَّما مع توسيع ساحة المواجهة، ومشاركة بعض أهل الداخل والضفة فيها.
على المال والرجال
إن غزوات النبي ﷺ قامت على المال والرجال، لذا قال ﷺ “ما نفعني مالٌ ما نفعني مالُ أبي بكر” صحيح النسائي. وقال عن عثمان بن عفان بعدما جهَّز جيش العسرة “ما ضرَّ عثمانَ ما فعلَ بعدَ اليوم” صحيح الترمذي. وغزة فيها من بسالة الرجال ما لا يخطر على بال، وما بطولات السنوار إلا سطر من سفرها العظيم، فهل تنجح الأمّة في الاختبار الذي حققت فيه غزة العلامة الكاملة؟
أدرِكوا اللحظة الفارقة، ولا يفوتكم شرف هذا الطوفان، فقد وجدت فيها شبهًا ومثلًا من كل غزوات النبي ﷺ، وهو ما نفصّله في الجزء الثاني بإذن الله تعالى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق