السبت، 12 مارس 2016

هل يتحقق حلم أوباما قبل الرحيل ؟


هل يتحقق حلم أوباما قبل الرحيل ؟

شريف عبدالعزيز

يسعى كل رئيس أمريكي لتبني مبدأ أو فكرة أساسية تنطلق منها سياسته الخارجية، ويسجلها التاريخ باسمه.
فقد اعتاد عدد من الرؤساء الأمريكيين على الإعلان عن مبادئ تتعلق بالسياسة الدولية وأصبح ما يعلنون عنه مصطلحات سياسية تشير إلى موقف أمريكا من مختلف دول العالم ورؤيتها السياسية،واشتهرت من تلك البيانات مبادئ كل من الرؤساء (مونرو وويلسون وآيزنهاور ونيكسون وكارتر)، لأنها أثرت على شكل السياسة الخارجية لأمريكا لسنوات طويلة.

فمثلا ينص مبدأ مونرو الذي صدر عام 1823 وحمل اسم الرئيس جيمس مونرو على تطبيق سياسة شبه انعزالية للولايات المتحدة الأمريكية في علاقاتها الخارجية وكرّس هذا المبدأ لمحدودية الدور الأمريكي في السياسة الدولية حتى الحرب العالمية الثانية التي انتهت في منتصف أربعينات القرن الماضي .
في حين كان مبدأ ترومان الذي أعلن في 12 مارس 1947. وينص على "أنه حين يهدّد العدوان، مباشراً كان أو مُداوراً، أمنَ الولايات المتحدة الأميركية وسلامتها فعندئذ يكون لزاماً على الحكومة الأميركية أن تقوم بعملٍ ما لوقف هذا العدوان". 
وطبّق هذا المبدأ على اليونان وتركيا خاصة، تمكيناً لهما من مقاومة المدّ الشيوعي ودخول الكتلة الشرقية.
المنطقة العربية كانت مع أول تماس مباشر مع مبادئ رؤساء أمريكا مع مبدأ الرئيس أيزنهاور سنة 1957 ، وحسب مبدأ أيزنهاور، فإن بمقدور أي بلد أن يطلب المساعدة الاقتصادية الأمريكية أو العون من القوات المسلحة الأمريكية إذا ما تعرضت للتهديد من دولة أخرى. 
وقد خص أيزنهاور بالذكر، في مبدئه، التهديد السوفيتي باصداره التزام القوات الأمريكية "بتأمين وحماية الوحدة الترابية والاستقلال السياسي لمثل تلك الأمم، التي تطلب تلك المساعدات ضد عدوان مسلح صريح من أي أمة تسيطر عليها الشيوعية الدولية " .
ورغم عدم النص على المنطقة العربية في المبدأ إلا إنه كان مفهوما ما المراد منه ،فمشروع أيزنهاور هدف إلي حلول أمريكا لملء الفراغ الاستعماري بدلاً من إنجلترا وفرنسا ، باستخدام سلاح الاقتصاد والقوة العسكرية ،وبالفعل بدأ بنود الخطوات العسكرية لمبدأ أيزنهاور في السريان مع أزمة لبنان في العام التالي، عندما تدخلت الولايات المتحدة استجابة لطلب من كميل شمعون رئيس لبنان.

وفي 23 يناير 1980م أعلن الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر الإستراتيجية الأميركية الجديدة لأمن الخليج، أطلق عليها "مبدأ كارتر" - ويعتبر امتدادا وتجديدا لمبدأ أيزنهاور- وهو المبدأ المعتمد لحد الآن للحفاظ على أمن الخليج. 
وينص هذا المبدأ على أن الولايات المتحدة سوف تعتبر أي محاولة من قبل أي قوة خارجية للسيطرة على منطقة الخليج اعتداء على المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأميركية، وسيتم صد مثل هذا الاعتداء بأي وسيلة ضرورية، بما في ذلك القوة العسكرية.

وجاء الاعلان بعد الغزو السوفياتي لافغانستان في 24 ديسمبر 1979م ، وبعد انتصار الثورة الخومينية في ايران في 11 فبراير 1979م.  
واليوم يأتي أوباما ليدلو بدلوه هو الآخر ويسجل اسمه في سجل عظماء أمريكا كصاحب مبدأ ربما يمثل انقلابا دراماتيكيا في السياسة الخارجية لأمريكا .

يرتبط مبدأ أوباما بشكل أساسي بالانسحاب النسبي من منطقة الشرق الأوسط،والإعلان عنه تمّ مع توصل مجموعة "الخمسة زائد واحد"، وعلى رأسها الولايات المتحدة لاتفاق أولي مع إيران بخصوص برنامجها النووي، وبعد مفاوضات طويلة وشاقة بين الطرفين.واعتبر أوباما أن نجاح المفاوضات مع إيران هو دليل على صحة مبدئه ،ولكن مبدأ أوباما في الواقع يتجاوز موضوع التقارب مع إيران، ويتبنى رؤية أكبر للتعامل مع منطقة الشرق الأوسط. 

هذه الرؤية تقوم على محورين أساسيين :

المحور الأول هو تخفيض التواجد والارتباط الأمريكي بالشرق الأوسط. ويرتبط ذلك بتجربة التدخل الفاشل في العراق، والتي جعلت الرأى العام الأمريكى حذرا من التورط مرة أخرى في مشاكل المنطقة، والتزام الرئيس الأمريكي بعدم الدخول في حروب جديدة، كما يرتبط أيضا بالانخفاض الكبير في حجم اعتماد الولايات المتحدة على واردات البترول من الشرق الأوسط،فمن ناحية تنتج الولايات المتحدة الآن كميات ضخمة من البترول، وخاصة ما يُعرف بالغاز الصخري، والذي قلل من وارداتها البترولية من الخارج بشكل عام وجعلها تقترب من تحقيق هدف الاكتفاء الذاتي من هذه السلعة، كما أن معظم وارداتها البترولية أصبحت تأتي من دول غير شرق أوسطية.

يضاف لذلك أن إدارة أوباما تؤمن بما يُسمى بالتوجه نحو آسيا، وأن القارة الآسيوية يجب أن تحتل الأولوية الاستراتيجية بالنسبة لها، إمّا بسبب الإمكانات الاقتصادية الهائلة لهذه القارة، أو بسبب تصاعد النفوذ الصيني بها وتخوف الولايات المتحدة أن يؤدي ذلك لطردها من هذه القارة أو استبعادها من التفاعلات التي تقودها الصين الآن لإعادة ترتيب آسيا. ويرى العديد من المحللين أن التوجه الأمريكي نحو آسيا يأتي على حساب اهتمام الولايات المتحدة بمنطقة الشرق الأوسط .

المحور الثاني : هو إنشاء نظام لتوازن القوى بالمنطقة . فبالرغم من سعي الولايات المتحدة لتخفيض تواجدها بالشرق الأوسط، إلا أنها تتخوف في نفس الوقت من أن هذا الأمر قد يترتب عليه فراغ قد تملأه قوى معادية لها، أو قد يؤثر على تدفق البترول من المنطقة، ويؤدي الى ارتفاع السعر العالمي لهذه السلعة، وما له من آثار سلبية على الاقتصاديات الرأسمالية ومنها الاقتصاد الأمريكي، بالإضافة إلى أن حلفاء الولايات المتحدة في أوربا وآسيا مازالوا في حاجة لبترول المنطقة .
وانطلاقا من هذه الاعتبارات، يؤمن أوباما بأن إقامة نظام لتوازن القوى بالشرق الأوسط وخاصة منطقة الخليج هو الكفيل بأن يساعد الولايات المتحدة على تخفيض تواجدها بالمنطقة، وفي نفس الوقت الحفاظ على الاستقرار بها.

ويقوم هذا التوازن على قوتين هما إيران من ناحية والدول السُنية بالمنطقة من ناحية أخرى
(دول الخليج بالأساس ويمكن إضافة مصر وتركيا لها)، وسيؤدى هذا التوازن في القوى إلى منع هيمنة دولة إقليمية واحدة على منطقة الخليج، واستمرار تدفق البترول، واحتفاظ الولايات المتحدة بعلاقة طيبة بطرفي توازن القوى.
وفي هذا الصدد ترفض إدارة أوباما وجهة نظر دول الخليج العربية، والتي ترى أن إيران تُمثل مصدر تهديد مباشر لأمنها ولعدم الاستقرار بالمنطقة، وأشار أوباما إلى أن التحديات الحقيقية التي تواجهها هذه الدول هي تحديات داخلية بالأساس و ليس الخطر الإيراني

ويتطلب إنشاء النظام الجديد لتوازن القوى قيام الولايات المتحدة بالانفتاح على إيران وتطبيع العلاقات معها، وهو ما تم وضع أساسه فى إطار الاتفاق مع إيران بشأن برنامجها النووي. ولكن في نفس الوقت قامت الولايات المتحدة بحث دول الخليج على تطوير قدراتها العسكرية لتحقيق التوازن مع إيران وتقليل اعتمادها على التدخل الأمريكي المباشر لتوفير الحماية لها .

هذا المبدأ لا يعني أن أمريكا ستنسحب من المنطقة بالكلية أو ترفع يدها عنها بالكلية. فالانسحاب النسبي لا يعني الانسحاب الكامل؛ كما لا يعني التخلي عن الحفاظ على توازن القوى من دون تدخل مباشر.
فأمريكا مثلا لم تصبح طرفاً محارباً في الحرب العالمية الثانية إلا بعد قصف اليابانيين لبيرل هاربر؛ ولكنها عملت طوال سنوات الحرب الأولى على أن لا تحقق ألمانيا النازية انتصاراً نهائياً على الحلفاء ، بمعنى أن الانسحاب النسبي من منطقة ما في العالم، لا يعني أن ليس هناك من رؤية إستراتيجية أمريكية لما يجب أن تكون عليه هذه المنطقة .
وهناك دلائل أولية متتابعة، على أن الولايات المتحدة ترغب في الحفاظ على توازن قوى ، ولكن بالنكهة الطائفية ، أي توازن شيعي سني في الشرق الأوسط لضمان نفوذ ومصالح الولايات المتحدة .

ويتضح من خلال نهج السياسة الخارجية الأمريكية التي تنفذ هذا المبدأ أنها لن تعتمد على الديمقراطية كوسيلة لتحقيق التوازن، لأن ذلك ببساطة يعني استقلال الشعوب وتقليص النفوذ الأمريكي، بل تعتمد لتحقيق هذا المبدأ على تغذية العصبيات والانتماءات الأولية لضمان حاجة الجميع إليها وتشرذم الشعب العربي إلى طوائف متناحرة. هذا التكنيك الأمريكي هو أحد الخيارات الذي تستخدمه أمريكا في السابق كخيار، لكنه اليوم بات مبدأ وعنوانا لسياستها الخارجية، فقد استخدمته عندما دعمت صدام ضد إيران، ثم استخدمته لدعم المرجعيات الشيعية ضد السنة في العراق لضرب المقاومة . فبعد تعاون الرئيس ريجان مع دول الخليج لتخفيض أسعار النفط لضرب الاتحاد السوفيتي، تضرر العراق من ذلك، وتوترت العلاقة بينه وبين الكويت وبدأ بحشد قواته على حدود الكويت، فتوالت برقيات السفارات الخليجية في أوروبا لحكوماتها للتحذير من اجتياح وشيك بحسب ما يتردد هناك، لكن حكومات الخليج لم تكترث لأنها تلقت تطمينات سرية من أمريكا بأن صدام سيحتل فقط حقل الرميلة وبعض حقول النفط الحدودية، وهذه فرصة للتخلص من نظامه الذي يهدد الخليج ويتعامل معهم بغطرسة ،لكن الذي حدث هو اجتياح كامل للكويت، وقابله صمت مريب استمر لعدة أيام عكس الصدمة الخليجية مما لم يكن في الحسبان!
 استثمرت أمريكا ذلك لتعزيز نفوذها العسكري في الخليج ، ولم يقف الأمر عند هذا الحد؛ بل سلمت أمريكا العراق لإيران رسميا كجزء من عملية إعادة توازن القوى! وما زالت عملية تحقيق توازن القوى مستمرة، ولم تتعلم دول المنطقة مما جرى،فجماعة الحوثي سيطرت على اليمن وسط صمت عربي مريب ورعاية أمريكية فاضحة، وتدشين رسمي بدخول إيران للجزيرة العربية ، ثم سمحت أمريكا للروس والإيرانيين بالتوغل الكبير في سوريا والامساك بزمام الأمور من أجل تحقيق توزان القوى مع المارد السنّي الذي برز على أرض الشام .

ومع اقتراب موعد رحيل أوباما من البيت الأبيض حان وقت المكاشفة كما هو حال كل الرؤساء الأمريكان الذين قضوا فترتين رئاسيتين متتاليتين ، ففي مقابلته المطولة مع الصحفي اليهودي جيفري جولدبرج في مجلة "ذي أتلانتك" شرح أوباما "عقيدته" التي مثلت منطلقا لقراراته الحاسمة والجوهرية إزاء منطقة الشرق الأوسط خلال ولايته بمنتهى الوضوح والشفافية ، وأخذ يدلل على صحة قراراته المثيرة للجدل مثل تخليه عن حلفائه التقليديين في المنطقة مثل مبارك وزين العابدين ، أو تقاربه مع أردوجان وإيران ، ورفضه القيام بعمل عسكري في سوريا بسبب اتهام نظام الأسد باستخدام أسلحة كيميائية في أغسطس عام 2013 على الرغم من الضغوط الدولية والإقليمية الضخمة ضده لحثه على ذلك .
فأوباما كان يرى أن سوريا تشكل منزلقا مثلها مثل العراق، وقد توصل خلال ولايته الأولى، إلى اعتقاد مفاده أن التهديدات التي تبرر تدخلا أميركيا مباشرا، محصورة في القاعدة، والتهديد لوجود إسرائيل، وأيضاً التهديد الذي يشكله السلاح النووي الإيراني والذي يرتبط بأمن إسرائيل قد تم الانتهاء منه بالتوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران، وأن الخطر الذي يشكله نظام الأسد إلى مستوى خطورة هذه التهديدات ، لذلك عدل عن ضرب سوريا مما أغضب حلفاؤه التقليديون.

 وخلاصة عقيدة أوباما قد تجلت في نهاية هذا الحوارالصحفي بقوله: " أن الحروب والفوضى في الشرق الأوسط لن تنتهي، إلا إذا تمكنت السعودية وإيران من التعايش معاً والتوصل إلى سبيل لتحقيق نوع من السلام البارد".

والخلاصة أن أوباما يريد أن يرى المنطقة بأسرها قد تحولت إلى لبنان كبير تحكمها المحاصصة والطائفية، وتصبح الحرية وحقوق الإنسان والحكم العادل ليس مجرد حلم بل أقرب إلى الخرافة ،وهو يأمل أن يظل مبدأه هذا محافظا على توزان المنطقة لمائة عام على الأقل ، ولكنه في الحقيقة لن ينعم بمثل هذا الحلم بعيد المنال ، فالعديد من الأطراف الاقليمية قد تيقنت من عزم أمريكا على ذلك الانسحاب النسبي ، وأخذت تدبر أمرها على أن أمريكا قد أصبحت جزءا من الماضي ، وتفرغت لعدوها الحقيقي ؛ إيران ، والتعايش الذي يحلم به أوباما لن يراه ولا من يأتي من بعده ، فالنار تشتعل في المنطقة من شرقها لغربها ، وسيكون لها ضحايا كثر ، ولاشك أن إسرائيل تكون في مقدمة هذه الضحايا ، لأن الحروب الطائفية ليست حروب أنظمة ومصالح ، بل حروب شعوب وأيديولوجيات ، والشعوب كانت وما زالت ترى في إسرائيل العدو الأكبر الذي يجب محاربته أولا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق