عاصفة الحزم: للأفعى ذنَب ورأس!
أحمد بن راشد بن سعيّد
تكاد تكون عملية «عاصفة الحزم» حدثاً مفصلياً في تاريخ السعودية ومنطقة الخليج العربي، إذ تبدو نقلة نوعية في النهج السعودي التقليدي المحافظ في التعامل مع التحديات.
ولا ريب أن اعتبارات المصالح الإستراتيجية والأمن القومي دفعت صانع القرار في الرياض إلى التحرك، الأمر الذي يفسر الشعور بالمفاجأة والصدمة لدى كثير من اللاعبين الإقليميين والدوليين. وكما أشرت في المقال السابق (الذي سبق عملية عاصفة الحزم)، فإن السعودية لم تعد تملك ترف اختيار ولا فائض وقت، لاسيما بعد اقتحام الحوثيين تعز، واحتلالهم مطارها، ومناطق حيوية فيها، ثم زحفهم إلى عدن، ما سيعني سقوط اليمن كله في أيديهم. خسارة عدن كانت ستشكّل تهديداً مباشراً لأمن المملكة والخليج؛ لأنه سيعني سيطرة الحوثيين على باب المندب، الأمر الذي سيجعل لأسيادهم الإيرانيين اليد الطولى في البحر الأحمر والخليج العربي، ويمنحهم القدرة على التحكم في حركة التجارة وتصدير النفط، وإذا أضيف إلى ذلك النفوذ الإيراني الهائل في شمال السعودية (الشام والعراق) فإن الإمبراطورية الفارسية تكون قد تشكّلت بالفعل، وأحكمت الطوق على شبه الجزيرة العربية.
لذا، فإن عاصفة الحزم تشكّل نقطة تحول في المقاربة السعودية المألوفة لاحتواء التهديد الإيراني منذ ثورة الخميني عام 1979؛ فهذه أول مرة تحسم فيها الرياض أمرها بالتعامل العسكري المباشر مع هذا التهديد.
وغني عن القول إن إيران ما كانت لتدخل الحديقة الخلفية للسعودية لولا القصور في فهم المشروع الإيراني، وغياب رؤية إستراتيجية لمواجهته (وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على تعاطي الدول العربية مع المشروع الصهيوني في فلسطين منذ 70 عاماً).
لقد هندست إيران منذ عقود برنامجاً لتصدير الثورة اعتمد على تجييش الأقليات الشيعية في المنطقة وكسب ولائها عبر برامج تعليمية واجتماعية وعسكرية طويلة الأمد، وهو ما لم يُجابه بخطة مضادة.
كما تبنت طهران في إطار مطامحها الإمبراطورية والصفوية مشروع «مقاومة» إسرائيل، فشكلت ميليشيا «حزب الله» في لبنان، ودعمت حركتَي حماس والجهاد في فلسطين في إطار لعبة دعائية ماكرة حققت قدراً من النجاح، ولم يكن بوسعها فعل ذلك لولا تخاذل النظام العربي الرسمي، وتفريطه في حقوق الشعب الفلسطيني، وعدائه للظاهرة الإسلامية في المنطقة.
ثم غزت أميركا أفغانستان والعراق، وأيقظ سقوط بغداد، عاصمة الخلافة العباسية، شهوة الانتقام والتوسع لدى الصفويين، الذين موّلوا ودرّبوا ميليشيات شيعية ساندت الاحتلال الأميركي، واضطهدت مقاوميه السنّة، واستمرت تعربد في العراق عبر أكثر من عقد مستفيدة من الفراغ الذي خلّفه تفكيك الدولة والجيش، ولم تكن ثمة منظومة عربية أو خليجية متماسكة قادرة على صد هذه الهجمة المسعورة.
وبعد ثورات الربيع العربي، غزت الميليشيات الشيعية سوريا، ومارست أبشع أنواع القتل والإرهاب، واكتفت السعودية والخليج بدعم معنوي وعسكري محدود للشعب السوري يخضع للتوازنات الدولية والضغوط الأميركية، ولا يتسق ألبتة مع حجم التغول الإيراني.
وقامت القوى اللاعبة في المشهد السوري الدامي، وهي تحديداً واشنطن وموسكو وطهران وتل أبيب، بتضخيم خطر الجماعات الإسلامية «المتشددة»، أو ربما صنع بعضها، مرهبة بذلك السعودية ودولاً خليجية، الأمر الذي أصاب تعاملها مع الشأن السوري بالشلل.
جاءت عاصفة الحزم وكأنها هبّة بعد سبات. وأسهمت غطرسة إيران في إيقاظ مشاعر الخوف. لن تقوم إمبراطورية فارس إلا على جثث العرب.
صار من المألوف أن يخرج مسؤول إيراني ليرغي ويزبد عن سقوط العواصم العربية، الواحدة تلو الأخرى، في يد بلاده، أو يتباهى بسيطرتها المطلقة على البحار والخلجان في المشرق، بل حتى بميلاد إمبراطورية فارسية تتخذ من عاصمة الرشيد مقراً لها. أليست الأساطير الشيعية تتحدث عن مهدي يعود من غيبة كبرى، فيقتل العرب قتل عاد؟ فليمت هؤلاء الرعاع من العرب، وليذهبوا إلى الجحيم.
استطاعت إيران من خلال ماكينة دعايتها أن تغري كثيراً من الشيعة العرب بمشروعها لاعبة على وتر «المظلمة التاريخية» المزعومة لآل البيت، ومستدعية الموروث الشيعي الإثني عشري عن مسؤولية الآخر الناصبي (السني) عن هذه المظلمة.
ورأينا بأم أعيننا ما تفعل الميليشيات الشيعية (الحشد الشعبي) في العراق، لاسيما محافظة صلاح الدين، وتحديداً في أمرلي وتكريت من قتل وسحل للسنّة، وحرق واسع النطاق لمنازلهم وقراهم، وشاهدنا في فيديوهات بالوسائط الاجتماعية كيف حرّق الشيعة قرية البوعجيل بالكامل وهم يتباهون، فضلاً عن إرهاب الميليشيات الشيعية في سوريا (وثّقت هذه الجرائم تقارير منظمات حقوقية مثل «هيومن رايتس ووتش»، و «العفو الدولية»).
كانت صنعاء لحظة الحقيقة. وكانت عدن جرس الإنذار. كأنما تمثّل وزير الدفاع السعودي، محمد بن سلمان، بهذا البيت:
إذا لم يكن إلا الأسنّةُ مركباً/فما حيلةُ المضطرِّ إلا ركوبُها.
أقدمت السعودية ودول خليجيةعلى شن عاصفة الحزم بعد تخطيط بارع وليس بالقصير، لا لردع الميليشيات الحوثية والموالية للرئيس المخلوع صالح فحسب، فهذا لا يعدو أن يكون هدفاً مرحلياً، بل لمواجهة تحديات إستراتيجية خطيرة، تراكمت منذ انهيار منظومة التوازن في المنطقة باحتلال العراق والشام أميركياً وإيرانياً، ثم انهيار التجربة الديموقراطية في مصر وغرقها في عنف انقلابي أعمى متعدد الفصول.
عاصفة الحزم «قذيفة مرتدة (Blowback) ناجمة عن فشل النظام الأمني الإقليمي في الخليج المعتمد على الاحتماء بالمظلة الأميركية، فلم تعد أميركا حليفاً ذا صدقية وهي تنخرط في لعبة قذرة لاقتسام النفوذ والمصالح مع إيران من دون مبالاة بحلفائها التقليديين.
من المبكر الحكم على عاصفة الحزم، لكن يمكن القول إنها أظهرت نجاحات لافتة أبرزها: التخطيط للمعركة عبر تشكيل تحالف إقليمي ودولي يهبها زخماً ويضفي عليها شرعية أكبر؛ السريّة التي أُحيطت بها العملية، إذ بقيت طي الكتمان في إطار الأسرة الخليجية، ولم تخبر الرياض واشنطن بها إلا قبل بدئها بلحظات بحسب رويترز التي قالت إنه من خلال «الضربات على اليمن أظهر السعوديون استقلالاً متنامياً عن الولايات المتحدة» (26آذار/مارس 2015).
كما لم تخبر السعودية نظام السيسي في مصر، وهو النظام الذي يتمتع بعلاقات جيدة مع طهران، ويستقبل الحوثيين في القاهرة، ويقف ضد الثورة السورية، الأمر الذي تجلى في رفضه دعوة الائتلاف السوري إلى حضور مؤتمر شرم الشيخ، ورفعه علم سلطة الأسد غير الشرعية في قاعة المؤتمر.
كان لافتاً أيضاً رفض السعودية دعوات الحوار التي أطلقتها طهران، وإصرارها على انسحاب الميليشيات الحوثية، ونزع أسلحتها بحسبان ذلك شرطاً لأي تسوية مستقبلية، وهو ما تناوله الملك سلمان في مؤتمر شرم الشيخ، حيث شدد على استمرار عاصفة الحزم «حتى تحقق أهدافها».
كما كان الرفض القاطع لدعوات علي صالح إلى الحوار تطوراً آخر في إدارة المعركة يتناغم مع الاسم الذي تحمله: الحزم.
وشكّل الإيجاز الصحافي بالعربية والإنكليزية للعميد أحمد عسيري جهداً متمماً للحملة العسكرية على جبهة «حرب المعلومات».
لكن عاصفة الحزم يجب أن تكون جزءاً من خطة أشمل ترد إيران على أعقابها. تحتاج السعودية مثلاً إلى إحياء قوتها الناعمة من خلال تصحيح مسار الوسائط الإعلامية المنتمية إليها، وتنشيط الدعوة الإسلامية في الخارج، وتقديم منح للطلاب المسلمين (ثمة ما يدل على عودة هذا النشاط إذ قررت السعودية في 18 آذار (مارس) 2015 تقديم منح دراسية لـ 150من طلاب جمهورية المالديف).
كما يجب أن تكون العاصفة منطلقاً لمواجهة التهديد الإيراني في المنطقة كلها لاسيما في سوريا النازفة، إذ لم يقف الدب الإيراني على ضفاف البحر الأحمر إلا بإهماله على ضفاف المتوسط، ومواجهته في اليمن وحدها ستقطع فقط ذنب الأفعى، ويترك رأسها حياً ينفث السم.
• @LoveLiberty