إيران بين التاريخ والجغرافيا
وإذ أضع أكثر من خط تحت كلمتى «إذا صح» فإننى لست متأكدا تماما مما قاله الرجل، ثم اننى لا أخفى عدم ارتياح لتلك الفكرة التى رددتها أصوات بعض المثقفين والبرلمانيين فى طهران خلال الأسابيع الماضية، إلا أنها كانت معبرة عن آراء شخصية لا تحسب بالضرورة على سياسة الدولة.
لكن الأمر لابد أن يختلف حين يصدر الكلام ذاته عن مستشار المرشد للشئون الدولية، الذى ظل وزيرا للخارجية طوال 16 عاما أتقن خلالها لغة الدبلوماسيين، رغم انه طبيب أطفال بالأساس.
إذ فى هذه الحالة لا نستطيع أن نفصله عن سياسة الدولة، الأمر الذى يدعونا لأن نأخذه على محمل الجد بحيث نحاول ان نقلِّبه من أوجهه المختلفة، خصوصا إذا سكتت عليه طهران ولم تحاول أن تصوبه أو تنفيه.
ظاهر كلام الدكتور ولايتى ــ إذا لم يراجع ــ يشير إلى «نفوذ» لإيران فى أربع دول عربية على الأقل هى لبنان والعراق وسوريا واليمن، ستؤجل مناقشة حدود النفوذ وصيغته إلى ما بعد تحديد طبيعة العلاقة بين إيران والدول الأربع.
ذلك اننا نفهم أن ثمة علاقة خاصة بين طهران والنظم القائمة فى الدول الثلاث (سوريا والعراق ولبنان)، وأيا كان رأينا فى تلك العلاقة فالشاهد انها حاصلة بين الدولة الإيرانية وتلك الدول، إلا أن إلحاق اليمن بالقائمة يمثل خطأ جسيما، ينم عن عدم معرفة كافية بالوضع هناك، ولئن غفر ذلك لأى مسئول إيرانى آخر فإنه لا يغفر لمستشار مرشد الجمهورية للشئون الخارجية الذى كان وزيرا سابقا للخارجية.
ذلك أنه ساوى بين النظام القائم فى كل من دمشق وبغداد وبيروت وبين اللانظام الحاصل فى اليمن. وبين الذين يحكمون فى الدول الثلاث وبين الذين يتحكمون فى مصير اليمن، ليس بسبب قوتهم أو شعبيتهم ولكن بسبب ضعف الدولة وانهيار مؤسساتها.
إذ جرى استثمار ذلك الانهيار من جانب فصيل يمثل أقلية ضمن الأقلية، فى القيام بعملية اجتياح للعاصمة وسطو على مؤسساتها أعقبها تمدد فى أنحاء الدولة المنهارة، الأمر الذى أسفر عن اختطاف واجهة النظام الذى لم يفهم البعض فى طهران طبيعته، فهللوا له هناك واعتبروه انتصارا للثورة الإسلامية. وهذا منطوق يحتاج إلى بعض الافصاح والشرح.
ذلك أن سكان اليمن (25 مليون نسمة) يتوزع المسلمون فيه ما بين الشوافع نسبة إلى الإمام الشافعى والزيود نسبة إلى الإمام زيد بن على حفيد الإمام الحسين بن على بن أبى طالب.
والزيود يمثلون ثلث المسلمين والتصنيف الشائع عنهم أنهم إحدى فرق الشيعة التى قننت الخروج على الحاكم الظالم.
لكن الباحثين لا يضعونهم فى سلة واحدة، وإنما يميزون بين ثلاثة اتجاهات داخل المذهب. أحدها أقرب إلى الشيعة والثانى أقرب إلى المعتزلة والثالث أقرب إلى أهل السنة.
وهو ما فصل فيه الدكتور أحمد محمود صبحى أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة الاسكندرية فى مؤلفه الكبير عن «الزيدية»، وأيده فى ذلك الدكتور عبدالعزيز المقالح رئيس جامعة صنعاء الأسبق فى كتابه عن فكر الزيدية والمعتزلة.
الذى عالج التباينات بين الاتجاهات الثلاثة داخل المذهب الزيدى، وقال ان الاتجاه المعتزلى ينكر التَّقية كما ينكر عصمة الأئمة، وهما من أسس التشيع، مضيفا أن الزيدية معتزلة فى الأصول وأحناف فى الفروع.
أما العلامة الشيخ محمد أبوزهرة فقد ذكر فى كتابه عن تاريخ المذاهب الإسلامية أن فقه الزيدية «قريب كل القرب من فقه الأئمة الأربعة» (عند أهل السنة).
خلاصة ما سبق أن الزيود الذين هم أقلية نسبية فى اليمن (ثلث المسلمين) يتوزعون على ثلاث مدارس فكرية أو فصائل، إحداها يميل إلى الشيعة وعلى خلاف مع المدرستين أو الاتجاهين الآخرين (المعتزلى والحنفى السَّنى). ليس ذلك فحسب، ولكن الاتجاه المتشيع بين الزيود لا يعد كيانا واحدا، ولكن أتباعه يتوزعون على عدة عائلات كبيرة كل واحدة منها لها أئتمتها. والهاشميون الذين ينتسبون إلى آل بيت النبوة وقبيلة بنى هاشم من بين تلك العائلات. والحوثيون الذين تمركزوا فى شمال اليمن فرع عن الهاشميين، أصلهم من بلدة «حوث» فى محافظة عمران، وإمامهم ومرجعهم الفقهى هو الشيخ بدر الدين الحوثى المتوفى سنة 2010 عن 84 عاما.
مما سبق يتبين أن الحوثيين الذين اجتاحوا صنعاء فى 29 سبتمبر الماضى مجرد فصيل صغير لا يمثل الهاشميين ولا يمثل الزيود وبالتأكيد لا يمثلون الشعب اليمنى، ولكنهم فرع عن فرع عن فرع، وقد تفوقوا لأنهم أفضل تنظيما وتمويلا، الأمر الذى مكنهم من الهيمنة على المشهد اليمنى بصورة مؤقتة.
وتلك خلفية لو كان الدكتور على ولايتى على علم بها لما تسرع وقرر أن إيران أصبحت صاحب نفوذ فى اليمن. ولما راهن على فصيل متواضع بهذه الصورة لا مستقبل له فى حكم اليمن الذى هو أكبر من الحوثيين وأكثر تعقيدا وأثقل وزنا من جماعتهم.
ثم ما حكاية «النفوذ» الإيرانى الذى يتحدث عنه الدكتور ولايتى ممتدا من اليمن إلى لبنان؟ ألا يعد استخدام ذلك المصطلح تأكيدا لما أثير من دعاوى وشكوك بخصوص تطلعات إيران إلى ما وراء حدودها؟ وأيهما أفضل أن تكون إيران الثورة الإسلامية على موقفها من نُصرة المستضعفين ومقاومة الاستكبار العالمى أو ان تتطلع لممارسة النفوذ وزيادته فى محيطها العربى؟
ولأننى أحد الذين تفاعلوا مع الثورة الإسلامية منذ أيامها الأولى، فربما جاز ان أقول إن النفوذ المزعوم قد يكون سحبا من رصيد الثورة وليس إضافة إليه. وقد تمنيت أن تظل إيران الثورة جارا قويا يسعى لنصرة الشعوب، وليس صاحبة نفوذ قوى لدى بعض الحكومات.
والتزامها بالرسالة الأولى يدخلها إلى التاريخ، أما المهمة الثانية فهى تخدم جغرافية الثورة وتكاد تخرجها من التاريخ. الأمر الذى يستدعى سؤالا كبيرا هو: هل هزم حلم الثورة أمام طموحات الدولة فى إيران؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق